العلمانية والاختلاف الديني بالشرق الأوسط..
حوار مع صبا محمود
نقدّم في هذا العدد حواراً مع صبا محمود، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا بيركلي، ومؤلّفة كتاب سياسة التقوى: الإحياء الإسلاميّ والموضوع النّسويّ (The Politics of Piety: Islamic Revival and the Feminist Subject) المؤثّر للغاية، والذي أثار جدلاً كثيراً. لقد أجرتِ المقابلةَ معها الدكتورة سيدا التوج (Seda Altuğ) من معهد أتاتورك للتاريخ التركيّ الحديث في جامعة البسفور.
قدّمت صبا محمود في ١٩ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٥ محاضرةً في جامعة البسفور تحمل عنوان "حقوق الأقليّات والجيوسياسة والحوكمة العلمانيّة"، والتي كانت تستندُ -بالأساس- على كتابها الأخير الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ: تقرير حول الأقليّات، الذي نشرته جامعة برنستون في ٢٠١٥. لقد كان النّقاش راهناً للغاية بالنسبة إلى الجمهور التركيّ: حيث أضحى من البيّن تماماً؛ أنّ سياسات الحكومة التركيّة، حتى بالنسبة إلى مؤيّديها، حيال الحرب في سوريّة وفي الشرق الأوسط الأكبر كانت كارثيّة.
فقد كان يجري توجيه الانتقادات الحادّة ضدّ الحكومة "الإسلامويّة" بسبب البواعث الطائفيّة التي تكمن وراء صناعة سياساتها الخارجيّة، وانتهى النّقاش العموميّ، مرّة ثانية، في تركيا إلى أن تمّ تأطيره على محور العلمانيّة في مقابل الإسلامويّة. بيد أنّ نقاش "محمود" إنّما هدفَ إلى استشكال هذا الثنائيّ نفسه، ونبَّه الجمهور العلمانيّ في معظمه بأنّ للعلمانيّة -بوصفها مكوِّناً للعقلانيّة السياسيّة الليبراليّة- مخاطرها الخاصّة بها.
والحال أنّ الكتاب الذي استند النّقاشُ إليه ليَفي بمهمّة رئيسة وجدّ صعبة، بل ومَهيبة في واقع الأمر: ألا وهي مهمّة نقد العلمانيّة في خضمّ النقاش المتواصل دائماً والصاخب الذي يزعم أنّ "العلمانيّة" هي علاجٌ لأمراض الشرق الأوسط كمنطقةٍ وللإسلام كدينٍ. ولا ريب أنّ "محمود" لا ترغب في إنكار أو إهمال المكاسب السياسيّة التي أُنجِزتَ بممارسة العلمانيّة، غير أنّها تشير إلى أنّ هذه الممارسة بحاجة إلى أنْ تُخضع لجينالوجيا نقديّة؛ كي نرى ما هي بنى السّلطة التي تمكِّنها، وما هي الآثار التي تُنتجها.
حيث تُحاجج "صبا" بأنّ العلمانيّة يجب أن تُحلَّل -كجزءٍ- مشروع الحوكمة الليبراليّ العالميّ ويجب، كذلك، أن يتمّ استشكالها ونقدها في الوقت نفسه مع الإحداثات المماثلة للعقلانيّة السياسيّة الليبراليّة، مثل مفهوم السيادة وممارستها. لا يقدّم اشتغال "محمود" إجاباتٍ يسيرة؛ لكن يكمن وعده ههنا: فاشتغالها يدعونا ويتحدّانا لإعادة التفكير في المقولات التي نَعْقِل ونفكّر بها في الشرق الأوسط. وإنّ تحديّاً كهذا لأمرٌ جوهريّ لأيّ اشتباكٍ تقدميّ مع السياسة.
تُفصّل "صبا"، مجيبةً على أسئلة سيدا التوج، في هذه النقاط، وتناقش كتابَها الأخير، وتربط حججها في هذا الكتاب بالخطّ العام للمعرفة التي أنتجتها إلى الآن. وفي وقتٍ لا يزال الشرق الأوسط مشتعلاً فيه مرّة ثانية وتصاعدَ خطر العنف الدينيّ إلى مراحل تاريخيّة جديدة، فإنّ عمل "محمود" يَهمّ أيّ أحد معنيّ، حتى ولو عن بُعدٍ، بالشرق الأوسط والإسلام ككلّ. لذلك نأملُ ونعتقدُ أنّ هذه المقابلة ستكون ذات نفعٍ لكافّة قرّائنا. ونودّ بالأخير أن نشكر، كفريق تحرير، إيمن فيسك لمساعدتها لنا في ترتيب هذه المقابلة مع صبا محمود، وأن نشكر سيدا التوج لإجرائها المقابلة.
