(صك) الانتداب على فلسطين :
كانت فلسطين العربية ولاية عثمانية، حتى عام 1917 حينما احتلها الجيش البريطاني بقيادة الجنرال ادمند الليني ولم تكن الصفة الاستعمارية لهذا الاحتلال واضحة آنئذ، وثمة أكثر من دليل على هذا:
1) فقد صرح الرئيس الأمريكي ولسن في شهر كانون الأول سنة 1915 بأن “الفتح والاستيلاء ليسا داخلين في برامج الحكومات الديمقراطية ولا يتفقان مع مذاهبها”.
2) وصرح الجنرال اللنبي يوم دخوله القدس في 29/12/1918 بأن “غاية الاحتلال البريطاني هي تحرير فلسطين من النير التركي وإنشاء حكومة وطنية حرة فيها”.
3) وأعلن لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في خطاب ألقاه في اجتماع نقابات العمال البريطانية في 15/1/1918 “أن بريطانيا تعترف بحق فلسطين وسورية والعراق والجزيرة العربية في الحرية والاستقلال وتكوين حكومات وطنية فيها.
4) وفي 8/2/1918 أرسل بلفور صاحب التصريح الشهير (رَ: بلفور، وعد) برقية إلى الشريف حسين بن علي باسم الحكومة البريطانية ودول الحلفاء جاء فيها “وحكومة صاحب الجلالة البريطانية تؤكد مرة أخرى وعودها السابقة بتأييد استقلال العرب ومساعدة البلاد العربية التي لم تنل استقلالها بعد على الحصول عليه بعد الحرب”.
5) وأصدرت بريطانيا وفرنسا في 7/11/1918 تصريحاً (رَ: البيان الأنكلو – فرنسي 1918) أكدنا فيه أن السبب الذي حاربنا من أجله في الشرق هو تحرير الشعوب العربية، وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين فيها اختياراً حراً”.
وإذا فقد التزم الحلفاء صراحة وعلناً بتأييد استقلال فلسطين وإنشاء حكومة وطنية فيها يختارها شعب فلسطين العربي. وهذا ما تمسك به العرب منذ البداية على لسان فيصل بن الحسين أمام مؤتمر السلم بفرساي في القرارات التي أصدرها المؤتمر السوري العام* عام 1919. أي أن حق فلسطين في الاستقلال التام حق ثابت قانونياً.
لكن الحلفاء تعاموا عن هذه الحقيقة الواضحة لأن أغراضهم الحقيقية كانت عكس ما وعدوا به العرب. كانت أغراضهم الحقيقية هي الحلول محل الاحتلال العثماني، واقتسام مناطق نفوذه فيما بينهم، وتهيئة فلسطين العربية لتكون دولة الحركة الصهيونية الموعودة. وتكشفت نواياهم هذه في اتفاقية سايكس – بيكو* الشهيرة عام 1916. وقد قرروا وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتحقيق أهدافهم في خدمة الصهيونية مستندين إلى نص في ميثاق عصبة الأمم* يقدم الاستعمار التقليدي في “زي جديد”.
يستند الانتداب البريطاني على فلسطين من الناحية القانونية إلى المادة 22 من عهد عصبة الأمم التي تنص بعض فقراتها على:
“1) أن تطبق المبادىء التالية على المستعمرات والأقاليم التي لم تعد بعد الحرب تحت سيادة الدول التي كانت تحكمها من قبل والتي تسكنها شعوب غير قادرة على أن توجه نفسها بنفسها ولا سيما في ظروف مدنية العالم الحديث القاسية. إن رفاهية وتقدم هذه الشعوب يعتبران أمانة مقدسة في عنق المدنية، ويجب أن يحوي العهد الحالي ضمانات للوفاء بهذه الأمانة.
“2) إن الطريقة الفضلى لتحقيق هذا المبدأ هي أن يعهد بالوصاية على هذه الشعوب إلى أمم راقبة تمسكها مواردها وتجاربها ومركزها الجغرافي من تحمل تلك المسؤولية وتقبل تحملها فوراً. إنها تمارس تلك الوصاية منتدبة باسم العصبة.
