الأمة، العالم الإسلامي، الدولة الإسلامية، إشكالية العلاقة بين المفاهيم بقلم مجموعة باحثين
المستخلص:
الارتباك المفاهيمي الذي يقابله دارسو العلاقات الدولية اليوم –وخاصة من منظور حضاري إسلامي- والاختلاف حول منظومة
المفاهيم التأسيسية لوحدات ومستويات التحليل (مثل مفاهيم: الدولة، والأمة، والعالم الإسلامي)، هذا الوضع ليس إلا انعكاسًا لارتباك آخر على صعيد واقع المسلمين ووضع دولهم ومجتمعاتهم على صعيد النظام الدولي المعاصر.
فبعد أن توارى وتراجع مفهوم "الأمة الإسلامية"، ناهيك عن مفهوم "الخلافة" الذي أضحى يحاط بكثير من علامات الريبة والاتهام، برزت مفاهيم أخرى تستقطع الأمة إلى مكونات فرعية قومية أو جغرافية أو نوعية؛ من قبيل: النظام الإقليمي العربي، الخليج، شمال أفريقيا، الهلال الخصيب، الشرق الأدني، الشرق الأوسط، الأورومتوسطية، شبه القارة الهندية، الشرق الأوسط الكبير.
كما برزت مفاهيم أخرى تجمع بين الأمة وبين أمم أخرى من قبيل: دول الجنوب، والعالم الثالث، والدول النامية،... وجميع هذه المفاهيم قد لا تستقطع الدول الإسلامية من سياقها الكلي والخاص فقط، بل قد تشد أطرافها إلى قوى وتكوينات أخرى جغرافية أو نوعية أو حضارية، ناهيك بالطبع عما يكمن في استبدال مفهوم "العالم الإسلامي" بالأمة من فقدانٍ لمعاني التوحد والتجانس. فإذا أضيف إلى جملة هذا ما أضحى يحيط بمفهوم "الدولة الإسلامية" ذاته من التباسات، تبين لنا إلى أي عمق تصل هذه الحالة الارتباكية المشار إليها.
وعلى سبيل المثال فـ"العالم الإسلامي" اليوم –وبوصفه جزءًا من النظام الدولي المكوّن من عدة نظم دولية فرعية: إقليمية ونوعية- يشير إلى مجموعة الدول الإسلامية وإلى المسلمين في دول أخرى؛ وهو بالأساس مصطلح جيوسياسي يترجم واقع الأمة الإسلامية الحالي، خاصة من حيث عدم انضوائها في إطار دولة واحدة. هذا بينما يبدو مفهوم "الأمة الإسلامية" مفهومًا عقديًّا بالأساس؛ حيث إنه مفهوم محوري وتأسيسي في رؤية المسلمين لأنفسهم مقارنة بغيرهم من الأمم، فالرابطة العقديّة (الإسلام) هي التي تربط بين شعوب متنوعة الأقوام والأعراق والألوان والأجناس تنتمي لهذه الأمة، وكذلك تتنازع مفهوم الدولة الإسلامية مداخل السياسي والإيديولوجي والعقدي. ولكن صفة (إسلامي) المشتركة بين المفاهيم الثلاثة تجعل مصطلحًا جيو-سياسيا مثل العالم الإسلامي يعبر أيضًا عن أبعاد قيمية مرتبطة بالإسلام.
