سنة 2024 .. الصين تتسيد النظام الدولي والاتحاد الأوروبي يتفكك
إبراهيم سيف منشاوي*
أضحى استشراف المستقبل من الأهمية بمكانٍ بسبب تعقد الوضع الحالي للنظام الدولي في ظل تراجع الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عن التزاماتها الدولية التي ترجع إلى سبعة عقود في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزايد قوة ونفوذ القوى الكبرى، لا سيما الصين وروسيا، على الساحة الدولية، وتهديدها الانفراد الأمريكي بقيادة النظام الراهن. وهو ما حاولت مجلة "الإيكونومست" إلقاء الضوء عليه في عدد كامل، حمل عنوان: "ماذا لو؟"، حيث يسعى لاستشراف مستقبل عدد من القضايا العالمية المهمة.
وكان من بين تلك القضايا، صعود الصين واحتمالات هيمنتها على النظام الدولي. أو بعبارة أخرى، محاولة تشكيل بكين لنظام جديد يتفق مع رؤيتها ومصالحها الأساسية. وكذلك قضية احتمال تفاقم مشكلات الاتحاد الأوروبي بانفصال عدد من دوله، وخاصة دول أوروبا الشرقية.
تحدٍّ صيني
يُشير التقرير إلى أن الصين قد تصبح خلال عام 2024 غير عابئة بقواعد النظام الدولي الراهن، وأنها قد تسعى إلى تشكيل تلك القواعد بما يتماشى مع أهدافها وطموحاتها. ويُدلل على ذلك احتمالات قيام أجهزة الاستخبارات الصينية بعمليات تجسس كبرى، حيث إنها تعمل مع شركات التكنولوجيا لتحويل ملايين السيارات إلى أجهزة تجسس عن بعد من خلال استخدام تقنية تكنولوجيا الجيل الخامس، مما قد يسمح لها بجمع الكثير من المعلومات الاستخباراتية حول العالم. وهذا يعني عدم التزام الصين بالقواعد الدولية، إلا بما يتماشى ويتواءم مع مصالحها.
ويتوقع التقرير أنه في عام 2024 ستضر فضيحة التجسس الصيني بسمعة أكثر من حكومة على المستوى الدولي. فعلى رأس تلك الحكومات، تأتي الحكومة البريطانية التي تحاول التستر على الجريمة الصينية، وذلك بسبب طموحها لأن تصبح مركزًا ماليًّا وقانونيًّا للشركات الصينية بعد أن فقدت قوتها في نيويورك وفرانكفورت في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي. لذلك تأمل لندن أن تستضيف منتدى استثماريًّا عالميًّا يكون مركزًا لما يسمى "بمبادرة الحزام والطريق"، وهو مشروع الصين الطموح لربط بكين بأوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط عبر شبكة من الطرق والموانئ وخطوط للسكك الحديدية، بالإضافة إلى الربط التكنولوجي.
كما يُضيف التقرير أن بريطانيا تأمل بعد أن وضعت الصين قواعد ومعايير الدعم المالي، أَيْ سياسة المنح والقروض الصينية، لأن تكون الوجهة المفضلة لرأس المال العالمي مهما كانت العواقب. والحقيقة أن لندن ليست وحدها التي من الممكن أن تتواطأ مع ما تسنه بكين من قواعد ومعايير جديدة للنظام الدولي، فهناك دول أخرى -مثل كندا-قد تدفعها علاقاتها التجارية مع بكين إلى قبول مثل هذه القواعد والمعايير، خاصة وأن أوتاوا تحاول أن تحافظ على اتفاقية النقل البحري الموقعة مع الصين. وتسمح تلك الاتفاقية لحاملات النفط الصينية وغيرها من سفن النقل البحري الأخرى بالمرور عبر مياه القطب الشمالي.
وليست تركيا -وفقًا للتقرير-بعيدة عن تلك المعادلة، حيث تحاول هي الأخرى الحفاظ على الروابط الأمنية مع الصين، خاصة بعد توقيع الاتفاقية الأمنية بينهما لمواجهة "التطرف الإسلامي" في إقليم شينغيانغ الذي تقطنه أقلية الإيغور المسلمة ذات الأصول التركية.
وأمام تشتت الولايات المتحدة، لم يعد انتقادها لتجاهل بكين لقواعد النظام الدولي يجدي نفعًا. فهناك انقسام واضح في البيت الأبيض حول الموقف من الصين، بين من يريد معاقبتها على خرقها قواعد النظام الدولي مثل "لو دوبس"، مستشار الأمن الاقتصادي للرئيس "ترامب". أما الفريق الثاني فيضم ائتلافًا مع شركات فورد وجنرال موتورز والاتحاد الأوروبي وحكومات اليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وفريق آخر يدعو إلى ضرورة حل النزاعات في إطار سيادة الحكومات.
وهناك من العوامل ما يدعم تشكيل الصين لقواعد النظام الدولي، خاصة أن تحدي قوة بكين أصبحت تشوبه بعض عوامل الضعف. فعلى سبيل المثال، أسفر عقاب إدارة "دونالد ترامب" للشركات والبنوك المتعاملة مع إيران بالدولار في شراء البضائع والسلع الإيرانية ولا سيما النفط، عقب الانسحاب من الاتفاق النووي، عن تقوية شوكة الصين. حيث استغلت بكين تلك الفرصة لإنشاء نظام بديل للمدفوعات الدولية مقومًا باليوان الصيني واليورو والروبل الروسي، ومستهدفًا الدول الأوراسية التي تشكل العمود الفقري لمبادرة "الحزام والطريق". وقد أضعف ذلك النظام، المدعوم بالتكنولوجيا الصينية، من هيمنة الدولار على المعاملات التجارية والمصرفية الدولية. فقد استخدمت روسيا النظام الجديد لإنشاء بنوك محصنة من العقوبات الأمريكية، لاعتمادها على الدولار، وحددت لها نطاق عمل يشمل حكومات إيران وسوريا والسودان وكوريا الشمالية.
