التنشئة الاجتماعية والتحديات المعاصرة
د. عبد الله محمد الفوزان
- أصبحت التنشئة الاجتماعية عاجزة عن تكريس المبادئ والقيم في النفوس بفعل التحديات الداخلية والخارجية.
- كل مجتمع له مجموعة من القيم والمبادئ التي يستمد منها تصوره وتصور أفراده عن الكون والحياة.
- من الطبيعي أن ينتج عن استعارة التجربة التنموية الغربية مشكلات كثيرة أثرت ولا زالت تؤثر سلبا على عمليات
التنشئة الاجتماعية في مجتمعات بعض الدول.
- من مظاهر تدهور الأسرة العربية والإسلامية انتشار الكثير من الظواهر كظاهرة المخدرات بين المراهقين والشباب،
العنوسة والطلاق، الخلافات الزوجية، والخلافات بين الآباء والأمهات والأبناء.
- البناء الأسري شهد دخول عناصر جديدة كالخدم والسائقين والمربيات.
- أصبح البحث عن الإنجاز الشخصي وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي متميز من قبل الوالدين مماثلا في أهميته، إن
لم يفق، أهمية رعاية الأبناء.
- تعددت وسائط التنشئة الاجتماعية لتتجاوز المؤسسات التربوية المحدودة سابقا كالأسرة وجماعة الحي والمسجد
والجيرة ثم المدرسة.
- نجد اليوم أن المدرسة أخذت تنحى منحى تعليميا أكثر منه تربويا مما يهدد بتمرد على القيم الاجتماعية من قبل
الدارسين بها.
- يتخلق الآن مجتمع معلوماتي عالمي لا تحده الجغرافيا ولا يتقيد بأبعاد التاريخ.
- لا شك أن المجتمعات البشرية تواجه إرهاصات واضحة نحو الذوبان الثقافي والسياسي والمعرفي والانطلاق نحو
القرية الكونية الموعودة.
- إن التميز الذاتي للشخصية الإقليمية أو المحلية يشهد تحديا يعصف بالمعايير وقواعد السلوك والضبط الاجتماعي.
- خصوصية العالم العربي والإسلامي تواجه اليوم أكثر من غيرها أخطار العولمة ولا تستطيع المؤسسات السياسية
والاجتماعية أن تصنع شيئا في مواجهة هذا الطوفان.
- إن الاندماج الثقافي في مجتمعات الغد يحمل في أبعاده نوعا من التقديس للثقافة العالمية مع تباعد عن الثقافة المحلية
وإضفاء سمة المعاصرة والحداثة على السلوك الذي ينزع نحو العولمة ضد التقليدية والمحلية.
- إن المرجعيات الثقافية المتعددة تجعل الإنسان لا يشعر بالانتماء ولا يملك هوية متميزة.
- ما لم تتم مواجهة العولمة فإن الهوة قد تتسع بين المواطن العربي المسلم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية القائمة في
مجتمعه بصورة تخدم العولمة الثقافية وأهدافها.
---------------------------------
إذا كانت التنشئة الاجتماعية بمعناها العام تشير إلى نقل الخصوصية الثقافية للمجتمع من الجيل القديم إلى الجيل الجديد
بهدف المحافظة على تلك الخصوصية أو أنها "العملية التي يكتسب الأفراد بواسطتها المعرفة والمهارات والإمكانيات
التي تجعلهم بصوره عامه أعضاء قادرين في مجتمعهم" (الزغل: 9: 1402)، أو كما قال عنها شكور (29:
1998): "عمليات تعلم وتعليم وتربية تؤدي إلى تشكيل السلوك الاجتماعي للفرد وإدخال ثقافة المجتمع في بناء
شخصيته وتحوّله من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي وتكسبه صفه الإنسانية"، فإن الأسئلة الملحة التي تواجهنا اليوم
وتحتاج إلى إجابة هي: هل المجتمعات العربية والإسلامية لا تزال إلى اليوم تقوم بهذه المهمة دون تحديات؟ وإذا كانت
تلك المجتمعات فعلاً تواجه تحديات في سبيل قيامها بهذه المهمة فما هي طبيعة تلك التحديات؟ أهي تحديات ذاتية نابعة
من ذات المجتمع، أم أنها تحديات خارجية آتية من الخارج، أم أنها تأتى من هذا وذاك؟ وما هي يا ترى سبل التغلب
على تلك التحديات كي تحقق مجتمعاتنا تنشئة سليمة لأجيالها؟
هذه الأسئلة تمثل محور الاهتمام لهذه الورقة؛ إذ تسعى إلى الإجابة عن كل واحد منها بشي من التفصيل.
بداية إذا نحن أقررنا من حيث المبدأ أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية التي تشكل هويته الذاتية، ويسعى جاهدا إلى
المحافظة عليها وصيانتها من الاندثار والاندحار تحت وطأة وهيمنة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات الأخرى، جاز لنا
القول بأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتعرض اليوم لتحديات كثيرة تهدد خصوصيتها الثقافية. وعندما أشير إلى
خطورة هيمنة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات الأخرى على خصوصيتها الثقافية العربية والإسلامية فلست بذلك أدعو
إلى الانغلاق أمام بقية الثقافات والتحصن ضدها، ذلك لأن مثل هذا الانغلاق لم يعد ممكنا اليوم، بالإضافة إلى أن مجرد
محاولة الانغلاق والانعزال عن بقية الثقافات يعد مخالفة صريحة لحقيقة الاستخلاف الإنساني على الأرض وما يتطلبه
هذا الاستخلاف من تفاعل وتعارف وتبادل منافع بين البشر كما في قول المولى عز وجل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ما أود الإشارة إليه هنا هو أننا في خضم ما
يحدث اليوم في العالم من عولمة ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية ذات مرجعية غربية لا يمكن الفكاك من
تأثيراتها، وأخذت تهدد الهوايات الثقافية المميزة لمعظم المجتمعات المعاصرة، يجب علينا البحث في كيفية المحافظة
على هويتنا العربية والإسلامية التي تميزنا عن غيرنا.
