مربط الفرس
يبدو أن الأمر ليس بالنظرة البسيطة التي كنا نعتقدها، في بعض الأحيان نحمل الناس أكثر مما تتحمل، ونطلب منهم أن
ينخرطوا في أشياء لا قبل لهم بها؛ إنهم في الحقيقية لا يطلبون أشياء كبيرة في هذه الحياة، فقط ما يملأ بطونهم وبطون
أبنائهم، فهم لا يقترحون شيئا ولا يطلبون بديلا معينا، ولا يميزون بين البدائل، كل الأشياء ينظرون إليها بلون واحد
ويضعون لها رقما واحدا وشكلا منفردا، ولكن بملكات ومهارات فائقة. هل سألنا يوما لماذا يتخذ هؤلاء الناس هذا
الشكل الفلسفي في الحياة؟ ولماذا نحاول أن ننكر عنهم أن هذا الشكل يدخل ضمن مجال التفلسف والإبداع الخلاق؟...
إن المثقف مثله مثل السلطة، يقوم بإنكار حقوق أصلية اكتسبها الإنسان البسيط باحتكاكه اليومي بنوع من الفطنة
والذكاء والمواجهة والصبر، إنه يتعلم أو بالأحرى يكتسب كل يوم علما أو علوما في حوادث مفاجئة ويقوم بإنتاج
أساليب جديدة في كل ما يتعلمه. إن الفلاح يعرف فلسفة الغيوم وفلسفة الأرض دون أن يدرس الجغرافيا، فيقوم بكل
الاحتياطات الضرورية لحماية محصوله من غدر الطبيعة والطيور والإنسان. أليست هذه معادلات رياضية في تحقيق
المردودية؟..
البناؤون يقومون ببناء مدن بأكملها بقواعد هندسية يقومون بتطبيقها على الأرض دون أن يكون لهم علم مسبق بها؛ إنهم
يتحولون إلى صانعي المدن في غفلة من الجميع، والأمر نفسه ينطبق على العديد من الحرفيين؛ فالرجال الذين يشتغلون
في الخزف يبدو للنظرة الأولى أنهم يقومون بعملية بسيطة وسهلة للغاية، ولكن إذا عزمت على قضاء يوم واحد لمتابعة
كل الخطوات التي مر منها هؤلاء الصناع في مجال الخزف فإنك ستصاب بالدهشة من العبقرية التي يمتلك هؤلاء
الفنانون في إخراج المادة من باطن الموت إلى سطح الحياة. قد لا تستطيع تصديق الأمر، ولكنك ستشعر بالحرج
وتتسلل هاربا وأنت تقول مع نفسك: "يا الله إنهم يصنعون أشياء كبيرة"، فتعترف لنفسك بأن العلم لا يولد في المدارس
والجامعات، وإنما كذلك في الأفران المشتعلة بالنيران والجمرات.
ها أنت وجها لوجه مع تجربة علمية جديدة، هل تستطيع أن تصرح يوما في لقاء من اللقاءات العلمية وتقول إن العلم لا
يوجد فقط في الكتب ومدرجات الجامعة ومختبرات البحث العلمي؟ بالتأكيد لن تستطيع، لأنك تحتاج إلى مهارات
ومعارف كبرى لإثبات ذلك. وهنا مربط الفرس....
المثقف لا يمكن أن يستدل سوى بما تعلمه في حجرات الدرس، أو سرقه من صفحات الكتب، أي إنه يعيد تكرار ما قاله
وعاشه الآخرون، فهو بصيغة أخرى خارج عن حقيقة العلم وصفائه، ولكنه دائما يقدم نفسه دون حياء الوارث الحقيقي
لهذا العلم، فيقوم بإنكاره على بسطاء الناس، ويحاول بكل الوسائل الإيديولوجية أن يبسط هيمنته ووصايته على كل
مجالات العلم، ولكن من شدة غبائه يقدم نفسه بصفة الأستاذ.