الولايات المتحدة تحاول صنع الاستثناء في عملية تراجع وسقوط الامبراطوريات القدرات الاقتصادية تحدد حجم وفعالية القوة العسكرية
عمر نجيب
تخوض الولايات المتحدة منذ بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين سلسلة طويلة من الصراعات السياسية والإقتصادية والعسكرية، هذه الصراعات والمواجهات تكتسي مع إقتراب العشرية الثانية من نهايتها حدة أكبر وتشكل في نظر العديد من الساسة والمراقبين تهديدا كبيرا للسلام العالمي أي أنها قد تقود إلى حرب عالمية ثالثة.
يقدر البعض أن حدة الصراعات التي تخوضها القوى العالمية الكبرى قد بلغت في نهاية العشرية الثانية مستويات غير مسبوقة من الخطورة منذ نهاية العقد الأخير من القرن العشرين وخاصة في ظل وجود ترامب على رأس البيت الأبيض في واشنطن، وفلادمير بوتين على رأس الكرملين في موسكو، وشي جين بينغ على رأس قصر الشعب في بكين. ويتفق غالبية المراقبين والسياسيين على أن هذه الأوضاع هي نتيجة محاولة الولايات المتحدة الحفاظ على ما يسمى بالنظام العالمي المبني على أساس الأحادية القطبية والذي برز في تسعينيات القرن العشرين بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي، في حين تسعى كل من روسيا والصين إلى العودة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، وإنهاء الهيمنة الأمريكية تدعهما في ذلك مجموعة من الدول وخاصة فيما يوصف بالدول النامية أو بدول العالم الثالث.
تتباين التقديرات حول نتيجة هذا الصراع وكذلك حول إمكانية تراجع الولايات المتحدة عن مركزها كالقوة الإقتصادية والعسكرية الأكبر في العالم. البعض يرى أن بريق نجم واشنطن في طريقه إلى الخفوت، في حين يرى آخرون أن الولايات المتحدة تعيد بناء مقدرات قوتها وأنها ستفرض ذلك على الآخرين سلما أو حربا. وفي النزاع بين الفكرين هناك شبه إجماع على أن العامل الإقتصادي مع مركبه العسكري هو الفاصل.
عنصر قوة وضعف
أحد أهم عناصر قوة الولايات المتحدة هو عملتها أي الدولار والنظام المالي الدولي الذي تهيمن عليه بواسطة مؤسسات توصف بالدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة من أخرى من كبار البنوك الدولية التي تشكل تكتلا يقوم بتسيير أغلب المعاملات المالية والاقتصادية في العالم. في نفس الوقت فإن عنصر القوة الأمريكية هذا يشكل بابا يمكن عن طريقه لمنافسي وخصوم الولايات المتحدة إن لم يكن تدميرها فيمكن أن يصبح أداة تقليم قدراتها الدولية وإعادتها إلى حجمها الحقيقي.
جزء كبير من الهيمنة الأمريكية على العالم يعود الفضل به إلى هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي.. ولكن كيف بدأت هذه الهيمنة؟. وكيف تمكنت الولايات المتحدة من الحفاظ على عملتها كأقوى عملة على المستوى العالمي بالإضافة إلى تعامل نسبة هائلة من التعاملات الاقتصادية بالدولار الأمريكي 83.6 في المئة؟.
تم إنشاء الدولار الأمريكي عام 1792، آنذاك لم يكن الدولار مجرد عملة ورقية، بل كان على شكل 3 فئات، الفئة الأغلى كانت مصنوعة من الذهب، والأقل منها قيمة كانت مصنوعة من الفضة والأخيرة كانت مصنوعة من النحاس. تمّ اعتماد هذه العملة في 1792 كالعملة الرسمية للولايات المتحدة.
استمر العمل بهذا النظام المالي إلى العام 1861 حيث اندلعت الحرب الأمريكية الأهلية بين الشمال والجنوب، آنذاك احتاجت حكومة الشمال المركزية المزيد من الأموال من أجل خوض الحرب ولم تكن ترغب بخسار كل ما لديها من الذهب والفضة. مما دفعها إلى إنشاء العملة الورقية الدولار الأمريكي بشكله الأخضر الحالي عام 1862 وبدأت بطباعتها، بنهاية الحرب الأمريكية كان هناك 461 مليون دولار أمريكي مطبوع.
آنذاك لم تكن العملة مغطاة بالذهب والمقصود بالتغطية بالذهب هو أن يكون بمقدورك استبدال العملة الورقية بالذهب متى ما أردت ذلك حيث أن العملة الورقية تكون قيمتها ذهبا، إلّا أن الكونغرس الأمريكي جرم من يرفض التعامل بالدولار الأمريكي آنذاك وفرض التعامل بها. كان الدولار حينها مجرد ورقة نقدية كثقة بينك وبين الحكومة، ولم يكن يساوي شيئا في الواقع حيث أنّه ليس مغطى بالذهب.
في عام 1879 وبعد حصول تضخم هائل في الولايات المتّحدة وخسارة الدولار الأمريكي لجزء كبير من قيمته الشرائية، تم تغطية الدولار الأمريكي بالذهب، حيث صار بمقدور الناس استبدال الدولارات الأمريكية الخضراء بالذهب متى ما أرادوا ذلك مما خفض التضخّم وأنعش الاقتصاد.
في عام 1929م حصل الكساد العظيم وهي الأزمة الاقتصادية العالمية التي استمرت لسنوات، مما دفع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى إلغاء تغطية الدولار بالذهب عام 1933م ولكنّه أعاد تغطية الدولار بالذهب عام 1934م مع تعديلٍ نسبي لسعر الدولار للتخلص من إرهاصات تلك الأزمة. استمر الأمر على ما هو عليه إلى حين حصول اتفاقية برايتن وودز.