ما هي يا ترى الخصوصية الثقافية؟ من المعلوم بطبيعة الحال أن "كل مجتمع قديم أو معاصر، متحضر أو متخلف، له
مجموعة من القيم والمبادئ التي يستمد منها تصوره وتصور أفراده عن الكون والحياة. هذه القيم والمعتقدات تكون هي
الضابط الأول لسلوك الأفراد نحو توجه اجتماعي معين، فما هو مقبول في عرف هذه المبادئ يكون مقبولا عند هذا
المجتمع وما يكون مرفوضا في عرف هذه المبادئ يكون مرفوضا عند هذا المجتمع، وبين هذا وذاك أمور تدور بين
الرفض والقبول" (الجوير، 1419 هـ). تلك هي الخصوصية الثقافية لأي مجتمع، لكن ما هي يا ترى الخصوصية
الثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية التي يستوجب الأمر المحافظة عليها؟
إن ثقافتنا العربية والإسلامية تنطوي على العديد من المبادئ والقيم الموجهة لسلوكنا ونظرتنا للكون والحياة، هذه
المبادئ والقيم تتعرض اليوم إلى جملة من التحديات تهدد وجودها وبقاءها، حيث أصبحت التنشئة الاجتماعية عاجزة عن
تكريس تلك المبادئ والقيم في النفوس بفعل تلك التحديات الداخلية والخارجية (ستتم الإشارة إليها لاحقا) التي تواجهها
مجتمعاتنا المعاصرة.
ومن المبادئ والقيم التي تشكل بعضا من ملامح الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية ما يلي:
1ـ العقيدة الإسلامية الصحيحة والفهم الصحيح لها وممارسة شعائرها.
2ـ الإيثار والمحبة والتآزر والاحترام بين أفراد المجتمع المسلم (ذكوره وإناثه، صغاره وكباره، أبيضهم وأسودهم،
فقيرهم وغنيهم، عالمهم وجاهلهم) أي بغض النظر عن الأدوار التي يؤدونها والمراكز التي يشغلونها.
3ـ الابتعاد عن مظاهر الكبر والتكبر والخيلاء والعجب والغضب والحقد والحسد وسوء الظن وتضييع حقوق الآخرين.
4ـ الاتصاف بالتواضع والتراحم والحب ولين الجانب والتسامح وحب الخير للناس أجمعين، وحفظ حقوقهم وحسن الظن
بهم والتعاون معهم على البر والتقوى والعمل الصالح.
5ـ البعد عن الظلم والغش والرشوة و"المحسوبية" وإيذاء الناس والغيبة والنميمة والكذب والسخرية والسب واللعن
وقذف المحصنات وغيرها من آفات اللسان.
6 ـ الأخذ بالأخلاق الحسنة مثل: العدل والصدق ونصرة الضعيف المظلوم والجرأة في الحق، والشجاعة فيه، وعدم
إيذاء الناس في شرفهم وأعراضهم.
7 ـ مراعاة حقوق الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، وحقوق الأبناء على الآباء وحقوق الآباء على الأبناء
وحقوق الجار، وحقوق الحاكم على المحكوم وحقوق المحكوم على الحاكم، وصلة الرحم.
8 ـ حب الخير للجميع ونصرة المظلوم وستر المسلم والسلام عليه وتهنئته في أفراحه ومواساته في أتراحه وإجابة
دعوته وتشميته إذا عطس وعيادته إذا مرض والسير في جنازته إضافة إلى آداب الطعام وآداب السير في الطرقات
وأدب المجلس وأدب العالم والمتعلم وطالب العلم (الجوير1419 هـ).
9- استخدام اللغة العربية والاعتزاز بها، ذلك لأنها لغة القرآن الكريم وأداة التواصل بين أفراد المجتمعات العربية
والإسلامية.
من المؤكد بطبيعة الحال أن خصوصيتنا الثقافية أوسع من أن نحصرها في تلك النقاط التسع لكنها تمتد إلى جوانب شتي
أبعد من ذلك، وقد حاولنا فقط تحديد بعض ملامح خصوصيتنا الثقافية في تلك النقاط حتى لا يظل هذا المفهوم مفهوما
مجردا بحيث يستعصي على فهم البعض الذين قد يتساءلون بصورة مشروعة عن ماهية خصوصيتنا الثقافية التي أكثرنا
الحديث عنها في هذه الورقة وتميز مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن غيرها من المجتمعات.
ماهية التحديات المعاصرة للتنشئة الاجتماعية:
ذكرنا آنفا أن التنشئة الاجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي تواجه اليوم نوعين من التحديات أحدهما داخلي (أي نابع
من ذات المجتمع) والآخر خارجي (أي من خارج حدود المجتمع). وفي هذا الجزء من ورقتنا هذه سوف نتناول بشيء
من التفاصيل كلا النوعين من التحديات.