نصّ الحوار
السؤال الأول
يتعلّق سؤالي الأوّل لكِ باشتغالك الفكريّ. إذ أجدُ من الرّائع أنَّكِ، كمؤرّخةٍ، عملتِ وشكّلتِ حواراً موضوعين مختلفين بالكليّة؛ أي الإسلام ومسألة الأقليّات، فلكلّ موضوع منهما نقاشاته وأرشيفاته، وأنظمة الحقيقة الخاصّة به، وذلك بالإضافة إلى التقاليد التأريخيّة المتعارضة تقريباً. فهل تتفضّلين بإخبارنا حول رحلتكِ الفكريّة وكيف تربطين بين هذين المشروعين؟
صبا محمود: تتصّل أسئلتي في هذين الحقلين الدراسيين ببعضهما البعض، ولكنّها مختلفة في نواحٍ كثيرة. في كتابي الأوّل، سياسة التقوى، دفعتني مجموعة من الأسئلة النظريّة حول طبيعة السياسة التي تجعلها الحركاتُ الإسلامويّة ممكنةً، وكيف أنّ هذه الحركات تتحدّى افتراضاتنا عن العلاقة بين الإيتيقا والسياسة، وتصوّرات الحريّة والفاعليّة، والسياسة النّسويّة. أمّا في كتابي الذي نُشر مؤخراً بعنوان الاختلاف الدينيّ في عصرٍ علمانيّ، فأعتني بأسئلة سلطة الدّولة، والقوميّة، والعلمانيّة، وإرث الحكم العثمانيّ والكولونياليّ في إدارة الأقليّات الدينيّة في الحقبة الحديثة. ورغم هذه الخلافات، فإنّني أهدفُ في كلا المشروعين إلى الافتراضات السائدة في النّظريّة السياسيّة الليبراليّة عما يؤسِّس النضال الإيتيقيّ والسياسيّ في عالمنا اليوم.
السؤال الثاني
أنتِ واحدةٌ من باحثين قلائل يشتبكون مع الخصوصيّة التاريخيّة والأنثربولوجيّة للشرق الأوسط بينما يطوّرون، في الوقت نفسه، أدواتٍ نظريّة ومفاهيميّة لتحليل هذه المادّة. فهل يمكن أن تحدثينا عن طرق اشتباكك مع التاريخ؟
تؤمن صبا محمود إيماناً جازماً بأنّه ما من معجمٍ تحليليّ أو نظريّة مبرَّأة من التاريخ: إذ تنبني دائماً على فهمٍ معيّن للتاريخ الإنسانيّ، أو لماهيّة الإنسانيّ.
صبا محمود: أعتقدُ أنّ التاريخ مهمّ جدّاً لأن نفكّر فيه. وأؤمن إيماناً جازماً بأنّه ما من معجمٍ تحليليّ أو نظريّة مبرَّأة من التاريخ: إذ تنبني دائماً على فهمٍ معيّن للتاريخ الإنسانيّ، أو لماهيّة الإنسانيّ. وتقع على هؤلاء الذين يشتغلون على الشرق الأوسط مهمّة مزدوجة: وذلك بأنْ يحجّموا التاريخ الأوروبيّ الذي يأخذه منظّرون شتّى كأمرٍ مفروغ منه إلى محلّيته، وأنْ يستكشفوا كيف يجب تطوير مفاهيمنا النظريّة لتحليل التطوّرات في الشرق الأوسط. لذلك إذا أردنا فعلاً أن نشتغل على "نظريّة"، فعلينا -إذن- أن نفكّر في المادّة التاريخيّة والافتراضات المُضمَّنة فيها من الأساس.
السؤال الثالث
بالضبط. جعلتني القراءة عن الأقباط في كتابكِ الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ أن أستدعي عمل أسامة مقدسي حول الطائفيّة وحجّته القائلة إنّ الطائفيّة هي سؤال الدين والحداثة فعلاً. ويدّعي مقدسي بأنّ الهويّات الطائفيّة أُنتِجَت في جبل لبنان بالقرن التاسع عشر، في خضم الإصلاح العثمانيّ والانتهاك الأوروبيّ المتزايد، وذلك عبر علاقةٍ مُعاد تشكيلها بين الدين والسياسة. وتحاججينَ أنتِ، في سياقٍ مماثلٍ، بأنّ الاختلاف الدينيّ خُلِق وأنتِجَ على يد الدّولة، والتي هي المنظّم والمُنتِج للاختلاف الدينيّ. هل بمقدورك أن تفصّلي في هذه النقطة؟
صبا محمود: من الواضح أنّ عمل أسامة مقدسي مهمّ جدّاً في الكشف عن مسألة كيف حدثت الطائفيّة الدينيّة في لبنان. وأنا لا أستعملُ مصطلح الطائفيّة في عملي؛ لأنّني غير متأكدّة إذا كان مصطلحاً ناجعاً كأداة تحليليّة للتفكير في الدور الذي لعبته العلمانيّةُ الحديثة في استفحال الصراع الدينيّ. كما أنّني أعتقدُ أنّه مصطلح يفشل في إلقاء الضوء على التشابهات البنيويّة التي توجد في الكيفيّة التي يتمّ بها إنتاج الأقليّات والتعامل معها في ظلّ نظام الدّول-الأمّة الحديثة عبر التوزيعات الجغرافيّة؛ بين الشرق الأوسط وأوروبّا وأمريكا على سبيل المثال.