“3) إن بعض الجماعات التي كانت تتبع الدولة العثمانية قد بلغت درجة من الرقي والتقدم تجيز الاعتراف بها أممنا مستقلة، بشرط أن تسدي إليها الدولة المنتدبة النصح والمعونة حتى يأتي الوقت الذي تستطيع فيه أن تعتمد على نفسها، ويجب أن يكون لرغبات هذه الجماعات الاعتبار الأساسي في اختيار الدولة المنتدبة”.
والواضح من نص الفقرة الأولى للمادة أن غاية نظام الانتداب، أو الحكمة التي ادعاها أربابه من ورائه، هي رفاهية الشعوب التي توضع تحت نظام الانتداب ورقيها. وقد عدت تلك الغاية أمانة مقدسة في عنق المدنية عمل عهد عصبة الأمم على تحقيقها عن طريقين إجرائيين هما:
1) إجراء عام: هو نظام الانتداب ذاته. لذلك نصت الفقرة الثانية من المادة 22 على أن يتحرى في اختيار الدولة المنتدبة أن تكون من الدول الراقية التي يمكنها أن تقوم بهذه المهمة فعلاً بسبب مواردها وتجاربها ومركزها الجغرافي.
2) إجراء خاص: هو الالتزامات المحددة التي يتضمنها صك الانتداب والتي يشترطها مجلس العصبة على الدولة المنتدبة لضمان حسن قيامها بواجبها نحو رفاهية وتقدم شعوب الأقاليم الموضوعة تحت الانتداب.
كذلك تنص الفقرة الرابعة من المادة 22 على أن الجماعات التي كانت تتبع الدولة العثمانية فيما مضى (ومنها بالطبع الفلسطينيون) قد وصلت في تقدمها إلى مرحلة تؤهلها أن تكون أمماً مستقلة. وقد حصرت الفقرة المذكورة مهمة الدولة المنتدبة في تقديم النصح والمعونة فحسب، واعتبر الانتداب في هذه الحالة من الدرجة أ. ولما كانت الفقرة الأولى تنص على أن الدولة المنتدبة تستمر في تقديم النصح والمعونة حتى يأتي الوقت الذي تستطيع فيه الجماعات التي كانت تتبع الدولة العثمانية أن تعتمد على نفسها فقد ثار التساؤل حول السيادة على الأقاليم التي تسكنها هذه الجماعات وإلى من تعود تلك السيادة خلال الانتداب. وقد ظهرت في ذلك نظريات شتى أقربها إلى مناطق المادة 22 ذاتها تلك التي تقول إن السيادة على أقاليم الانتداب لم تنقل إلى الدول الكبرى أو إلى عصبة الأمم أو إلى الدولة المنتدبة بل ظلت ملكاً لشعب الإقليم الخاضع للانتداب لأنه صاحب السيادة أصلاً.
وما دام الانتداب، على ما يوجه إليه من انتقادات أخلاقية وقانونية، يستند في مبرره القانوني إلى نص المادة 22 من عهد العصبة فإن صك الانتداب يجب أن يتقيد بأحكام المادة كما أن نصوصه يجب أن تفسر عند الشك أو الغموض على هدي المادة المذكورة، ومن ثم فإن ما قد يحويه صك الانتداب على الأقاليم التي سلخت عن تركيا من مخالفات للمادة 22 يعتبر باطلاً قانونياً ولا يجوز إقراره، وتسأل الدولة المنتدبة عن تنفيذه طبقاً لأحكام المسؤولية الدولية. فإلى أي حد روعيت المادة 22 من ميثاق العصبة في فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، من حيث اختيار الدولة المنتدبة، أو من حيث إلتزاماتها تجاه شعب الإقليم؟
تنص الفقرة الرابعة من المادة 22 من عهد العصبة على أنه “يجب أن يكون لرغبات هذه الجماعات (أي الجماعات التي توضع تحت الانتداب) الاعتبار الأساسي في اختيار الدولة المنتدبة”.