ومن ثم فتوظيف هذه الثلاثية المفاهيمية (الأمة الإسلامية، والدولة الإسلامية، والعالم الإسلامي) ضمن دراسات العلاقات الدولية وبحوثها وتحليل النظام الدولي المعاصر وموضع الإسلام والمسلمين منه، يواجه عقبات معرفية وبحثية، فهي من ناحية ليست مصطلحات مترادفة، وإن تكن متواصلة ومتداخلة، كما أنها من ناحية أخرى ليست بسيطة التكوين ولا أحادية الأبعاد. ولعل هذا ما يفرض التساؤل: هل ما زالت هذه الأمة الإسلامية -أيًا كان عنوانها- قائمة بوصفها مستوى للتحليل والنظر في العلاقات الدولية؟ هل ما زال بمقدورنا أن نتحدث -ضمن البحث العلمي- عن "وضع للمسلمين" في النظام الدولي، سواء أطلقنا عليه "العالم الإسلامي" أو "الدول الإسلامية" أو "الأمة الإسلامية"؟ وهل ما زال بمقدورنا أن نكتشف أن للتفاعلات الدولية التي يشارك فيها المسلمون، شعوبًا ودولًا، ملامح وخصائص مشتركة تميزها عن غيرها من أنماط التفاعلات الدولية ومحاورها؟
فمن الملاحظ –وخاصة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وحتى الآن- توالي الإصدارات العربية والأجنبية (كتبًا ومقالات) تحت العناوين التالية: العالم الإسلامي والنظام الدولي، المسلمون والتغيرات الدولية، الإسلام والغرب، ... إلخ، على نحو يمكن معه القول إنه قد يتبلور مجال فرعي عن الدراسات الدولية حول الإسلام. وبعبارة أخرى، إذا كان وجود مؤسسة مثل منظمة المؤتمر الإسلامي يعني أن أعضاءها -وبانضمامهم إليها- يعترفون بأنهم أصحاب ذاتية تختلف عن خصوصيات تنظيمات أخرى ينتمون إليها بحكم الجغرافيا أو القومية... إلخ، وإذا كانت هذه المنظمة تعد الشكل التنظيمي الوحيد الذي أمكن الاتفاق عليه رمزًا لوحدة الأمة الإسلامية بعد انهيار الخلافة، فما الذي يتسم به وجود العالم الإسلامي في النظام الدولي المعاصر (على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) من خصائص تميزه عن غيره من النظم الفرعية، سواء من حيث وضعه كنظام فرعي أو من حيث نمط التفاعلات الذي يشارك فيها أو التي يكون موضوعًا لها؟
وبالرغم من الاعتراف بواقع الاختلافات الواسعة بين الدول الإسلامية، على نحو ينعكس بقدر كبير على فعالية منظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال تظل ضرورية لاعتبارات أهمها:
أولاً- تجدد الوعي بوجود الأمة واستمرارها، وبروز مؤشرات وأمارات من خصوصيتها في العلاقات البينية والعلاقات مع العالم.
ثانيًا- الاتجاه المتصاعد من أوساط سياسية وأكاديمية وفكرية في الغرب للنظر للعالم الإسلامي ككيان استراتيجي أو كلي له خصائصه ومقوماته، هذا بينما لم تزل كثير من دوائرنا محجمة عن الاقتراب من هذا المستوى رافضة الاعتراف بأن هناك ما يجمع المسلمين في إطار واحد من التفاعلات الدولية؛ وذلك انطلاقًا من وهم أن الرابطة العقدية والأبعاد القيمية لا تحوز أهمية عند تحليل السياسات الدولية، التي تقوم بالأساس على المصالح.
أولاً- إشكاليات خاصة بكل مفهوم:
إذًا فالمفاهيم الثلاثة تربطها عدة روابط وتميز بينها فروق، وهذا ما يجعل من دراستها إشكالية بحثية حقيقية. وفي عجالة نحاول إلقاء الضوء على دلالات هذه المفاهيم، وعلى تطورات الخلفية التاريخية والمعاصرة للخبرة الإسلامية المتعلقة بها، استخلاصًا لطبيعة العلاقات بين هذه المفاهيم من ناحية وتحديد إشكاليات دراستها من ناحية أخرى. وفيما يلي نحاول الإطلال على مشكلات تعريف هذه الثلاثية المفاهيمية الواحد تلو الآخر، قبل أن نصل إلى معالم رؤية جامعة أو ناظمة فيما بينها من منظور دارس العلاقات الدولية.