أولا: التحديات الداخلية: ما أن تحررت معظم الدول العربية والإسلامية من ربقة الاستعمار وتأسس أو توحد بعضها
الآخر حتى بدأت النخب السياسية والثقافية فيها رحلة البحث عن سبل تنمية مجتمعاتها. ولأن تجربة الدول المستعمرة
كانت سابقة في هذا المضمار، ونتيجة للصورة المثلى التي رسمها الاستعمار عن تجاربه التحديثية، وانعكاسا لاتجاه
النخبة المثقفة في الغرب إلى تقسيم العالم إلى دول متقدمة (إشارة إلى الدول الغربية) ودول متخلفة (إشارة إلى الدول
الأفريقية والآسيوية) فقد سارعت النخب السياسية والثقافية في الدول المتحررة حديثا من الاستعمار (بما في ذلك الدول
العربية والإسلامية) إلى تمثّل التجربة التنموية والتحديثية في الغرب لأن تكون نبراسا تهتدي بها للوصول إلى مرحلة
التقدم كما هي بصورتها الغربية. وكان من الطبيعي أن ينتج عن مثل هذه الاستعارة للتجربة التنموية الغربية مشكلات
كثيرة أثرت ولا زالت تؤثر سلبا على عمليات التنشئة الاجتماعية في مجتمعات تلك الدول. وإذا كان هذا يمثل مؤثرا
خارجيا إلا أنه أدى إلى انعكاسات سلبية على الواقع الاجتماعي المحلي.
فالأسرة العربية والإسلامية التقليدية تعرضت لآثار عكسية نتيجة عمليات التحديث والتغير الاجتماعي، حيث لم يرافق
العمليات التنموية اهتماما كافيا بسبل رعايتها وزيادة فعاليتها أو وضع الاحتياطات الكفيلة بتفادي تلك الآثار السلبية
عليها، فكادت الأسرة أن تفقد هويتها ووظائفها الحيوية. ومن مظاهر تدهور الأسرة العربية والإسلامية انتشار الكثير
من الظواهر التي يجب تلافي حدوثها ومنها: ظاهرة المخدرات بين المراهقين والشباب، ظاهرة العنوسة والطلاق،
الخلافات الزوجية والخلافات بين الآباء والأمهات والأبناء، انفصال المتزوجين حديثا عن الآباء والأمهات وعدم الرعاية
الواجبة من قبل الأسرة لكبار السن فيها، تدهور التحصيل الدراسي للأبناء وانقطاعهم عن الدراسة، الاستعانة بالخدم
والسائقين في العملية التربوية، وانتشار أجهزة الفيديو والفضائيات، والاعتماد على المطاعم وبوفيهات الأطعمة السريعة
(بن مانع، 1410: 7- 10).
إننا نشهد اليوم تخلخلا مثيرا ومقلقا في واقع الأسرية العربية والإسلامية وتمزقا في بنيتها نتيجة الهجرة من الريف إلى
الحضر فانقسمت إلى أكثر من أسرة نووية (أسرة نووية ريفية وأسرة نووية حضرية). وهذا التمزق في بنية الأسرة
التقليدية أدى بدوره إلى انعكاسات سلبية على مجمل وظائفها ونشاطاتها ومن بينها وظيفة التنشئة الاجتماعية؛ إذ نتج
عن الانتقال من الريف إلى الحضر والحراك المادي والاجتماعي تحول جذري في علاقات الأسرة وأدوارها ووظائفها
وبناءاتها، فعلاقاتها أصبحت محدودة، ورقابتها على أفرادها أضحت ضعيفة، وأدوارها تغيرت لمجابهة متطلبات الحياة
الحضرية (غياب كلا الوالدين عن المنزل في نفس الوقت، الأب في العمل، والأم في التعليم أو العمل)، ووظائفها
انحسرت لقيام مؤسسات تربوية بديلة سحبت منها معظم تلك الوظائف، وبناءاتها شهدت دخول عناصر جديدة كالخدم
والسائقين والمربيات.
في مثل هذه الظروف الحياتية في ظل الحضر والمغايرة تماما لطبيعة الحياة الريفية أصبح البحث عن الإنجاز الشخصي
وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي متميز من قبل الوالدين مماثلا في أهميته، إن لم يفق، أهمية رعاية الأبناء والقيام
على تنشئتهم التنشئة السليمة. وكان من الطبيعي أن ينحسر دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية للأبناء، فقدوم المولود
يعني التفكير في الخادمة، ووجود المراهق يعني التذمر والتنافر. وهكذا حلت دور الحضانة والمربيات الأجنبيات
والشوارع ودور الرعاية والملاحظة وحتى السجون كبدائل للأسرة تقوم نيابة عنها في تنفيذ هذه المهمة التربوية
الجسيمة.
لقد كانت التنشئة الاجتماعية في المجتمع التقليدي محصورة في عدد محدود من المؤسسات التربوية كالأسرة وجماعة
الحي والمسجد والجيرة ثم المدرسة بحيث تتساند تلك المؤسسات وتتآزر وتتكامل فيما بينها لتحقيق تنشئة متوازنة
وسليمة وخالية من التناقضات والمضاعفات السلبية للفرد، ولكن مع تطور المجتمعات وهجرة الأسر من الريف إلى
الحضر تعددت وسائط التنشئة الاجتماعية لتشمل، إضافة إلى ما هو موجود في الماضي، الفيديو والتليفزيون والإذاعة
والسينما والصحافة والمكتبة والكمبيوتر وجماعة النادي وجماعة العمل والقنوات الفضائية، التي تتعارض فيما بينها بما
تقدمه من رسائل وتعمل دون تنسيق لتأتي التنشئة الاجتماعية مشوشة وتؤدي إلى الارتباك والاضطراب والازدواجية في
شخصية الفرد.