لكن الحلفاء لم يراعوا حق هذا الإجراء الشكلي، فقد اتفقوا في مؤتمر سان ريمو* الذي عقد في 25/4/1920 على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتقدموا بمشروع صك الانتداب إلى عصبة الأمم دون أي اعتبار لرغبات سكان البلاد. وهذه المخالفة وحدها ترتب بطلان الانتداب من أساسه. وقد وصف العلامة هنري رولان ذلك التصرف بقوله: “ما دام الأمر قد جرى على هذه الصورة فالأولى بنا أن تقول إن ذلك ليس إلا بيعاً تجارياً، وإن مجلس الدول الخمس الكبرى المتحالفة (بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، وإيطاليا، واليابان) لم يفعل في سان ريمو في 25 نيسان 1920 باقتسامه البلاد العربية بين أعضائه، إشباعاً لمطامع غير شرعية، غير ما فعله في 7 أيار عام 1919 عندما اقتسم المستعمرات الألمانية.
واستنكر الأمين العام لعصبة الأمم – في مذكرة قدمها إلى مجلس العصبة بتاريخ 30/7/1920 – عمل المجلس الأعلى للحلفاء، وقال: “إن توزيع الدول الكبرى للانتدابات ليس قانونياً ولا يمكن الاعتراف به” وأيد المسيو هيماش (مندوب بلجيكا) هذه النظرية وأعلن أن قيام المجلس الأعلى بتوزيع الانتدابات يخالف عهد العصبة وأحكام القانون.
وأكد الفقيه فوشيل “أن اختيار الدول المتحالفة الكبرى بريطانيا العظمى للانتداب على فلسطين قد جرى خلافاً لأحكام ونص المادة 22 من ميثاق العصبة. فهو إذن باطل من الوجهة القانونية ولا يقام له وزن”.
لكن الحلفاء الذين فرضوا بريطانيا دولة منتدبة لم يكونوا من الناحية العملية ليعبروا أي اهتمام لأهداف العصبة أو عهدها بل كان همهم الرئيسي إضفاء الشرعية على وعد بلفور* الذي كان يفتقر إلى مثل هذه الشرعية ووضعه موضع التنفيذ. ومن أفضل من بريطانيا التي صدر عنها الوعد لمثل هذه المهمة؟ ومن أفضل من مجلس العصبة (التي هي في التحليل النهائي منظمة أقامها الحلفاء لتكريس انتصاراتهم) لمباركة قيام بريطانيا بمهمتها؟
هذا ما يؤكده صك الانتداب ذاته الذي أقره مجلس عصبة الأمم في 24/7/1922 والذي تسلمت بموجبه بريطانيا وفي رعاية العصبة “مهمتها التاريخية” في فلسطين.
تقول مقدمة الصك: “ولما كانت دول الحلفاء الكبرى قد وافقت أيضاً على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي أصدرته في الأصل حكومة صاحب الجلالة البريطانية في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917، وأقرته الدول المذكورة لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة الآن في فلسطين أو بالحقوق والوضع السياسي مما يتمتع به اليهود في أية بلاد أخرى.
“ولما كان قد اعترف بذلك بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين وبالأساليب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد….”.
وتنص المادة الثانية من الصك على أن “تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقاً لما جاء في ديباجية هذا الصك، وعن ترقية مؤسسات الحكم الذاتي، وتكون مسؤولة عن صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين”.
وهكذا يتضح، ومن غير حاجة إلى استنتاج أو تكهن، أن السلطة المنتدبة على فلسطين لم تكن غايتها، كما نصت المادة 22 من عهد العصبة، تحقيق رفاهية وتقدم شعب الإقليم الأصلي كأمانة مقدسة في عنق المدنية بل بكل بساطة التمهيد والتهيئة لترجمة وعد بلفور إلى واقع عملي، وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين. أما سكان البلاد وأغلبيتهم الساحقة يومئذ من العرب فكل ما التزمت به بريطانيا تجاههم هو عدم المساس بحقوقهم المدنية والدينية (لا السياسية)، فقط.