* الدولة الإسلامية: إشكالية التوصيف والتوظيف:
من الطبيعي أن يكون التعريف بمفهومٍ ما مستهلًا بالبيان اللغوي والاتجاهات النظرية والتأصيلية للمفهوم، وهو ما قامت به دراسات أخرى ضمن هذا الملف عن مفهوم الدولة باعتبارها وحدة التعامل الخارجي في الإسلام(1). فالدلالة اللغوية العربية لمفهوم الدولة تدور حول معنى التداول والتغير والتحول؛ في اتساق مع معانيها في الأصول المنـزّلة (القرآن والسنة) التي تؤكد أن التداول هو إحدى سنن الاجتماع البشري، يُجريها الله تعالى وفق قوانينها، وفي تمايز واضح عن الدلالة اللغوية الغربية (التي تأسر الدولة state غالبًا في أطر ثابتة على الدوام)(2).
ومن ثَم نصل إلى المدلول السياسي للدولة الإسلامية بوصفها: "الإطار النظامي الذي تجسد من خلاله الجماعة المسلمة استخلافها السياسي لتحقيق الشهود الإيماني في حراسة الدين وسياسة الدنيا بين أعضائها وبين غيرها من الجماعات الأخرى"(3). ويظهر من هذا التعريف مجموعة من الخصائص والمميزات لمفهوم الدولة الإسلامية في مدلولها المعرفي. بيد أن الواقع المعاصر للدولة الإسلامية يفضي إلى اعتبارات أخرى من الضروري الالتفات لها في تحديد المقصود بالدولة الإسلامية وأهم خصائصها التأسيسية والتكوينية ضمن الواقع الدولي الراهن. ولعل أول هذا النظر في واقع الدولة-القومية (القطرية) الحديثة وما استحدثه في هوية الدولة ومرجعيتها ومنطق بناء سياساتها وإنشاء مؤسساتها ونظمها. فعلى أثر نشأة الدولة القومية في البقاع الإسلامية جرى تقسيم العالم الإسلامي إلى قرابة (ستين) دولة مستقلاً بعضها عن بعض استقلالاً تامًّا(4).
وعلى الرغم من أن الذهن قد ينصرف -عند الحديث عن الدولة الإسلامية- إلى الخلافة الإسلامية وتاريخها منذ الخلفاء الراشدين وحتى الدولة العثمانية؛ إذ يعتبر الكثيرون أن الخلافة هي التجسيد الأرقى لفكرة الدولة الإسلامية، إلا أن اتجاهات تعريف الدولة الإسلامية في الواقع الراهن تنصرف إلى وجود إشكاليات واقعية تتعلق بتجليات هذا المفهوم وترتبط بتعدد المعايير المستخدمة لتحديد ماهية الدولة الإسلامية في الوضع الراهن(5): بين المعيار القانوني أو الدستوري (هل نُص في الدستور الدولة المحددة على كونها دولة إسلامية)...إلخ، ومعيار انضمام الدولة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي(6)، هذا فضلاً عن معيار العدد (الغالبية من السكان مسلمون).
وعلى الرغم من أن هذا التعريف الأخير قد يربط المفهوم بعامل موضوعي قد لا يكون له تأثير محدد على السياسة الخارجية للدولة، فيذهب دارسون آخرون إلى أن العبرة في تعريف الدولة الإسلامية -من وجهة نظر العلاقات الدولية- هو تعريف القيادة السياسية لتوجهات الدولة في علاقاتها الخارجية وهل تعتبر الإسلام مكونًا لهذه التوجهات(7). لكن هذا التعريف يواجه بدوره إشكاليات فيما يتعلق بالمؤشرات التي يمكن الاستناد إليها في تعريف القيادة السياسية لتوجهات السياسة الخارجية: هل هي فقط كون رئيس الدولة مسلمَ الديانة، أو أن الدولة عضوٌ في مثل منظمة المؤتمر الإسلامي؟
يعني ذلك أننا أمام مفهوم يصعب تحديد تعيناته من الناحية الواقعية، فضلاً عن عدم خلوه من الإشكاليات النظرية والفكرية. يضاف إلى ذلك حمولات المفهوم المختلفة (تاريخية، فكرية... إلخ) التي تفسح المجال أمام هواجس تتعلق بالمفهوم مثل: ارتباط الدولة (القومية) بمنطق التجزئة، وهل الدولة الإسلامية دولة مستقلة أم تابعة؟ وصفة "الإسلامية" هل تشير إلى دولة ثيوقراطية؟..الخ، مما قد يسوغ لفريق من المفكرين والباحثين رفض هذا الوصف.