الحياة الحضرية أدت إلى اضطرابات أسرية انعكست سلبا على التنشئة الاجتماعية، وتتجسد تلك الاضطرابات أولا في
علاقة الوالدين ببعضهما ومنها: الخلافات، الزواج غير الموفق، الخيانة الزوجية، عدم التكافؤ بينهما ثقافيا أو اقتصاديا
أو اجتماعيا، الانفصال أو الطلاق أو الهجر أو الزواج الثاني الذي ينتج عنه مشكلات متعلقة بأسلوب التربية ومشكلات
أخلاقية ناشئة عن التغير المفاجئ الذي يصيب حياة الأطفال، التضارب في الاهتمامات، الغياب الطويل عن البيت
وبخاصة عمل الأم الذي يشجعه مجتمعنا الحديث ويعتبره ضرورة لتدعيم الأسرة ماديا مما يترتب عنه غياب مصدر
العطف والتوجيه والتدبير لفترة طويلة ويضاف إلى ذلك تبعات العمل التي تحملها الأم إلى بيتها (تعب، تعصيب، نرفزة،
مشكلات المهنة...إلخ)، إعطاء النموذج السئ للطفل، التدخل السلبي لأهل الوالدين بشؤون الأسرة، الذي يفقد الزوجين
أو أحدهما إدراك مسؤوليات الأسرة الجديدة.
هذا الواقع الجديد للحياة الأسرية إضافة إلى تدني المستوي الاقتصادي، وانحراف معايير الأسرة الاجتماعية، وعدم
الاستقرار والتنقل المستمر سعيا وراء لقمة العيش، كلها أسهمت في تقليص دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية
وأصبحت تشكل تهديدا لها (شكور: 1998: 30 -31).
وفيما يتعلق بجماعة الرفاق كأحد وسائط التنشئة الاجتماعية أصبحت الأسرة الحضرية عاجزة عن تحديد طبيعة رفقة
أفرادها نظرا لاتساع نطاق المدينة وقدرة الأبناء على التحرر من رقابتها وانشغال الوالدين في مجاراة السلوك
الاستهلاكي المستعر لأهل المدينة والبحث في سبل تحقيق المتطلبات المعيشية للأسرة من خلال العمل الوظيفي. هذا
الضعف في قدرة الأسرة على الضبط الاجتماعي جعل من الرفقة مصدر التنشئة الاجتماعية السليمة خاصة إذا ما وقع
الأبناء في شرك صحبة السوء.
أما المسجد فقد انحسر دوره في التنشئة الاجتماعية نتيجة انشغال الأب عن الأسرة في أغلب الأوقات، حيث كان في
الماضي قدوة حسنة لأبنائه في ارتياد المسجد ويصحبهم إليه. وهذا الانحسار في الدور التربوي للمسجد يعد واحدا من
أهم التحديات المعاصرة لعملية التنشئة الاجتماعية.
وبالنسبة للمدرسة نجد أنها أخذت تنحى اليوم منحى تعليميا أكثر منه تربويا مما يهدد بتمرد على القيم الاجتماعية من قبل
الدارسين بها. كذلك أدى انعدام التواصل والتعاون بين المدرسة والأهل إلى سوء التوافق المدرسي للطالب، الأمر الذي
قد يكون مصدرا للانحراف والسلوك السلبي.
كذلك أخذت وسائل الإعلام تلعب دورا بارزا في عملية التنشئة الاجتماعية في وقتنا الراهن. ومع أهمية دورها التربوي
هذا إلا أنها كثيرا ما تبث رسائل مناقضة لتلك التي يتلقاها الطفل في أسرته فتضطرب المعايير أمام الطفل لتشكل بذلك
مصدر تهديد للتنشئة الاجتماعية السوية.
وأخيرا تلعب الأوضاع الاقتصادية السيئة، والظروف السياسية غير المستقرة، إضافة إلى الكوارث الطبيعية من
فيضانات وزلازل وحرائق، والكوارث الاجتماعية من مجاعة وبطالة وتفشي الأمراض تحديات أخرى للتنشئة
الاجتماعية.
ثانيا: التحديات الخارجية: تواجه أمتنا العربية والإسلامية اليوم تحديات عقائدية وثقافية واقتصادية وسياسية وإعلامية
وعسكرية تهدد هويتنا الثقافية، خاصة وأننا نعيش اليوم في عالم متفاوت الاتجاهات والرغبات تتنازعه قوى السيطرة
واستعماريات مختلفة الأيديولوجيات تسعى لطمس حضارات وثقافات الشعوب أملا في سيادة حضارة شعوبها وفرضها
من واقع الغلبة وقوة التقنية. إذ سعت الدول الكبرى ذات السيادة ولا زالت تسعى إلى السيطرة على منابع الفكر
والثقافة في عالمنا العربي والإسلامي، وزرعت في أرضه بذورا غريبة من ثقافات مستوردة لا تمت لأصالتنا بصلة،
فاستفحلت هذه البذور وخلطت الحابل بالنابل في عقول أطفالنا وشبابنا وشيوخنا فصرنا قاب قوسين أو أدنى من الاندثار
الفكري والحضاري (سلمان: 1985: 17).