نظام اقتصادي عالمي
قبل أن تخرج الولايات المتّحدة منتصرة من الحرب العالمية بعامٍ واحد، بدأت تعمل على إنشاء نظامٍ عالمي جديد وبالتالي إنشاء نظام عالمي اقتصادي جديد، تكون الولايات المتّحدة والدولار الأمريكي رأس الهرم فيه. وقد حصل ذلك عن طريق اتفاقية برايتن وودز سنة 1944.
حضرت التوقيع على هذه الاتفاقية 44 دولة من حول العالم، واستمر انعقاد المؤتمر لأكثر من 22 يوما، تم فيه توقيع عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظم التجارة العالمية الدولية بالإضافة إلى تطبيق بعض الشروط والقيود عليها. أهم نتائج المؤتمر كان اعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى; يمكنك أن تقول أن هذه الاتفاقية هي الاتفاقية الرئيسية التي أدت إلى تشكيل نظام الصرف الأجنبي وتشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير، وهي الاتفاقية الرئيسية التي رسخت هيمنة الدولار الأمريكي على تعاملات العالم الاقتصادية، حيث صارت هذه الدول الـ44 ترجع إلى الدولار الأمريكي لتحديد قيمة عملاتها دوليا، مما جعل الدولار بمركز الملك.
كانت الولايات المتّحدة تمتلك 75 في المئة من ذهب العالم لوحدها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة على مستوى العالم المغطاة بالذهب، مما دفع عددا كبيرا من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأمريكية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلا كاحتياطي، وصار عدد كبير من هذه الدول يستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي.
وهكذا تحقق حلم واشنطن بالسيطرة على الاقتصاد العالمي.. ولكن تطورا مهما حصل لاحقا.
صدمة نيكسون
خاضت الولايات المتّحدة حرب فيتنام من العام 1956 – 1975، وكالمعتاد، احتاجت الولايات المتّحدة إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، ولكن الدولارات لم تكفي، لأن الذهب الموجود في الولايات المتحدة بل والعالم لم يعد كافيا ليغطي الدولار الأمريكي، لم يعد بالإمكان طباعة المزيد من الدولارات لأن الذهب الموجود لم يعد كافيا لتغطيتها، وبالتالي قامت الولايات المتّحدة بتجاوز الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تعلم أحدا بذلك.
ولكن الأزمة الكبرى حصلت عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام 1971 بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب. رفضت الولايات المتحدة طلب فرنسا، وقام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بإصدار بيان في عام 1973 الغي فيه التزام الولايات المتحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، عرفت لاحقا باسم صدمة نيكسون.
كانت صدمة حقيقية للدول على مستوى العالم، كانت خدعة حيث تم خداع العالم بأسره بها. واكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدا عن وجود غطاء من الذهب و أنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها.
أي أن الدولارات ببساطة عبارة عن أوراق تطبعها الآلات الأمريكية ثم تحدد قيمة الورقة بالرقم الذي ستكتبه عليها فهي 10 أو 100 أو 500 دولار ..
أمريكا تطبع ما تشاء من الورق وتشتري به بضائع جميع الشعوب، لذلك قال الرئيس الروسي بوتين: أمريكا تسرق العالم.
هناك مئات ملايير الدولارات الورقية في كل أنحاء العالم تستخدم كأداة للتجارة والتعاملات الإقتصادية، ومع تركز الجهاز المالي في يد واشنطن أصبح من السهل عليها وبسهولة كبيرة تدمير اقتصاديات الدول الأضعف منها وفرض الحصار والعقوبات والتجسس على أغلب المعاملات المالية حتى داخل الدول ذات السيادة.
واشنطن تحاول في نطاق الصراع العالمي منع ظهور بديل للدولار كأداة تعامل دولية وفشلها في تحقيق هذا الهدف يعني نهايتها كقوة مهيمنة إن لم يكن إنهيارها من الداخل لأن ملايين الأمريكيين سيجدون أن وهم الثروة والرفاهية الذي عايشوه سيسقط.
تياران
ينشغل مفكرو الولايات المتحدة منذ فترة ليست بالقصيرة، بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التغيرات الحادثة في شكل النظام الدولي الذي لم تتشكل ملامحه بعد وتحولات ميزان القوي من الغرب إلى الشرق أي القارة الآسيوية. ويحتدم الجدل بين تيارين، يرى أولهما أن الولايات المتحدة في طور التراجع الذي يجعلها تلحق بغيرها من القوى الكبرى والحضارات العظمى التي سبق أن فرضت هيمنتها على العالم وشكلته، ثم تراجعت واندثرت، خاصة مع تآكل الديمقراطية الأمريكية، وإنهاك اقتصادها بالحروب غير المبررة، وتعرضه لأزمات عاصفة في العقد الأخير، وهو ما أدى لعدم قدرة واشنطن على التحكم في مسارات الأمور، ومجريات الأحداث في العالم مع تساقط حلفائها في مختلف مناطق العالم، وبروز قوى عظمى أخرى تتنافس على دورها. في حين يري أنصار التيار الثاني أن القوة الأمريكية لا تزال في ذروتها، وأنها أبعد ما تكون عن التراجع.