وإذا كان البعض يعتقد أن الولايات المتحدة ما زالت تملك من أوراق الضغط على الصين الكثير، وخاصة تواجدها في بحر الصين الجنوبي؛ إلا أن هذا الاعتقاد يشوبه القصور وعدم الدقة، حيث حققت بكين بعض الانتصارات الدبلوماسية من خلال الضغط على جيرانها الآسيويين لعدم القيام بأي تدريبات عسكرية مع قوى خارجية في بحر الصين الجنوبي. وحتى في حالة عدم امتثال جيرانها لتلك الضغوط، فإنهم لن يستطيعوا مجاراة الصين والمناورة معها في منطقة حيوية واستراتيجية بالنسبة لها، لارتفاع التكاليف السياسية والاقتصادية. في ظل هذه الظروف، قد تجد الولايات المتحدة نفسها بدون أصدقاء في مواجهة الصين التي تحمل رؤية جديدة لنظام دولي جديد.
زيادة الانقسامات الأوروبية
يُشير التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يُقبل هذا العام على أزمة كبيرة بسبب احتمالية تزايد نبرة الخروج من الاتحاد على خلفية الأحداث التي تقع في أوروبا الشرقية، وخاصة مع بولندا، وفي ضوء قوة شوكة اليمين المتطرف في إيطاليا.
ففي بولندا، سلم الكثير من القضاة بأن قوانين الاتحاد الأوروبي قد أضرت بشكل كبير بمسألة سيادة القانون، وخاصة في دول أوروبا الشرقية. وقد تفاقم الوضع بعد أن أقرت محكمة العدل الأوروبية، وهي الهيئة القضائية العليا في أوروبا، بعدم شرعية بعض النظم القضائية في دول شرق أوروبا.
ويُضيف التقرير أنه كان هناك تخوف من جانب دول أوروبا الغربية لسنوات من أن تنجرف دول أوروبا الشرقية المنضمة حديثًا للاتحاد إلى السلطوية مرة أخرى. وهو ما حدث بالفعل، حيث شهدت بولندا منذ وصول حزب العدالة والقانون إلى السلطة في عام 2015، تغييرًا في تركيبة المحكمة الدستورية، وزيادة سلطات الحكومة في تعيين وعزل القضاة في المحاكم الدنيا. وهو الأمر الذي دعا المفوضية الأوروبية إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات ضدها في ديسمبر 2017، بسبب انتهاكها المستمر لقيم الاتحاد الأوروبي المتمثلة في: احترام كرامة الإنسان، والحرية، والمساواة، والديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان.
وقد حاول قادة الاتحاد الأوروبي الضغط على بولندا باستخدام طرق عدة، منها تعليق حق التصويت في صنع القرار، ولكن المجر هددت باستخدام الفيتو ضد هذا القرار الذي يتطلب الإجماع. ويسعى القادة الأوروبيون، في ضوء الاتفاق على إطار مالي جديد لتدعيم الميزانية، إلى الضغط على وارسو حتى ترضح لقيم وأهداف الاتحاد.
وقد تفاقمت الأمور بإعادة الاتحاد الأوروبي النظر في برامج تمويل المناطق الأكثر فقرًا في أوروبا، وقد عارض تلك السياسة الكثير من حكومات دول أوروبا الشرقية (مثل: بولندا، والمجر، وسلوفاكيا، والتشيك، ورومانيا، وبلغاريا)، فضلًا عن قيام الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراءات مشددة ضد وارسو لتضييقها الخناق على المعارضة بإغلاق عدد من المواقع الإلكترونية والصحف المعارضة. وقد ردت بولندا على كافة الخطوات التصعيدية التي اتخذتها بروكسل، بالتهديد بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي من خلال الاستفتاء، إلى جانب عدم قبول حصتها من اللاجئين. وبعد أن كانت وارسو واحدة من أكثر الدول المؤيدة والمدافعة عن الاتحاد، تحولت إلى دولة ترغب في الانفصال. ويتوقع التقرير احتمالات ارتفاع نسبة المؤيدين للبوليكست "Polexit" في ضوء استدعاء بولندا والمجر للمثول أمام المحكمة بسبب عدم قبول حصتيهما من اللاجئين.
وفي حين تدهورت العلاقات مع بولندا، يعاني الاتحاد الأوروبي من مشكلة أخرى في العلاقة مع إيطاليا بعد تولي التحالف الشعبوي في إيطاليا مقاليد الحكم في يونيو 2018، وهو منغمس في معركته الخاصة مع الاتحاد حول موضوع الهجرة. فقد استقبلت روما أكثر من 500 ألف مهاجر في (2015-2016) دون تقديم المساعدة المطلوبة من الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى تصاعد الغضب الإيطالي، حيث طلبت روما من الاتحاد ضرورة تقاسم العبء، وهددت في حالة عدم الاستجابة بأنها سترسل مهاجريها إلى الشمال، وستخرق قواعد الميزانية الخاصة بها في الاتحاد.
ونتيجة لعدم الاستجابة المأمولة من الاتحاد الأوروبي، ارتفعت النداءات، خاصة من جانب التيارات المتطرفة مثل حركة الخمسة نجوم، إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن هذه النداءات ليست رسمية، إلا أن الحكومة الإيطالية قد اقتربت بشدة من الدعوة إليها والترويج لها.
*مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"