نحن نعيش في عصر أصبحت فيه أجهزة الاتصال المنزلية وأقمار الفضاء لا تعرف الحدود، وأصبح العالم كله عند
أطراف أصابع الملايين وأمام أعينهم على شاشات التلفزيون والكمبيوتر والتلكس. والقرن القادم يحمل في طيا ته ما هو
أخطر من التحديات للمجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص، حيث يشهد تاريخ البشرية تحولات جذرية من
الحداثة والصناعة إلى ما بعدهما، ويتخلق مجتمع معلوماتي عالمي لا تحده الجغرافيا ولا يتقيد بأبعاد التاريخ.
ومما لا شك فيه فإن المستقبل يحمل في طياته مؤشرات مؤكدة نحو تراجع الخصوصية لحساب العالمية، حيث تفقد
المجتمعات التميز الذاتي في سبيل الاندماج الكلي العالمي. ولا شك أن المجتمعات البشرية تواجه إرهاصات واضحة
نحو الذوبان الثقافي والسياسي والمعرفي والانطلاق نحو القرية الكونية الموعودة التي تمثل وحدة العالم المعلوماتي
الخاضع لوسائل الاتصال والمواصلات التي تشهد هي الأخرى تحولا جذريا في أساسياتها فضلا عن تشكيلاتها. وهذا
يعني أن التميز الذاتي للشخصية الإقليمية أو المحلية يشهد تحديا يعصف بالمعايير وقواعد السلوك والضبط الاجتماعي
التي هي جزء لا يتجزأ من عملية التنشئة الاجتماعية.
إن الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمسجد والجامعة تمثل أهم الأنساق الاجتماعية المنوط بها مسألة التنشئة
الاجتماعية وتساعد على تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع المتميز، حيث يصبح المجتمع ذا هيكلية ثقافية تعيش في دواخلنا
وتسيطر على سلوكنا من خلال تحديد أبعاد ثقافية تتحكم بتصرفاتنا وأفعالنا في مختلف الأزمنة والأمكنة. لكن التحدي
العالمي المتمثل بالعو لمة بأبعادها الثقافية والاقتصادية والسياسية والإعلامية وبوسائلها المختلفة تهدد تلك الأنساق
بصورة تحمل معها أعمق الآثار السلبية المتوقعة على الخصائص الوطنية والمحلية مما ينسحب على قدرة المجتمعات
والدول على تشكيل أبعادها الفكرية وخصائصها الوطنية لدي أجيالها الناشئة. وبتأثير ثورة المعلومات تلك فإن
المجتمعات تفقد خصوصيتها شيئا فشيئا في عملية ذوبان في ثقافة الآخر تهدد الكيانات السياسية للمجتمعات الأقل تقدما
مما يجعل تلك المجتمعات تندمج في مجتمع عالمي يهيمن فيه على الضعيف ومالك ناصية المعرفة على سلوكيات
ومقدرات الباحث عن المعرفة.
لقد اعتدنا سابقا على التمييز بين الشخصيات البشرية وفق سماتها الثقافية وسلوكياتها المنطلقة من تلك السمات، وهذا ما
يمكن أن نطلق عليه خصوصية العالم العربي والإسلامي التي تواجه اليوم أكثر من غيرها أخطار العولمة ولا تستطيع
المؤسسات السياسية والاجتماعية أن تصنع شيئا في مواجهة هذا الطوفان.
إن الاندماج الثقافي في مجتمعات الغد يحمل مؤشرات اتصالية تنقل السمات الثقافية من العوالم المختلفة إلى داخل
مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصورة تجعل من مهمة بناء الشخصية المحلية تبدو عسيرة جدا، إذ أن القوة الاجتماعية
المتمثلة في سلطة المجتمع على أفراده والتي يتم من خلالها استيعاب الأفراد لأهمية الخضوع للسلطة الاجتماعية عبر
مفاهيم التربية والتنشئة الاجتماعية ستشهد المزيد من التراجع أمام المد الثقافي العالمي مما يخلق في عالمنا العربي
والإسلامي نوع من ازدواج الشخصية إن صح التعبير. كما يكرس التباين بدلا من التجانس ويحمل في أبعاده نوعا من
التقديس للثقافة العالمية مع تباعد عن الثقافة المحلية وإضفاء سمة المعاصرة والحداثة على السلوك الذي ينزع نحو
العولمة ضد التقليدية والمحلية. وهكذا تندفع أجيال من الشباب وصغار السن في عالمنا العربي و الإسلامي نحو التقليد
السلوكي لما تحمله الأفلام و الأغنيات و البرامج الكمبيوترية القادمة من الغرب و التي تحمل في طياتها خصائص
الثقافة العالمية التي يسعى الغرب لجعلها الثقافة الوحيدة في هذا العالم بينما هي ثقافته الأصلية (أي الغرب) التي تخدم
أهدافه، إلا أنها خلقت مشكلات الانشقاق لأجيال الشباب في العالم الثالث عموما وفي المجتمع العربي المسلم على وجه
الخصوص.
إن ما نراه اليوم من بث كوني متلفز وشبكات المعلومات والكتب الإلكترونية أصبحت في متناول معظم أجيال الناشئة في
العالم الثالث، ماسحة أمامها جذور الأصالة والتميز والتفرد التي كانت دولنا العربية والإسلامية تمتاز بها كما تمتاز
بنكهة أطعمتها المتميزة عن أطباق الغرب والشرق الغذائية. ولعل هذا الاندفاع الثقافي العالمي من جهة المرسل إلى
جهة المتلقي يجعل من عملية التنشئة الاجتماعية أمرا بالغ الصعوبة في مجتمعات لا تستمد جذورها من الماضي ولا
تستطيع الاستقلال باختياريتها في الحاضر.