كتب روبرت كاجان المؤرخ والزميل في مركز بروكينغز الأمريكي:
في فبراير2012 ، صدر كتاب “روبرت كاجان” ، مؤرخ وزميل مركز بروكينغز وأحد أقطاب المحافظين الجدد، المعنون بـ”العالم صنع أمريكي والذي أخذ أهميته مع تبني الرئيس الأمريكي السابق أوباما له ثم عدد من كبار ساسة البيت الأبيض في عهد الرئيس ترامب”.وقد قدم “كاجان” ملخصا لأهم أفكار كتابه حول مستقبل القوة الأمريكية بمقال له تحت عنوان “لم تتلاش: ضد خرافة التراجع الأمريكي نشر في يناير في مجلة “نيو ريباليك”.
يستهل كاجان مقاله بطرح تساؤلين رئيسيين، مفادهما: “هل تواجه أمريكا تراجعا في مكانتها كقوة عظمى؟”، و “هل يواجه الأمريكيون خطر أن تمارس دولتهم الانتحار الاستباقي الذي تمارسه القوى العظمى قبل سقوطها؟”. والمقال هو إجابة بالنفي على هذين التساؤلين.
ويسوق كاجان مقولة رئيسية يعتمد عليها تحليله، هي أن النظام العالمي الحالي، الذي يتسم بوجود عدد غير مسبوق من الديمقراطيات والازدهار غير المعهود رغم أزماته، والسلام بين القوي الكبرى، إنما يعكس المبادئ والتفضيلات الأمريكية. وقد بني هذا النظام على القوة الأمريكية، ويعتمد في استمرارها على حمايتها. وبالتالي إذا تدهورت القوة الأمريكية، فإن النظام العالمي سيتدهور، وسيحل محله نظام يمثل انعكاسا لقوى أخرى ربما تؤدي به إلى الانهيار، كما انهار النظام العالمي الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين. ولا يمكن كذلك تصور بقاء الأسس الليبرالية التي يقوم عليها هذا النظام، إذا انكمشت القوة الأمريكية.
أسس القوة الأمريكية
يؤكد كاجان أن الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى إنما يعتمد على انطباعات وتحليلات غير متماسكة، تتحدث أغلبها عن التحول بين وضع أمريكا الحالي، والوضع الذي اعتادت أن تكون عليه في الماضي. ويري أن مشكلة هذا الاتجاه تكمن في أنه يعتمد على تحليل وضع القوة الأمريكية في مدة زمنية معينة، ويرتكز على الأزمة العالمية التي تعصف بها.
وبإعمال المنظور التاريخي ومعايير القوى العظمى التي يمكن الاتفاق عليها، سنجد أن “تدهور القوى العظمى هو نتيجة تغيرات جذرية في التوزيع العالمي لأشكال القوة، والذي عادة ما يأخذ فترات زمنية ممتدة ليتشكل، ونادرا ما تسقط القوى العظمى فجأة”. ويضرب كاجان بتدهور الامبراطورية البريطانية مثلا على أهمية العامل الزمني في التحليل. وقد سبق لأمريكا أن تعرضت لأزمات اقتصادية طاحنة وطويلة، كما حدث في عقود (1890-1930-1970)، وقد استطاعت على إثر كل منها أن تعود أقوى مما كانت عليه قياسا بالقوى الأخرى. وقد كانت عقود (1910-1940-1980) أكبر عقود القوة والنفوذ الأمريكي العالمي.
يتناول كاجان وضع أسس القوة الأمريكية حاليا. فرغم حالة الركود الحالية، فإن المركز الاقتصادي للولايات المتحدة لم يتغير، فلا يزال نصيبها من مجمل الإنتاج العالمي كما هو في العقود الأربعة الأخيرة منذ عام 1969، ولا تزال تنتج تقريبا ربع الإنتاج العالمي، ولا تزال هي الاقتصاد الأغنى والأقوى في العالم.
ولكن البعض يتحدث عن الصعود الاقتصادي للهند والصين وبعض القوى الآسيوية الأخرى التي يتزايد نصيبها في الاقتصاد العالمي، غير أن صعود هذه القوى إنما يأتي على حساب أوروبا واليابان اللتين تراجع نصيبهما في الاقتصاد العالمي. والمتفائلون بصعود الصين يتنبأون بأنها ستحل محل الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي، وهو ما يعني أن الأخيرة ستواجه تحديات لوضعها الاقتصادي في المستقبل، ولكن حجم الاقتصاد المحض ليس مؤشرا جيدا على ميزان القوة النسبية في النظام الدولي. فالصين نفسها كانت أكبر اقتصاد عالمي في بداية القرن التاسع عشر، لكنها وقعت فريسة للأمم الأوروبية الأصغر منها. وحتى لو قفزت الصين لقمة الاقتصاد العالمي مرة أخرى، فسيواجه قادتها حتما مشكلات في النمو، ومن ثم سيكون من الصعب عليها أن تلحق بأمريكا وأوروبا من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي.
ولا يزال ميزان القوة العسكرية يميل لصالح أمريكا، فلا توجد إلى الآن قوة تعادل قدرات الولايات المتحدة، ولا يوجد أي تدهور في القدرات العسكرية الأمريكية، ولا يزال حجم الإنفاق على الدفاع في الولايات المتحدة الذي بلغ 700 مليار دولار في عام 2018 هو الأعلى في العالم، ولا تزال القوات الأمريكية البرية والبحرية والجوية هي الأكثر تقدما في تسلحها.
ومن ناحية أخرى، لا يعني صعود بعض القوى اقتصاديا أنها ستنافس الولايات المتحدة على نفوذها على المسرح الدولي، فلا توجد علاقة حتمية بين القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي. فالهند الفقيرة تحت قيادة نهرو كانت أكثر تأثيرا من الهند الحالية.