هذا بينما يطرح فريق آخر(
رأيًا مخالفًا مفاده أن الدولة الإسلامية في المنظور والخبرة الحضارية الإسلامية تتمتع بعددٍ من الخصائص المميزة: فهي دولة مدنية (وليست علمانية)، وهي ليست دولة دينية (أي ثيوقراطية) على نمط الخبرة التاريخية الأوروبية، وأن المرجعية الدستورية للدولة تتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم وبيَّنتها السنة النبوية وهو ما يشكل أساس شرعية الدولة ووجوب الالتزام بطاعتها. هذا وإنْ ظلت الدولة في تجسدها الأرقى إنما هي دولة الإسلام (كإطار مؤسسي جامع للأمة) لا تقوم على أساس حدود إقليمية أو قطرية أو فواصل جغرافية ولكنها مفتوحة لكل المؤمنين بمبادئها والمساهمين في بناء حضارتها(9).
فالدولة –بنحو ما تقرر د.منى أبو الفضل- "ليست بالمنشىء للأمة أو البديل عنها، ولكنها تدخل في عداد الهيئات المكملة أو المتمّمة، بقدر ما تؤمّن للكينونة الجماعية الأم شروط الحضور التاريخي الفاعل"(10). ذلك لأن "الإسلام عندما جاء بالأمة لم يقرنها بحتمية تنظيمية معينة، ومن هنا صارت الأمة الإسلامية قيمة عليا ثابتة لا تحبسها أطر جامدة، بل هي القادرة على إيجاد الأشكال والصياغات التنظيمية التي تتلاءم ومعطيات العصر"(11). فالدولة الإسلامية أحد التعبيرات المادية عن وجود الأمة. ومن ثم فإن هذه المرونة قد حفظت مفهوم "الأمة" من الجمود ومنحته استمرارية عبر الزمن. وهذا ينقلنا من مفهوم الدولة إلى مفهوم الأمة.
* مفهوم الأمة بين التجريد والتحديد:
يتناول بحث آخر في هذا الملف(12)، ودراسات غيره(13)، الجذور والمضامين اللغوية والاصطلاحية والدلالات القرآنية لمفهوم "الأمة" (والتي شملت نحو ثمانية معان متنوعة). ولكن من جهة أخرى، فقد ارتبط مفهوم الأمة في الفكر العربي والإسلامي الحديث بتحورات وسجالات عدة تم خلالها إسقاط المدلول الغربي (أو التغريبي إن شئنا الدقة) على الواقع والفكر العربي؛ باعتبار أن الأمة هي "الأمة القومية" التي تقوم فقط على عناصر وحدة اللغة والأرض والتاريخ...(14). أما عن تعريف الأمة من مرجعية إسلامية، فعلى الرغم من ارتكازه على "الدين" باعتباره المحور الأساس لمفهوم "الأمة"، وتعدد الدراسات حوله، فقد اتسم كثير منها بعدم التحديد أو الوضوح(15).
ولعل من أدق التعريفات لمفهوم "الأمة" ما طورته د.أماني صالح عن الاجتهاد التنظيري للدكتورة منى أبو الفضل (الرائدة في مجال المنظور الحضاري الإسلامي للعلوم الاجتماعية عامة والسياسية خاصة والتي نتابع رؤيتها في هذا الصدد) حول فكرة "الأمة القطب"، حيث عرَّفت الأمة بأنها: "جماعة من البشر يربطها الانتماء والولاء لمنهج معين قد يشمل تصورًا عقديًّا أو طريقة حياةٍ وسلوكٍ أو كليهما معًا، وتسعى هذه الجماعة –عبر فضاء غير محدد (أي بأبعاد وأطر جغرافية أو اجتماعية محددة كالدولة القومية مثلًا) من التحركات والسلوكيات الداخلية والخارجية- إلى إنجاز وظائف الدفاع عن تلك العقيدة وذلك المنهج أو إظهاره أو نشره في إطار زمني معين"(16). وعليه، فللأمة الإسلامية أربعة أبعاد أو عناصر هي: الجماعة (مادتها الحية)، والعقيدة/ المنهج، والوظيفة أو الدور، ثم بُعد الزمن أو الحدّ التاريخي للأمة(17).