كما أن المد العالمي الاقتصادي والسيطرة على مصادر التموين والتبادل التجاري والمؤسسات المالية والشركات متعددة
الجنسيات تجعل من عالم الغد عالما تسوده ثقافة الأقوى اقتصاديا، بحيث يسعى الأقوى اقتصاديا إلى اقتلاع جذور
التقليدية في ثقافة الأضعف اقتصاديا وذلك بخلق فكرة متجذرة في أذهان الناشئة أن كل قديم هو منكر يجب أزالته
والتخلص منه. ولو اقتصر الأمر على السمات الثقافية المادية لهان الأمر ولربما استطعنا أن نكيف المادي المستورد
للمعنوي المحلي ولكن الإشكال يبرز عندما يكون المستهدف هو البعد المعنوي في ثقافة المجتمع وذاتية المجتمع المميزة
له قبل أدواته ووسائل إنتاجه.
ولاشك لدي أن الثقافة المحلية في عالمنا العربي والإسلامي تواجه أزمة العولمة، حيث تجد لها ظلا ينتمي لها وخطا
موازيا يعارضها ويحاول أن يسيطر عليها مما يجعل من حتمية الصدام بين الثقافة العالمية والخصوصية المحلية أمرا
متوقعا في بعديه المادي واللامادي. ولعل مؤشرات ذلك الاضطراب السائد في عالم القيم والمعايير وأهمها الموقف
الفكري لتدفق المعلومات المستقبلية في الحملة العالمية نحو العولمة الثقافية والاقتصادية بجوانبها المادية والمعنوية.
هذا ويمكننا إجمال التحديات التي تواجه عملية التنشئة الاجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي في الآتي:
1- أن العالم يعيش اليوم في إطار مناخ جديد تهتز على ساحته أكثر التقاليد رسوخا وتنهار في سياقه أكثر المؤسسات
عراقة، وهذا يعني أن الثبات انسحب من مسرح الحياة وأن الدينامية هي القاعدة وأن التغير هو المنطلق الذي يتخلق من
خلاله هذا العالم. لذلك من غير المستغرب أن تنهار الأسرة وغيرها من المؤسسات التربوية التقليدية لأن المثل
والمعايير التي ينشأ عليها الأبناء تختلف كثيرا عن تلك التي يواجهونها في واقع الحياة الاجتماعية المعاصرة فيضطرون
إلى هجر تلك المثل والمعايير والتمرد عليها (ليلة 1995: 48).
2- خلافا لما كانت عليه المجتمعات في الماضي فإن المجتمعات المعاصرة تواجه صعوبة في السيطرة على تدفق
المعلومات، مما يؤدي إلى انفصال الحاضر عن الماضي. وبما أن المجتمع هو خلاصة الماضي المركزة في الحاضر
فإن هذا الانفصام الزمني الثقافي يقود المجتمعات إلى ضياع الذات وغياب الوعي بالشخصية والعجز عن تشكيل
محددات السلوك وفقا لقيم المجتمع وجذوره الضاربة في عمق التاريخ. وإذا انفصل الماضي عن الحاضر ضاعت معالم
الغد وسهل الاختراق الثقافي مما يجعل المجتمعات تقف في حيرة أمام مفترق الطرق نتيجة لعدم استمرار الدعم
التاريخي للوجود المعاصر لهذه المجتمعات.
3- تواجه المجتمعات المعاصرة نمطي التماثلية والعمومية نتيجة لذوبان الحدود الثقافية مما يجعل التشابك بين الثقافات
عاملا رئيسيا في انهيار حواجز الخصوصية في جوانبها السلبية والتي من أهمها ضياع النكهة الخاصة لكل ثقافة
وظهور ثقافة هجينة من مختلف الأبعاد لا تدل على ماض و لا تقود إلى مستقبل.
4- من ضمن ما تواجهه الأسرة العربية والمسلمة إشكالية الأدوار الجديدة المضافة إلى الدور التقليدي للمرأة،
واعتمادها على المربيات الأجنبيات سواء كبعد رفاهي أو بعد ضروري من مجتمعات مخالفة لغة وتاريخا وربما دينا
لخصائص المجتمعات العربية والمسلمة مما يسهل عملية العولمة والاندماج الثقافي ليس على حساب خصوصية المجتمع
فحسب ولكن على حساب الخصوصية الأسرية أيضا. وهذا ما يتضح في أكثر المجتمعات العربية والإسلامية رخاء
اقتصاديا، حيث يتطبع الأطفال بعادات وقيم وتقاليد مجتمعات أخرى، ويفتقدون الاستقرار النفسي القائم على التواصل
بين الأسرة والمجتمع.
5- إن الاضطرابات المعيارية والمشكلات الاجتماعية الناجمة عن ذوبان الهوية الثقافية تؤديان إلى صعوبات جمة
تواجه التنشئة الاجتماعية وتجعلها عاجزة عن صياغة وحدة المجتمع، حيث يواجه الإنسان إشكالية الفرد والجماعة،
والمحلي والعالمي، مما يجعل ازدواجية المعايير والقيم ظاهرة ملاحظة لدى الإنسان العربي والمسلم في عالم اليوم.
6- تواجه المرجعية الثقافية في العالم العربي والإسلامي تحديات العولمة وهي تفتقد أبسط وسائل الدفاع عن ذاتها ألا
وهو الوعي بالذات نتيجة لعدم قدرتها التنافسية مع المد الإعلامي المتلفز والمذاع والمكتوب مما يفرض على المواطن
العربي والمسلم العيش بين ماض لا يستطيع الاحتفاظ به وحاضر لا يستطيع التمكن منه.