كما أن الأمر يتوقف على القوة النامية، وهل هي معادية أم لا. ففي أثناء الحرب الباردة، أدى الصعود الاقتصادي لألمانيا واليابان إلى تراجع نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي الإجمالي إلى النصف، غير أن ازدهار اقتصاد الدولتين كان في مصلحة الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وبالمثل، فنمو البرازيل وتركيا لا يتقاطع مع المصالح الأمريكية، ونمو الهند يعد في مصلحتها، لأنه في مواجهة المنافس المستقبلي لها وهو الصين. أما نمو الاقتصاد الصيني، فيمثل خطورة، إذا تمت ترجمته بالقدر الكافي إلى قوة عسكرية.
حقيقة الهيمنة الأمريكية على العالم
في الجزء الثاني من المقال، يفند كاجان مقولة يعتمد عليها الاتجاه الذي يقول بتراجع القوة الأمريكية، وهي أنه كان هناك وقت ما كانت الولايات المتحدة قادرة فيه على تشكيل العالم ليتوافق مع إرادتها، وأن تجعل الأمم الأخرى تفعل ما تريد، وأنها كانت تقوم “بإدارة ترتيبات الأمن والاقتصاد والسياسة في كل العالم”.
يقول كاجان إن مثل هذا الاعتقاد ليس إلا وهما رومانسيا، فمثل هذا الوقت لم يوجد قط، وإنما تشكلت الهيمنة الأمريكية في العالم عبر سلسلة من تواكب النجاحات والإخفاقات. وإذا نظرنا للسنوات الأولى من الحرب الباردة، حيث استطاعت أمريكا أن تحقق هيمنة كاملة على شئون العالم، فسنجد أنها استطاعت تحقيق العديد الإنجازات الفائقة، مثل مشروع مارشال، وتأسيس الناتو، وإنشاء الأمم المتحدة، وتأسيس نظام بريتون وودز الاقتصادي، وهو ما يشكل العالم كما نعرفه حاليا.
إلا أنه بالمقابل كانت هناك لحظات من الانتكاس، ففي عام 1949، نجحت الثورة الشيوعية في الصين، وكسر الاتحاد السوفيتي الاحتكار الأمريكي للسلاح النووي، ثم تورطت الولايات المتحدة في الحرب الكورية، وفقدت 35 ألفا من جنودها. وفي الخمسينيات، اجتاح الأمريكيين القلق من التدهور النسبي لقوتهم إزاء صعود قوة المعسكر الاشتراكي، كما أنها فشلت في إقناع حلفائها الغربيين بعدم الاعتراف بحكومة الصين الشعبية.
في كتابه يتجاهل روبرت كاجان إلى حد كبير آثار نكسات واشنطن في حرب الفيتنام واللاوس وكمبوديا خلال القرن العشرين وتعثرها في الشرق الأوسط في غزوها لأفغانستان والعراق وتدخلاتها في عدد من دول أمريكا اللاتينية وفشلها في الحيلولة دون نهضة روسيا، أو منع أوروبا من نهج سياسات أقل تأثرا بالاملاءات الأمريكية. وفوق كل ذلك يتمسك روبرت كاجان كغيره من المحافظين الجدد بمعادلات تتعارض مع رسم واقع توازن القوى العالمي، الأمر الذي يذكر الكثيرين بهؤلاء الذين دافعوا خلال القرن الماضي عن ديمومة الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.
فشل في العالم الثالث
السياسة الخارجية الأمريكية لم تكن دائما محل ترحيب بقية العالم، خاصة العالم الثالث، ولم يساعد سجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على تحسين صورة أمريكا. كما أن حرب فيتنام ساعدت على جعل أمريكا قوة استعمارية عاتية تريد أن تخضع بلدا صغيرا مقاوما. وفي العقود الأولى من الحرب الباردة، كان العالم الثالث أكثر إعجابا بالنظام الاقتصادي السوفيتي، “رأسمالية الدولة”، لا بالنموذج الأمريكي الحر.
وواجهت الولايات المتحدة في عقد السبعينيات العديد من الأزمات التي جعلت هنري كيسنغر يتحدث عن أن أمريكا تجاوزت نقطة الذروة التي تبلغها كل حضارة قبل انهيارها. فقد أدى الارتفاع المذهل لأسعار البترول، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة الأمريكية في حرب فيتنام، إلى دخول الاقتصاد الأمريكي في أزمة حادة. وقد هبط معدل الإنتاج القومي بمقدار 6 في المئة بين عامي 1973 و1975، وتضاعف معدل البطالة من 4.5 في المئة ليصبح 9 في المئة.
وفي العقد التالي، تنبأ بول كيندي في كتابه “سقوط وصعود القوى العظمى” بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يعانيان الترهل الاستراتيجي، وأن الولايات المتحدة ستكون أول المنهارين بسبب هذا الترهل. غير أن الانهيار لحق بالاتحاد السوفيتي في نهاية العقد، لتصبح أمريكا وحدها في العقد التالي القوة العظمى الوحيدة. ومع ذلك، فشلت في التعامل مع العديد من القضايا، رغم أن الأمريكيين فازوا في حرب الخليج، ووسعوا حلف الناتو شرقا، وأحلوا السلام في البلقان، بعد سفك الكثير من الدماء، ودفعوا العالم ليتبنى “إجماع واشنطن” حول الاقتصاد.