وقد تصلح هذه المقومات الأربعة لوصف أسس أي أمة بشرية، ولكن بإضافة المكوِّن الإسلامي كمكوِّن تأسيسي لمفهوم الأمة الإسلامية، تتجلى خصائص وسمات تميز الأمة الإسلامية عما عداها، لعل من أهمها:
* سمة القطبية: فكما توضح د.منى أبو الفضل، فهي الأمة Alummah (وليس أي أمة nation or ummah) ذلك الكيان الجماعي، وليد عقيدة إيمانية ربانية، جاءت في سياق تاريخي لتشكله، وتصبغ وجدانها على مسار الأحداث قبل أن تتفاعل هى معها وتتأثر بها. وهي في بقائها واستمرارها حقيقة اجتماعية رهن بالعقيدة التي انبثقت عنها، لا بالمسار التاريخي أو العوامل التاريخية التي تتفاعل معها(18).
* سمة الرسالية: فهذه الجماعة تمتلك إدراكًا واحدًا ومبادئ مشتركة في كل ما له صلة بالدعوة الإسلامية؛ ومن أهمها: مبدأ الخضوع واحترام الشريعة بوصفها نظامًا متكاملاً للسلوك الفردي والجماعي، وتربط جميع عناصر تلك الجماعة علاقةُ التضامن المطلق. ومحور الوظيفة الحضارية لتلك الجماعة هو الجهاد من أجل نشر الدعوة الإسلامية(19).
* سمة الوسطية: والوسط هنا معنى حضاري يتفاعل مع عناصر المكان والتاريخ والإنسان، ويرتبط الوسط بـ"العدل" الذي يشير إلى عدم الميل إلى أحد الجانبين عن هوى، فالوسطية ميزانٌ بين الإفراط والتفريط. ووسطية الأمة تقتضي التكليف وأدواته (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وبذلك تتعدى الأمة موقع الوجود إلى مقام الشهود على الناس(20). هذه الوسطية التي تشير إليها د.منى أبو الفضل لا تعني مكانًا وسطًا بين أطراف متباعدة، ولا تعني وسطًا حسابيًا تطرح من قيمة وتضيف إلى أخرى لاستخلاص فضيلة بين متفاضلات، ولكنها الوسطية التي تترسخ من منطلق التوحيد حيث يتكامل المثال والقيم والفكر مع الواقع المعيش محل التنزل والفعل. ومن هنا تأتي السمة التالية.
* سمة المثالية الواقعية الجامعة: فكما توضح د.منى أبو الفضل أن الأمة هى الكيان الجماعي الذي يرتكز في تماسكه على عقيدة إيمانية مصدرها رباني، ومجالها كافة أوجه الحياة الدنيا من منظور أخروي، أو بعبارة أدق: في منظور ممتد يصل بين الحياة الدنيا والآخرة. والأمة في خبرة الحضارة الإسلامية قائمة على مستوى التصور والتجربة معًا، بل على مستوى تلك المثالية الواقعية التي اختصت بها الخبرة الإسلامية(21). فالأمة حقيقة تاريخية اجتماعية تشترك مع الكيانات الأخرى في تفاعلها مع المؤثرات الوضعية، وتختلف عنها في حدود هذا التفاعل، في ضوء تمايز النشأة والمنبت والغاية(22).
وعن رؤية لتفعيل مفهوم الأمة من منظور حضاري إسلامي بمثالياته في الواقع: أو أن ننتقل بالأمة من مستوى اللاشعور واللاوعي إلى مستوى الشعور الواعي والإدراك المتفقه، تؤكد د.منى أبو الفضل أن ذلك يستوجب تحويل الأمة من ظاهرة وجدانية إلى مفهوم عقلي منطقي(23). ويتحقق ذلك بالانتقال من الاهتمام العاطفي والوجداني بالأمة وأحداثها عبر المتابعة الانفعالية والتأثر الكامن، إلى تفعيل وعينا بالأمة: ففي مجالات العلم نمضي إلى استخدام مستوى الأمة بوصفه مستوى للتحليل في حقول علمية كالعلاقات الدولية والنظم السياسية وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وفي مجالات الفعل والحركة والممارسة نعمق العلاقات البينية بين الشعوب والأقطار والأفراد، وننمي أنشطة التضامن والتكافل والوحدة.