ويمضي صك الانتداب في تجاهل الشعب الفلسطيني الذي يفترض أن الانتداب أقيم من أجل إيصاله إلى الرفاهية والتقدم والاستقلال الناجز، فلا ينص في أية مادة منه على تعامل سلطة الانتداب مع هيئات تمثله، ولو على غرار الوكالة اليهودية*. أما اليهود وهم يومئذ أقلية فقد خصص الانتداب لهم من يمثلهم، وألزم السلطة المنتدبة بالتعامل مع هذا الممثل. وفي هذا تنص المادة الرابعة منه على ما يلي:
“يعترف وكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور، ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد على أن يكون خاضعاً دوماً لمراقبة الإدارة.
“ويعترف بالجمعية الصهيونية كوكالة ملائمة كهيئة عمومية ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن تأليفها ودستورها يجعلانها صالحة ولائقة لهذا الغرض. ويترتب على الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير، بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة البريطانية، للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن القومي اليهودي”.
ولما كان الحلفاء يعلمون أن اليهود في فلسطين كانوا، عند إقامة نظام الانتداب، قلة قليلة في البلاد لا تملك من الأراضي إلا النزر اليسير فقد نصوا في صك الانتداب على تشجيع هجرة يهود “الشتات* – الدياسبورا” إلى فلسطين. ومنحهم الجنسية وتمليكهم الأراضي بأسهل الشروط. وفي هذا تقول المادة السادسة”. على إدارة فلسطين أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق فئات الأهالي الأخرى وأوضاعهم. وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية”.
أما المادة السابعة فتنص على أن “تتولى إدارة فلسطين مسؤولية سن قانون الجنسية. ويجب أن يشتمل هذا القانون على نصوص تسهل اكتساب اليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم الجنسية الفلسطينية”.
ويجب ألا يغرنا ما ورد في المادة السادسة السالفة الذكر من ضرورة ضمان “عدم إلحاق الضرر بحقوق وضع فئات الأهالي”، فالشعب العربي الفلسطيني في نظر أرباب صك الانتداب ليس أكثر من “أهالي”. وقد بينت مواد الصك الأخرى أن الحقوق والأوضاع التي يجب ألا تمس هؤلاء “الأهالي” هي الحقوق المدنية والدينية لا أكثر. ثم كيف يعقل منطقياً أن يفتح باب إقليم ما على مصراعيه أمام هجرة أجانب أغراب عنه فينالوا بأيسر الشروط حق التجنس والتملك دون أن يؤثر ذلك في حقوق أغلبية السكان وأوضاعهم حتى المدنية؟ كلها أسئلة تغافل عنها أرباب الصك الذين ما تركوا مجالاً لاجتهاد في أن “الوطن القومي” الذي وعد به بلفور واللورد روتشيلد هو في الواقع “دولة يهودية”. فهذا نص المادة 11 من صك الانتداب بوضع أن “إدارة البلاد تتفق مع الوكالة اليهودية (دون سواها) على أن تقوم هذه الوكالة بإنشاء أو تسيير الأشغال والمصالح والمنافع العمومية، وترقية مرافق البلاد الطبيعية بشروط عادلة ومتصفة، ما دامت الإدارة لا تتولى هذه الأمور بنفسها”.
وهذا نص المادة 22 من الصك يقتضي بأن “تكون الإنكليزية والعربية والعبرية اللغات الرسمية في فلسطين. وكل عبارة أو كتابة بالعربية وردت على طابع أو عملة يستعملان في فلسطين يجب أن تكرر بالعبرية. وكل عبارة أو كتابة بالعبرية يجب أن تكتب بالعربية”.