ومما لا شك فيه أن المرجعيات الثقافية المتعددة تجعل الإنسان لا يشعر بالانتماء ولا يملك هوية متميزة، كما أن الماضي
يعجز عن علاج مشكلات الحاضر ولا تسمح العولمة أساسا بالعودة إلى الماضي بل تدفع الإنسان قسرا للسير إلى
الأمام و ليس له من ملجأ سوى خلق عالمه العربي والإسلامي على الأقل في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى.
7_ من مؤشرات الخطر التي تواجهها المجتمعات العربية والإسلامية انسياق الشباب خلف معطيات الثقافة العالمية
حيث يدعم انسياقه هذا ما يعانيه من فراغ وعدم جدوى في برامج استثمار الوقت. وعادة ما يدعم هذا الفراغ في الوقت
تغلغل الثقافات الأجنبية إلى عقول وأذهان الشباب العربي والمسلم.
8- تقود العولمة الثقافية والتغيرات الاجتماعية الشباب العربي والمسلم إلى التناقض بين ما يعرفه عن ماضيه وما
يشاهده في حاضره فيشعر بالانهزام أمام الثقافة العالمية التي يجد نفسه عالة عليها لا مساهما فيها، مما يخلق الشخصية
المتناقضة ثقافيا وقيميا، وربما قاده ذلك إلى الانحراف والإجرام والمعاناة من المشكلات الاجتماعية والنفسية
المتواصلة.
وأمام هذه التحديات نجد أنفسنا أمام تساؤل هام مفاده: هل من سبيل إلى الخروج؟ وهل من أرضية نضع أقدامنا عليها؟
إنني وأنا أطرح المقترحات التالية لا أضع حلولا قطعية لمواجهة تحديات العولمة للتنشئة الاجتماعية في عالمنا العربي
والإسلامي ولكنني اقترح أبعادا تخطيطية ووقائية لعل وعسى أن نستطيع من خلالها مواجهة تحديات العولمة بكل
أبعادها وتجنيب مجتمعاتنا آثارها السلبية المحتملة. ومن المقترحات التي يمكن طرحها في هذا الصدد ما يلي:
أولا: حيث أن الشباب هم أكثرية سكان العالم العربي والإسلامي، وحيث أن العولمة تستهدف الأجيال الشابة باعتبارها
مستقبل الأمة فإن حماية هؤلاء الشباب وإبعادهم عن مصادر الصراع القيمي واضطرابات السلوك وفقدان القدرة
الاجتماعية عن طريق حمايتهم من تأثير وسائل الإعلام التي تقودهم إلى الانحرافات والجرائم المختلفة يصبح أمرا
حتميا. وهذا يتطلب إيجاد الخطط الوقائية المبنية على دراسات علمية لفهم مشاكل الشباب وتقديم ما يمكن تقديمه لهم
كبدائل للصراع القيمي القادم عبر العولمة الثقافية. كما يتطلب ذلك تفعيل التواصل مع شريحة الشباب من خلال العناية
بالبرامج الموجهة لهم في وسائل الإعلام المختلفة وتكثيف محتوياتها وتنويعها.
ثانيا: يواجه المواطن العربي والمسلم أزمة ثقة في وسائل الإعلام والاتصال العربية، ولذلك نجده يعتمد في كثير من
الأحيان على وسائل الإعلام الأجنبية لاستقاء المعلومات وتتبع المناسبات والأحداث. وسلوك كهذا أرى فيه دعما للبعد
عن الهوية الوطنية ويقرب نحو الهوية العالمية. وما لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتطوير البرامج الإعلامية في عالمنا
العربي والإسلامي لمواجهة المشاكل المحلية ومواجهة مشاكل العولمة ذاتها من خلال البرامج الإعلامية والمدرسية
القائمة على أسس علمية، فإن الهوة قد تتسع بين المواطن العربي المسلم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية القائمة في
مجتمعه بصورة تخدم العولمة الثقافية وأهدافها.
ثالثا: وجوب تنسيق السياسات الإعلامية للدول العربية والإسلامية لمواجهة الخلل الناجم عن القصور الذي يعتري
العمل الإعلامي في تلك الدول، والتفوق التقني للإعلام الغربي. وهذا يقتضي دعم أجهزة الإعلام العربية والإسلامية
لرفع كفاءتها المادية والمعنوية والرقي بها إلى مستوي المنافسة مع وسائل الإعلام الغربية.
رابعا: دعم مؤسسات التنشئة الاجتماعية وبخاصة الأسرة والمدرسة لأنهما الأقدر على مواجهة آثار العولمة على
التنشئة الاجتماعية وتجنيب الشباب مشاكل ذوبان الهوية. فها هو وزير التربية الأمريكي في عهد الرئيس ريجان يحذر
أمته من تدهور الأسرة قائلا "إن تدهور أوضاع الأسرة الأمريكية يعتبر أعظم تهديد لحياة وأمن أولادنا على المدى
البعيد، إن على أمريكا ألا تفقد أعظم وأهم معقل للتربية في المجتمع، المعقل الذي حافظ ونمّى مثلنا العظيمة كأمة
وحضارة. إنه يجب على هذه الأمة ألا تسمح بالفناء لهذا المعقل الذي يتمتع بقدرة لا تبارى في حماية ورعاية أطفالنا."
وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الله التركي (1404: 78) "إن الجانب الأسري من حياة المسلمين يعد جزءً كبيرا
من نظامنا الإسلامي في سعته وشموله، فالأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع بكل دوائره وخلاياه، فإذا نالت حظها من
الرعاية وأخذت ما ينبغي لها من الإصلاح، وأقيمت على ما يجب أن ترتكز عليه من التربية الإيمانية، والالتزام
بتوجيهات الإسلام وأحكامه، فإن إصلاح الجوانب الأخرى يصبح أقل صعوبة، وأكثر نجاحا."
خامسا: التأكيد على مسائل الهوية العقدية وقضايا الولاء والانتماء للوطن وللأمة العربية والإسلامية في جميع برامج
ومناشط مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتاحة وذلك بهدف الحيلولة دون حدوث الانفصام عن الأصالة والذي قد يحدث
في غمار البحث عن المعاصرة.
سادسا: التوعية بالمخاطر التي تواجهها قيمنا وأعرافنا وأن قيم ومعايير الآخرين تتعارض معها، فمثلا، مفهوم الفردية
وما يعنيه في الغرب يتعارض مع مفهوم الإيثار والتكافل الاجتماعي في حضارتنا الإسلامية، ومفهوم السعادة في الغرب
لا يتجاوز السعادة الدنيوية بينما يشتمل في حضارتنا الإسلامية وديننا الحنيف على السعادة الدنيوية والأخروية (بن
مانع، 1410: 11).
سابعا: إنشاء هيئات مستقلة تعنى بشؤون الأسرة وتعيد تنظيمها وتضع السياسات والبرامج الكفيلة بمواجهة تبعات
العمليات التنموية ومظاهر العولمة.
ثامنا: إقامة أقسام أكاديمية في الكليات والجامعات تعنى بالدراسات الأسرية وإعداد المتخصصين في الأسرة وتمويل
البحوث الأسرية.
تاسعا: الأخذ بنظام التوجيه والإرشاد الأسري المجتمعي لمساعدة الأسر على حل مشكلاتها وأزماتها المختلفة. ومن
مظاهر هذا التوجيه التي تتناسب وظروف المجتمع الإسلامي ما يلي:
1- ضم مادة للعلاقات الإنسانية في الأسرة إلى مناهج التعليم الثانوي، وما في مستواه للبنات، بحيث تركز هذه المادة
على معايير ومظاهر التعاون والتربية الأسرية والأدوار وتناميها داخل الأسرة، والعلاقات بين أفراد الأسرة من زوج
وزوجة وأبناء، ذكر وأنثى، كبير وصغير.
2- إنشاء جمعيات نسائية للعناية بشئون الأسرة لا تكتفي بتقديم المساعدات المادية فحسب كما هو حال أغلب الجمعيات
النسائية القائمة اليوم، وإنما تهدف إلى حل المشاكل الأسرية المختلفة.
3- تقويم برامج الأسرة في الإذاعة والتلفزيون وإعادة توجيهها بما يتناسب مع ظروف المرحلة الراهنة ومتطلباتها.
4- توجيه مجالس الآباء والأمهات في مدارس التعليم العام للقيام بدور أكبر من مجرد الجانب التربوي بحيث يشمل
التوجيه والإرشاد الأسري وإعداد المشرفين والمشرفات لدراسة أوضاع الأسر وحل مختلف مشكلاتها.
5- إقامة دورات متكررة للمأذونين الشرعيين كي يقوموا بدورهم في التوجيه والإرشاد الأسري من خلال التأكد من
قضية تكافؤ الزوجين قبل عقد الزواج بينهما.
6- تفعيل دور وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تجاه الأسرة بحيث يمتد هذا الدور إلى الجانب الوقائي بدلا من
الاقتصار على التعامل مع نتائج تردي أوضاع الأسرة فقط.
7- قيام الجامعات بالدراسات والبحوث وعقد الندوات والمحاضرات عن مختلف جوانب الأسرة وفتح أقسام علمية
خاصة بالأسرة.
8- إقامة أسبوع للتوعية الأسرية (بن مانع، 1410: 106 - 114).
المراجع
1. القرآن الكريم.
2. بن مانع، سعيد، 1404، الأسرة: كيفية دراستها وحل مشاكلها، مطابع الصفا بمكة، الطبعة الأولي.
3. التركي، عبدا لله، 1404، توجيهات الإسلام في نطاق الأسرة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
4. الجوير، إبراهيم، 1419، التنشئة الاجتماعية، ورقة بحث معدة بمناسبة أسبوع الجامعات السعودية - المغربية،
وزارة التعليم العالي.
5. الزغل، علي، 1982، التنشئة الاجتماعية بعد الطفولة، عمان، دار الفكر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولي.
6. سلمان، سعيد، 1985، وقائع ندوة التحديات الحضارية والغزو والثقافي لدول الخليج العربي، مسقط - سلطنة عمان،
مكتب التربية العربي لدول الخليج.
7. شكور، جليل وديع، 1998، أمراض المجتمع: الأسباب، الأصناف، التفسير.
8. الوقاية والعلاج، بيروت، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى.
9. ليلى، علي، 1995، الشباب في مجتمع متغير: تأملات في ظواهر الإحياء والعنف، الإسكندرية، دار المعرفة
الجامعية.
من خلال تعريف الضبط الاجتماعي نعرف الضبط الأسري على انه هو: أن تقوم الأسرة بتحديد نطاق السلوك المتقبل
اجتماعياً وأيضا تحديد قواعد السلوك و أساليب الأداء ومعايير أداء الأدوار وتوقعات الآخرين من خارج الأسرة أو
داخلها بدور الذي يؤديه الفرد وهو كأحد أفراد الأسرة.