السؤال الرابع
مثل ماذا تحديدا؟
صبا محمود: حسناً، مثلاً التعامل مع السّود والأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة، والتعامل مع اليهود في أوروبّا القرن العشرين أو مع المسلمين حالياً. وبالتالي، بينما أعتقد أنّ الطائفيّة قد تكون مصطلحاً ناجعاً في وصف نوعٍ محدّد للنموذج التوافقيّ لتوزيع السلطة السياسيّة في لبنان، فإنّني لستُ متأكدّةً من نجاعته في كثيرٍ من السياقات الأخرى التي كنتُ أحاولُ أن أفكّر فيها في كتابي الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ.
فقد اعتنيتُ، في كتابي هذا، بالتفكير في كيفيّة إنتاج الأقليّات، لا سيّما الأقليّات الدينيّة، تاريخيّاً في ظلّ نظام الدّول-الأمّة الحديثة، وكيف أنّ العلمانيّة ينتهي بها الحال للعمل ضدّ هدف المساواة بحدّ ذاته الذي قد عمّمته على نطاق شامل، للمرّة الأولى في التاريخ البشريّ. لقد أردتُ أن أفهمَ كيف أُديرت الاختلافات الدينيّة تاريخيّاً في ظلّ الأنظمة السياسيّة المختلفة، وأنْ أفهم التناقضات والمفارقات الفريدة من نوعها التي تطارد التدبير الليبراليّ العلمانيّ للاختلاف الدينيّ في الحقبة الحديثة.
السؤال الخامس
ساعد التاريخُ العثمانيّ المتأخّر "صبا" على توضيح أنّ اللامساواة الجيوسياسيّة (بين أوروبّا والشرق الأوسط) قد بَنْيَنت نشوء العلمانيّة وتطوّرها في المنطقة (غيتي إيميجز)
تتحدّثين، في مقدّمة كتابك الاختلاف الدينيّ، عن الاختلاف بين النموذج الإمبرياليّ لإدارة الاختلاف الدينيّ وبين المفهوم الليبراليّ للتعدّديّة. فهل بمقدورك التفصيل في هذه النقطة؟ لا سيّما الاختلافات بين الطرق التي تمّ التعامل بها مع سياسة الاختلاف الدينيّ في الإمبراطوريّة العثمانيّة والدّولة-الأمّة الحديثة. يسوغ النموذج الليبراليّ الاستقلاليّة المِليّة من حيث المجموعات في مقابل الحقوق الفرديّة، في حين أنّ الاستقلاليّة المليّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة -وليس فقط العثمانيّون، وإنّما في الإمبراطوريّات الكلاسيكيّة بشكل عامّ- تمّ تسويغها عبر نظامٍ سياسيّ كان الاختلاف الدينيّ أمراً أساسيّاً فيه، ولم يهدف العثمانيّون إلى تحويل اختلافهم إلى تجانس. فماذا يمكن أن تقولي في هذا الصدد؟
صبا محمود: أتفقُ مع التوصيف الذي قمتِ به لتوّك. لكن من المهم أن أوضّح لماذا أشتبكُ في كتابي الاختلاف الدينيّ في عصرٍ علمانيّ مع جوانب بعينها من التاريخ العثمانيّ. أولاً، لقد أردتُ أن أتتبّع عقلانيتيْن سياسيتين مختلفتين، لكلّ منهما أشكالها المميّزة من العنف واللامساواة، وذلك لتوضيح سبيلين مختلفين من سبل معالجة الاختلاف الدينيّ ضمن كيانٍ سياسيّ ما.
ثانياً، اعتنيتُ بكيفيّة استمرار جوانب محدّدة من التدبير العثمانيّ لمسألة الاختلاف الدينيّ في الوقت الحالي، وإنْ يكن بشكلٍ مُبدَّل بصورة كبيرة؛ فعلى سبيل المثال، يُعدّ الفصل الذي يدور حول قانون الأسرة المرتكز إلى الدين تفصيلاً لهذا الموضوع. ثالثاً، ساعدني التاريخُ العثمانيّ المتأخّر على توضيح كيف أنّ اللامساواة الجيوسياسيّة (بين أوروبّا وما يُسمّى الآن الشرق الأوسط) قد بَنْيَنت نشوء العلمانيّة وتطوّرها في المنطقة. وعليه، كانت هذه الجوانب المحدّدة من التاريخ العثمانيّ مثيرة للاهتمام بالنسبة إليّ كي أفكّر من أجل فهم الخصيصة النّظريّة للعلمانيّة الحديثة في الشرق الأوسط.
