ومما لاشك فيه أن روضة الأطفال هي المؤسسة التي تلي الأسرة مباشرة في تنشئة الطفل أخلاقياً لما لها من دور كبير في تكوين القيم الأخلاقية والتنشئة الاجتماعية السليمة من خلال استخدام المناهج الملائمة الموجهة مباشرة نحو الهدف ، ومن بين هذه الوسائل نجد أن التربية من خلال البرمجة هي الأكثر تأثيراً وأهمية وانتشاراً ، إلا أن تلك البرمجة ليست غاية في حد ذاتها ولا نموذجاً صارماً ومحدداً ، يتحتم على الطفل تعلمه والتكيف معه ، ولكنها وسيلة وطريقة تهدف إلى تنمية شخصية الطفل وهذه البرمجة يجب أن تتناسب مع الأطفال من حيث واقعهم وإمكاناتهم واحتياجاتهم وطاقاتهم الكامنة ، كما يجب أن تتسم بالمرونة والقابلية للدراسة والتمحص المستمر ، ويجب أن تهدف أساساً إلى حث وتعزيز النمو السوي للأطفال ، بحيث تكسبهم معاني وقيماً جديدة ، مع صقل خبراتهم ، والربط بين الثقافة والجوانب الإنسانية وتشجيع مراحل النمو الأساسية في حياتهم ( تشيكويتي بيوكنكتي ، 1996 ، ص37 ).
ويعتبر التخطيط الدقيق والمبتكر للبرامج الموجهة لأطفال الرياض ضرورة قومية ملحة في العصر الحاضر الذي تفجرت فيه سبل المعرفة وتدفقت لتغمر عالم الأطفال وتثري بيئتهم ، وأصبح لزاماً على المسئولين عن الإعداد والتخطيط التربوي للأطفال أن يعدوا البرامج التي تزودهم بالمفاهيم والخبرات والتي تكسبهم الاتجاهات والميول والعادات ، والتي تمكنهم من الحياة في مجتمع الميول وتساعدهم على فهم البيئة التي يعيشون فيها مع الحفاظ على أصالتهم من خلال التمسك بقيم وتقاليد مجتمعهم في مواجهة الغزو الثقافي ورياح العولمة العاتية ( سعدية بهادر ، 1994 ، ص27 ) .
كما يمكن للطفل الصغير أن يتعرف من خلال تلك البرامج على القيم الملائمة والمستحسنة اجتماعياً مما يمكنه - وبصورة تدريجية - من تبني أساليب الحياة وقواعد السلوك مما يمكنه بعد ذلك من أن يتبنى هو نفسه مواقفه الذاتية المستقبلية ، نتيجة نضج قدراته وخبراته الشخصية ، وبفضل تمثله نماذج الحياة التي تحيط به ، وما يتوفر له فيها من خبرات ، وكلما كبر الطفل كلما كف عن التصرف والسلوك بدافع من احتياجاته فقط ، ولكن يتعدل سلوكه بناءً على قوة مبادئ الحياة وقوة القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية والشخصية التي اكتسبها ( تشتكويتي بيوكنكتي ، 1996 ، ص16 ) .
والقيم الأخلاقية قيم أساسية لا يمكننا الاستغناء عنها إذ أنها من صلب الدين الإسلامي الحنيف الذي ندين به في مجتمعنا العربي ، ولكي يكون لها دور واضح في حياتنا يجب ربطها بالواقع الذي نعيش فيه حتى يؤمن الأفراد بقيمتها العملية إلى جانب إيمانهم بقيمتها النظرية .
وينتج عن اتصال الأخلاق بالواقع الذي يعيش فيه الإنسان إنها لا تصبح مجرد قائمة من القواعد التي يتم تطبيقها بدون تفكير لأن دخول التفكير وقيامه بعمله في ميدانها هو الذي يضفي عليها قيمتها الأخلاقية ، وبذلك يستطيع الإنسان أن يحدد مواطن الصعاب التي تعترضه والمغريات التي تواجهه ، وأن يحدد المساوئ والشرور التي يصادفها ، مما يمكنه من التوصل إلى حلول مناسبة وسبل ملائمة للقضاء عليها (محمد النجيحي ، 1974 ، ص259 ) .
