إنهيار منظومة الوعي العربي
محتويات
1 إنهيار منظومة الوعي العربي دراسة في فلسفة المجتمع
2 انهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمعات العربية
3 سلبية الشباب دليل انهيار المجتمع
إنهيار منظومة الوعي العربي دراسة في فلسفة المجتمع
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
المملكة المتحدة - لندن
مدخل عام:
يفترض أن يؤسس الوعي الجمعي منظومة توجه إتجاهات التفكير الفردي نحو تحقيق غايات تكون نتائجها متوازنة
وتخدم قضية ذات مباديء إيجابية. غير ان الوعي الجمعي ذاته ليس كياناً مستقلاً بل هو لا يمكن أن يكون وحدة واحده
مستقله، إذ أنه كم هائل من الكيانات المتداخلة في وعاء من العلاقات اللامتناهية.
فالوعي الجمعي لا يمكن أن يتشكل في غياب الوعي الفردي، وعندما يرفض الافراد أن يطوروا مناهج التفكير ويقبلوا
بالعيش في وحل القناعات السلبية على أن يكونوا مبدعين وخلاقين فكيف يمكن للوعي الجمعي ان يكون فاعلا؟
قد تكون مستويات الوعي العربي شهدت تناميا معقولا منذ أواخر خمسينات القرن الماضي وحتى أواسط السبعينات منه.
لكنها شهد تراجعاً ملحوظاً منذ ذلك الوقت، وقد يبدو أن العلة في هذا التراجع هو انه يظهر في مراحل متباينة كنتيجة
لغياب عباقرة العقل في المراكز الحضارية الحيوية ولتبني المجتمعات قيماً سلبية أدت إلى تغييب المثل العليا وإحلال
مثل متدنية محلها، فثمة علاقة ترابطية بين النشاط الذهني للافراد والاستقار النفسي للمجتمع وبين تنامي مستويات
الوعي أو تراجعها.
وعي الامة:
من المعايير التي يتبعها فلاسفة التاريخ في تبيان معنى الامة: " إن أهم مميزات الامة يكمن في مستويات الوعي
التاريخي لها ". ولكن هذا الوعي يبقى خاضعا لشروط موقع الامة في حركة التاريخ، فقد يتشكل الوعي من خلال
عملية تراكمية تستغرق جزءً من تاريخ الامة، فوعي الامة هو بالتالي نتيجة لعدد لامتناهي من التراكمات الذهنية للافراد
ولكن تحديد اتجاهات الوعي يعتمد في الكثير من المواقف، كنوع التفكير وإتجاهه، فالتاريخ السلبي أو الايجابي للامة
يسهم الى حدٍ ما في تشكيل وعيها، غير ان ذلك لا يكون ألا بتحرك الامة نفسها:
" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". الرعد:11.
وما ذلك إلا لان التاريخ متجذر في وعي الامة، وهي غير منفصلة عن ماضيها لاعتبار ان الوعي تراكم معرفي من
الماضي إلى الحاضر، فإبتعاد الامة عن عناصر الوعي والتغافل عنها سيؤدي بالتالي إلى ترديها وإنهيار صيرورتها.
غير ان عليها ان تدرك اين تتجه المعرفة التاريخية كما عليها ان تعيد تقييم الموقف التاريخي، فالتاريخ السلبي ينتج
وعياً سلبياً والعكس صحيح كما ذكرنا.
من هنا فإن صيرورة الامة وحضورها في حركة التاريخ يصبح تعبيراً عن وعيها بالحقائق، فالامة التي تمتلك نضجاً
عقلياً هي الامة التي تربط الماضي بالمستقبل من خلال تبنيها لروح المثل العليا التي جاء بها علم الوحي ليتم تكريسها
في العمل المستقبلي، وهي تعي ان لا يكون الماضي عبئاً على المستقبل لكنه يمكن ان يصير مركزاً تأصيليا للوعي
المستقبلي.
تردي الوعي:
أن حضور الامة في حركة التاريخ يعكس أصالتها في محاولة إستعادة الروح، غير إن تنامي الاتجاه السلفي والرؤية
الماضوية نتيجية لعصر الانحطاط قد أديا إلى تراجع خطير في مستويات الوعي، فالرجوع إلى الاصالة يحفظ قيمة الامة
وتاريخها ويحفظها من الانتكاس والغوص في إشكالات اللاوعي، ولهذا على الامة ان تعي معنى الاصالة فالتقدم والتنمية
لا تتحدد بالرؤية القومية ولكن بالنضج الحضاري ممثلا بالتغييرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وإمتلاك عناصر
التحول المستقبلي.