السؤال السادس
لقد حاججتِ بأنّ الدّولة-الأمّة الحديثة تختلفُ عن الدّولة الإمبرياليّة. وبالتالي، هناك تمايزٌ في الأدبيّات بين الدّول الأمّة الأوروبيّة الغربيّة الليبراليّة، وبين الدّول السّلطويّة اللاغربيّة؛ من حيث الطريقة التي تدير بها الاختلافَ الدينيّ. إنّك لتحاججينَ ضدّ هذا التمايز. فلماذا وكيفَ؟
صبا محمود: نعم، أعتقدُ أنّ التفرقة الصارمة المنصوبة بين الدّول الليبراليّة والسّلطويّة؛ هي تفرقةٌ غير ناجعة؛ لأنّها لا تعالجُ بصورةٍ كافيةٍ نمط الحكم السياسيّ الذي يتمّ تقاسمه عالميّاً عبر الانقسام الجغرافيّ بين الدّول الغربيّة واللاغربيّة.
لِنفكِّر مثلاً حول ما يجري في ظلّ الأمن القوميّ في أمريكا الشماليّة أو في أجزاء من أوروبّا، حيث انتُهكَت كافّة أنواع الحريّات المدنيّة والحقوق الدستوريّة واستهزأت رقابة ضخمة من حقّ الخصوصيّة. هل يمكننا -بالتالي- أن نقول إنّ هذه الدّول ليست بدولٍ ليبراليّة حقّاً، أم الأمر -بالأحرى- هو أنّ التفرقة الصارمة التي نقيمها بين الأشكال الليبراليّة والسلطويّة للحكم؛ هي أكثر مساميّة في الواقع بكثير؟ إنّ استعمال السّلطة السياسيّة لتعليق القانون هو جزء لا يتجزّأ من البنية المعياريّة للشرعيّة الليبراليّة، كما حاججَ "فالتر بنيامين" و"كارل شيمت" و"جورجيو أغامبن". وعليه، فإنّني معنيّة بسَبْر العقلانيّة السياسيّة المشتركة عبر الدّول (الشرق والأورو-أمريكيّة). ولا يعني هذا أنّ الاختلافات ليست مهمّة، ولكن هذه الاختلافات بحاجةٍ إلى التفكير فيها عبر نموذج الحوكمة الذي هو أيضاً مشتركٌ عالميّاً.
ثانياً، أودّ القول إنّ هذه التفرقة بين الدّول الليبراليّة والسّلطويّة تؤطّر تاريخَ منطقةٍ بأكملها من العالم؛ باعتباره استثناءً عن مَدّ الليبراليّة، والتي من المفهوم أنّها مشروع أورو-أمريكيّ بصورة واسعة. وعلى إثر ذلك، نادراً ما تُحلَّل كثيرٌ من المفاهيم الليبراليّة والمؤسّسات والعقلانيّات السياسيّة التي حوّلت الشرقَ الأوسط؛ باعتبارها جزءاً من تاريخ الليبراليّة. دعونا نتناول، على سبيل المثال، المثاليّة الليبراليّة العلمانيّة للمساواة الدينيّة. فهي، في الحقبة الحديثة، مَطمحٌ ومفهوم قانونيّ على حدّ سواء يوجّه شتّى القوانين والمؤسّسات في الدّول الشرق أوسطيّة.
حتى إنّ الدّول الأكثر سلطويّة -مثل سوريّة والعراق البعثيتيْن، والمملكة العربيّة السعوديّة، وإسرائيل- لتدعو إلى تعزيز المساواة الدينيّة بشكلٍ أو بآخر. وعندما لا تقوم هذه الدّولة بذلك، فيتمّ إخضاعها إلى نقدٍ من قبل النّشطاء دوليّاً ومحليّاً. بمعنى آخر، حوّل المفهوم القانونيّ للمساواة الدينيّة، باعتبارها حقّاً مدنيّاً، بعمقٍ الكيفيةَ التي تُصوَّر اللامساواة الدينيّة ويُتنازَع عليها بها في الشّرق الأوسط. ويحتاجُ هذا التحويل والنّزاع إلى أن يُفهَم كجزءٍ من تاريخ العلمانيّة الليبراليّة في الشّرق الأوسط.
يُعدّ كتاب سميرة إسمير الذي يحمل عنوان إنسانيّة قضائيّة (Juridical Humanity) محاولة لافتة جدّاً للتفكير في هذا الإشكال. وتقول حجّتها إنّه يتوجّب علينا أن نذهب إلى المستعمرات، لا سيّما تبنّي القانون الوضعيّ في مصر الكولونياليّة، للتفكير فعلاً حول ما يؤسّس الإنسانيّ في القانون الليبراليّ. وبدلاً من التعامل مع القانون الكولونياليّ كشذوذ عن الشرعيّة الليبراليّة، تحلّل سميرة بدلًا من ذلك الأرشيفَ الكولونياليّ للتساؤل حول ما يعلّمنا حول طبيعة القانون الليبراليّ.