غير أن هذه النجاحات صاحبتها إخفاقات مماثلة حسب المحافظين الجدد. فقد بدأ إجماع واشنطن في الانهيار مع الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، حيث عدت الوصفات والحلول الأمريكية خاطئة، وربما مدمرة. وتأخرت واشنطن في منع كوريا الشمالية وإيران من تطوير برامج أسلحة نووية، وتقاعست عن منع الإبادة العرقية في رواندا. ورغم أنها دعمت التحول الديمقراطي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، فإنها لم تستطع أن تتحكم في مسار الأمور بعد ذلك.
ويقر كاجان بأن الولايات المتحدة اليوم غير قادرة على فرض إرادتها في العديد من الملفات، ومع ذلك فقد سجلت العديد من النجاحات في العراق، وفي الحفاظ على شبكة فعالة لمنع الانتشار النووي، وفي تدمير القاعدة، وفي تطوير الأسلحة، وفي تمتين شبكة تحالفاتها مع أوروبا، ومع العديد من القوى الآسيوية الصاعدة.
النجاح والاخفاق
من هذا التحليل التاريخي، يؤكد كاجان أن سجل القوة الأمريكية ممتزج بالنجاح والإخفاق، فالفكرة ليست في أن أمريكا كانت تفتقد دائما النفوذ العالمي. فمن الحرب العالمية الثانية حتى الآن، والولايات المتحدة هي في حقيقة الأمر القوة العالمية المهيمنة التي اكتسبت المزيد من النفوذ منذ روما القديمة، بل وتفوقت في هذا الصدد. غير أنها لم تكن القوة القاهرة القادرة على فعل كل شيء.
وإذا ما أردنا التحقق من كون الولايات المتحدة في حالة تراجع أم لا، فنحن بحاجة إلى معايير معقولة يجب الاحتكام إليها. أما إذا قارنا نفوذ الولايات المتحدة اليوم بهيمنتها الشاملة الخرافية كما تبين، فإن هذا سيضللنا.
في مؤلفه الكلاسيكي الصادر في سنة 1987 بعنوان “صعود وانهيار القوى العظمى”، جادل بول كنيدي بأنّ القوى العظمى الغربية منذ سنة 1500 للميلاد، انقادت إلى ورطات استراتيجية موسعة بشكل متزايد أجبرتها على إنفاق المزيد من منتوجها الداخلي الخام على الدفاع مما ساهم في نقص الاستثمار الوطني. وكانت نتيجة هذه الحلقة هي نفسها غرق قوة عظمى في التردي الاقتصادي النسبي، حيث يصبح خصومها أكثر جرأة وتتعرض إلى المزيد من التحدي مما يؤدي إلى إفلاسها بفعل كثرة الحروب الكبرى، وفي نهاية المطاف تصعد قوة عظمى أخرى لتأخذ مكان القوة السابقة.
عندما نشر كتاب كنيدي لأول مرة، مال بعض القراء لتحويل تشبيهه العلائقي إلى تشبيه رسمي معطين الولايات المتحدة الراهنة دور بريطانيا في سنة 1910 في الوقت الذي كانت فيه سيادتها على وشك الانهيار. لكن ذلك، وفق ايان موريس المؤرخ والأستاذ الجامعي الأمريكي، كان مفرطا في التبسيط لأنه تغاضى عن الفروق بين الحالتين الأمريكية والبريطانية، وهي فروق جلبت ازدهارا بدلا من الكساد في التسعينات من القرن العشرين، وجلبت انهيارا للاتحاد السوفييتي بدلا من انهيار أمريكي، ولكن هذه الانتصارات لا تعني أن الولايات المتحدة فندت بشكل نهائي اتجاهات الإمبراطوريات، بل هي تعني فقط أنها عاشت لتقاوم يوما آخر.
وبعد سنة واحدة من ظهور كتاب كنيدي، قدم عالم الآثار جوزيف تينتر، رواية مختلفة جدا عن سقوط الإمبراطوريات في كتابه “انهيار المجتمعات المعقدة”. حيث أنّه يرى بالرجوع إلى روما أن فقدان الثقة داخل النخبة الإمبريالية تسبب انهيار الإمبراطوريات. وفي كتابه الحديث بعنوان “الإمبراطورية والحضارة” حدد فرغيسون بدوره نفس القوة المحركة في كل من بريطانيا القرن العشرين وأمريكا القرن الواحد والعشرين، ولاحظ أنّه بحلول العشرينات من القرن العشرين، أن رجالا أمثال جورج أوروال وهاري سينت جون بريدغر فيلبي والد الجاسوس كيم فيلبي، وإ.م. فورستر -وهم رجال ربما كانوا قد سخروا حياتهم لخدمة الإمبراطورية في العصر الفكتوري- ابتعدوا عن مواقعهم مشمئزين من المشروع برمته.
ويرى فرغيسون نموذجا مماثلا بين النخبة الأمريكية في العقد الحالي، مستنتجا ما يلي: “ربما لا يكمن التهديد الحقيقي في صعود الصين أو الإسلام أو انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بل هو يكمن في فقدان الإيمان بالحضارة التي ورثناها عن أسلافنا”.
هذه المسارات التفسيرية لما يخبر به التاريخ عن مستقبل أميركا، يقول موريس إنّها مختلفة عن نظرته للأمور، لافتا إلى أنه في كتابه الذي يحمل عنوان “لماذا يحكم الغرب الآن” درس الفترة التي تمتد إلى العشرين ألف سنة الماضية، وأكثر ما أذهله هو التفاعل بين الجغرافيا والتطور الاجتماعي، حيث أنه في القرنين السادس عشر والسابع عشر مكّن ارتفاع مستويات تطور الأوروبيين الغربيين من تحويل المحيط الأطلسي من حاجز للحركة إلى طريق سريعة. وفي القرن التاسع عشر جعل تحكم بريطانيا في تلك الطريق السريعة منها القوة العالمية الأولى. لكن مع زيادة سرعة التطور استمر معنى الجغرافيا في التبدّل، ومع بداية القرن العشرين أزاحت الولايات المتحدة المملكة المتحدة من قمة الهرم، وبحلول القرن الواحد والعشرين أصبح المحيط الهادئ الطريق السريعة الجديدة للعالم، ممّا دفع بالتطور الآسيوي الشرقي إلى الأمام ومكن الصين من تحدي الهيمنة الأميركية.