وتكتسب برامج التربية الأخلاقية لطفل الروضة في المجتمع الفلسطيني أهمية خاصة نظراً لما يعانيه ذلك المجتمع من ظروف الاحتلال والتغيرات والتحولات الاجتماعية الكبيرة والعنيفة والمتلاحقة التي يمكن أن تعرض الطفل لتشوه بناء نظامه القيمي ، خاصة بالنسبة للقيم الأخلاقية التي يعايش الطفل الفلسطيني كل يوم خبرات قاسية لانتهاكها تحت وطأة الاحتلال اليهودي لأراضيه وممارسته القمعية المستمرة التي يمكن أن ترسخ في نفوس الأطفال قيماً همجية هي أبعد ما تكون عن قيم ديننا الإسلامي الحنيف .
ويؤكد مخططو المناهج الفلسطينية في مرحلة الرياض على ضرورة التمسك بالقيم الأخلاقية واحترام الحريات الفردية والاجتماعية وتنظيم فكر الطفل وسلوكه ، وذلك من خلال الأنشطة التعليمية التي تبدأ بوادرها في مرحلة الرياض ، والتي تهدف إلى :
1. خلق المواطن المعتز بهويته الوطنية وعروبته وإسلامه .
2. المعتز بوطنه الفلسطيني والمنتمي إليه .
3. المعتز بلغته العربية والقادر على التعبير عن حاجاته والواعي بتراثه الوطني .
4. المشجع للمبادرات الفردية والجماعية ، المنتجة والمحافظة على حقوق الآخرين وممتلكاتهم (فاطمة صبح ، 1999 ، ص14 ) .
لذا فقد اتجهت الباحثة - مع تلك الأهداف التي يتطلع إليها المجتمع الفلسطيني - إلى السعي نحو تحقيق جانب هام من تلك الأهداف والمتمثل في تنمية القيم الأخلاقية لدى أطفال الرياض ، حيث تمثل هذه المرحلة الباكرة في حياتهم البداية السليمة لتشكيل شخصياتهم المشبعة بقيمنا الأخلاقية العربية والفلسطينية الأصلية .
أهمية مرحلة الطفولة المبكرة :
يعد الاهتمام الباكر بتنمية شخصية الطفل بمختلف جوانبها وأبعادها ، والتي من أهمها الجانب الأخلاقي من المهام الأساسية التي يجب أن يتصدى التربويون والقائمون على العملية التعليمية للقيام بها ، لأن الاهتمام بالطفولة الباكرة يعد من أهم المعايير التي يقاس بها رقي الأمم وتحضرها حيث لا يجب أن يترك الأطفال في هذه المرحلة الهامة في حياتهم للنمو بصورة عشوائية دون تخطيط علمي دقيق ومنظم لأساليب تربيتهم ووسائل رعايتهم مما يجعلهم يواجهون المستقبل بإمكانات واستعدادات ضعيفة ودون المستوى ، لا تمكنهم من الرقي بمجتمعاتهم ( حامد الفقي ، 1986 ، ص7 ) ، خاصة وأن ما يكتسبه الطفل في هذه المرحلة من حياته من قيم وعادات وسلوكيات قد يصعب - إن لم يكن من المستحيل - تغييرها في المراحل اللاحقة من حياته ، مما يستدعي ضرورة إعداد البرامج الإثرائية التربوية والإرشادية التي تساعد على تنمية شخصية الطفل بمختلف جوانبها ، نظراً لما تؤكده الدراسات النفسية والتربوية من أهمية مرحلة الطفولة الباكرة ، وضرورة إمداد الطفل بالمثيرات الحافزة لنموه حيث يحتاج النمو في هذه المرحلة إلى مثيرات بيئية ثرية وتهيئة مواقف اجتماعية تسمح باستغلال وتوظيف قدرة الطفل الفائقة على التعلم في هذه المرحلة ، خاصة وأن الجميع من آباء ومربين ومعلمين يحرصون على تنمية القيم الأخلاقية لدى الأطفال دون معرفة السبيل إلى ذلك .
ويعد تدريب الطفل ومساعدته على تنمية القيم الأخلاقية لديه في هذه السنوات الباكرة أمراً في غاية الأهمية والخطورة لأن تنمية القيم الأخلاقية تعد مطلباً حيوياً وهاماً من أجل إعداد الأطفال الناشئة للقيام بأدوارهم المستقبلية والمشاركة في بناء المجتمع بصورة سوية وفعالة .
فقد أجمع معظم علماء النفس والتربية على أن سنوات الطفولة الباكرة ذات أثر حاسم في تحديد شخصية الفرد خلال المراحل التالية من عمره ، ويؤكد عبد العزيز القوصي ( 1980 ، ص145 ) أن فترة الطفولة الباكرة هي فترة نمو مستمر في جميع النواحي يتلقى الطفل خلالها دروساً للعادات والتقاليد والقيم السائدة في مجتمعه ، وهي مرحلة تتميز بالمرونة والقابلية للتعلم .