* العالم الإسلامي: المكان والإمكانية والمكانة:
العالم الإسلامي جغرافيًا هو الكيان الممتد من خط طول 8 ْغربًا إلى 140 ْ شرقًا، ومن دائرة عرض 10 ْ جنوب خط الاستواء إلى 55 ْ شمالاً، وتبلغ مساحته حوالي (32) مليون كم2 أي ما يقارب ربع مساحة اليابسة البالغة حوالي (149) مليون كم2، وتحيط به حدود برية تقدر بحوالي 168, 760 كم. ويبلغ تعداد هذا العالم نحو الملياري نسمة يسكن أكثر من ثلثيهم دولاً إسلامية، والثلث الباقي هو أقليات تسكن دولاً غير إسلامية.
وتشير اتجاهات تعريف "العالم الإسلامي" إلى اتجاهين: أولهما يتبنى مفهومًا واسعًا للعالم الإسلامي بأنه "مفهوم جغرافي يشمل البلدان التي تسكنها الأكثرية المسلمة أو التي كانت تخضع للمسلمين سابقًا أو كانت ذات أغلبية مسلمة"، ويرى هذا التوجه وجوب العمل على رد هذه الدول للإسلام مرة أخرى. وهذا التعريف للعالم الإسلامي قد يمثل نوعًا من محاولة وضع مفهوم الأمة الإسلامية على أرض الواقع.
الاتجاه الثاني في تعريف العالم الإسلامي يفضل التركيز على وحدة العمل بدلاً من الجغرافيا؛ إذ يرى البعض –مثل د.جمال حمدان- أن وحدة العالم الإسلامي هي وحدة عمل وليست وحدة كيان، وحدة إسلام وليس وحدة مسلمين... وأنه فيما عدا الوحدة الدينية المؤكدة، لا يمثل العالم الإسلامي وحدة طبيعية بشرية. ومن ثم يقرر أن "الجغرافيا والقومية مثلتا العائق التاريخي أمام تكوين الإسلام كقوة – دولة".
فبتجزئة جسد العالم الإسلامي –مع انهيار دولة الخلافة وتقسيمها إلى نحو ستين دولة ومع انتشار ظاهرة الدولة القومية- صارت خريطة العالم الإسلامي تضم بالإضافة إلى الدول القومية الموصوفة بالإسلامية، (26) إقليمًا إسلاميًّا متمتعًا بالحكم الذاتي، أو كائنًا ضمن دول غير إسلامية يقطنها خمس أبناء الأمة الإسلامية، ومن ثَم لم تعد خريطة العالم الإسلامي السياسية تستند إلى أي منطق(24). فلقد غدا "مفهوم العالم الإسلامي" –وباعتباره لفظًا حديثًا نسبيًّا- أداة لوصف واقع الدول الإسلامية والأمة المشرذمة.
ومن ثَمَ يمكن تحديد العالم الإسلامي -من مدخل المكان والسكّان- بأنه: الأماكن التي يتواجد فيها المسلمون في الدول الإسلامية أو في دول أخرى غير الموصوفة بالإسلامية (ومن ثم فإن دراسة العالم الإسلامي تتعلق بدراسة المسلمين أينما وجدوا). ولذلك يشمل العالم الإسلامي الدول والمنظمات والحركات والجماعات والأفراد الذين يعرِّفون أنفسهم بأنهم مسلمون بما في ذلك الأقليات الإسلامية خارج الدول الإسلامية.
وعليه، فهو مفهوم إشكالي يفتقد إلى التحديد التام، لكن عادة ما يتم التعبير عنه من خلال كيانات ومؤسسات أو تنظيمات مثل منظمة المؤتمر الإسلامي مثلاً.