بحلول القرن الـ21 أصبح المحيط الهادئ الطريق السريعة الجديدة للعالم، مما دفع بالتطور الآسيوي الشرقي إلى الأمام
ويتوقع موريس وفق وجهة نظره تلك أن تبقى الولايات المتحدة بلدا لا غنى عنه لجيل آخر وربما جيلين لكن ربما ليس ثلاثة، مشيرا إلى أنّ صعود الشرق ليس الدينامية الوحيدة التي يجب التفكير فيها عند توقع البنيات المستقبلية للقوة، فمع زيادة التطور الاجتماعي أكثر فأكثر، تشرع الثورات في علم الجينات والحوسبة والروبوتات وتكنولوجيا النانو في إعطاء مفعول لتكويننا البيولوجي، مما يحدث تحولات في ما معنى أن تكون بشرا. وبتسارع تلك التغييرات قد يصبح النقاش القديم حول ما إذا كانت أمريكا هي الأولى عالميا، نقاشا غير ذي صلة.
إن مقارنة التنبؤات المختلفة توحي، وفق موريس، بأنّه يمكن للمتكهنين الاستراتيجيين تعلم شيئين من التاريخ، أولا، بما أنّه لا أحد يقدر على التنبؤ بالمستقبل بدقة، يمكننا في بعض الأحيان فهم احتمالات مختلف النتائج. (من الممكن أن تكون الهيمنة الأمريكية، مثل مملكة السماء، أبدية لكنها من المحتمل ألا تكون كذلك، وثانيا، يستفيد المتنبئون أكثر من التاريخ ليس عندما يسألون الخبراء عن الجواب على سؤال ما، بل عندما يدركون الاختلافات في الرأي بين الخبراء ويبحثون عن الأسباب التي تكمن وراءها، إذ ربما تنهار الهيمنة الأمريكية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، أو تتآكل بفعل الشك في الذات، أو ربما تدوم ستة أو سبعة عقود أخرى، موجهة العالم عبر انتفاضات ثورية. ولذلك فعن طريق التفكير في عيوب استنتاجات المؤرخين، يتعلم صانعو القرار بحق من الماضي.
القوة العسكرية والاقتصاد
ذكر مقال تحليلي لوكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأمريكية، إن الاقتصاد الصيني هو الأقوى في العالم، بالرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال المنتج الأكبر عند اعتماد أسواق الصرف في السوق لقياس قوتها الاقتصادية.
وتظهر إحصائيات البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي وفقا لسعر الصرف السوقي لعام 2016 بلغ قرابة 19 تريليون دولار للولايات المتحدة مقارنة بأكثر من 11 تريليونا للصين، بيد أن وسيلة المقارنة هذه مضللة، لأن تكلفة الأمور تعد مختلفة في بلدان مختلفة، فمن المفترض أن يقيس الناتج المحلي الإجمالي كمية الأشياء الحقيقية مثل: السيارات والهواتف والخدمات المالية وغيرها مما تنتجه الدولة.
وإن كان الهاتف نفسه يكلف 400 دولار في الولايات المتحدة لكنه يكلف 200 دولار في الصين، عندها يتم تقدير الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة أقل بـ 50 في المئة عند قياسه بسعر السوق الصرفي، وبصفة عامة، تملك البلدان الأقل نموا أسعارا أقل لمنتجاتها، ما يعني أنه يتم تقدير إجمالي الناتج المحلي بأقل من قيمته الحقيقية.
ويحاول الخبراء الاقتصاديون تصحيح هذا بتعديل يطلق عليه اسم تعادل القوة الشرائية الذي يأخذ الأسعار النسبية بعين الاعتبار، هذا النظام غير مثالي، نظرا لاضطراره احتساب أمور مثل جودة المنتج والتي قد يصعب قياسها، لكنه ربما يمنح صورة أكثر دقة عن الإنتاج الحقيقي لبلد ما، ومن هذا المنظور تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأمريكية بكثير.
طريقة أفضل
بحسب البنك الدولي بلغ إجمالي الناتج المحلي وفقا لمقياس تعادل القوة الشرائية في عام 2016 قرابة الـ 22 ترليون دولار للصين مقارنة بالولايات المتحدة التي بلغ الناتج المحلي الإجمالي لها وفقا للمقياس تقريبا 19 مليار دولار.
وبمقياس آخر فالنظر في أسعار شطائر مطاعم بيغ ماك، يبين أن ثمن البرغر نفسه في الولايات المتحدة يزيد بـ 1.8 ضعف عن سعره في الصين، ومن شأن تعديل أرقام الناتج المحلي الإجمالي وفقا لسعر الصرف السوقي بناء على هذه النسبة أن يضع الصين في المقدمة أكثر.
وفي بعض الجوانب، يعد تفوق الصين أكبر، إذ تجاوز الإنتاج الصناعي للبلاد ما حققته الولايات المتحدة منذ عقد تقريبا، كما أن صادراتها أكبر بـ 3 أضعاف من تلك للولايات المتحدة.
وقد يكون المعلقين الأمريكيون بطيئين في الاعتراف بالسيادة الاقتصادية للصين، لكن بقية العالم بدأ يستيقظ على هذا الواقع.