لذا أكد بياجيه Piaget على أهمية السنوات الأولى في حياة الطفل في تكوين المفاهيم والقيم لديه (سعديه بهادر ، 1994 : 9 ) .
ويشير فروبل - هو من الرواد الذين أسهم في رياض الأطفال على المستوى العالمي - إلى أنه ينبغي الاستفادة الجادة من الاستعدادات والقدرات الخاصة المتوفرة لدى الطفل في مرحلة الطفولة الباكرة وتوجيهها نحو مسارها السليم ( كاميليا عبد الفتاح ، 1989 : 15 ) .
كما أكد أيضاً على أهمية دور رياض الأطفال في تحقيق النمو المتكامل لشخصية الطفل ، حيث تعد رياض الأطفال من أهم المؤسسات التربوية والاجتماعية التي ترعى الطفل منذ مرحلة باكرة في حياته.
ويربط " جون ديوي " بين الأخلاق والتربية ، ويرى أن الأخلاق يمكن تهذيبها عن طريق التربية ، واكتساب الطفل للقيم الأخلاقية القومية ، لأن التربية والعملية الأخلاقية شيء واحد ( سامية عبد السلام ، 1992 : 117 ) .
ويتضح مما سبق أهمية دراسة القيم الأخلاقية لدى الأطفال وتنميتها لديهم منذ المرحلة الباكرة في حياتهم ، ويمكن إيجاز أهمية القيم الأخلاقية للأطفال في عدة نقاط من أهمها :
1. تساعد القيم الأخلاقية الطفل على تنمية وتدعم بنائه وتكوينه النفسي بصورة إيجابية وفعاله من خلال التغلب على المشاكل والاضطرابات النفسية التي يمكن أن تصيب الطفل في المراحل العمرية الباكرة من حياته .
2. تسمو القيم الأخلاقية بوجدان الأطفال وتنير أمامهم الطريق إلى كل ما هو إنساني ونبيل بما يتفق مع المعايير والقيم والأخلاقيات السائدة في مجتمعهم .
3. تعد القيم الأخلاقية عاملاً هاماً في تحديد هوية الجماعة وتزايد تماسكها وربط أفراد المجتمع ببعضهم البعض من خلال توحيد الأهداف والقيم التي تربط بين الجميع وتوجههم نحو هدف واحد .
4. تمثل القيم الأخلاقية أساساً متيناً وإطاراً مرجعياً دقيقاً يساعد الفرد على تقييم سلوكياته وتصرفاته في مختلف جوانب الحياة .
5. تعد القيم الأخلاقية الأساس الأول لبناء المجتمعات الراقية حيث لا يمكن أن تستقيم حياة المجتمع دون تلك المنظومة الأخلاقية التي تعد القيم أول وأهم لبنة فيها .
6. تمثل القيم الأخلاقية عاملاً هاماً في تزايد قدرة الفرد على التكيف مع البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه من خلال تفهمه لتلك المبادئ والقيم الأخلاقية والالتزام بها .
7. تساعد الفرد على تعلم الانتظام والالتزام في حياته حيث يتعود الطفل منذ مرحلة باكرة في حياته على الالتزام بالقيم والمبادئ الأخلاقية والعمل بها .
8. تعد القيم الأخلاقية الأساس الأول في بناء الشخصية الأخلاقية لدى الطفل مما يساعده على تنمية الشخصية السوية البعيدة عن الاضطرابات والصراعات النفسية .
رياض الأطفال وأهميتها التربوية
تعتبر رياض الأطفال مؤسسات تربوية واجتماعية تسعىإلى تأهيل الطفل تأهيلاً سليماً للالتحاق بالمرحلة الابتدائية وذلك حتى لا يشعرالطفل بالانتقال المفاجئ من البيت إلى المدرسة، حيث تترك له الحرية التامة فيممارسة نشاطاته واكتشاف قدراته وميوله وإمكانياته وبذلك فهي تسعى إلى مساعدة الطفلفي اكتساب مهارات وخبرات جديدة، وتتراوح أعمار الأطفال في هذه المرحلة ما بين عمرالثالثة والسادسة.
ويحتاج الأطفال في هذه المرحلة إلى التشجيع المستمر من معلماتهذه الرياض من أجل تنمية حب العمل الفريقي لديهم ، وغرس روح التعاون والمشاركةالإيجابية، والاعتماد على النفس والثقة فيها، واكتساب الكثير من المهارات اللغويةوالاجتماعية وتكوين الاتجاهات السليمة تجاه العملية التعليمية (شبل بدران ،2000 ، ص 118 ) .