السؤال السابع
أودّ الآن أن أنتقل إلى معنى الحريّة الدينيّة. إذ ليست الحريّة الدينيّة، كما حاججتِ في كتابكِ، دالّاً مستقرّاً: فهي تعني أشياء مختلفةً لأناسٍ مختلفين. أضف إلى ذلك، قام ترويج الحريّة الدينيّة على أجندة الدّولة-الأمّة بالإضافة إلى الدّولة الكولونياليّة. لذلك فإنّ الحريّة الدينيّة ليست مقولة قضائيّة فحسب، وإنّما -أيضاً- تقنيةً للحوكمة القوميّة والدّوليّة. على هذا النحو، بأيّة طريقة تظنّنينَ أنّها قد توفّر أو قد لا توفّر حماية الأقليّات؟
صبا محمود: إنّ حجّتي حول الحريّة الدينيّة هي جزءٌ من الفحص الأكبر للمَهمّة الحديثة للعلمانيّة السياسيّة في مصر عبر مأسسة خمسة من أفكارها الأساسيّة: الحقوق السياسيّة والمدنيّة، والحريّة الدينيّة، وحقوق الأقليّات، والنّظام العام، والتفرقة القانونيّة بين العموميّ والخصوصيّ. وكما أحاججُ في الكتاب، تنبعث الخاصيّة المحتومة للعلمانيّة جزئيّاً من بنية الدّولة الليبراليّة الحديثة التي تَعِدُ بتهديم أشكال التراتبيّة ما قبل الحديثة لخلْق كيانٍ سياسيّ؛ حيثُ من المفترض أن يُعامل كلّ المواطنين فيه على قدم المساواة في نظر القانون.
وربّما نذكر أنّ هذا الوعد كان مرتبطاً بنقدٍ تأسيسيّ لتفاوت نسبيّ وبإعادة معايرة (recalibration) لأشكال الانتماء الخصوصويّة. وقد توجّب على الذّات السياسيّة الحديثة أن تُخضغ الولاء من دينها ومكانها وعشيرتها إلى الدّولة القوميّة. وفي القرن التاسع عشر، بدّل الوعدُ التحرّريّ بالمساواة السياسيّة والمدنيّة الكيفيّة التي غدت تفهم بها الرّعايا المسيحيّون للإمبراطوريّات الإسلاميّة أنفسها فيما يتعلّق بالدّولة..
ولم يعد الأمر موجّهاً لأن يبقوا غير متساوين بحكم عقيدتهم، فقد وعد الانضمام في الكيان السياسيّ الحديث بالسماح لهم بالوقوف على قدم المساواة مع المسلمين. وقد تمثّل البُعد الأساس لهذا التحوّل في الإعداد القانونيّ والسياسيّ لانقسام العموميّ-الخصوصيّ، والذي كان مصدرًا هامًاً لإعداد تمايزاتٍ حديثة أخرى مثل العلمانيّ/ الدينيّ، المدنيّ/ السياسيّ، المحدود/ الكلّي.
وحينما حاول المسيحيّون الأقباط في مطلع القرن العشرين أن يجدوا أنفسهم في هذه اللغة المجرّدة للمواطنة، فإنّ مسيحيّتهم طرحت مشاكل أساسيّة، وإن كانت مشاكل مألوفة. فقد كان تحرُّرهم مرتكزاً إلى استعدادهم لخصخصة مسيحيّتهم، وذلك بالأساس لأنّ اختلافهم الدينيّ تمّ اعتباره أمراً غير ذي صلةٍ بوضعهم العموميّ والسياسيّ والقانونيّ. وقد مضى هذا التقييد للمسيحيّة القبطيّة بمجال خصوصيّ حذو النّعل بالنّعل مع إبقاء الإسلام باعتباره الهويّة الجماعيّة للأمّة.
والحال أنّ قراءة متأنّية لمذكّرات اللجنة التي كُلِّفت بصياغة الدستور المصريّ الأوّل عام ١٩٢٣ لتظهر التحدّي المستحيل الذي واجه كلَّ الأطراف؛ من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، وعلمانيين. ونظراً إلى التفاوت الدينيّ الذي سادَ في المجتمع المصريّ والمَيل الأكثرويّ للبرلمان، فقد اقترحَ بعض واضعي الدستور بأنه يجب منح الأقليّات تمثيلاً نسبيّاً، وذلك كأداةٍ لحفظ صوتهم في الحكومة. بيد أنّ مثل هذا الحلّ بدا أنّه يعزّز الاختلافَ الدينيّ في لُبّ النظام السياسيّ الذي تحاشى التفرقات الدينيّة.
فمن ناحية، تعني المساواة السياسيّة والمدنيّة أمام القانون أنّ الدولة عليها أن تكون غير مكترثةٍ بالانتماء الدينيّ لمواطنيها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، بواقع أنّ الاختلافات والتراتبيّات الدينيّة قد بَنَت المجتمع، فقد طُلبَ من قانون الدّولة أن يدير ويعالج هذه الاختلافات والتراتبيّات. وكيفَ يمكن لدولةٍ سعت إلى إزالة التراتبيّة الدينيّة أن تقوم بذلك دون جعْل الاختلاف الدينيّ جزءًا من معجمها السياسيّ؟ وقد انبثقت المعضلةُ الثانية من العلاقة الدائريّة بين الأمّة والدّولة..