وأظهر استطلاع للرأي حول القوة الاقتصادية في الدول المتقدمة تزايدا في عدد الأشخاص الذين يعتقدون أن الصين هي القوة العظمى في العالم اقتصاديا بين عام 2016 و2017، بينما انخفض عدد الأشخاص الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى اقتصاديا بين العامين ذاتهما.
وهذا لا يعني بالضرورة أن سكان الصين هم أغنى سكان العالم، بل هم في الواقع أبعد ما يمكن عن ذلك، فالبلدان ذات الدخل الأعلى للفرد على الترتيب هي قطر، لوكسمبورغ، سنغافورة، بروناي، الإمارات العربية المتحدة، بيد أن قلة من الناس قد يقولون إن قطر أو لوكسمبورغ على سبيل المثال تملكان أقوى اقتصاد في العالم، وفي حين أن نصيب الفرد يعد هاما لرفاه شعب دولة ما إلا أنه لا يترجم كقوة وطنية، إلا إن كانت الدولة تملك عددا كبيرا من السكان.
إن الدخل المتواضع للشخص الواحد في الصين يعني ببساطة أن الدولة تملك مجالا واسعا للنمو.
وفي حين أن البلدان المتقدمة لا تستطيع أن تزداد ثراء إلا عن طريق ابتكار أشياء جديدة أو جعل اقتصاداتها أكثر كفاءة، يمكن للبلدان الفقيرة أن تقوم بنسخ التكنولوجيا الأجنبية بتكلفة زهيدة أو تقليد الممارسات التنظيمية الأجنبية، وهذا لا يحدث دائما، وبطبيعة الحال، تجد العديد من البلدان الفقيرة نفسها محاصرة من قبل المؤسسات، ونقص رأس المال البشري أو غيرهما من الحواجز أمام التنمية.
لكن توجد أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الصين ستتغلب على بعض هذه العقبات على الأقل.
ويملك الخبيران الاقتصاديان راندال موك وبرنارد يونغ ورقة بحثية جديدة، يقارنان فيها بين تاريخي اليابان وكوريا الجنوبية اللتين خرجتا من الفقر لتحقيق وضع دولة غنية وبين النهوض الأخير للصين، ووجدا أن المؤسسات الصينية تتطور بشكل عام بالمسار نفسه الذي اتبعته جارتاهما الناجحتان.
وبعبارة أخرى، الصين ليست بالفعل أكبر اقتصاد في العالم، إلا أنه من المتوقع أن تنمو الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة بشكل أكبر، ولا تزال إحصاءات النمو تؤكد هذا، فعلى الرغم من تباطؤ النمو في الصين في السنوات الأخيرة، إلا أن اقتصادها مستمر في التوسع بمعدل أكثر من 6 في المئة، في حين أن توسع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة يزيد قليلا عن 2 في المئة، وإذا استمر هذا التفاوت، سيبلغ حجم اقتصاد الصين ضعف اقتصاد الولايات المتحدة في أقل من عقدين.
خيار الحرب
من الناحية الاقتصادية تجاوزت الصين الولايات المتحدة وتسير على الطريق للتقدم أكثر بكثير في المستقبل القريب، لكن ماذا بالنسبة للقوة الاقتصادية؟، في هذا المجال لا يزال يبدو وكأن الولايات المتحدة تتربع على عرش المنافسة، فهي تنفق المزيد من الأموال على جيشها أكثر مما تنفقه الصين وتملك ترسانة نووية أكبر، وبفضل حروبها الأخيرة في أفغانستان والعراق تملك مقاتلين أكثر حنكة وخبرة أيضا.
بيد أن هذا لا يعني أنه من المؤكد أن تربح الولايات المتحدة في الحرب إن تقاتلت الدولتان.
ومن المؤكد أنه في حال وقوع تبادل نووي كامل بينهما لن يكون هناك أي منتصر، لكن في صراع تقليدي مطول، هناك فرصة جيدة بأن تقود قدرة الصين من حيث الأعداد وبراعة التصنيع إلى انتصارها في الحرب، وعلى سبيل المقارنة لننظر للولايات المتحدة واليابان في الحرب العالمية الثانية، في بداية الحرب كانت قوات حاملات الطائرات اليابانية تفوق عدد نظيراتها الأمريكية وكانت قواتها البحرية أكثر حنكة نظرا لحرب اليابان مع الصين، لكن عندما بدأت الحرب تفوقت الولايات المتحدة كثيرا بالإنتاج على خصمها.
وعندما تتقاتل دولتان تملكان مستويات تكنولوجية متماثلة، باستطاعة الأرقام أن تحدد النتيجة، تملك الصين ناتجا محليا إجماليا أكبر، وناتجا صناعيا أكبر وعدد سكان أكبر بـ 4 أضعاف.
ومع تطوراتها الأخيرة في تقنيات التخفي وأسلحة الطاقة الموجهة والصواريخ فوق الصوتية وغيرها من المجالات، لم تعد تكنولوجيتها العسكرية بعيدة كثيرا عن الولايات المتحدة، وفي حرب مدهشة، بمجرد بدء التحرك العظيم للصين لن يستطيع أحد وقفها.
وبعبارة أخرى، أصبحت الصين الآن في وضع مماثل لوضع الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين عندما كانت قوة عظمى هائلة لم تعثر بعد على سبب يدفعها لممارسة هيمنتها، وعندما استيقظت الولايات المتحدة للحاجة لفرض وزنها وقوتها في أنحاء العالم لم يشك أحد بأسبقيتها.