ويعتبر الطفل فيالمناهج الحديثة هو المحور الأساسي في جميع نشاطاتها فهي تدعوه دائماً إلى النشاطاتالذاتية، وتنمي فيه عنصر التجريب والمحاولة والاكتشاف، وتشجعه على اللعب الحر،وترفض مبدأ الإجبار والقسر بل تركز على مبدأ المرونة والإبداع والتجديد والشمول،وهذا كله يستوجب وجود المعلمة المدربة المحبة لمهنتها والتي تتمكن من التعامل معالأطفال بحب وسعة صدر وصبر.
إن مرحلة رياض الأطفال مرحلة تعليمية هادفة لا تقلأهمية عن المراحل التعليمية الأخرى كما أنها مرحلة تربوية متميزة، وقائمة بذاتهالها فلسفتها التربوية وأهدافها السلوكية وسيكولوجيتها التعليمية والتعلمية الخاصةبها، وترتكز أهداف رياض الأطفال على احترام ذاتية الأطفال وفرديتهم واستثارةتفكيرهم الإبداعي المستقل وتشجيعهم على التغير دون خوف، ورعاية الأطفال بدنياًوتعويدهم العادات الصحية السليمة ومساعدتهم على المعيشة والعمل واللعب مع الآخرينوتذوق الموسيقى والفن وجمال الطبيعة وتعويدهم التضحية ببعض رغباتهم في سبيل صالحالجماعة (حنان العناني ،2002 ، ص50 ) .
ومع أن منهاج رياض الأطفال لا يقوم على أسس أكاديمية أو خبرات محددةوإنما يقوم على توفير مختلف الخبرات والتجارب التي تخدم الطفل وتكسبه الخبرةاللازمة وتعمل على تنميته في مختلف مجالات النمو وهذا الأمر مختلف من روضة إلى أخرىومن منطقة إلى أخرى وهنا المطلب الملح والضروري بأن تقوم الجهات الرسمية المسئولةبوضع منهج موحد يعمم على الجميع ويجب الاعتناء بمعلمات رياض الأطفال وتحسين أدائهنالمهني وعمل دورات تدريبية لهن وتحسين رواتبهن حتى يتماشى مع طبيعة رسالتهن في بناءاللبنات الأولى في حياة الأجيال القادمة ( شبل بدران ،2000 ، ص 119 ).
ومما سبق يمكن تلخيص أهداف رياضالأطفال فيما يلي:
§ إمتاع الأطفال في جو من الحرية والحركة.
§ إكساب الأطفالالمعلومات والفوائد المتنوعة من خلال اللعب والمرح.
§ تنمية القيم والآداب والسلوكالمرغوب عند الأطفال.
§ تنمية الثقة بالنفس والانتماء لدى الأطفال.
§ تدريبالأطفال على تحمل المسئولية والاعتماد على النفس.
§ تحفيز الأطفال وخلق الدوافعالإيجابية عندهم نحو العمل.
§ تنمية المهارات المختلفة والقدرات الإبداعية لدىالأطفال.
§ تعويد الأطفال على حب الجماعة والعمل التعاوني.
§ المساهمة في حل كثيرمن المشكلات لدى الأطفال كالخجل، والانطواء والعدوان....الخ.
§ إطلاق سراح الطاقاتالمخزونة عند الأطفال وتفريغها بطريقة إيجابية.
§توطيد العلاقة بين الطفل ومعلمتهمن خلال التفاعل معه بصورة فردية ( شبل بدران ،2000 ، ص 120 ) .
الدور التربوي لرياض الأطفال:
إن أهدافالتربية في رياض الأطفال لا تنفصل عن أهداف التربية بشكل عام، فإذا كانت التربيةتهدف إلى بناء المواطن الصالح الذي يسهم في بناء وطنه بشخصية متكاملة، فإن الدورالتربوي لرياض الأطفال يتمثل في:
تنمية شخصية الطفل من النواحي الجسمية والعقليةوالحركية واللغوية والانفعالية والاجتماعية.
مساعدة الطفل على التعبير عن نفسهبالرموز الكلامية.
مساعدة الطفل على التعبير عن خيالاته وتطويرها.
تساعدالطفل على الاندماج مع الأقران.
تنمية احترام الحقوق والملكيات الخاصةوالعامة.
تنمية قدرة الطفل على حل المشكلات.