فهل كانت الدّولة متعالية على الأمّة أم أنّ الأمّة هي التي شكّلتها؟ وإذا كانت الأمّة قد شكّلت الدّولة، فهل يجب -إذن- على قانونها ألّا يعكس خصوصيّتها الثقافيّة والدينيّة والإثنيّة؟ إذ أحاطَ المشكل التقنيّ لتمثيل الأقليّة النسبيّ، فيما يبدو بواقع الأمر، السؤالَ الأكثر عمقًا المتعلّق بكيفَ يمكن تدارك التفاوتُ الدينيّ في دولةٍ من المفترض فيها أن تكون قوانينها غير مكترثةٍ بالدّين؟ وعلى إثر مواجهة كلّ هذه المعضلات، فقد رُفضت كافّة المقترحات لتأمين الحقوق الخاصّة والحماية للأقليّات من المسلمين وغير المسيحيين على حدّ سواء، وذلك لصالح لغةٍ مجرّدة للمساواة في دستور ١٩٢٣. ومن اللافت أنّه بعد الإطاحة الشعبيّة بالنّظام المباركيّ، عندما تجادلَ المصريّون مرّة أخرى حول مسألة التمثيل النّسبيّ للأقليّات في ٢٠١٢، فإنّ أسئلة مماثلة سيطرت على النّقاش؛ وهي صدى يشهد على المفارقات البنيويّة التي لا تزال تطارد الوعدَ العلمانيّ بالمساواة الدينيّة اليوم.
ومن المغري أن ننظر إلى الصعوبات التي واجهها المصريّون في تأسيس حقوق الأقليّات كقصّة محدودة خاصّة بالمجتمعات الإسلاميّة. إلّا أنّه حريّ بنا أن نفكّر -نقديّاً- في التحدّيات البنيويّة التي تواجهها معظم الأقليّات الدينيّة داخل إطار الدّولة-الأمّة، ليس -فحسب- في الشرق الأوسط، ولكن -أيضاً- في المجتمعات الأوروبيّة الغربيّة التي تُعتبَر كبراديغمات لليبراليّة العلمانيّة.
السؤال الثامن
أنتقلُ الآن إلى كتابكِ الرّائد سياسة التقوى وربطه بكتابك الجديد. تحاججينَ بأنّ الدين والعلمانيّة متشابكان وأنّهما يزجّان بعضهما البعض. فهل تتفضّلين بتوضيح الطرق التي تحوّل بها العلمانيّةُ الحديثة الهويّةَ الدينيّة والعلاقات البين الدينيّة؟
صبا محمود: هناك تغييراتٌ كثيرة شاركت في تحويل الدين من الحقبة ما قبل الحديثة إلى الحقبة الحديثة. إحدى هذه التغييرات التي كنتُ معنيّة بها في كتابي الجديد؛ هي التفكير في كيفَ أنّ الهويّة الدينيّة غدت تُرسَم على الهويّة القوميّة، وكيف أنّ ذلك -بحدّ ذاته- قد حوّل العلاقات البين دينيّة في الجماعات والطوائف.
السؤال التاسع
وهذا بالضبط ما كنتُ أطلب منكِ أن تستفيضي فيه.
صبا محمود: أعتقد أنّه بمجرّد أن يحدث هذا، فإنّنا نكون في عالمٍ مختلفٍ جدّاً عن ذي قبل. لذلك في الحقبة العثمانيّة، على سبيل المثال، فكونك مسلماً أو مسيحيّاً لا يُحدّد على دولةٍ-أمّة مُحدَّدة إقليميّاً. إذ كان بمقدورك أن تكون أرثوذكسيّاً يونانيّاً دون أن تكون "قوميّاً يونانيّاً" بالمعنى الحديث للمصطلح. ولذا؛ فإنّ ائتلاف الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة مع الأمّة اليونانيّة هو تركيبة لتشكّلين مختلفين تماماً.
السؤال العاشر
تتعلّق نقطتي بالفعل بالعلاقة بين الولاءات الدينيّة والعلمانيّة، وكيفَ أنّ هويّة المرء الدينيّة يُمنح المعنى لها فقط في وجود الانتماءات العلمانيّة الأخرى.
صبا محمود: حسناً، لن أقول إنّ الدين في الحقبة الحديثة يصبح محور الهويّة الوحيد، لأنّ لدينا بطبيعة الحال هوياتٍ موصولةً تؤلّف سماتٍ مختلفة مع بعضها البعض، مثل الهويّة الكرديّة-التركيّة والبربريّة-الجزائريّة على سبيل المثال.