هذه الرؤية لا يحققها الفكر السلفي، وهي لا تأتي من قيم ماضوية جاهزة، فالماضي الاصيل لا يتجسد بملابس قصيرة
ولحى كحزم قش مبعثرة، وسواك وأموال تذهب لقتل الاخرين، فلو كانت هذه الصورة تشكل حقيقة الاسلام لإندثر
الاسلام منذ اليوم الاول، إن هذه الصورة السلبية عن الاسلام إنما هي نتاج لتردي الوعي الجمعي في قبال القيم
الحضارية التي جاءت بها الرسالات السماوية كلها. وإذا كان توينبي قد جعل نظرية التحدي والاستجابة سبباً في بقاء
الحضارات وإنهيارها، فهو قد ناقش العناصر المادية على حساب الجوانب المعنوية والروحية في علاقة الانسان
بالمستقبل. غير ان هذه الرؤية لا تعني التخلي عن نظريته وطروحاته لقيمتها التاريخية اضافة الى ان طروحاته هذه
تكشف عجز ونجاحات الاتجاه الحضاري في نفس الوقت.
فتراجع عناصر النمو الحضاري والعجز عن الاستجابة للتحديات يعكس قصوراً في مستويات الوعي الذي يغذي ظهور
الجماعات المتطرفة ويساعد على تنامي الفكر السلفي والرؤية الماضوية. وهذا يبين لماذا إنحرفت الجماعات السلفية
عن أصالة روح الاسلام وتشبثت بمظاهر محددة تفتقر الى الجانب الروحي كما ترفض مناهج الوعي العقلي.
لا شك ان التطرف كان على الدوام يمثل الجانب المظلم لحقيقة العقل باعتبار ان العقل عقلان، عقل واعٍ وعقل غير
واعٍ، ومشكلة العقل السلفي انه لا يعي الجوانب الايجابية في علاقة الانسان بالعقل، وهو يستغل بعض مفردات العقل
للتعتيم على الحقائق الاصيلة. فمن المتعارف عليه تشريعياً ان بعض المذاهب والمدارس الفكرية لا تعتمد العقل كمصدر
من مصادر التشريع في حين تتبنى القياس الذي لا اصل تشريعي له. وهذا الموقف يتماثل الى حد كبير مع مقولات
الفلاسفة في قضية اللاوعي، باعتبار ان المجتمع اللاواعي هو الذي يتبنى قيماً منحطة لتحل محل المثل العليا، فينتج عن
ذلك مثل عليا مزيفة تشبه الى حد كبير عبادة الاوثان عندما ادعى عرب الجاهلية انهم يعبدون الروح التي فيها.
لقد قاد الفكر السلفي عملية انحطاط الوعي منذ المزاوجة بينه والعقلية القبلية البدوية، فبدلا من ان تكون علاقة الانسان
بالله علاقة تعبدية تسير نحو معرفة الله، فان الفكر السلفي تخلى عن هذا الاتجاه عندما استبدل العلاقة بالله بالعلاقة
بالمال والمادة.
من الملاحظات المهمة عبر حركة التاريخ ان المجتمعات التي تبنت مثلا مزيفة قد صارت عائقا أمام التقدم باتجاه
المعرفة المطلقة، ولقد كان ذلك واضحا في كل المجتمعات التي خالفت الرسالات السماوية حين بقي المفهوم الحضاري
لديها خاضعا لمعيارية المادة في حين ان المعيارية الالهية يحددها الجانب الروحي والمعنوي : " إن أكرمكم عند الله
أتقاكم ".
الازمة وإشكالية حركة الامة:
إن تخلي الامة عن عناصر قوتها قد قاد إلى تنامي عناصر أزماتها، فضعف الامة وتراجعها عن تحقيق التقدم يساهم في
خلق الازمة ولكن الضعف نفسه ليس هو الازمة ذاتها بل ان عناصر الضعف هي احد اوجه الازمة. ومن هنا لايمكن
الجزم بان الازمة الحالية التييسقط العالم الاسلامي في قيعان ضحالتها ليست ازمة الفكر الغربي المستورد فقط لان
النوذج الغربي الرأسمالي هو نفسه يعيش الان ازمة خانقة وخاصة في المجال الاقتصادين اضافة للتراجع الكبير في
السياسة الغربية تجاه قضايا العالم لانها إنساقت وراء تبني الموقف الاسرائيلي في العلاقات الدولية.
فالازمة التي يعاني منها المجتمع الاسلامي المعاصر إنما هي أزمة العلاقة بين النموذج الانساني الذي اراده الله وبين
الانسان، وقد اوجدت هذه الحالة نوعاً من التناقض بين الانسان المسلم المعاصر والانسان النموذج، يمكن أن يبدو ذلك
موقفاً إجتماعياً (سوسيولوجيا) يمثل جانباً من عناصر تقييد حركة الامة في مسيرتها نحو الوعي. مما يعني ان صيرورة
الامة لا تتكامل إلا من خلال تحقيق العلاقة بين الانسان والمثل العليا ووعيه بها لتحقيق مفهوم الامة الكونية.