تأهيل الطفل للتعليم النظاميوإكسابه المفاهيم والمهارات الخاصة بالتربية الدينية واللغة العربية والرياضياتوالفنون والموسيقى والتربية الصحية والاجتماعية.
يؤهل الطفل للانتقال الطبيعي منالأسرة إلى المدرسة بعد سن السادسة.
تنمية ثقة الطفل بذاته كإنسان له قدراتهومميزاته.
التعاون مع الأسرة في تربية الأطفال ( رافدة الحريري ، 2002 ، ص85 ) .
يقاس تطور الأمم والمجتمعاتبمدى اهتمامها وتطويرها لنظامها التربوي بما يتلاءم مع مستجدات العصر ومتطلباته،لذا يجب السعي حثيثاً لتحديث مناهج رياض الأطفال بما يتناسب مع حاجات الطلابوالمستجدات التربوية والانفجار المعرفي الهائل المتلاحق (حنان العناني ،2002 ، ص53 ) .
ترسيخ القيم عند الطفل
لكل منهج تربوي قيم يسعى إلى ترسيخها في نفوس المتربين وتكون معياراً بين المربين لتقييم وتقويم السلوك، وغني عن القول إن القيم أوسع وأشمل من البعد الخلقي لأنها تشمل أبعاداً أخرى قد تكون اجتماعية أو نفسية أو علمية أو ثقافية أو غيرها من الأبعاد التي تلوّن سلوك الإنسان.
ويفرد المنهج التربوي الإسلامي مساحة مهمة لتوضيح الآليات التربوية التي يستخدمها في ترسيخ القيم الإسلامية التي يدعو إليها، وحينما نتحدث عن الآليات التي يستخدمها المنهج التربوي الإسلامي في ترسيخ القيم، يجب أن نتذكر دوماً أن تلك الآليات هي آليات متغيرة تتبع حالة الفرد من جهة والمحيط أو البيئة التي تؤثر عليه من جهة أخرى، ومثال ذلك أن آليات تقديم القيم وترسيخها في المجتمع المكي تختلف عن الآليات التي أشار إليها فيما يخص المجتمع المدني، وهذا الاختلاف في الآليات مع ثبات القيم يشير إلى دقة المنهج التربوي الإسلامي في التعامل الواقعي السليم مع كل حالة تربوية على حدة، أضف إلى ذلك أن الآليات التي تستخدم في التعامل مع الطفل المسلم تختلف أيضاً حسب المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل كما أشار إلى ذلك الإمام علي عليه السلام في كتاب نهج البلاغة (حنان العناني ،2002 ، ص55 ) .
وتعتبر العاطفة الأسرية من أهم الآليات التي يستخدمها المنهج التربوي الإسلامي في ترسيخ القيم وتثبيتها عند الطفل وتدريبه على استيعابها، بل أنها المدخل الرئيسي لتدريب الطفل على الطاعة والالتزام الخلقي، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءة القرآن ) ( علاء الدين الهنـدي، 1993، ص 456 ) .
فالمدخل إلى التربية هو الحب وهو المفتاح الحقيقي لكل أنواع الآداب، وهو مطلب ضروري لعملية التأديب، وشرط أساسي في تربية الطفل المسلم، بل توصل بعض الباحثين في هذا المجال إلى أن أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة والالتزام بالقيم هي الحب والحنان الذي يشعر به الطفل من كل أفراد الأسرة، ومنبع هذا الحب هما الوالدين فحب الأطفال للوالدين هو رد فعل لحب الوالدين لهما، بل أن هذا الحب هو ما يعين الطفل على استيعاب القيم وهو يوفر المناخ الملائم للنمو الخلقي في النفس، كما في قول رسول الله ( رحـم الله من أعـان ولده على برّه .. يقبل ميسوره ، ويتجاوز عن معسوره ، ولا يرهقه ولا يخرق به ) ( الكليني ، 1980 ، ص 6 ) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم ( رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالإحسان إليه والتآلف له وتعليمه وتأديبه ) ( النوري ، 1966 ، ص626 ) .
والآن لنتساءل عن أهم الطرق التي يستطيع الطفل من خلالها استيعاب تلك القيم ، وتشربها في نفسه بحيث تغدو مظهراً من بنيات سلوكه الحياتي ..
إن أول تلك الطرق هي:
طرق استيعاب الطفل للقيم :
1- الأنموذج أو القدوة
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وهو خطاب شامل للإنسانية جمعاء، أما الوالدين فهما قدوة الطفل وهما منبع القيم لديه بقول رسول الله (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه).