ومع ذلك، فإنّ الاستثنائيّ في الحقبة الحديثة هي الطريقة التي غدا يُرسَم بها الدينُ أو الإثنيّةُ على الهويّة القوميّة. وليس هذا الحالُ فقط في الشرق الأوسط، وإنّما في أوروبّا بالمثل. مثلاً، لم تتجاوز الهويّةُ الأوروبيّة العلمانيّة المسيحيّةَ: فإنّها، على العكس من ذلك، تسلّم بالمسيحيّة باعتبارها الأساس الذي تنبثق منه الهويّة الأوروبيّة العلمانيّة. وكثيرٌ من المنظّرين البارزين -مثل "تشارلز تايلر" و"مارسيل غوشيه" و"يورغن هابرماس"- ليتناولون التراث المسيحيّ لأوروبّا على أنّه حاسمٌ في ميلاد العلمانيّة بحدّ ذاتها. وهذا راجع جزئيّاً إلى أنّ العلمانيةَ جزءٌ لا يتجزّأ من ترسيخ الدّولة-الأمّة بوصفها الشكلَ السياسيّ الأساسيّ في الحقبة الحديثة: فكلّ المطالبات بالسيادة الشعبيّة بحاجةٍ إلى أن تؤسَّس في لغةٍ وتاريخٍ وثقافةٍ ودينٍ مشتركٍ تتطابق كلّها مع الحدود الإقليميّة.
ويتمثّل المثال الأوضح بالطّبع على ذلك في دولة إسرائيل. فقد كانت هناك حركتان مختلفتان جدّاً بين اليهود قبل الهولوكوست. حاججت إحداهما بأنّ السبيل الوحيد أمام اليهود هو ضمانة دولة-أمّة يهوديّة؛ من شأنها أن تكفلَ أمن الشعب اليهوديّ، وهذه هي الحجّة الصهيونيّة. أمّا الأخرى، فحاججت بأنّ الشعبَ اليهوديّ شتاتٌ يعتمدُ بقاؤهم على تحسين الظروف الأوروبيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لليهود الأوروبيين، ودمجهم في المجتمع الأوروبيّ السائد.
وكما نعلم، لم تَسدْ هذه الرؤية الثانية، وذلك في جزء كبير منه؛ لأن الفكرة القائلة بأنّ الشعبَ لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة إلّا إذا كان لديهم دولة-أمّة خاصّة بهم؛ كانت مهيمنة في ذلك الوقت. وكما تلاحظ حنّا أرندت، فإنّ مفاهيم الأمّة -أي الشعب- والدّولة أصبحت في هذه المرحلة مؤتلفةً معاً لدرجة أنّ السيادةَ الشعبيّةَ أصبحت الوسيلة الوحيدة التي يتخيّل عن طريقها شعبٌ ما تحقيقَ نفسه بها. وبالمناسبة، كانت هذه الحجّة حاسمة -أيضاً- في نشوء الحركات المعادية للكولونياليّة ونجاحها في نهاية المطاف.
السؤال الحادي عشر
مواصلةً مع كتاب سياسة التقوى، فإنّ أحد الانتقادات التي وُجهّت ضدّ كتابكِ هو أنّ الكتاب يقاوم كَوْنَنة (universalization) [فكرة] الحريّة، وينأى بسياسة النّسويّة عن السياسة التقدميّة، ويدّعي أنّه يجب أن يكون هناكَ تغييرٌ راديكاليّ في الفهم النِّسويّ للفاعليّة (agency). فهل بمقدورك أن تردّي بإيجازٍ على انتقاداتٍ كهذه للنسبيّة الثقافيّة والتغيّر في الفهم النّسويّ للفاعليّة والسياسة النّسويّة؟
صبا محمود: أعتقدُ أنّ هناك إساءات فهم متعددة في قراءة للكتاب. وتتمثّل إحدى هذه الإساءات في أنّ ما أقوله هو أنّ السياسة النّسويّة يجب فصلها عن السياسة التقدميّة. إذ لم أحاجج بذلك على الإطلاق. وأظنّ أن من السخافةِ بمكانٍ أن أحاججَ بمثل ذلك. فأنا نفسي لا أمارسَ سياسةً نسويّة منفصلةً عن السياسة التقدميّة، فلماذا أصفُ ذلك للآخرين؟ ما حاججتُ به في الكتاب هو أنّ النّسويّة ليست مشروعاً سياسيّاً فقط، وإنّما مشروع تحليليّ أيضاً، وهناك فارقٌ بين الاثنين. ولا يعني هذا أنّ أحدهما جيّد والآخر سيّئ، أو أنّ أحدهما أكثر أهميّة من الآخر. وإنّما يعني ذلك أنّ هناك توتّراً بين النّسويّة كمشروعٍ سياسيّ والنّسويّة كمشروعٍ تحليليّ؛ وذلك لأنّ الأهدافَ والجهدَ المتضمّن في كلّ منهما مختلفان.
إذ يتمثّل هدف السياسة النّسويّة في خلق عالمٍ أفضل للنّساء، والذي يكون أكثر إنصافاً لهنّ. أمّا هدف التحليل النّسويّ فيتمثّل في محاولة فهم كيفَ يُعاد إنتاج التبعيّة. ويتوجّب علينا الآن، لفهم ذلك، أن نسأل مجموعةً من الأسئلة التي قد تشوّش غايات الحريّة التي تسّلِّم بها السياسةُ النّسويّةُ. وعليه، يحاول الكتاب أن يحدث فعلاً هذا التوتّر، عبر دراسة لحركات (التقوى) الدعويّة للنّساء المصريّات، لإظهار أنّ كثيراً من الافتراضات الأساسيّة للسياسة النّسويّة ليست داخلةً ضمن هذه الحركات الإصلاحيّة، أو أنّ هذه الحركات تحدّتها.