ويذهب بعض الكتاب في محاولة للتقليل من آثار صك الانتداب السياسية والقانونية السلبية على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إلى التفتيش عن التناقضات أو التباينات التي احتواها الصك سواء في صياغته أو في مضمون. ومن ذلك مثلاً أن الصك تكلم عن هيئتين: الدولة المنتدبة وحكومة فلسطين، وجعل الدولة المنتدبة مسؤولة عن بعض الضمانات وجعل حكومة فلسطين مسؤولة عن بعضها الآخر، مما يؤكد في نظرهم “أن حكومة فلسطين ليست هي الدولة المنتدبة”. ويخلص هؤلاء إلى أن ما قرره عهد العصبة من استقلال فلسطين وما جاء به صك الانتداب في مختلف نصوصه يفترض أن هناك “سلطات وطنية لفلسطين تقوم الدولة المنتدبة بمساعدتها بصورة غير مباشرة عن طريق النصح والإرشاد” لتحقيق أهداف عصبة الأمم من نظام الانتداب أصلاً، ونعني تحقيق رفاهية وتقدم الشعب الموضوع في ظل هذا النظام. أما ما أسلفنا من نصوص دامغة في صالح تحقيق الدولة اليهودية (كتعبير حقيقي عن المقصود بالوطن القومي لليهود) فيرتب – في نظر هؤلاء الكتاب – على السلطة المنتدبة وحدها الالتزام بذلك، وفي حدود روح ونص المادة 22 من عهد عصبة الأمم.
ومن شأن ذلك، فيما يرى هؤلاء، أن ما ورد من نصوص لصالح اليهود في صك الانتداب لا يمكن حمله على أكثر من اعتبارهم أقلية تستحق الرعاية دون أن تؤدي هذه الرعاية إلى الإضرار بحقوق الأغلبية العربية ومصالحها.
والحقيقة أن مثل هذه الآراء وسواها قد تصلح لجدل فكري مجرد حول صك الانتداب على فلسطين. ولكن الواقع الذي طبق هذا الصك من خلاله يجعل هذه الآراء. على وجاهتها، أقرب إلى ما كان يجب أن يحصل مما حصل فعلاً تحت سمع وبصر عصبة الأمم والعالم كله. إن المشكلة في صك الانتداب على فلسطين ليست فيما حواه من تناقضات وتباينات داخل إطاره، وهي كثيرة، بل في تناقضه البين مع المادة 22 من عهد العصبة نصباً وروحاً، وهذا ما يجعله في رأي الكثيرين من المحللين باطلاً شكلاً وموضوعاً. ولا أدل على ذلك من أن أكثر من عضو في اللجنة السياسية الخاصة للجمعية للأمم المتحدة قد طرح قبيل اتخاذ الجمعية قرار التقسيم الشهير موضوع سؤال محكمة العدل الدولية عن شرعية هذا الصك في ضوء عهد عصبة الأمم. غير أن العوامل السياسية ذاتها التي فرضت صك الانتداب على فلسطين بالشكل والموضوع الذين طبقاً فيه حالت دون وصول هذا السؤال إلى المحكمة الدولية لتقول كلمة الحق والعدل فيه .
والحقيقة التاريخية أن هذا الصك، رغم عدم شرعيته، طبق كما اشتهت الحركة الصهيونية تماماً، وآل إلى ما لم تكن تنص عليه المادة 22 من ميثاق العصبة، وإلى ما لا يحقق العدالة والإنصاف لشعب فلسطين، فكان أصلاً من فصول مأساة فلسطين العربية التي يعيشها حتى اليوم.
المراجع:
– محمد طلعة الغنيمي: قضية فلسطين أمام القانون الدولي، 1967.
– محمد عزة دروزة: حول الحركة العربية الحديثة، بيروت 1960.
– محمد عزيز شكري: التنظيم الدولي العالمي بين النظرية والواقع، دمشق 1973.
– Charles Ayoub : Les Mandats Orientaux, Paris 1924.
– Koliar: Droit International et Histoire Ddiplomatique de 1815 a 1950 Paris 1955.
– Ridslob: Le Systeme des Mandats Internationaux, Paris 1925.
– Zeindeen: Le Regime du controle des Mandats.