وربما لن تتخذ الصين القرار نفسه على الإطلاق، فقد تختار البقاء مكبوحة على الساحة الدولية مع امتلاكها ترسانة نووية متواضعة وبصمة خفيفة في المؤسسات العالمية، وإن كان الأمر كذلك ستظل هيمنتها إمكانية كامنة تلوح في الأفق بدلا من كونها حقيقة وواقعا، لكن يفضل ألا يعول أحد على ذلك.
حدود الهيمنة
جاء في بحث لهاشم صالح وهو كاتب وباحث ومفكر ومترجم تنويري سوري:
على الرغم من كل عناصر القوة فإن امريكا تعرف ان هيمنتها لن تدوم الى الأبد. ففلسفة التاريخ او قوانينه تثبت لنا ان ذلك امر مستحيل. وبالتالي فالمسألة التي تقلق كبار الاستراتيجيين في واشنطن هي التالية: كيف يمكن ان نحافظ على هذه الهيمنة الى اطول فترة ممكنة؟ كيف يمكن لنا ان ننظم شؤون العالم بطريقة تناسب مصالحنا حتى بعد ان تنتهي هيمنتنا الشمولية او المطلقة على العالم؟.
عندما يلقي الخبراء الاستراتيجيون الأمريكان نظرة سريعة على خارطة العالم يجدون الحقيقة التالية، وهي ان مصير العالم سوف يحسم على الرقعة الاوروبية الآسيوية. وهي الرقعة التي تضم القوى العظمى او المرشحة لان تكون عظمى اثناء القرن الحادي والعشرين: اي اوروبا الموحدة، ثم روسيا، ثم الصين، ثم اليابان، ثم الهند وربما اندونيسيا.. وهذه القوى لو توحدت تحت زعامة واحدة لهزمت امريكا فورا. ولكن هذا مستحيل بالطبع. فأوروبا هي الاقرب حضاريا الى امريكا، بل ان امريكا هي التي بنت اوروبا كما كان يقول الجنرال ديغول.
يضاف الى ذلك ان 75 في المشة من سكان العالم موجودون في هذه الرقعة الشاسعة الواسعة التي تشمل اوروبا وآسيا الشرقية. وبالتالي فإن الهيمنة عليها تعني التحكم بمصير العالم. ولا ينبغي ان ننسى ان معظم ثروات العالم من معدنية وبترولية وغازية وسوى ذلك موجود في هذه المنطقة ايضا. وبالتالي فإن امريكا تخطط استراتيجيا على النحو التالي: ينبغي ان تطيل امد هيمنتها على المنطقة الاوروبية الآسيوية اي على العالم كله في نهاية المطاف الى اقصى حد ممكن. والبعض يقول بأن هذه الهيمنة سوف تستمر ثلاثين سنة على الاقل. ولكي تستطيع اطالة هيمنتها فإن امريكا لن تسمح لأي دولة بأن تكبر اكثر مما يجب. وذلك لأن الصين مثلا اذا ما قويت جدا فقد تسيطر على القارة الآسيوية كلها وتهدد امريكا فورا. وقل الأمر ذاته عن روسيا او اليابان او حتى الاتحاد الأوروبي ذاته.
وبالتالي فالاستراتيجية الأمريكية سوف تلعب نفس اللعبة التي لعبتها بريطانيا في القرن التاسع عشر. بمعنى آخر فانها سوف تهدد هذه القوى الكبرى ببعضها البعض لكي تحجمها كلها ولكي تظل هي الحكم الذي يلجأ اليه الجميع في نهاية المطاف.. وهكذا تظل هي المهيمنة على الجميع. على هذا النحو تستطيع ان تطيل أمد هيمنتها حتى عام 2030 او ربما 2050 على اكثر تقدير.
وبعدئذ سوف تنتهي الهيمنة الشمولية او المطلقة لدولة واحدة على العالم كله. ولهذا السبب فإن الخبراء يعتقدون ان امريكا سوف تكون آخر الامبراطوريات. بعدها سوف ندخل في عالم متعدد الاقطاب، عالم تهيمن عليه عدة مراكز لا مركز واحد. وبالتالي فالنصف الثاني من القرن الحادي والعشرين ـ اذا ما صدقت نبوءات فلاسفة التاريخ ـ سوف تهيمن عليه الصين واليابان وروسيا والهند واوروبا الموحدة، وامريكا بالطبع، ولكنها عندئذ سوف تكون قوة من جملة قوى اخرى لا القوة الغالبة او الشمولية.
ما هي الاسباب التي ستؤدي الى انهيار الامبراطورية الأمريكية؟ انها نفس الاسباب التي ادت الى انهيار الامبراطوريات السابقة كلها. وهي داخلية وخارجية، اما الداخلية فهي ظهور امراض معينة تصيب جميع الحضارات عندما تصل الى الذروة وتنتصر. فعندئذ تتراخى عصبيتها كما يقول ابن خلدون، وتستسلم للسهولة والملذات والشهوات.
اما العوامل الخارجية فهي ظهور قوى اخرى ورغبة الشعوب الجديدة ذات الدم الساخن في دخول التاريخ. فالشعب الذي لم يجرب نفسه بعد او لم يحقق ذاته بعد، يكون عادة تواقا الى دخول حلبة التاريخ وصنع المعجزات ولو بتضحيات جسام. واما الشعوب الهرمة في القارة العجوز اوروبا فقد شبعت من صناعة التاريخ وملت حتى من الحضارة والتقدم والرفاهية والترف.. فماذا يمكن ان ترى اكثر مما رأته او عرفته؟.. وهذه هي مسيرة التاريخ.