لذلك، كان السؤال الذي طرحتُه كالتالي: كيف يُعاد إنتاج تبعيّة النّساء عندما لا تقوم البنية التحليليّة نفسها التي نفترضُ أنّها نابعة منها؟ وكيف نفهم هذا الشكل من أشكال السيطرة، والخضوع، والفاعليّة؟ والآن، لا يعني طرح مثل هذه الأسئلة أن نقول إنّ السياسة النّسويّة يجب التخلي عنها. وإنّما يعني أنّه إذا كنّا معنّيين بتغيير حيوات النّساء فيما يخصّ الكيفيّة التي يُعاشُ بها الإسلام، فعلينا أن نشتبكَ فعلاً مع المصطلحات التي يُعاد إنتاج الهيمنة على أساسها. وعلينا أن نتعاملَ مع هذه المصطلحات من داخلها بجدٍّ، وليس مجرّد وصفها بالأيديولوجيا الزائفة. ويتوجّب علينا أن نأخذ هذه المفاهيم على محمل الجد ونُسائل ما التحديات التي تطرحها هذه المفاهيم على ما نفترضها نحنُ على أنها مفاهيم ورغبات صالحة كونيّاً، مثل مفهوم الحريّة ورغبة قول الحقيقة للسّلطة، أو رغبة تحقيق أقصى قدرٍ من استقلاليّة المرء الفرديّة.
السؤال الثاني عشر
لقد استفضتِ في هذه النّقطة بالفعل، لكن ألا تودّين التفصيل في الاستمراريّات بين عملك السابق وكتابكِ الأخير، بالإضافة إلى المشروع الفكريّ الأوسع الذي تعملين عليه؟ إنّ الإجابة الأخيرة التي قدّمتها فيما يتعلّق بالعلمانيّة والحاجة إلى تحليل مقولات السّلطة بعمق في سياقاتٍ محليّة مختلفة هي إجابة مهمّة جدّاً؛ لكنّي كنتُ أتساءلُ لو تستفيضينَ بصورة أكثر تحديداً في عملكِ وتخبرينا ما الاستمراريّة التي ترينها وما ترغبين في متابعته في مشاريعك القادمة ربّما في المستقبل؟
صبا محمود: إنّه من العسير دائماً أن يميّز المرء عمله. لكنّي أعتقدُ أنّ عملي مدفوع بالمشهد السياسيّ المعاصر الذي نجابهه كذواتٍ ما بعد كولونياليّة. أشعرُ أنّنا وصلنا إلى طريقٍ مسدودٍ؛ حيث إنّ المخيالين السياسيّيْن الفعّالين جدّاً اللذين اعتادا أن يكونا قادرين على خدمتنا يتعرّضان لضغطٍ متزايد. وأولاهما هي الرؤية القوميّة ما بعد الكولونياليّة المعادية للكولونياليّة التي وعدت بإنقاذنا من التبعيّة لكلّ من السّلطة الغربيّة والنّخب القوميّة، وذلك من أجل خلق مجتمعٍ أكثر عدالة وديمقراطيّة ومساواة. وثانيهما هي الرؤية العلمانيّة القاضية بأنّ الدين سيصبح أقلّ أهميّة لمجتمعاتنا في نهاية المطاف، وأنّنا سنتغلّب على التفاوتات التي أنتجها الدين وسنخلقُ مجتمعاً خلواً من التراتبيّات الدينيّة البائنة. وهذان المخيالان السياسيّان لم يتحقّقا، ولم يعودا يميّزان أفق توقّعاتنا.
يصبو مسعايَ إلى فهم كيف وصلنا إلى هنا وما الطريق أمامنا. وأعتقد أنّ الطريق أمامنا لا يمكن أن يؤسَّس على مجموعة الافتراضات نفسها التي أتت بنا إلى هنا. لذا؛ أودّ القول إنّ تحدّيَّ الأول والأكثر أهميّة لنفسي هو أن يُعاد فحص وتقييم كلّ ما أعتزّ به -من سياساتٍ علمانيّة، وسياساتٍ تقدميّة، وسياساتٍ ثوريّة، وسياساتٍ نسويّة- وذلك للتوصّل إلى ما كان في هذه الرؤى من مساوئ عميقة، والهدف الذي لعبته في خلق المأزق الحالي الذي نحن فيه، بدلاً من إلقاء اللوم على علّة خارجيّة واحدة مثل الأبويّة أو الكولونياليّة أو الجهاديّة أو الرأسماليّة. ومن المهمّ الآن أن أؤكّد على أنّني لا أقول إنّه يتوجّب علينا أن نتخلّى عن هذه المشاريع السياسيّة لمجرّد أنّها في محنة. فأملي هو أننّا قد نتحصّل، عبر فهم تداخل المشاريع التحرريّة مع تلك التي نعتبرها مضادّة لها، على إدراك أفضل لما أتى بنا إلى هنا، وهكذا قد يمكننا المضي قدماً دون تكرار أخطائنا