وهنا يطرح تساؤل يمثل الموقف الغربي من الاسلام، أي نوع من الاسلام هو الذي سيمثل النموذج الحضاري في حركة
التاريخ؟ هل هو الفكر السلفي المتحجر على قيم ماضوية ورؤية جامدة لم تتغير خلال 15 قرناً أم هو الفكر الاسلامي
الناضج حضارياً والواعي بعناصر صيرورة الامة والذي يجسد العلاقة بين الانسان والمثل العليا؟
إذن من نتبع؟ صناع الازمات أم الباحثين عن حلول عقلانية؟ فعندما يكون الاسلام خاتم الرسالات فلانه يمثل النظرة
المستقبلية للحياة، فكما هو يدعو الى عمارة الارض فانه يدعو بالاصل الى عمارة الفكر والعقل ولهذا كثرت الايات
التي تتحدث عن العلم والعلماء وأولي الالباب، فهو تعالى شأنه لم يقل هل يستوي الاغنياء والفقراء؟ ولم يقل هل يستوي
اصحاب المال مع غيرهم؟
بل قال عزوجل: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". فاطر: 28.
وقال: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب ". الزمر:9.
وهو يصف السلفيين بانهم يرفضون الحق: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا
عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ". المائدة 104.
وايضا اتباع الفكر الماضوي حين قالوا: " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان
الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ". لقمان:21.
فبينما اراد الاسلام الانتقال بالوعي الفردي والجمعي الى الموقف المستقبلي للحياة كان الفكر السلفي والماضوي يصر
على العودة الى تحجير العقل وترسيخ الجمود الفكري ويمنع حركة المجتمع نحو المستقبل.
من هنا نفهم ان اتباع الفكر السلفي وقفوا ضد صيرورة الامة وتطلعاتها المستقبلية وها نحن نرى الحركة الوهابية التي
تعتبر نفسها ممثلة الفكر السلفي، فهي قد تعاقدت مع السلطات الحاكمة، وهي التي تقود المجتمع نحو التراجع والانحطاط
وتعمل على حجر الوعي وتقييد تطلعاته.
وعاظ الشياطين:
قد يبدو هذا العنوان إقتباساً من استاذنا الوردي رحمه الله إذ أسماهم (وعاظ السلاطين)، إن هؤلاء لا يختلفون عن
اؤلئك، وفي السابق كان الملوك يعبرون انفسهم ممثلي الارادة الالهية على الارض ولهذا كان يتم ترسيمهم ملوكا من
قبل رجال الكنيسة لتبرير افعالهم بانها تعبر عن ارادة الله على الارض.
فعندما طرح هيغل مقولة: " كل واقعي معقول وكل معقول واقعي ". فانه اراد ان يدعم الدولة ويبرر منطقها وسلوكياتها
من خلال المنطق التاريخي، فاعتبر ان حركة الدولة تعبير عن حركة التاريخ، اراد هيغل دعم توجهات الدولة الالمانية
في حروبها الاوربية فالبسها قدسية تفوق قدسية الكنيسة نفسها. في حين ان الله عزوجل اراد ان تكون الدولة تعبيراً عن
الموقف الرسالي والالهي.
هذا هو ذات موقف وعاظ الشياطين في تبرير سلوك الملوك المعاصرين فالملك هو ممثل الله على الارض وهو يمثل
ارادة السماء، ولهذا صار الملك اهم من النبي واكثر تأثيراً منه في علاقات المجتمع بالدولة، وفي ذات الوقت صارت
الدولة تعبر عن حركة التاريخ بل هي التاريخ ذاته، وبالتالي ما يقوم به الملك هو فعل الهي ولا يجوز معاقبة الملك إذا
اخطأ أو استغل مال الدولة وتصرف فيه كمال شخصي، وله ان يفعل ما يشاء ويقتل من يشاء ويشن الحروب التي يريدها
فهو الدولة والدولة هو.
فالتماهي بين الملك والدولة يعتبر إختزالاً لكل حركة التاريخ، وفي نفس الوقت يعبر عن تجميد وعي الامة وحصره في
قوالب العلاقة بين الملك والدولة، فعندما يكون الملك هو الدولى فلا قيمة لاي فعل آخر لان كل الافعال ستنسب للملك
فهو الملك والقائد والامام والفاتح وحامي الحرمين ... والى آخره من قائمة الالقاب، فهذا الارتباط والتماهي بين الملك
والدولة يجعل انهيار الملك انهياراً للدولة، وضعف الملك ضعفاً للدولة، وعندما يشيخ الملك تشيخ الدولة، وإذا مات
الملك ماتت الدولة.
هذا المنطق السلبي هو الذي جعل الملوك يتشبثون بالحياة الى ما لا نهاية، وهذا ينطبق حتى على ملوك أوربا
المعاصرين. غير ان هذا الاتجاه لا يمكن أن يؤدي إلى تنامي وعي الامة بل على العكس سيقود الامة إلى إنهيارها لانها
أمة فقدت صيرورتها.