ومن الضروري أن يكون النموذج الذي يقتدي به الطفل نموذجاً صالحاً يعبر عن تلك القيم لا باللسان فقط أو بالدعوة إليها، بل يجب أن تتمثل تلك القيم في سلوك الوالدين أو من يحتذي بهم الطفل ( عبد الرسول عداي ،2004 ، ص72 ) .
فالطفل لا يحتذي بالقول فقط بل يعتبر في النموذج الملاحظ له من خلال السلوك، وقد نبّه المنهج التربوي الإسلامي إلى هذا الفصل بين القول والفعل بالنسبة للنموذج كما في قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}(البقرة- 44).
فمن يتصدى لأن يكون أنموذجا في المجتمع سواء على مستوى الأنموذج العقيدي أو على مستوى الأنموذج الأسري، فعليه أن يطابق بين قوله وفعله وإلا فسيكون مظهراً من مظاهر النفاق التي تدعو الآخرين إلى نبذه وعدم اتباعه، وفي هذا الصدد أشار الإمام جعفر الصادق عليه السلام (برّوا آباءكم يبركم أبناؤكم) (الحراني، 1962، ص267 ).
فمن استطاع أن يستحضر سلوكاً حسناً في حياته اليومية فإنه يقدم بذلك الأنموذج والقدوة الحسنة لأطفاله، لاستيعاب ذلك السلوك ولامتصاص تلك القيم حتى وأن غفل من الدعوة إليها أو الحث عليها.
فهناك قدر كبير من سلوك الأطفال يكتسب عن هذا الطريق ملاحظة الأنموذج أو القدوة، وما يؤيد ذلك سلسلة التجارب والبحوث التي دارت حول السلوك العدواني لدى الأطفال حيث تبين أن السلوك العدواني يظهر لدى الأطفال الذين يظهر كلا والديهم أو أحدهما سلوكاً عدوانياً أمام الطفل، فيقوم الطفل بتقليد تلك الاستجابات العدوانية مع الآخرين.
وقد يشاهد الطفل نموذجاً لشخصية عدوانية في التلفزيون فيقوم بتقليد ذلك النموذج، وبالعكس إذا شاهد الطفل نموذجاً متسامحاً محبّاً فيقلد سلوك الحب والتسامح، على أن تحظى تلك الشخصية بملاحظة الطفل وعلى تقبلها واستيعابها كأنموذج أو قدوة ( عبد الرسول عداي ،2004 ، ص72 ) .
2- التقليــــد
يكتسب الطفل الكثير من القيم والسلوك المعبر عن تلك القيم من خلال التقليد، والتقليد آلية مهمة في نمو الطفل ونضجه فعن طريق تقليد الحركات الصحيحة يتعلم الطفل المشي ويكتسب المهارات اللغوية والمعارف والسلوكيات الاجتماعية المقبولة، وسلوكيات النمط الجنسي الذي ينتمي إليه، والعادات الصحية السليمة وغيرها.
ويمارس الطفل تقليد أفعال الآخرين منذ الأشهر الأولى، وهو يعتمد في البدء على الملاحظة المباشرة للفعل، ثم يتطور تقليده للفعل من خلال احتفاظه بصورة ذهنية للفعل يسترجعها في وقت لاحق، فنرى الطفل وقد بدأ في محاولات تقليد حركات الآخرين أو وضعيات جلوسهم في أفعال لا تخلو من الطرافة، فالطفل حينما ينجح في تقليد فعل ما فإنه يشعر بمتعة كبيرة لأن هذا الفعل أصبح له، ومن الآن فصاعداً يستطيع استخدامه متى يشاء، ولا شك أن كل مهارة يكتسبها الطفل تمكنه من التكيف السليم مع المحيط وتزيد من شعوره بإمكانية السيطرة على البيئة.
ومن المهم أن نشير إلى أن اكتساب الطفل للمهارات عن طريق تقليد الآخرين، سواء كانت مهارات لغوية أو حركية أو مواقف تجاه قيم لا تتناقض مع نزعته الفطرية إلى تنمية شخصية مستقلة، بل بالعكس فإن الطفل من خلال اكتساب المهارات الجديدة يشعر بأنه أكثر استقلالاً من خلال سيطرته على البيئة المحيطة، ومن خلال تأكيده على ذاتيته التي تستطيع أن تقوم بما يقوم به الآخرون الأكبر منه سنـّاً.
3- الثواب والعقاب
يستخدم الثواب والعقاب كآلية لترسيخ القيم أو إحلال قيم جديدة محل قيم أخرى غير مرغوب بها على نطاق واسع من قبل الآباء والمربين فيكافئ الوالدان طفلهما حينما يقوم بالسلوك المرغوب فيه كأداء الأمانة أو التعاون مع الأصدقاء أو المشاركة في بعض الأعمال المنزلية، وقد يلجأ الآباء إلى معاقبتهم إذا لم يفعلوا ذلك.
وترى نظريات التعلم وعلى الخصوص النظريات السلوكية بأن الثواب والعقاب لا يقتصر أثرهما على الاستجابات المعززة أو المعاقبة عليها فحسب بل أن أثرها يشمل الشخصية ككل، فتتكون السمات العامة والاتجاهات والقيم.
ويؤكد المنهج التربوي الإسلامي على ضرورة التوازن بين الثواب والعقاب في تربية الطفل حيث أكدت الروايات الكثيرة على الاعتدال في التعامل مع الطفل فلا إفراط ولا تفريط.
فعلى الوالدين أن يناسبا بين حجم المكافأة والسلوك المرغوب حتى لا تتحول المكافأة إلى غاية يسعى إليها الطفل من دون الالتفات إلى سلامة السلوك المقبول، وأن يقدر تماماً موضع المكافأة فلا يغرقان الطفل بالمكافآت فلا يستطيع أن يعي أن كان من طبيعة والديه إغراقه بالمكافآت أم أن المكافأة هي نتيجة لسلوكه سلوكاً صحيحاً، مع ضرورة أن يتم شرح معنى ذلك السلوك المرغوب، فالطفل الذي يكافأ على سلوك التعاون مع أصدقائه يجب إفهامه أن ذلك السلوك هو سلوك صحيح، وأن الواجب يحتم عليه عمله ليجازى ليس بمكافأة (مثل قطعة حلوى) بل أن المكافأة الحقيقية لذلك السلوك هي اكتساب محبة الآخرين واحترامهم ودوام رفقتهم، وأن الطفل حينما يقوم بسلوك ما فإنه يكتسب صفته، فالطفل الذي يتعاون مع أصدقائه سوف يسمى متعاوناً والطفل الذي يؤدي الأمانة سوف يعرف بالأمين، والطفل الذي لا يكذب سوف يدعى بالصادق.
ويعتبر المنهج التربوي الإسلامي أن العقوبة العاطفية هي عقوبة مؤثرة وفاعلة ومن الممكن أن تؤدي إلى تغيير السلوك الخاطيء للطفل، فإقناع الطفل بأن سلوكه السلوك الخاطيء سوف يؤدي إلى فقدانه لهذا الحب وإلى إضعاف تلك المحبة والمقبولية التي يحوزها من والديه، ومن ثم يمكن أن يأتي دور التأنيب والزجر، فقد سُـئـِلَ الإمام موسى الكاظم عليه السلام عن كيفيـــة التعامل مع الطفل حين يسلك سلوكاً خاطئاً فأجاب: لا تضربه وأهجره.. ولا تطل. (تاريخ اليعقوبي، د.ت ، ص320).
عاطفة الأسرية حينما تكون فاعلة وقوية وحاضرة لدى الطفل تكون في المقابل أداة تربوية مهمة في ترسيخ القيم لدى الطفل.
وتتعدد النظريات النفسية الحديثة في تفسير استيعاب الطفل للقيم والمعايير السلوكية أثناء التنشئة الاجتماعية، إلا إنها لا تخرج عن آليات الثواب والعقاب والأنموذج أو القدرة والتقليد الذي ينقسم إلى قسمين تقليد شعوري؛ وهو ما أشرنا إليه في فقرة التقليد، وتقليد لا شعوري؛ وهو ما يعرف بالتوحدIdentification وهو العملية التي تجعل الطفل يفكر ويشعر كما لو كانت له خصائص شخص آخر وقد تكون هذه العملية لا شعورية إلى حد كبير، أي أن الطفل قد يتوحد مع نموذج ما ويقيم على هذا التوحد من غير أن يكون على وعي بذلك، فالتوحد ليست عملية تبدأ بإرادة الفرد مثل تعلمه ركوب الدراجة مثلاً، وإنما هي أقرب إلى اكتساب القدرة على التحدث بالجمل بمعنى أنها عملية دقيقة تحدث في العادة من غير أن يكون لدى الفرد قصد شعوري بها ( جون كونجر وآخرون، 1970، ص335).
ويرى بعض الباحثين في دراسة النمو النفسي والاجتماعي للطفل أن مفهوم التوحد يشير إلى عمليتين، الأولى: تتضمن ملاحظة الطفل أنه يشبه الشخص الذي يتوحد معه، والثانية تتضمن مشاركة الطفـل لهذا الشخص الآخـر في انفعالاته وهذا الشخص في الغالب أحد والدي الطفل ( محمدإسماعيل، 1986، ص277).
وقد أكدت النظريات الاجتماعية إلى أهمية التوحد أو التطابق كمبدأ عام يحكم البعد الاجتماعي في بناء الشخصية، حيث يعرف التطابق على أنه ميكانزم على المستوى اللاشعوري إذ يتقبّل الفرد عادات وأفكار وقيم النموذج الذي سيطابقه، ويتم ذلك غالباً من منطلق الإعجاب بالشخص الأفضل أو الألمع أو الأقوى في أي مجال، فالطفل قد يتوحد أو يتطابق مع الأب وقد يحـدث التطابق حين يتمنى الفرد أن يكتسب سمات الشخـص الآخـر الذي يطابقه ( عزيز داود وناظم العبيدي، 1990، ص 64- 65).
ولعل من أشهر الشخصيات التي تطابقت وتوحدت مع شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم هي الشخصية التي رعى طفولتها وسهر على تغذيتها روحياً وفكرياً ألا وهي شخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التوحد في آية المباهلة في قوله تعالى (وأنفسنا وأنفسكم) ففي تعبيرها عن نفس الرسول بأنها نفس علي بن أبي طالب، فإنها تدل على ذلك التوحد الذي جمع بين الشخصيتين سواء على المستوى الشعوري والمستوى اللاشعوري، فتوحد شخصية أمير المؤمنين مع شخصية الرسول أبرز أتم حالات التطابق بين الشخصيات في التجارب الإنسانية، وتفردت هذه التجربة بأنها كانت على أكثر من مستوى وشملت أكثر من جانب وتعمقت إلى أكثر من بعد، وبذلك فإنها تستحق من الباحثين دراسة واهتمام ليس في المستوى العقيدي فحسب، وإنما في بعدها العلمي كتجربة فريدة في مجال العلوم النفسية والاجتماعية.
فالتوحد والتقليد والثواب والعقاب والقدوة أو الأنموذج تقوم بالدور الرئيسي في ترسيخ القيم، لكنها تفقد فاعليتها عندما لا تتوفر العاطفة الأسرية بصورة كافية أو بشكل صحيح، فقد أثبتت الدراسات بالفعل أن تبني الطفل لقيم ومعايير الوالدين يعتمد على مقدار الدفء والحب اللذان يحيطانه به، وبذلك فإننا نستطيع أن نرى أن نمو الضمير الخلقي يتضمن عملية توحد وأن ذلك التوحد يقوى بين الطفل والوالد كلما كان الوالد أشد رعاية وأكثر حباً، ومعنى ذلك أن الطفل الذي يتوحد بقوة مع الوالد يكون أسرع بالطبع في تبني المعايير السلوكية لذلك الوالد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الطفل الذي يتمتع بعلاقة عاطفية دافئة مع الوالدين يكون حريصاً على الاحتفاظ بهذه العلاقة، ويخشى دون شك من فقدانها. إن معظم الأطفال يقلقهم بالطبع احتمال فقدان العطف والحب اللذان يتمتعون به مع والديهم، ولذلك فهم يحافظون على معاييرهم السلوكية حتى يقللوا من حدة ذلك القلق.
وهكذا تتضح أهمية الحب والتراحم في ترسيخ القيم والمعايير التي يتبناها الوالدين، فالطفل يحافظ على تلك القيم حتى لا يفقد حب والديه ولكن هذا القلق من فقدان الحب يعتمد أصلاً على وجود مثل هذا الحب، بعبارة أخرى فإن الطفل الذي لا يشعر بحب والديه لا يكون لديه ما يخشى فقدانه، وبالتالي فإنه يصعب أن نتصوّر في هذه الحالة كيف يمكن أن يتمثل الطفل معايير وقيم المجتمع ( محمدإسماعيل، 1986، ص 296).
وبالمقابل فإن الحب والحنان مواد لست ذات كم مادي يمكن أن توزن وبالتالي قد يمكن الحرص على توزيعها بعدالة بين أعضاء الأسرة الواحدة أو بما يتناسب مع حالة كل فرد، لكن الحب والحنان والدفء مظاهر متعددة تتجلى من خلال سلوكيات متنوعة، وهذه السلوكيات هي التي أشار إليها المنهج التربوي الإسلامي إلى ضرورة الحرص في العدالة. والعدالة في توزيع العاطفة الأسرية تشمل ثلاثة جوانب من العلاقات الأسرية: