منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 فتح الله كولن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:35 pm

فتح الله كولن  Who-is-Fethullah-G%C3%BClen
فتح الله كولن 



 فتح الله كولن مفكر إسلامي وداعية تركي.
 ولد فتح الله كولن أو فتح الله جولان أو فتح الله غولان في 27 أبريل 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء حسن 
قلعة المرتبطة بمحافظة أرضروم، وهي قرية كوروجك ونشأ في عائلة متدينة.
 يعتبر كولن من مريدي سعيد النورسي، كما يركز في أعماله بفكرة الديمقراطية وحوار الأديان

فتح الله كولن له المئات من االمدارس والجامعات والمؤسسات في الكثير م بلدان العالم تسمى المدارس التركية 

ويمتلك 25 صحيفة.. منها صباح وتقويم وملليت ووطن وجونشن وكوزجو وجمهوريت وأناضولودا وقت وشوك وراديكال وريفنس.

ويصدر في تركيا 5844 صحيفة ومجلة.. واللافت للنظر أن المجلات الأسبوعية توزع أكثر من الصحف اليومية.. مجلة بنجوان الأكثر انتشارا توزع أكثر من ثلاثة ملايين نسخة.. تليها أكسيون التي توزع مليوناً و180 ألف نسخة.. ثم ليمان وتوزع نحو المليون ونصف المليون نسخة.

وتحصل الصحافة التركية علي 300 ــ 350 مليون دولار من التوزيع بينما تحصل من الإعلانات علي 250 ــ 280 مليون دولار.. وهو ما يعني أن القارئ يدعم حرية الصحافة أكثر من المعلن.


كانت متاعب كولن في تركيا قد بدأت في 18 يونيه 1999 عندما قال في إحدي القنوات التليفزيونية كلاما اعتبر انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة.. وحاول النائب العام فتح تحقيق فيما صرح به.. لكن.. رئيس الحكومة وقتها قرر معالجة الأمر بهدوء قاطعا الطريق علي الصحف وقنوات التليفزيون لمناقشته بأدواتها المثيرة في وقت كانت حكومته تعاني من متاعب اقتصادية هائلة دفعتها إلي القبول بانتخابات مبكرة.

لكن كولن دافع عن مؤسساته التعليمية قائلا: " إن مدارسه تنشر الثقافة التركية في بلدان العالم وبين جنسياته المختلفة وأنها في الوقت نفسه تخضع لإشراف متواصل من السلطات المختصة ".


نجح المفكر التركي، فتح الله كولن، الذي بدأ حياته واعظًا متجوّلا عبر مساجد تركيا، في التأسيس منذ سنوات لتيار "الخدمة الإيمانية"، لدرجة كرّس معها لظهور ما يُسمّى بـ"حركة كولن"، ويوجه هذا التيار ألفي مدرسة وعشرين جامعة متميزة في مختلف التخصصات منتشرة في تركيا وفي 6 قارات و160 دولة عبر العالم، والكثير من المؤسسات الإعلامية الكبيرة وحتى الاقتصادية. ويُقدّم هذا النسيج من المؤسسات خدمات جليلة لتركيا عبر نشر لغتها، والتعريف بثقافتها على أساس أنّها مكوّن رئيس من مكوّنات الثقافة والحضارة الإسلامية. ويعيش فتح الله كولن في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحظى بسمعة كبيرة هناك، ويكفي أن نقوم بنقرة واحدة باسم فتح الله كولن على الانترنت، لنحصل على مئات المواقع التي تتحدّث عن هذه الشخصية.. وأغلب هذه المواقع أمريكية، ما يدلّ على الاهتمام الكبير الذي توليه الولايات المتحدة لهذا الرجل.

في هذه الندوة، يتحدث الدكتور نوزاد صواش المشرف العام على مجلة "حراء" الموجّهة إلى العالم العربي، وهو أحد الذين تتلمذوا على يد فتح الله كولن؛ والدكتور محمد جكيب، أستاذ جامعي من المغرب ومهتمّ بفكر كولن.. وهذا للحديث عن مشروع كولن الفكري والحضاري، وعلاقة ذلك ببعض المشاريع الإصلاحية التي انطلقت في العام العربي والإسلامي، وما هي خصوصية "حركة كولن"، هذه الحركة التي انتشرت عبر الكثير من دول العالم.

الذي يطّلع على تجربة فتح الله كولن الملقّب في تركيا بـ" أبي الإسلام الاجتماعي"، يستدعي مباشرة تلك الصورة المشرقة للشيخ المصلح العلامة عبد الحميد بن باديس، مع فارق بسيط في الظروف، ومدى التأثير الذي تركه على الشخصية الجزائرية.. والسؤال: الكثير من العرب يجهلون شخصية فتح الله كولن، هذه الشخصية العابرة للحدود والقارات، إلام يعود ذلك؟ وهل تعرفون في تركيا شخصية عبد الحميد بن باديس وأثره على المجتمع الجزائري؟

نوزاد صواش:

اذهب إلى تركيا واسأل عن ابن باديس أو مالك بن نبي، ستجد قلّة ممّن يعرفهما، وهذا يعبّر عن خلل في العالم الإسلامي. هناك مشكلة ما في التعامل بين تركيا والعالم العربي خاصة. بالنسبة لفتح الله كولن، لماذا لا يعرفه العالم العربي، هناك أسباب كثيرة منها شخصيته وخلقه الامّحائي، لأنّه يحرص على الفعل وليس على القول، كما يُقدّم لسان الحال على لسان القال، وتقليل الإنجاز مهما كان ضخما لعدم الرضى بالعمل الذي تقوم به، لأنّه لا وقت لديك للدعاية والترويج لعمل تؤمن بأنه تمّ بفضل الله.

محمد جكيب:

هذا سؤال كبير، لماذا لا نعرف كثيرا عن مثقفينا؟ قد نتصوّر أنّنا في العالم العربي نعرف ابن باديس، لكن هذا ليس مؤكدا بأنّ باقي العالم الإسلامي يعرفه. في وقت من الأوقات أُريدَ لنا أن تكون هناك حواجز بيننا، ساهمت فيها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية. إذا ذهبت إلى تراث الفكر الإصلاحي، لا تجد إلا أعلامًا بعينهم، وفي نهاية المطاف هم قلّة. لم نكن كعرب نعرف شيئا عمّا يجري في تركيا، للقطيعة التي كانت بين الجانبين. ولعلّ أبرز مفكري الإصلاح الذين تمكّن العرب من معرفتهم، بديع الزمان النورسي، واليوم تبرز صورة وشخصية فتح الله كولن، ظاهر الحال يوحي أنّه غير معروف، إذا دخلناه بمفاتيح عربية، أما بمفاتيح غربية، فنجد أنّه أشهر من نار على علم. مشكلتنا في المغرب العربي، أنّنا ننتظر دائما ما يأتينا من فرنسا على الخصوص. إذا دخلت الشبكة العنكبوتية، تجد أنّ أغلب المواقع التي تتحدث عن فتح الله كولن أمريكية، وكثير منها يتكلّم عنه باحترام كبير.

إلام يُمكن إرجاع بعض خيارات هذا المفكّر، خاصة ما تعلّق منها باختياره الإقامة في الولايات المتحدة، هو يبرّر ذلك بدواعي صحية؟

نوزاد صواش:

ليس بالضرورة تحريك قصص حول وجود شخص هنا أو هناك، خاصة وأنّ كولن يملك رؤيا حضارية تجعل من الضروري أن يتواصل مع من يُمكنه التواصل معهم، الغريب أن يبقى الإنسان محصورا في بلده، وهذا مآله الانتهاء. الإنسان الكبير عندما يُنتج شيئا ذا فائدة، ينطلق به نحو العالم، كما أنّ سفرات كولن إلى الغرب عموما لها دوافع صحية، لأنّه مصاب بالسكري والقلب. وتركيا الآن لا تحتاج إلى كولن لأنّه ربّى أجيالا تتابعه باستمرار من خلال دروسه وكتبه.

محمد جكيب:

أكيد هناك دوافع صحية، والرجل ليس بطبعه مستسلما للمرض، وهو يُنتج بل خُلق لينتج. أظن أنّ أهمّ شيء يُقدّمه وهو في أمريكا، رسالته للمهاجرين أينما كانوا، ومفادها أنّ عليهم الاندماج في المجتمع بثقافتهم وهويتهم. الآن في أمريكا، حتى الأمريكيين أنفسهم، يقومون بإنجاز أفكاره مثل فكرة "شارتر سكول"، التي تقوم على أنّ الدولة تُسلّم المدرسة إلى من يُشرف عليها، على أن يقتصر دور الدولة في دفع الرواتب وتسطير المناهج، وقد نجحت هذه التجربة في بنسلفانيا، وصارت من أهمّ المدارس فيها.

نوزاد صواش:

لا تنس أيضا أنّ وجود الأستاذ فتح الله كولن بالولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، له دلالة رمزية من خلال العمل الإيجابي وفلسفة التواصل والتعايش مع الآخر التي جسّدها.

على أيّ أساس يبني كولن هذه النظرة؟ ثانيا المغرب خاض تجربة مدارس الخدمة، ما النتائج التي تحققت من خلال هذه التجربة؟

محمد جكيب:

هناك مشكل بالنسبة للكثير من الكتّاب العرب، الذين تناولوا مشروع "الخدمة"، وهو مشروع كولن، فنجد صنفا من هؤلاء يُخطئُ الباب، لأنّ كتاباتهم متسرّعة، ولم تستوعب حقيقة ما تكتب، فوقع الخلط، وعندنا في المغرب، البعض اختلطت عليه الأمور. يوجد فرق بين من يشتغلون على الشعارات، ومن يشتغلون على تهيئة البنية التحتية، وهو ما يحتاج إلى وقت لتظهر نتائجه. إن فتح الله كولن ترك بصمته في مشروع "الخدمة". أما عن سؤال مدارس الخدمة في المغرب، فهي ككلّ المدارس التي تُطبّق المناهج المغربية. الفرق بينهما فقط في الروح التي تُطبّق هذه المناهج، والتي يميّزها الصدق.

نوزاد صواش:

المدرسة نموذج، وأصعب شيء هو وضع النموذج والرؤية لتثبت نجاعتها بعد ذلك وتتفاعل مع أهل البلد، ثم إذا رأى أهل البلد أنّ العمل نافع لهم انطلقوا فيه. مدرسة كولن تُعلّم السلوك مع القيم وتبني المجتمع، لأنها تقوم على تجسير العلاقة بين الأسرة والمدرسة. أما عن العلاقة بين السياسة والأستاذ فتح الله كولن، فإن مفهوم العمل السياسي بهذا الثوب استوردناه من أوربا، وهو قائم على الصراع. السياسة لا تجمع المجتمع، لذلك فإنّ كولن مصلح لم يختر دخول هذه الحلبة، وأراد بناء مجتمع صالح. انظر إلى تجربة الرسول صل الله عليه وسلم، تجد أنّ المجتمع المدني هو الذي بنى الدولة.

ما مدى التقاء فكر فتح الله كولن مع الفكر الإخواني الذي يُراهن هو أيضا على بناء المجتمعات؟

نوزاد صواش:

عُضويًّا لن تجد أيّ تواصل بينهما. الأستاذ كولن ينطلق من المنهاج النبوي، ويراهن كثيرا على بناء الإنسان من الداخل، وبدون ذلك لا يمكن بناء مجتمع صالح نقي. وإن التقى كولن في ذلك مع حسن البنا، وابن باديس وغيرهما من المُصلحين، فقد التقى الجميع في المنهاج النبوي.

محمد جكيب:

هذا السؤال يُطرح كثيرا، وإذا وقفت عند ما كتبه العرب، ستجد سؤالا مباشرا عن هوية "الخدمة" وعلاقتها بالإخوان، أظن بأنّ أهمّ شيء يجب الوقوف عنده هو مفهوم السياسة. فتح الله كولن، فكّر فوجد أنّ المشتغلين بالسياسة لا يمثّلون سوى ما نسبته 5 بالمئة، بينما 95 بالمئة تمثّلها باقي القطاعات، فاهتمّ بالنسبة الأكبر، وهنا يكمن الفرق. ثانيا عندما نتكلّم عن المنجَز، نجد اختلافًا أيضا.

يُقدّم البعض فتح الله كولن على أنّه صاحب التأثير الحقيقي في شخصية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ما مدى صحة ذلك؟

نوزاد صواش:

فكرة كولن في لبّها إيجابية لا صدامية، سلمية تعتمد الحكمة وعدم الاستعجال، ولا تؤمن أنّ التغيير يتمّ بجَرّة قلم. قد يكون السياسي التركي الجديد آمن بأنّ الخطاب القديم الإقصائي المُنمَّط لم يعد يصلح، فتراجع عنه لصالح الخطاب الحكيم، وفي هذه النقطة قد يكون التقى السياسي مع فكر كولن.

إجمالاً ما النتائج التي جنتها تركيا من فكر وإنجازات فتح الله كولن؟

نوزاد صواش:

لفتح الله كولن دور أساسي، تركيا كانت منغلقة على ذاتها، ولم تكن لديها ثقة بالنفس. في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بدأ كولن فتح مدارس في كلّ مكان من العالم، وهذا الانفتاح التربوي الذي دعّمه بالعديد من الوسائل الإعلامية والاقتصادية، دفع التاجر التركي الذي كان يخاف أن يخرج من قريته، إلى ارتياد العالم وكأنّه قريته. كولن هدفه مثلما ردّد دائما "إقامة سلطنة القلوب على وجه الأرض".

هل هناك مبادرات، سواء تحت قبعة الجامعة العربية، أو حتى من دول عربية منفردة، لفتح مدارس لتعليم اللغة العربية في تركيا؟

محمد جكيب:

مشكلتنا في العالم العربي في أن نتعلّم كسر القوقعة، لنخرج إلى الآخر. نحن قادرون على أن نذهب إلى تركيا وغيرها بثقافتنا. أهمّ ما نتعلم من فكر كولن، أن تعتمد على ثقافتك الذاتية، والجميل عند فتح الله كولن، أنّه لا يوجد تلميذ من تلامذته لا يفهم ولا يتكلم اللغة العربية، وحلقات الدرس عنده تتمُّ أيضا بالعربية.

نوزاد صواش:

الأتراك لا يفرضون أنفسهم على الآخرين، وإنما يستفيدون من أيّ مكان يتواجدون فيه بما في ذلك العالم العربي. المجتمع عندنا يتحرّك بنوايا صافية، والتحوُّل في تركيا هو تحوُّل مجتمعي، والسياسي يتكيَّف مع ذلك. ومشروع كولن لا ينسى بلده ليتصادم مع الآخر، هو يعتبر نفسه مسؤولا عن كلّ الإنسانية، وهو يُحاول أن يخدم شقيقه، ولا يغضّ الطرف عمّن يختلف عنه، وهو ينطلق في ذلك من فكرته ومشروعه الإنساني، حيث يقول فتح الله كولن "الإنسانية كلّها في أمسّ الحاجة إلى الإسلام"
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:35 pm

تأملات في فكر الأستاذ فتح الله كولن: عودة الروح..! 


بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
يمكن تلخيص فلسفة "فتح الله كولن" الإصلاحية، من خلال قراءتنا لكتبه ومقالاته واستماعنا لخطبه ومواعظه بكلمة واحدة وهي: سعيه الحثيث لعودة روح الأمة إليها من جديد.

ففي هذا الروح تكمن -كما يرى الأستاذ- بطولات الأمة وعبقرياتها وفتوحاتها في مناحي الفكر والحياة..

ومن غير هذا الروح تبقى الأمة في ضياع، وتظَلُّ واهنةَ النفس، جامدة العقل، جافَّة الوجدان، هزيلة الخيال؛ لا تبدع ولا تبتكر، تطلعاتها متواضعة، وآمالها قميئة، ترضى بالدون، وتقنع بالقليل، لا يحفزها المجهول، تخاف التحدّيات، وتخشى الاقتحامات، وتتجنّب التضحيات، وتَفْرَق من المغامرات، فكرها بين الأفكار ضحل، وقامتها بين قامات الأمم قزمة، بعيدة عن روح العصر، لا تدرك أبعاده، ولا تفهم لغته ولا ترى قواه المحركة، وكأنها في غيبوبة عن كل ما يحيط بها، وفي غيابَت جُبٍّ لا يمكن الخروج منه.

فالأستاذ "فتح الله" يستحث هذا الروح العظيم للعودة إلى جسد الأمة من جديد، لتدبَّ بها الحياة تسرى في عروقها وأعصابها ودمها، وإلاَّ فإنَّ تضحياتها التي قدمتها عَبْرَ القرون السالفة ستذهب سدًى، وتجري متثاقلة إلى متحف التاريخ دون أنْ تجديها نفعًا.

فاندلاع شعلة الروح ساطعةً كاشفة هي التي تحرك الأدمغة الكبيرة لكي تستولد من الأفكار ما يدفع الأمة إلى اعتمادها في شق طريقها الحضاري الجديد.

فهذا الروح إذا ما عاد ليستقرَّ في فكر الأمة ووجدانها وثقافتها، فإنها ستكون قوية بما فيه الكفاية على مقاومة مخاطر التردي والهبوط التي تهدد وجودها من كل جانب.

ومن جانب آخر يرى الأستاذ فتح الله أنَّ منجم الأمة العظيم هو ذاتها، وهذه "الذات" تخفي كنوز الأمة متجوهرةً في أبعاد غير مرئية من أغوارها.

فهذه "الذات" هي تشكيلة أكثر من أربعة عشرة قرنًا من الزمن، حيث كانت مَصَبًّا هائلاً تصبُّ فيه الأمة شؤونها الروحية والفكرية والأخلاقية والبطولية، فهذه الذاكرة لا يعتورها النسيان أبدًا حين تريد الأمة الاستذكار والاعتبار، لذا صار الكشف عن "الذات" والحفر عن كنوزها -في رأي الأستاذ- هو أولى درجات الارتقاء في سُلَّم النهوض المرجو.

فذات الأمة هي المرآة التي تعكس صورًا من روح الأمة في نضالها الارتقائي عَبْرَ العصور، فالروح والذات، هذان المصطلحان كثيرًا ما يأتيان في كتابات الأستاذ بمعنى واحد، أو يعبر أحدهما عن الآخر، أو يردف أحدهما الآخر ويقويه وسينده.

فالروح إذا عاد ليحتلَّ مكانه الأرفع من فكر الأمة، وصار العمود الأعظم من أعمدة ثقافتها، فإنها ستقوى على مقاومة التفكك والانحلال في الثقافات الأخرى، وستمتلئ ثقة بأنَّ هذا الروح هو مُدَّخر القدر لصلاح الأمم وإنقاذها من مفاسدها.

فالتعرف على هذه الأمة بتميزها، وبعلاماتها الفارقة بين الأمم يتم من خلال استكناه ذاتها، وهذا الاستكناه يظل ناقصًا من دون التعرف على روحها الذي يمدُّ هذه الذات بالخصب والحياة، ف"الذات" و"الروح" كلاهما يستعصيان على عوادي الزمن، فلا تستطيع الأزمان والأحقاب أن تغيرهما أو تزيد عليهما أو تنقص منهما، وهذا هو سرّ إخفاق كثير من المحاولات في إحداث تصدعات وشروخات ذات أثر كبير في روح الأمة وفي ذاتها، على الرغم من معاول الهدم التي لم تتوقف منذ عُرِفَ دين هذه الأمة، وعُرِفَتْ الأمة بدينها.

فالتنكر لهذين الأصلين من أصول الأمة ومجافاتهما إنما هو محاولة لنفي الأمة بعيدًا خارج سياقها التاريخي والإصلاحي، والحكم على مصيرها بالدمار والهلاك، فهذان الأصلان هما المفتاحان اللذان يفتحان أبواب الأفكار في عقل هذه الأمة، وبدونهما تظلُّ تحدق في عين الخطر دون أن تفعل شيئًا لتجاوزه.

وقد يكون الإعياء الذي نهك الأمة خلال مآسي عصورها سببًا في انهيار عزيمتها وإقدامها ولامبالياتها، وهذا هو الذي كان يؤرق الأستاذ "فتح الله"، ويعمل على علاجه كما هو مشاهد في منظومة فكره
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:37 pm

فتح الله كولن  Bilal_hassan_tel



بلال حسن التل / الأردن

كاتب وباحث وصحفي أردني.. ورئيس التحرير المسؤول لجريدة "اللواء" الأردنية.. ورئيس مركز دراسات الوحدة الإسلامية.. ورئيس المركز الأردني للدراسات والمعلومات.. وله عدة كتب، ومنها "أوجاع أردنية"..



أيام الله في تركيا - 
كتب بواسطة: بلال حسن التل 


أمضيت مؤخرًا أربعة أيام في إسطنبول، برفقة مجموعة من الزملاء الكتاب والصحفيين بضيافة تيار الخدمة الإيمانية، الذي نذر أبناؤه أنفسهم وحياتهم لخدمة دينهم لله، فكانت أيامهم لله.. فجاء الغلال وفيرًا والثمار ناضجة، وهي الثمار التي جاءت حصادًا للجهد الإيماني الذي بذله الداعية المسلم الأستاذ فتح الله كولن. ورغم قصر المدة التي أمضيناها للاطلاع على جوانب هذا الانجاز العظيم، الذي يسري في المجتمع التركي سريان الروح في الجسد، والصحة في الجسد العليل، ويفعل فعله الطيب فيه، مثلما يقدم الدليل الواضح على أن وضوح الرؤية، وتحديد الهدف، ثم الصبر على المتابعة والإصرار على تحقيق الهدف كفيل بصناعة القائد القادر على التأثير في مجتمعه بل وتغيير ذلك المجتمع ليس عبر العنف والانقلابات العسكرية ولا عبر الغرق في تفاصيل العمل السياسي اليومي، بل عبر العمل الاجتماعي والتربوي الموصول والمحدد الهدف.

لقد كانت زيارتنا لتركيا رغم قصرها غنية بحصادها، ثرية في قدرتها على إثارة التأمل في عقل المرء، والأمل في وجدانه، وعلى ترسيخ القناعات في عقله ونفسه. ومن هذه القناعات التي رسختها زيارتي الأخيرة لإسطنبول، قناعة تكونت عندي منذ زمن طويل، خلاصتها أن الإمام حسن البنّا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، لم يكن أعمق مصلحي القرن الماضي فكرًا، ولم يكن أكثرهم إنتاجا فكريًّا، ومع ذلك كان أكثرهم تأثيرًا وحضورًا في حياة الأمة، منذ عشرينات القرن الماضي. والسر عندي في ذلك، أن الرجل انتقل بتجربته من مجال التنظير، واقتصار الجهد على الوعظ والإرشاد، إلى عالم الحركة والعمل والبنّاء، والانخراط في حياة المجتمع؛ فأنشأ للإخوان صحفهم ومجلاتهم، مثلما أنشأ لهم مدارسهم وعياداتهم الصحّية. ولو ظلّت الجماعة على نَهجها الأساسي في طرح البديل الإسلامي، عبر مواصلة إنشاء المؤسسات المختلفة، لتغيّر المسار التاريخي للجماعة، ولتغيرت معه الكثير من صفحات تاريخ المنطقة. غير أن العسكرة المبكرة للجماعة، استجابة لظروف المنطقة السياسية والعسكرية، سواء في مصر وعلى شواطئ قناة السويس تحديدًا، أو في فلسطين، غيّرت مسار الجماعة إلى وجه غير الوجه الذي كان يريده الإمام المؤسس. الذي خاطب إخوانه في أواخر عمره قائلا: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعُدت بكُم إلى أيام الأسر". وأيام الأسر هي أيام التربية والإعداد، وبناء الإنسان المؤمن المتوازن. وهي في الوقت عينه أيام إنشاء المؤسسات التي تخدم المجتمع وتغيّر مساره وهويته عبر تقديم البديل الإسلامي الملموس للناس.

ومثلما ساهمت العسكرة فيما نظنّ، في تغيير مسار الجماعة، وظهور بوادر الانشقاق في صفوفها. وهو الانشقاق الذي وصل حدّ تمرد عبد الرحمن السكري رئيس الجهاز الخاص، على مرشد الجماعة ومؤسسها كما تقول المصادر، لعبت السياسة والدخول في تفاصيلها اليومية، دورًا رئيسيًّا ومركزيا في إنهاك الجماعة، خاصة عبر سلسلة الانشقاقات التي تعرّضت لها. والقارئ لتاريخ الجماعة وانشقاقاتها في كل بلد لها فيه وجود، سيجد أن المواقف السياسية، وتباينها بين أبناء الجماعة من القضايا المعروضة عليهم كانت سببا في انشقاق الجماعة، وضعفها وإنهاكها. حدث ذلك في لبنان وسوريا والأردن والجزائر، وفي كل مكان. ولعل هذا الغرق في التفاصيل السياسية قبل نضوج المجتمع، هو الذي حال بين الجماعة والوصول إلى هدفها النهائي، بل والابتعاد عنه. أعني إقامة المجتمع الإسلامي.

مناسبة هذا الحديث هي المقارنة التي قامت في ذهني بين تجربتي الإمام البنا، (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر)، وتجربة الأستاذ فتح الله كولن (مؤسس جماعة الخدمة الإيمانية في تركيا)، الأب الروحي للتيار الإسلامي الجارف في تركيا، الذي استطاع بهدوئه وصبره وبُعده عن تفاصيل العمل السياسي اليومي، أن يكون محلّ الْتقاء كل القوى السياسية والاجتماعية التركية.. الأمر الذي أهله لتحقيق انجازات عملاقة في كل ميادين الحياة، خاصة تلك التي تسهم في بناء الإنسان المسلم المؤمن، والمجتمع الإسلامي. وفي ظني أن السر الحقيقي وراء نجاح تجربة الأستاذ فتح الله كولن، يكمن في نجاح الرجل في فهم حقيقة الإسلام، وجوهره، باعتباره دين عمل وتطبيق. لذلك كان صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم، يحفظ الواحد منهم الآيات العشر من القرآن الكريم لا يبرحها حتى يفهمها، ثم يطبّقها في حياته ومجتمعه. فقد ربّاهم رسول الله على العمل استجابة لآيات القرآن التي تحث على العمل وتكره الثرثار، الذي يكتفي بشقشقة اللسان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(الصَّف:2-3).

نعم لقد فهم الأستاذ فتح الله كولن الإسلام على أنه دين عمل وإنجاز، لا دين ثرثرة وشقشقة ألسن، كما يفعل الإسلاميون العرب الذين أصموا آذان الأمة من محيطها إلى خليجها بالخطب والمواعظ، دون أن يتمكّنوا من تحقيق إنجاز يشار إليه بالبَنان في البلاد العربية. آخذين بعَين الاعتبار أن الظروف التي عمل بها الأستاذ فتح الله كولن خصوصا، والإسلاميون الأتراك على وجه العموم، أشد صعوبة بمئات المرات، من تلك التي عمل بها الإسلاميّون العرب. فكُولَن وإخوانه كانوا وما زالوا، يعملون في دولة علْمانية تُعلن عداءها السافر للإسلام، وتمنع معظم مظاهره، وتعتقل دعاته، ومنهم الأستاذ فتح الله كولن. تمامًا مثلما فعلت مع نجم الدين أربكان ومن قبله الشيخ النورسي ومن بعدهما طيّب رجَب أردوغان وغيرهم. ومع ذلك فقد استطاع الإسلاميون الأتراك تحقيق المعجزة. لأنهم أوّلاً لا يتصارعون فيما بينهم، ولا يتبادلون الاتّهامات. ولأنهم ثانيا مارسوا الحكمة في التعامل مع النظام السياسي في بلدهم. ولأنهم ثالثاً انطلقوا للعمل والبناء، ولم يتوقفوا عند حدود الثرثرة.

وفي هذا المجال يتميز الأستاذ فتح الله كولن وتيّار الخدمة الإيمانية الذي يلتفّ مِن حوله. والذي لا تجد في تركيا مجالاً من مجالات الحياة ليس فيه لهذا التيار بصمة واضحة ومؤثرة. وأعتقد أن معجزة تيار الخدمة الإيمانية بزعامة الأستاذ فتح الله كولن في المجال السياسي، أنه لم يسعَ للوصول إلى الحكم فصار هو القوة التي ترجح كفة من سيصل إلى الحكم. كما أنه صار ضمير المجتمع في الرقابة على أداء الحكومات. وهكذا فقد صار هذا الداعية الذي لم يتعاطَ السياسة يومًا، من أكبر المؤثّرين فيها من خلال تأثيره في المجتمع وتوجهاته.





قراءة في تجربة الأستاذ فتح الله كولن وتيار الخدمة الإيمانية في تركيا الجهل هو العدو الأول لنهضة الأمة
تيار الخدمة الإيمانية لم يسع إلى الحكم لكنه صار القوة التي ترجح الكفة في السياسة التركية
تيار الخدمة الإيمانية يمتلك 2000 مدرسة وعشرين جامعة متميزة في مختلف التخصصات
نجحت دعوة الأستاذ كولن في إشاعة الثقافة والمفاهيم الإسلامية في مناهج العلوم كلها
حدّد الأستاذ فتح الله كولن مبكراً، الأعداء الحقيقيين للأمة ونهضتها وهم الجهل والفقر والفرقة. فنذر حياته لمحاربة هذا التلوث الذي يفتك بالأمة. وفضل بصيرته الحادة المؤمنة جعل محاربة الجهل أولويته الأولى باعتباره من أهم العقبات أمام بناء الإنسان المسلم الملتزم، ومن ثم المجتمع المسلم النظيف المنتج، لذلك سعى إلى بناء منظومة تربوية تعليمية متكاملة، تبدأ من رياض الأطفال، وصولاً إلى الجامعة. وقد حقق تيار الخدمة الإيمانية بفضل توجيهات مرشده الأستاذ فتح الله كولن نجاحات باهرة في مجال محاربة الجهل عبر إقامة منظومة تعليمية متكاملة؛ إذ صار الآن لدى تيار الخدمة الإيمانية، أكثر من ألفَي مدرسة، منتشرة في تركيا، وعلى امتداد جغرافيا العالم، في (6) قارات و(160) دولة، من بينها الأردن. حيث يمتلك التيار المدرسة الحميدية في عمان، ويستعد مع بداية العام الدراسي القادم للتوسع في عمان وأربد، عبر إقامة أكثر من مدرسة للذكور والإناث.

يجري التدريس في مدارس تيار الخدمة الإيمانية باللغة الإنجليزية للمواد العلمية، أما المواد الإنسانية فتدرَّس بلغة البلد الذي تفتح فيه مدرسة من هذه المدارس، في حين تكون اللغة التركية هي اللغة الأجنبية لطلاب ذلك البلد. وبذلك يقدّم تيار الخدمة الإيمانية خدمة وطنية جليلة لوطنه الأم تركيا، عبر نشر لغتها والتعريف بثقافتها، التي هي مكون رئيس من مكونات الثقافة والحضارة الإسلامية. بل إن مجمل عمل تيار الخدمة الإيمانية يمثل نموذجا للوطنية، كما يفهمها المسلم، ويريدها الإسلام، الذي يعتبر موت المرء دفاعًا عن أرضه شهادة. مثلما يعتبر خدمة الناس بابًا من أبواب الإيمان والأجر لمن يقوم بهذه الخدمة. ولعل هذا الفهم لهذه الكلية من كليات الإسلام تساعدنا على فهم طبيعة وفلسفة تيّار الخدمة الإيمانية، وفهمه للإسلام باعتباره دين تكافل وتراحم بين الناس، يرحم القوي منهم الضعيف، ويكفل الغني منهم الفقير، ويخدم كل منهم المجتمع وفْق قدراته وإمكاناته، بلا تعصّب، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم لله أنفعهم لعياله. لذلك قال عليه السلام: (إماطتك الأذى عن الطريق صدقة). وكثيرة هي أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم وتصرفاته التي تؤكد أن خدمة المجتمع باب من الأبواب الرئيسية للإيمان في الإسلام، ولعل هذا واحدا من أهمّ الجوانب التي ميّزت دعوة الأستاذ فتح الله كولن وتيار الخدمة الإيمانية، أعني خدمة المجتمع ورعاية أفراده.

بالإضافة إلى الألفي مدرسة يمتلك تيار الخدمة الإيمانية، أكثر من عشرين جامعة تعتبر من أكثر الجامعات تميزا في العالم. هذا غير المدارس القرآنية، التي تُعنى بتحفيظ الطلاب من الذكور والإناث القرآن الكريم، بالإضافة إلى دروس في التفسير والسيرة النبوية والفقه. وقد خرّجت هذه المدارس حتى الآن آلاف الطلبة من الذكور والإناث، ومن مختلف الجنسيات. علمًا بأنها تقدم للطالب السكن والمأكل والمشرب. وعند قضية الطلاب الوافدين، لتلقي العلوم، نحب أن نتوقف. فقد صادفنا أثناء جولتنا العديد من الأتراك الذين يكنّون حبًّا عظيمًا لبلَدنا، لأنهم درسوا فيه. كما قيل لنا أن خرّيجي مدارس تيار الخدمة الإيمانية هم خير معين لنشر تعاليم التيار وأسلوبه في العمل الإسلامي، عندما يعودون لبلدانهم، مما يؤكد أهمية العمل الشعبي في تحقيق التقارب بين الشعوب.

تبرز عظمة إنجاز الأستاذ فتح الله كولن، في مجال التربية والتعليم من أن تجربته انطلقت في مجتمع شديد المحافظة، حيث كانت الأسر التركية المحافظة تمتنع عن إرسال بناتها إلى المدارس، خوفا عليهن من الانحلال والإلحاد، مثلما لم تكن ترسل أبناءها الذكور إلى الجامعات، لنفس السبب. فبدأ الأستاذ كولن تجربته من خلال تأسيس بيت للطلبة في مدينة "إزمير" حيث كان الطالب فيه يخضع لبرنامج محدد في التربية والسلوك. وقد أعاد هذا البرنامج صياغة شخصية الطلاب الذين التحقوا به، حيث لمست أسر هؤلاء الطلاب حجم التغيير الهائل في سلوك وانضباط أبنائها، وإيجابيتهم نحو مجتمعهم، من حيث احترامهم لمن هو أكبر منهم، وتفوّقهم الدراسي ونشاطهم الاجتماعي، مما ساعد على انتشار فكرة بيوت الطلبة، التي أسّسها الأستاذ فتح الله كولن في كل أنحاء تركيا.

وقد ساهمت هذه البيوت في تحقيق الهدف الذي سعى إليه مؤسسها، وهو بناء جيل جديد من الشباب التركي، المؤمن بدينه وأمته. كما ساهمت هذه البيوت والمنتسبون إليها في إنقاذ الجامعات التركية من الفكرَين الماركسي والقَومي المتعصبين. كل ذلك من خلال العمل الجاد الصامت البعيد عن الاستفزاز، وعن الخطابة والموعظة الخشنة.

وإذا كان تيار الخدمة الإيمانية، الذي أسسه الأستاذ فتح الله كولن. قد نجح في إقامة شبكة من المدارس التي تغطي مختلف مراحل الدراسة والجامعات، التي تغطي جميع التخصصات، فإن نجاحه الحقيقي أيضًا يكمن في تفوق طلاب هذه المدارس والجامعات وخرّيجيها. وفي هذا المجال تبرز تجربة مدارس "فم"، التي أقامها التيار، وهي مدارس تقوية تقدم خدماتها لخرّيجي المرحلة الثانوية في المدارس التركية، لتأهيلهم لاجتياز امتحان القبول في الجامعات التركية، التي لا تقبل في العادة أكثر من ثلاثمائة ألف طالب من مجموع خريجي المرحلة الثانوية الذين يزيدون عن المليون. حيث يكون طلاب مدارس "فم" في طليعة المقبولين في الجامعات التركية، حيث صار من المعتاد أن يكون أول ثلاثمائة خريج من حيث المعدل من خريجي هذه المدارس. على أن الإنجاز الأكبر للأستاذ فتح الله كولن، وتياره الإيماني في مجال التربية والتعليم. يكمن في نجاحه بتحقيق دعوته إلى توحيد التعليم الديني والمدني. وإشاعة الثقافة الإسلامية في مناهج العلوم كلها، بعيدًا عن الوعظ المباشر. بما يحقق تزاوج العلم مع الإيمان، والحداثة مع الأصالة، ولقاء علوم الدنيا بعلوم الآخرة، وعلم الشريعة مع العلوم التطبيقية. على أن جهد الأستاذ فتح الله كولن وتياره ونجاحهما لم يقتصر على مجال التربية والتعليم على عظمته، بل امتدّ إلى مجالات أخرى سنتعرض لها لاحقا.




إذا كان نجاح تيار الخدمة الإيمانية في مجال التعليم بقيادة الأستاذ فتح الله كولن، يستحق أن ننحني احتراما له، فإن نجاحه الأكثر تميزًا وتأثيرًا يكمن في مجال الإعلام. فقد أدرك الأستاذ الداعية فتح الله كولن مبكرًا، وبحكم تجربته التربوية، وتفهمه لقضايا ومشكلات مجتمعه، إنه لم تعد الأسرة والمدرسة وحدهما عُنصري التربية الرئيسين للطفل والشباب، بل وللرجل والمرأة؛ فقد صار الإعلام هو الآخر شريكًا أساسيًّا في صياغة الإنسان، خاصة من حيث المفاهيم والقناعات والسلوك، مثلما صار الإعلام مؤثرًا حقيقيًّا على صناعة القرار، مثلما صار وسيلة أساسية من وسائل نشر الفكر والدعوة. ولأن الأستاذ فتح الله كولن داعية حريص على نشر دعوته، مثلما هو ابن عصره، كان لا بد له من أن يمتلك أدوات العصر، من هنا كان التوجه بأن يكون لتيار الخدمة الإيمانية وسائله الإعلامية، وهو التوجه الذي بدأ بدايات متواضعة تمثلت في مجلة "الرشْحة" (Sızıntı) لكنها بداية كانت تملك الإيمان والإصرار والوضوح، لذلك نجح التيار في خلق وامتلاك منظومة إعلامية متكاملة، تقف على رأسها مجموعة "زمان" التي يعمل بها أربعة آلاف موظف، منهم ستمائة وخمسون يعملون في المبنى الرئيس لجريدة "زمان" (Zaman) أكبر الصحف التركية وأكثرها انتشارا، إذ توزع يوميا 930 ألف نسخة، في حين أن الصحيفة الثانية في تركيا تطبع 430 ألف نسخة.

تعمل جريدة زمان وفق منظومة متكاملة؛ فهي تمتلك مبناها الأنيق المكون من سبع طبقات في إسطنبول، والذي يوفر للعاملين فيها كل سبل الراحة وأسباب الإبداع. بما في ذلك المطعم الفاخر، الذي يقدم الوجبة المجانية المميزة للعاملين في المجموعة. بالإضافة إلى المقصف الأنيق الذي يقدم كل أنواع المشروبات الحلال، والحلويات للعاملين وضيوفهم. بالإضافة إلى امتلاكها للمطبعة العملاقة ولشبكة التوزيع، ومنافذ التوزيع التي تغطي كل الأراضي التركية، حيث يتم تسويق جريدة زمان على قاعدة الاشتراك بهدف بناء علاقة حميمة مع الأسرة. تحقيقا لهدفها الرئيس، وهو تقديم حلول إسلامية للمشاكل التي يواجهها المجتمع. كما تقوم بإصدار ملاحق دراسية للطلبة. ويأتي ذلك كله انسجاما مع فلسفة تيار الخدمة الإيمانية وفي خدمة المجتمع وإصلاحه من خلال العمل النافع وفق رؤية الإسلام التي هضمها مربي التيار الداعية فتح الله كولن.

وتصدر صحيفة زمان عددًا أسبوعيًّا ضخمًا وشاملاً كل يوم أحد. كما تصدر صحيفة يومية باللغة الانجليزية يقبل عليها الدبلوماسيون وأبناء الجاليات الأجنبية العاملون في تركيا. تقوم السياسة التحريرية لجريدة زمان، على نقل الحقيقة كما هي للمجتمع التركي، الذي تحرص على نقل تطلعاته ومشاكله، عبر صفحاتها. لذلك فإنها تنقل للقارئ جانبي الصورة الايجابي والسلبي، بعيدا عن أسلوب الإثارة البعيد عن الواقعية والمهنية. كما أنها تستخدم لغة مفهومة للقارئ، سعيا منها لإعادة الأصالة للغة التركية، التي جرت محاولات لتجريدها بكل ما يربطها بالإسلام والمسلمين. وزمان صحيفة رغم أنها تواكب حركة التغيير في المجتمع التركي وتساهم فيها، فإنها تبتعد عن الخندقة السياسية.

وتصدر عن مجموعة زمان أيضًا مجلّة أكاديمية صحفية اسمها "زمان تركيا" (Today’s Zaman)، تصدر مرة كل شهرين بالإضافة إلى مجلة "الأكسيون" (Aksiyon)، وهي أكبر مجلة إخبارية في تركيا توزع 55 ألف نسخة.

بالإضافة إلى الصحف والمجلات المطبوعة، فإن مجموعة زمان تمتلك وكالة جِهَان الإخبارية (CHA). وهي وكالة أنباء تبث يوميا أكثر من 500 خبرٍ مكتوبٍ. بالإضافة إلى مائة خبرٍ تلفزيوني. وأكثر من مائة صورة. وهي بذلك تعتبر أكبر وكالة أنباء خاصة في تركيا. ولها مكاتب رسمية في 39 دولة. بالإضافة إلى مراسلين في ستين دولة. وفي إطار سعيها إلى تغطية كل دول العالم فإنها تعمل على عقد اتفاقيات تعاون مع معظم وكالات الأنباء الأخرى، في العديد من دول العالم. وجِهان تبث أخبارها باللغات التركية والعربية والإنجليزية والروسية. وهي بذلك تساهم مساهمة عملية في تحطيم الاحتكار الغربي للاخبار وصناعتها والمعلومات ومصادرها.

لا يتوقف الجهد الإعلامي لتيار الخدمة الإيمانية، الذي أسّسه الداعية فتح الله كولن عند مجموعة "زمان"، فهناك أيضًا مجموعة "قَينَق" للنشر (Kaynak)، والتي هي بدورها منظومة فكرية متكاملة بدأت بمجلة "الرشحة" (Sızıntı) التي بدأت صدورها قبل ثلاثين عامًا، بهدف تربية جيل على أساس علمي إيماني، باعتبار أن كل ما في الكون آية من آيات الله في العلوم، وقد صار لـ"الرشحة" الآن أكثر من ثلاثين أُختا، هي مجلاّت تصدر بعدد من اللغات من بينها مجلة "حراء" التي تصدر باللغة العربية، مثلما أن من بينها مجلات متخصصة بالطفل والمرأة..الخ. بالإضافة إلى مجموعة المجلات، التي تُصدرها مجموعة "قَيْنَق". فإنها تمتلك ثلاثين دارًا للنشر، تصدر شهريًّا ستّين كتابًا بلُغات مختلفة، منها العربية. كما تمتلك المجموعة ثلاثين موقعًا الكترونيًّا، بلغات مختلفة. كما تصدر كتبًا مدرسية متطورة.

إضافة للإعلام المكتوب والالكتروني، فقد نجح تيار الخدمة الإيمانية الذي يستلهم روح وتوجيهات الأستاذ فتح الله كولن، في تأسيس منظومة إعلام مرئي ومسموع، تجسده مجموعة "درب التبّانة" (Samanyolu) التي تمتلك تسع قنوات تلفزيونية، وثلاث إذاعات مسموعة. وهذه المجموعة بدورها تتحدث بلغات مختلفة. ولدَيها قنوات متخصصة. مثلما أنها نجحت في اقتحام مجال الدراما؛ فأنتجت العديد من المسلسلات الهادفة. غير أن التحدّي الكبير الذي نجحت فيه مجموعة "درب التبانة" أنها انطلقت وهي تفتقر إلى الكوادر البشرية المدرّبة، غير أنها وبعد خمس سنوات من انطلاقتها صارت ترفد السوق التركي بالكوادر الفنية المدربة.

غير تفوقها الإعلامي، فإن مجموعة درب التبانة تجسد أيضًا حالة التحدي، والتفاف الناس حول المشاريع الرسالية. فأثناء الأزمة الاقتصادية التي مرت بها تركيا عام 1995 برزت روح التضحية لدى العاملين في المجموعة، الذين قبلوا بتخفيض رواتبهم، بل وبعدم استلامها لفترات طويلة، حفاظًا على المشروع الرسالي، الذي آمنوا به. أما في أزمة عام 2000 الاقتصادية، والتي هددت المشروع بالإغلاق، فقد تدافع الناس من أبناء تيار الخدمة الإيمانية للتّبرع بما يملكون للمحافظة على مشروعهم الرسالي، حتى لقد تبرعت النساء بمصاغهن للحفاظ على استمرارية المشروع.

غير أن من أعظم ما تتميز به المنظومة الإعلامية لتيار الخدمة الإيمانية، أنها رغم التزامها بتعليم الإسلام الحنيف، ورغم اتصافها بكل صفات الإعلام الرسالي، الذي يؤمن بأن الإعلام وسيلة أساسية لإحداث الإصلاح في المجتمع، رغم ذلك كله فإنك لا تجد في المنظومة الإعلامية للتيار ذلك التجهم وسوء الإخراج الذي تجده عادة في الوسائل الإعلامية المصنفة على أنها إسلامية. مثلما لا تلمس فيها ذلك الوعظ الغليظ المنفّر الذي تجده في الكثير من الوسائل الأخرى.

بالإضافة إلى المؤسسات المهنية الإعلامية المرتبطة بتيار الخدمة المدنية فقد أقام التيار جمعية للصحفيين والكتاب من أبناء التيار تعتبر واحده من أنشط الأطر الصحفية والإعلامية والفكرية في تركيا. مثلما تتعاون الجمعية مع مثيلاتها من النقابات والجمعيات الصحفية والأدبية في العالم. ولها مؤتمرات وندوات في مجال حوارات الثقافة والأديان وغيرها من المناشط الثقافية والفكرية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:39 pm

حوار مع النفس
 فتح الله كولن 
أيتها النفس! تَفَلَّتِي من مشاعر الخريف، وصِيري نَضِرة خضراء حتى تطير في محيطكِ الطيورُ والعصافير.. وكُوني منبعًا للماء حتى يُهرَع نحوكِ كلُّ محروقي الفؤاد.. وذوبي مثل الشمعة وانشري فيما حواليكِ الأنوار، انشريها إلى أن تسحري أولئك الذين يشاهدون البدر فيتركوا مشاهدته ويصبحوا فراشات في أجوائك.. وعانقي الناسَ بدفء وحنان كالأمهات حتى يلقي الذين يخافون سخطك بأنفسهم في حضنك دون تردد.. ووزِّعي نِعَمَ الله عليك إلى من حولك بسخاءٍ، وزِّعيها فإن السخاء أشد المعادلات السرية تأثيرًا في القرب من الجنة ومن الله تعالى.. فإذا رسَّختِ هذه المعادلة في روحكِ وتطبَّعتِ بها واستخدمتِها، فإن أغلظ الأرواح التي دأبَتْ على مذهب الحقد والكراهية والعداء؛ سيصطفّون يومًا ما وهم يُشكّلون طوابيرَ منتظرين الدخول في أجوائك.
عليكِ أن تكوني مثل الغيوم، وتَحُولي دون حرارة الشمس الحارقة، وأن تكوني مثل الأمطار الغزيرة التي تهطل من دون تعلق بالمواسم فتُطفئ لهيبَ كل أحد وكل شيء.. وكوني -على الأقل- مثل رذاذٍ يُربِّت على الحدائق والبساتين، والسفوح والرُّبا، والجبال والتلال.. فربِّتي أنتِ أيضًا على القلوب والأرواح القاحلة، وكوني مَوردًا للماء العذب المفتوح لكل أحد، حتى يُسمَعَ دائمًا في فضاءاتكِ أصواتُ الأباريق والجِرَار، ولْتجدِ القلوبُ المحترقة بنار الحسرات ضالتَها في محيطكِ، ولْتَنْفَدْ مِداد أقلام صيادي الأقوال الحكيمة، ولتُصبحْ المشاعرُ الرائعةُ التي تتلون بها صحائف الكتب مزاميرَ الروحانيين كلما فتحتِ فاك لِتبوحي بإلهاماتِ روحِك.
ومهما شَحَذَ الغيظُ والغضبُ والحقدُ والكراهيةُ خناجرَهم وهاجموا كل من يلاقونه، ودمروا كل شيء، فلْتكوني أنتِ حاميةً حميمة لكلِّ من يلوذ بكِ ممن لا مكان لهم ولا مأوى، بمن فيهم تلك الأرواح الهائجة، ولا تخيِّبي رجاءَ مَن يُهرَعون إلى وصايتكِ.
وكما هو الحالُ اليوم، فحتى في الأوقات التي يخرِّب فيها عفاريتُ الأفكار المتمردة كلَّ الطرق، ويهدمون كل الجسور الجامعة بين أبناء أمتنا، عليكِ أن تبنِي -بما لديك من المحبة والتسامح وهيجان القلب- طُرُقًا وجسورًا معنويةً، وتحاولي الوصول إلى جميع النقاط التي تستطيعين الوصول إليها.. ولا تتعثري بالتعامل مع الآخرين بمثل ما عاملوك، وعليك أن تتصرفي بما تقتضيه طبيعة المسلم حتى ولو أفضى بكِ إلى الموت.. وأن تُحوِّلي ما تُرشَقين به من الحجارة إلى أنوار، وكأنك تُقدِّمين لمن حولكِ عُروضًا من الألعاب النارية، كشأن النيازك التي ترتطم بالغلاف الجوي فتتحول إلى أضواء.. وأن تليِّني كلَّ ما يتصاعد حولك من الأصوات الصاخبة بحدَّة وشدة، فتصنعي منها باقاتٍ من المحبة، ولا تتفوَّهي قطعًا لا عن وعورة الطريق ولا عن انغلاق الجسور، حتى لا تُحرِّكي فيروسات الأحقاد الماضية وكراهيتها.
إن هذه الطريق هي طريق الأنبياء، وهي أَمْتَنُ جسرٍ للعبور إلى مستوى الإنسان الكامل.. إنها طريق لم تتعثر بأحد ممن ساروا عليها إلى يومنا، كما أنهم لم يغيروا موقفهم تجاه ما لاقوه من وقاحة أو فظاظة. والحقُّ أنه إذا كان الإنسانُ واعيًا بـ”إنسانيته”، فلن تؤثر أشكالُ الحقد والكراهية والوقاحة ولا غيرها من مظاهر الفَجاجة، على اتجاه تفكيره ولا مَواقفه.. وهذا ما ينبغي أن يكون.
صحيح أن هناك مسلمين يحيدون عن الطريق عندما يتعرضون لبعض الصدمات، إلا أن هؤلاء من الأرواح الفجة التي لم تهدأ أمواجُ مشاعرها وأفكارِها ولم تَصل إلى قرار ووقار، وإنني لا أتوقع من هذه الأرواح الهزيلة أن تنفع الآخرين بشيء.. وأمثال هؤلاء لم يخرجوا عن إصدار الصخب والضجيج تجاه مختلف الأحداث، وكأنهم طبولٌ تُقرَع، وهذا من أهم أسبابِ كثير من الشجار الواقع بين الناس في هذه الأيام.
إن الانمحاء والتواضع والحلم، هو حال دائم لدى الأشخاص الناضجين الوقورين. ومهما كانت الأوضاع، فإن أمثال هؤلاء في العمق مثل السماوات، وفي السعة مثل البحار، وفي الهيبة والرسوخ مثل الجبال الشوامخ، وفي التواضع مثل التراب؛ فلا هم يتأثرون بما يجري حولهم، ولا يتعكرون بمختلف الاختلاطات، ولا يرضخون للعواصف، بل يضعون وجوههم على الأرض ويحتضنون كل شيء وكلَّ أحد.. فهم كالذهب الذي ذاب وغلى وبلغ إلى صفاء الجوهر، فلو وُضعوا في أفران تُذيب الجرانيت لَمَا تغيرتْ طبيعتهم. لقد احترقوا وأصبحوا رمادًا، فلم يعودوا يتأثرون بأية نار، ولن يستسلموا لأية جمرة، وبالفعل فلن تجد من يتصدى لحرق الرماد وإذابة الذهب الخالص في البوتقات.
أيتها النفس! ينبغي لك أن تشعري في أعماق ضميرك بهموم كل أحد، بحيث لا يَتوقع أحد منك فوق ذلك، وأن تشعري بآلامهم في دواخلك وتبكي، بحيث تجف حيالها دموع العيون الباكية، وأن تتحرقي مِن أجْلهم حتى ينسى كلُّ المُعانين آلامَهم تجاه هذا الذي اكتوى كبده من المعاناة.
فالسعيد الذي اتخذ موقفه طبقًا لهذا الأفق، يُعتبَر مُدرِكًا -في نطاق شخصه- “ليلةَ قدرٍ” يتجلى فيها كلُّ أنواع الجمال التي تفوق حدود تصوره، ويُذْكَرُ في الأرض والسماء بمقام: “خليفة الله”.
إن الطبيعة الإنسانية تحتوي على السرور والحزن معًا، فالذي يستطيع أن يَسجُن الحزن في قفص الإرادة، ويُطلقَ سراح حمامة السرور لتحلِّق إلى أقصى ما يمكن أن تطير إليه، هو الإنسان الكامل، وهو من جانبٍ “سجَّانٌ”، ومن جانبٍ آخرَ “مربِّي طيور”؛ يربط ما يربط ويسرِّح ما يسرِّح. أجل، إنَّ قَطْعَنا لصوت أهوائنا ونزواتنا باستخدامِ إرادتنا؛ بسالةٌ وإقدام، وفَتْحَنا لقلوبنا بحيث تسَع لتستضيف الجميعَ؛ شجاعةٌ ومروءة.
أيتها النفس! تَصرَّفي دائمًا بشجاعة، واحرصي على التحلي بالمروءة، واستخدمي وجدانك كالمحك في انتقاد ذاتكِ، وتبسَّمي في وجه الجميع بوجهك الشاحب المصفرِّ وكأنه ذهبٌ تَصَفَّى في البَوتقات.. وإذ تتبسمين لكل أحد فحذارِ أن تُهملي التعامل معهم مثل صيرفيٍّ خِرِّيت، فأنتِ بماهيتك مستعدةٌ لكل هذا، فأُولى مغامراتك في السماء أوضحُ دليل على ذلك، فبينما كانت الملائكة تهزّ مهدك وتترنم لك بتهويدات الغبطة والسرور؛ كانت الشياطين تقوم بدورِ “ضارب الناقوس” في مراسم الحسد. فمنذ أول أيامكِ لاقيت حسدًا رهيبًا إلى جانب ما وقع عليك من نظرات الإعجاب والتقدير؛ ولست أدري هل أصابتك العيون أم لا؟ ولكنْ أصابتْكِ حالة من التعثر وإن كنتِ قد حلَّقتِ في نهاية المطاف، ولمَّا مددتِ يدكِ إلى الشجرة المحظورة وأخطأتِ في اجتهادك حول تعيين وقت الإفطار -علمًا بأن هذا من باب سيئات المقربين- إذا بكِ تفتحين عينيك في سجن الدنيا.. لا، لا.. بل رأيتكِ في أحضان الأرض التي ستحتضن “حضرة أحمد”. وقولُ الشاعر “محمد لطفي”:
إن الحكمة الحقيقية للشجرة
هي قدوم حضرة محمد إلى الدنيا
يشير إلى أُولى الثمرات الحلوة لقَدَركِ الحامض.
أجل، إنكِ لو بقيتِ في الجنة لبقيتِ مثل شجرة غير مثمرة وغير قابلة للنمو. وما كان لك أن تشعري قط بما تملكينه من الثروة الكامنة، في حين أنك عندما فارقتِ الجنة ونصبتِ خيمتكِ في الدنيا، تحوَّلتْ هذه البلادُ المُترِبة المغبرَّة إلى بستان للورود، وأصبحتْ هذه الديار التي كانت منفاكِ، رياضًا وبساتين تترعرع بها الأنبياء والأولياء.. وأخيرًا تحولتْ غبطةُ الملائكة كليًّا إلى تقدير وتبجيل، وعاد حسد الشياطين مثل حربةٍ خلصت إلى نحورهم هم.
والآن تعالَيْ، لتَضَعِي قِيَمكِ تحت الحماية، وتُرَكِّزِي على استثمار هذا المنفى -الذي يُعتبَر طريقًا للقرب من الله- على أحسن وجه، ولا تُحَوِّلي وسائلَ التقرب إلى الله، إلى أسباب للابتعاد عنه، ولا تفرِّحي الشيطان الذي هو خصمكِ الأبدي بالوقوع في شِباك الكراهية والبغضاء والغيظ والحرص والحسد! ولو أنك أخطأتِ يومًا ما، ووقعت دون المستوى، فافعلي كما فعل النبي آدم عليه السلام؛ وانتصبي قائمة، واستفيقي واعترفي بجريمتك، وتوجهي نحو باب الحق المفتوح دائمًا، ولا تمنحي أخطاءَك حقّ الحياة ولو لدقيقة واحدة. وإذا كانت طبيعتكِ البشرية قد فسدتْ بالذنوب فأَحييها مرة أخرى بإكسير التوبة، واجعليها تقف على أقدامها لتعود إلى ربها بحماس جياش، وإذ تقومين بهذا كله فتذكري أن طبيعة كل البشرية مثلُ طبيعتكِ، وأنهم قد يقعون في مثل ما وقعتِ فيه من الأخطاء.. والْتَمِسِي المعاذير لكل المخطئين، بل إذا استطعتِ فأشفقي عليهم، لأنهم غُلبوا وانهزموا أمام نفوسهم، احتضنِيهم وساعِديهم.. وحذارِ أن تقفي من الآخرين موقف المحاسِب على ذنوبهم وتنشغلي بأخطاء هذا وذاك، وإن كان يروق لكِ الاهتمام بالأخطاء، فاستخدمي هوايتك هذه تجاه أخطائك أنت، حتى لا يُنسيَك “أدرانك الكبيرةَ” ما لدى العالمين من الأوساخ الصغيرة.
مُرِّي بالناس كلما مررتِ بهم مثل النسائم التي تحمل شذى الورود! ولْتَفُح رائحتكِ من الطرق التي تَمُرِّين بها عبقًا عبقًا، واحترقي مثل الشموع وذوبي، وأنيري الآخرين، ولكن لا تَنوطي هذه التضحية الكبرى بمصالحكِ الخاصة.. ودُوري مثل الدواليب وأطلقي الأنَّات، وأَطفِئي نيران جميع القلوب المحترقة، ولا تُفَكِّري بنفسكِ بتاتًا، واحترقي مثل المَبخرة شيئًا فشيئًا وبهدوء لتنشري فيما حولك الروائح الطيبة، ولكن لا تشتكي من حالك، وكوني ناكسة الرأس كل حين، ولا تجعلي ما حَباك به الحقُّ من الألطاف وسيلة للتفاخر تجاه الآخرين، بل اعتبري مثل هذه الألطاف بمثابة عربون يمنحه الله للمحتاجين، وكوني خجِلة بسبب أخذكِ الأجرة مقدَّمًا.. إنك إن ربطتِ جهودك وخدماتكِ بتوجه الآخرين من منطلق أنك تستحقين ذلك مقابل خدماتك وجهودك، فإنكِ ستبدئين بتوقع الالتفات منهم، وهذا داء عضالٌ مِن شأنه أن يُنفِّر عنكِ كل أحد، وإذا أصررت على ذلك فإنكِ ستتلقَّيْن كل يوم صفعاتٍ متتاليةً، على عكس ما كنتِ تتوقعين، وستُبَعِّدين عنك الناس.. وإن كنتِ تريدين راحة البال فهي في الاستغناء والتواضع والانمحاء والقناعة.. وأما الذين يستعظمون أنفسهم، ويتوهمون امتلاكهم لقدرات خارقة، وينتظرون من كل أحد توجهًا إليهم والتفاتًا، ويقومون ويقعدون في حرص وتبختر، فسيكونون يومًا ما، ضحايا للاضطرابات الروحية ولو كانوا في طريق الطمأنينة والسلام.
أيتها النفس! إن كنتِ جريئةً وجسورةً فعلاً، فابصقي في وجهِ ما في داخلك من العداء، واطردي الخذلان من بابك، ودُوسي على رأس الظلم، واقطعي أنفاس الوقاحة مُنطلقةً من الشعور بأنه تعالى حاضر في كل مكان.. واكبحي جماح نوازع الخطايا عن طريق الإيمان بالانتقام الإلهي، وحاولي ألاّ تسيري صوب تلبية غرائز النفس ونزواتها، بل سيري في طريق مرضاة الله تعالى، واستشعري دائمًا بأن الله رقيب عليك، واهتزي كما تهتز الأشجار، لتَنْفُضِي عنك كلَّ ما يُفسِد طبيعتكِ ويشوِّه منظرك، وما هو غريب عن روحك وعبءٌ على قلبكِ من أنواع الذنوب والخطايا والمعاصي، حتى تتناثر وتذهب عنكِ أبعدَ ما تكون.
ولا تنسَيْ أن كل ما ستبذلينه في سبيل التفلت من هذه الأمور التي تُغيِّر طبيعتكِ وتلوِّث روحكِ، ستُعتبر بمثابة الجهاد، وستقرِّبك من الله تعالى خطوة خطوة، وإلا فلا مفر لكِ من أن تبتعدي عنه دائمًا، وتعيشي أمرَّ حالات الغربة، وتغرقي مع المنبوذين في بحار الوحشة.. كما أن خانة الحسنات في دفتر أعمالك ستبقى فارغة، وأنك ستعيشين ظلامًا وقتامةً في حياتك القلبية والروحية، فاستعيدي نشاطك وانتعشي واستفيقي لتتبنَّي القيم الإنسانية، ولا تستعجلي ولا تتهوري حتى لا تجعلي فردوسَك المفقود هذه المرة، ضحيةً لِلَّامبالاة.
فكل ما تبذلينه اليوم من جهد في سبيل استرداد ما قد فقدتِ في السابق، سيعود إليك عندما يحين الموسم بعشرين أو ثلاثين من أضعافه، كشأن البذرة التي تُلقى في التراب ثم تعود سنبلة.. فإذا كان الأمر كذلك فلا تتوقفي أبدًا، بل انثري الخيرَ والفضيلةَ في كل الأنحاء مثلما تُنثر البذور، وأَزِيلي صدأ المشاعر المتركزةِ على الخطايا، واجعلي السعادةَ الدنيوية والأخروية للآخرين هدفَ حياتك.. عيشي هكذا حتى تتحرري من سجن الحسابات والمنافع الشخصية القاتلةِ لروحك، ولْتعيشي أنتِ المتاعبَ دائمًا من توزيع الراحة على الآخرين، استمعي لهموم الناس، وعيشي همومهم، وإنِّي أنينًا بالهموم، ولكن حاولي أن تعالجي همومهم، وافتحي صدركِ بالمحبة لجميع الناس، حتى يُهرع إلى دفئك “ضحايا النفس” الذين ظلموا أنفسهم بأنفسهم.
وامسحي وجهك بالأرض مثل الأنهار، وتدفَّقي بالحياة، وكوني مثل الشمس والقمر تحتضنين كلَّ شيء بنوركِ وتربِّتين على رؤوس كل شيء.. ولا تُخيِّبي رجاءَ مَن يحسنون الظن بكِ فيتوجهون إليك متوقعين منك شيئًا، وكوني في الخدمة راكضة في مقدمة الصفوف، بينما تحاولين التَّخَفِّيَ في أواخر الأواخر عند توزيع الأجور، وابتعدي عن ربط ما يُعمل لأجل الله بالمصالح الدنيوية مثل ما تفرِّين من العقرب والثعبان.. ولكن إن حصل لك انزلاق شعوري كهذا من دون إرادة منك، فاعتبري ذلك تلوّثًا في المشاعر، وعُدِّي مثل هذا التلوث ولو لدقيقة واحدة إهانةً لموقعك الإنساني المميز الذي تحرزينه بين الكائنات، واهرعي نحو مغتسَلٍ تُنَقِّينَ فيه أدرانَ دواخلِكِ.
وكوني في كل حالاتك منشغلة بمشاعر الإحسان وترجمانًا للخير والجمال.. فالأقدام التي تسير في طريق الخير والفضيلة لهي أسمى من الهامات، كما أن القلوب التي تنبض بمشاعر الإحسان توازي الكعبة في قداستها.. والواقع أن ماهيتك كعبةٌ، وهدفُك هو رضا الحق، وطريقك مَطافٌ يدور فيه القُدسيون في اتجاه الوصول إلى الحق تعالى.. وما دمتِ متمسكة بخطكِ هذا، فستصبحين موضوع حديث المحاورات في ما وراء السماوات، وسيُذكَر اسمكِ مع الروحانيين. فزِيدي من سرعتك في سيركِ على الخط الإنساني، فإن حاجتنا إلى مثل هذه الجهود في هذا العالم الذي تآكلت فيه القيم الإنسانية، توازي حاجتنا إلى الماء والهواء.. ففكِّري دائمًا بالخير، وتكلمي بالخير، واسعَيْ في أعمال الخير.
إن أحسن الحالات التي تبدو فيها الرايات هو عندما تكون محمولة على أكتافِ أناس يتحركون. والنحلُ يُعتبر مباركًا ما دام ينتج العسل، ومِشيةُ الفارس أكثرُ مهابةً من وقفته.. فقومي واحملي الراية مثل الأبطال، واملئي خليتك بالعسل مثل النحل، ولا تسقطي إلى مستوى الكُسالَى المكروهين.. وكوني دائمًا مستعدّة لتلقي الأوامر في خدمة الإنسانية، واستعدي للرحيل، فإن الرحيل محقّق ومقدّر مهما كان وقته مجهولاً، فكوني على استعداد تام وتطهّري من الذنوب، وافتحي الباب لنداء الغيب، وكوني على أهبة الاستعداد.

(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية تحت عنوان:
Bir Sorgulama، العدد:252 (يناير 2000). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:39 pm

تعالوا نتحدث بقلوبنا
 فتح الله كولن  

بين القلوب دروب ومسالك خفيَّة لا تُعدُّ ولا تحصى، تمتد فيما بينها في انحناء وتداخل لا ينتهي. ولكل إنسان درب خاص يسير فيه، وأفق ذاتي يحلِّق في أجوائه، وبين هذا وذاك يتقاطع مع كثيرين أو يتوافق بقصد أو بغير قصد مرات عديدة، وتقابله مفاجآت لم تكن في حسبانه. ولهذا الإنسان أيضًا أهداف عددَ الحقائق النسبية المبثوثة في الوجود، وحتى يرتقي إلى تلك الأهداف ويبلغها، عليه أن يعبر جسورًا ويرتقي سلالم ومعارج شتى. لكن الطبائع السمحة التي نمت ملكاتُها الإنسانية وتفتَّحت، والنفوس التي تحترم القيم العالمية، تمضي نحو سماء حقائقها النسبية دون أن تزاحم أحدًا أو تشتجر مع أحد أو تشوه صورة أحد.. تمضي دون أن تعترضها عوائق السير. في عالم هؤلاء لا يتعلق اختلاف الألوان والأشكال والثقافات والأفكار والتصورات إلا بالمظاهر السطحية فحسب.

لكل إنسان درب خاص يسير فيه، وأفق ذاتي يحلِّق في أجوائه، وبين هذا وذاك يتقاطع مع كثيرين أو يتوافق بقصد أو بغير قصد مرات عديدة، وتقابله مفاجآت لم تكن في حسبانه.
في أعماقهم حيوية صامتة لا تفتر، وحركة متوازنة لا تختل، ونشاط متناغم كقافية الشعر، يضربون مثلاً أعلى في السكينة والسلام يثير غبطة الناظرين. إنهم كالبحار العظيمة، تعلو سطحَها أمواج تلو أخرى، ترغي وتزبد ثائرة هائجة، ترتفع وتهبط هادرة مزمجرة. ووسط هذا الصخب والتلاطم يختلط اللون الأخضر بالأزرق باللازوردي؛ أجل، يطفو على سطحها بعض الاختلاف والتباين، ولكن حينما تغوص في أعماقها يتلاشى كل ذلك، فلا تجد أثرًا لزبد، أو حسًّا لهدير، أو إشارةً لأي تباين في الألوان.

مجموعة من الغرباء نحن.. حاولنا أن نستحضر هذا العمق وتلك السعة في قلوبنا منذ سنين وسنين. سعينا ألَّا نحكم على بعض الفئات بناء على غلظة أو خشونة في ظاهر تصرفاتهم -التي بالتأكيد لها أسباب ومبررات شتى- ونظرنا إلى الرحابة الوجدانية الكامنة في أعماقهم، نظرنا إلى سكونهم النابض، وتناغمهم المتقد، وجوانبهم القابلة للتعافي، المفتوحة إلى الخير، سعينا إلى تقبّلهم واستيعابهم بكل قلوبنا؛ وما كان لنا أن نفكر بغير ذلك، فثوابت الإسلام وكلياته الأساسية تلزمنا بذلك بمقتضى عالميته وإنسانيته. حرصنا على أن نحس بسمت الإسلام هذا، ونشعر بروحه، ونربط جميع تصوراتنا وعواطفنا بهذا المعنى الكامن في جوهره. أقبلنا على ديننا بعمق، فتمسكنا برؤيتنا للحياة بقوة من جهة، وسلَّمنا بوجود أديان واتجاهات فلسفية أخرى واقعًا ملموسًا من جهة أخرى. لقد التزمنا بشعار “وقِّرْ الجميع وتَقبَّلْ كلاًّ على وضعه” منقِّبين عن سبل العيش معًا ليل نهار.

 الطبائع السمحة التي نمت ملكاتها الإنسانية وتفتحت، والنفوس التي تحترم القيم العالمية، تمضي نحو سماء حقائقها النسبية دون أن تزاحم أحدًا أو تشتجر مع أحد أو تشوه صورة أحد..تمضي دون أن تعترضها عوائق السير.
التزمنا بهذه الرؤية وأخلصنا لها؛ لم نحقر أحدًا لاختلاف دينه أو مذهبه أو عقيدته أو اتجاهه الفكري، ولم نجرح أحدًا. تعرَّضنا للاعتداء مرارًا، أُوذينا في أنفسنا، وأهينت كرامتُنا، وشُوِّهت سمعتنا، وتجرعنا أشد المرارات، لكن لم نردّ. كنا نملك أسبابًا لا حصر لها للردّ.. تغاضينا عن كل إهانة وسبٍّ وسخرية، بل اعتبرنا مبدأ “المعاملة بالمثل” ظلمًا فما ارتضيناه لأنفسنا قط، لم نفكِّر في التراجع عن احترام الكرامة الإنسانية الكامنة في أعماق هؤلاء مقابل ما لاقيناه منهم من حقد وكراهية وغلظة وخشونة، واعتبرنا ذلك نوبة طارئة مؤقتة. وضعنا رؤوسنا -إذا تَطلّب الأمر- رصيفًا تحت أقدام كل من لمسنا عنده مشاعر إنسانية، تعبيرًا عن رؤيتنا هذه والتزامنا بها بصورة لا لبس فيها.

إن كان سلوكنا هذا ثمرة ترويض النفس وتطويعها فهو التواضع المحمود بعينه، أما إن كنا بهذا السلوك قد حططنا من قدر ديننا وعرّضناه للذل والمهانة واقترفنا بذلك إثمًا دونما قصد منا، فإنا نضرع إلى الله أن يعفو عنّا ويغفر لنا. لقد رفعنا شعار “احترام الإنسان” ونادينا به، خشينا أن تتضرر القضية وتهتز الثقة بظهور أشخاصنا، فسلكنا سلوك طائر “الهُوما”(1) لا يُرَى منه إلا أثر ظله، فكان دأبنا التراجع إلى الوراء على الدوام. لم ننتظر شيئًا كبيرًا من هؤلاء الذين حرصنا على كسب قلوبهم، واحترام أفكارهم، واستقبالهم بالأنس والبشاشة في كل سانحة، بل كان كل رجائنا أن يعاملونا بإنسانية لا أكثر. لم يكن هذا القدر اليسير من “الرجاء” سوى منحة “حسن ظن” منًّا إكرامًا لصورتهم “الإنسانية”، ولم يكن أدبنا لِيسمح لنا بغير ذلك.

أجل، حينما فاضت أعيننا فرحًا باستيعاب الجميع، وخفقت قلوبنا حبًّا للإنسانية كافة، لم نطلب إزاء مشاعرنا هذه -التي بلغت عمق أم حنون- أيّ مقابل قط. ولو سعينا في أي طلب، لَتعذّرت إقامة أواصر بهذا الاتساع وهذا العمق مع سبعين أمة مختلفة، إذ الأواصر المبنية على مقابل لا تدوم قط. لقد أسسنا وشائح الود وعلائق الصداقة بيننا وبين الناس على أساس أنهم آيات بديعة من صنع الله عز وجل، حتى تظل تلك الوشائج نابضة إلى الأبد.

لقد ردّدنا هذه النغمة في الحل والترحال، ووزَّعنا أقداحًا من المحبة على الجميع في الليل والنهار -ولعل دندنتنا حول ذلك قد أصاب بعض الرؤوس بالدوار فقابلت محبتنا بالكراهية- فتحنا صدورنا في كل سانحة وعرضنا ما فيها من أفكار ومشاعر إنسانية أمام الكافة، نحَّينا جانبًا النقاش حول معاييرهم القِيَمية -بعيدًا عن كونها قيِّمة أو لا- وحاولنا أن نعيش فوق المعايير، لنتيح فرصة الاستفادة من شلالات محبتنا للجميع، ثم أخذنا ننتظر ساعة السعد التي تلتقي فيها عين العقل مع الفكر السليم. أعتقد أنه كان من حقنا أن ننتظر من كائن كُرِّم بوسام “الإنسانية” هذا القدر من الأداء. ولن يكون التفكير العكسي إلا انتقاصًا من قدره وهو الذي أرسل إلى الأرض مزوَّدًا بمواهب وطاقات تمكّنه من التفوق حتى على الملائكة إن استطاع تفعيلها.

بهذه المشاعر الوجدانية الصافية، ظللنا نحلم سنين وسنين بأننا إذا تركنا صنابير محبتنا مفتوحة عن آخرها، فلسوف تنبت في التربةِ التي تلوّثت بالحقد والكراهية والعداء والمؤامرات، فسائلُ من الحب تنمو وتزهر وتغطي الأرجاء كلها. وهذا ما حصل حقًّا، فقد استجاب جُلُّ المجتمع ممن يقاسموننا أحلامنا وآمالنا لنداءاتٍ انبعثت من القلب بإخلاص هاتفة(2):

إليَّ بصوتٍ منك يا فارسي! ألاَ تَسمعني؟

منذُ سنين وأنا أتسلَّى بطَيفك دَوما،

أَعيش على أمَل أن تُقْبِلَ يوما،

……

قلبي المتوهج بالأمل، ينتظرك،

إلى السماوات يعلو حِينًا، ويحبو على الأرض حِينَا،

……

كل مكان منقوض مهدوم.. هذا عيد البوم!

تحطمت الجسور فلا عابِرَ للسبيل..

جفّت عيون الماء فلا وارد عليها..

……

فيَا فارِسِي انبعثْ! تمامًا كما في حديث الرؤى..

ثم أَقْدِمْ على صهوة الفَرَسِ الأَبيضِ!

ذاتَ فَجْرٍ، عند بَدْءِ البُكُور،

إنني أغمض الآنَ عَيْنِي فتبصرك الروح،

أيا فارسي! فانبعث وتعالَ!

تمامًا كما في حديث الرؤى!

أجل، تجاوب الملايين مع هذه النداءات المنبعثة من القلب، انجذبوا لسحر هذا الحلم اللازوردي الخلاب، وأخذوا يترنمون بألحان الحب في كل مكان، وانهمر الحب على الرؤوس كالغيث؛ لم نعلِّق -في البداية- عليه آمالاً عريضة إلا بقدر الضرورة، كانت بدايته قطرةً أو قطرات، ثم تحول إلى شلالات بعد حين، وغدا أملاً جميلاً يراود شرائح المجتمع كافة تتوسم فيه بشارة لانبعاث جديد لم يَسبِق له مثيل.

إن كان سلوكنا هذا ثمرة ترويض النفس وتطويعها فهو التواضع المحمود بعينه، أما إن كنا بهذا السلوك قد حططنا من قدر ديننا وعرّضناه للذل والمهانة واقترفنا بذلك إثمًا دونما قصد منا، فإنا نضرع إلى الله أن يعفو عنّا ويغفر لنا
كان ذلك بعدًا آخر من تجليات عظمة الخالق سبحانه. فهو تعالى يحقق -في بعض الأحيان- أعمالاً عظيمة بأيدي كائنات في منتهى الصغر لكي ينبّهنا إلى حقارة الأسباب، ويذكرنا بقدرته العلية بأسلوب آخر. أجل، غمرتنا مِنَحٌ متتالية من هذا النوع أثناء هذه الفترة. لقد فتح صاحب القدرة اللامحدودة أبواب القلوب على مصاريعها لأفراد بسطاء من أمثالنا، ومنحهم مقام “السليمانية” في مملكة الحب. نعم، منحهم ذلك، فاختلَّ توزان أرواح شيطانية تمثل الحقد والكراهية والصراع على إثر هذه الصدمة المروعة، وراحت تتخبط في وديان أوهامها العفريتية تائهة مولولة.

صارت الكلمة لأبطال التسامح في كل مكان. كان الحجر والتراب يتحول –في أيديهم- ذهبًا خالصًا، والفحم ماسًا، والسم الزعاف عسلاً مصفى. انتشى هؤلاء السعداء بتحول المجتمع نحو هويته الذاتية بوتيرة سريعة، واغتبط المجتمع باكتشافه لأعماقه الذاتية من جديد. أجل، لقد تصافحت الرقة والبشاشة مع اللطف والمروءة، وأغدقت القلوب التي سئمت رؤية الدماء والدموع والآلام على حظها السعيد ابتسامات جذلى مستشعرة بزوغ فجر ينبض بالسكينة والسلام. جلس الجميع تحت قبة السماء الجميلة يحكون إلى بعضهم قصص القلب وأحاديث المحبة ليل نهار، وولَّت تمتمة الساحرات أدبارها للبيان الحقيقي الذي يبعث السكينة والطمأنينة في القلوب باحثة لنفسها عن جُحر تتوارى فيه. كان النور يحقق انتصاراته على الظلمات في كل الجولات، وتفر غمغمات الحقد والكراهية تاركة مواضعها للحب، والأواصر الإنسانية تعزف ألحانها بأحلى وأرق النغمات. قعد البُغض مكتوف الأيدي ينتظر ساعة حتفه، وتلوّت مشاعر الحقد والعداء كمدًا ويأسًا جراء تقلصها وانكماشها.

لم يكن على وجه الأرض من هو أسعد منا، كنا ننتظر ممن لا زالوا يحسون بإنسانيتهم أن يعلّقوا على قلوبهم أرياشًا من أجنحة جبريل، يطيرون بها إلى آفاق تحلق فيها الملائكة، ويُسمِعون الدنيا كلها نغمًا جديدًا تلحينُه من عالم الروح والمعنى، كنا نتوق إلى ذلك بفارغ الصبر. كنا نتلهف إلى سماع نغمة جديدة تنبعث من أعلى طبقات السماء، لا مكان فيها لدمدمة شجار أو صدام، قد أوصدت أبوابها على جميع أصناف الكذب والتزييف والتشويه. لكن المؤلم أن مجموعة قليلة(3) قد جُبِلت على العداوة والاعتداء والفوضى والافتراء تستمد سلطتها وتأثيرها من انتهاجها مهنة التدمير وإثارة الصخب، قد سَدَّت الطرق كالغيلان، واستمالت قلوب بعض الحائرين المترددين العاجزين عن استخدام عقولهم، وسعت إلى إضرام النار في ثمار هذه الفترة المباركة بغية إبادتها، رغم أن خمسة وثمانين بالمائة من أبناء المجتمع متعاطفون معها وفق تحريات واستطلاعات خاصة أجرتها أجهزتهم نفسُها.

ولم يكتفوا بذلك، بل تحينوا فرصة بعد أخرى، وبدأوا يشنون غارات متعاقبة على الدين، يشوهون صورة المتدينين، ويَصِمون الجميع بألقاب أيدولوجية وتصنيفات مشبوهة، فهذا “دينجي”، وهذا “طُرقي”(4)، يشعلون نار الفتنة في كل مكان بفزاعات الرجعية، بل صاروا يرددون الشتائم التي كانوا يمطرونها يومًا على الأمة والدولة في اجتماعاتهم تحت “الرايات الحمراء” في حق المتدينين هذه المرة، يفرغون بذلك ما تخفيه صدورهم من ضغائن وأحقاد دفينة.

فهل يحققون رجاءهم ويفوزون بمبتغاهم؟ تلك قصة أخرى، ولكن كما يقول الشاعر:

إن كان للظالم ظلمه، فوليُّ المظلوم هو الله،

أخو الجور قد يَسلَمُ في هذه الدنيا،

فهل سيَسلَم في ديوان الحق غدا؟ (عاشق محزوني شريف)

صمتُنا وديعة أسلوبنا.. “الرد بالمثل” مبدأ ظالم في أدبيّاتنا.. قطعنا عهدا على أنفسنا: “لا يد لنا على من ضربنا، ولا لسان لنا على من شتمنا”. ماذا نفعل؟ لم يمنحنا الله أسنانًا نعضُّ بها، ولا مخالب وحشية نمزق بها. ثم كلٌّ يعمل على شاكلته، لم يكن بوسعنا أن ننهج سلوكًا يناقض طبيعتنا، لأننا اعتبرنا ذلك جريمة في حق أنفسنا وسُوءَ احترام لشخصيتنا، لذلك آثرنا الصمت وضبط النفس وتَجرُّع العلقم في مواطن كان بإمكاننا أن ننطلق فيها بالكلام كالأمواج الهادرة.

ثم إنه لم يبق هناك حاجة إلى أن نردَّ على هذا أو ذاك؛ لأن أزيد من ثمانين بالمائة من المجتمع ورغم كل أصناف التشويه والصخب اعتبروا تلك الافتراءات بلبلة جوفاء، ووقفوا معنا موقفًا مشرّفًا يليق بأمة عظيمة، ولم يضطرونا إلى أن نبدي سلوكًا يناقض أسلوبنا. استطعنا مرة أخرى وبـ”جبر لطفيّ” أن نبقى في إطار العفو والصفح الذي التزمنا به، ولم ننقض عهدنا الذي قطعناه على أنفسنا في استيعاب الجميع بالحب.

أجل، للمرة الأخيرة كشف بعضهم عن زيف معدنهم، وسنحت لنا فرصة كي نعبر فيها عن صدق مشاعرنا ونقاء سريرتنا، وسنلتزم بهذا النهج من السلوك ونواظب على احترام أنفسنا وتوقير شخصيتنا ما حيينا. لن نشجَّ رؤوسًا من أجل دنيا عابرة، ولن نقتلع أعينا، لن نلوث ألسنتنا، ولن نجرح قلوبًا، وسنوجه دعوات الحب إلى الجميع مخلصين في علاقتنا مع أمتنا للعبارات الآتية التي اتخذنا منها شعارًا:

“لقد سامحتُ كل من كان سببًا فيما عانيت منه من أذى وإهانة وتعذيب. لم أذق طوال عمري البالغ نيِّفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الدنيا. قضيت حياتي في ميادين الحروب وزنازين الأسر، أو معتقلات الوطن ومحاكم البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه. عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيتُ وشُرّدتُ في أرجاء البلاد كالمجرمين. وحُرمت من مخالطة الناس شهورًا في زنازين البلاد.. تعرضتُ لإهانات متنوعة. مع ذلك أعلن أنني سامحت وصفحت عمن فعل بي ذلك”. (بديع الزمان سعيد النورسي)

وأنا كذلك كمؤمن، أعاهد نفسي أن أكون مخلصًا لهذه المشاعر، أقسم أنني لن أقاطع أحدًا، ولن أحمل ضغينة في قلبي لأحد. أقسم أن أستقبل الموت باسمًا، أعاهد نفسي أن أعتبر الجفاء الصادر من الجلال، والوفاء الوارد من الجمال شيئًا واحدًا. إنني لا أملك التدخل في حقوق الله، ولكن أقسم أنني لن أقاضي أحدًا يوم الحساب في أي حق يتعلق بشخصي.

(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:249 (أكتوبر 1999). الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.

الهوامش
(1) طائر الهوما: طائر أسطوري يعيش حياته كلها يطير على ارتفاع عال بخفاء، ولا يحط على الأرض أبدًا، ومن تسقط عليه ظلال أجنحته ينال السعادة طوال حياته. وهو الطائر الأسطوري الأكثر شيوعًا في دواوين الشعر التركي. (المترجم)

(2) مقاطع مقتبسة من قصيدة “روح الأمة” للأستاذ فتح الله كولن، مجلة حراء، العدد ١٥ (المترجم)

(3) في بداية التسعينات بدأ الأستاذ كولن جهودًا حثيثة في نشر ثقافة الحوار والعيش المشترك في تركيا بين كافة الاتجاهات والتيارات والطوائف، وقد لاقت هذه الجهود تجاوبًا كبيرًا من الجميع فخففت حدة التوتر وقضت على كثير من أسباب النزاع والفرقة، وشعر المجتمع بأهمية توحده على قيم إنسانية مشتركة، واستمرت هذه الجهود إلى نهاية التسعينات حتى قررت مجموعة لها نفوذ في البلاد أن تقوِّض كل هذه الجهود، فحدث ما تحدث عنه الأستاذ في المقال في تلك الفترة، وهم اليوم يقومون بالدور نفسه بعد أن قطعت تركيا أشواطًا في الوئام المجتمعي وترسيخ ثقافة العيش المشترك. (المترجم).

 

(4) هذه كانت اتهامات الأمس، أما اليوم فقد زاد عليها النظام التركي الحاكم في الفترة من ٢٠١٣ وما بعدها اتهامات جديدة من أمثال “الكيان الموازي، العصابات الإرهابية، الخونة، العملاء، والحشاشين، ومصاصي الدماء.. إلخ”. (المترجم)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:40 pm

سجية العفو
 فتح الله كولن 


يتمتع الإنسان بفضائل عالية ويعاني في الوقت نفسه من نقائص عديدة، ولم يَسبِق لكائن قبل الإنسان أنْ جَمَع في نفسه هذا الكم من المتناقضات؛ فهو من الأعاجيب التي تنحرف فجأة فتسقط إلى مهاوي الجحيم في الوقت الذي ترفرف وتحلِّق في أجواء الجنان. ومن العبث البحث عن علاقة بين هذه الانحدارات والارتفاعات الهائلة، فإن الأسباب والنتائج تسير في الإنسان على خط مختلف للغاية.

تراه أحيانًا مثل سنابل الزرع الخضراء الطريّة تتمايل وتعتدل مع النسمات يمنةً ويسرة، وتراه أحيانًا أخرى مهيبًا شامخًا مثل دلب سامق ثم يخر على الأرض ساقطًا لا يستطيع النهوض، له أوقاتٌ كثيرة تغبطه فيها الملائكة، وله أزمان وحالات تكاد الشياطين تخجل منها.

إن المعاصي ليست أصلاً في الإنسان، لكنها من الأقدار المتوقعة فيه، وهو الذي يعاني هذا الكم من أنواع الانحدار والارتقاء، وتلوُّثُه بها -وإن كان أمرًا عارضًا- لكنه محتمل، لذا فالعفو لمن كانت فطرته معرَّضة لفساد بسبب التلوث، هو الكل في الكل.

إن طلب العفو وانتظارَه، والأنينَ بسبب فوت الفرص أمرٌ عالي القيمة، لأنه منوط بمستوى الإدراك والشعور؛ وكذلك العفوُ عن الآخرين لا يقل عنه قيمة، بل قد يفوقه سموًّا وفضيلةً. إن الفصل بين العفو والفضيلة خطأ فادح، ويا له من مثَل حكيم ذلك الذي يقول: “التقصيرُ ديدن الصغار والعفوُ ديدن الكبار”.

إن طلب العفو وانتظارَه، والأنينَ بسبب فوت الفرص أمرٌ عالي القيمة، لأنه منوط بمستوى الإدراك والشعور؛ وكذلك العفوُ عن الآخرين لا يقل عنه قيمة، بل قد يفوقه سموًّا وفضيلةً.
إن إحراز العفو يعني الترميم والرجوع إلى الأصل واكتشاف الإنسان لجوهره، ولذلك فإن أحب أعمال المرء إلى صاحب الرحمة اللانهائية، هو ما يعانيه من الخفقان عندما يبحث عن هذه الأوبة.

لقد تعرفَت الكائنات كلها على العفو من خلال الإنسان، كما أبرزَ الحق تعالى عفوه من خلال الإنسان، ووضع في قلب هذا الكائنِ ذلك الجمال الذي يزهو به العفو. وحينما هوى الإنسان الأول بضربة على جوهره بتلك الزَّلة التي هي من مقتضيات فطرته، كان الأمر المسموع من وجدانه هو الأنَّة والتضرع، وكان جواب هذا التضرع هو العفو النازل من السماء.

لقد حافظ الإنسان طوال العصور على هذه الهدية التي وَرِثَها عن جده الأول باعتبارها وسيلة للأمل والتسلية، فكلما ارتكب خطيئة رَكِب متنَ هذا العرش السحري فارتقى وتفلَّتَ من خجل خطاياه وإحباطها ووصل إلى الرحمة اللانهائية، كما أكسبته عزة وترفعًا إذ جعلته لا يرى أخطاء الآخرين وزلاتهم وكأنها محجوبة عنه بستار.

وبفضل الأمل في إحراز العفو، يرتقي الإنسان فوق غيوم اليأس القاسية التي تتلبّدَ فوق رأسه، ويتمكن من رؤية عالمه نيِّرًا مضيئًا. والسعداء المحظوظون الذين هم على دراية بأجنحة العفو الـمُـرَقِّية؛ يعيشون طولَ أعمارهم وهم يسمعون ألحانًا تبعث الانشراح في الأرواح.

إننا نؤمن بأن العفو والتسامح سيضمد كثيرًا من جراحنا، المهم أن يكون هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته ويحسنون استخدامه، وإلا فإن كثيرًا من المعالجات الخاطئة التي دأَبْنا عليها، ستضعنا أمام مضاعفات وتعقيدات كثيرة، وستجعلنا بعد هذا الحين أيضًا في حيرة وارتباك.
إن الإنسان الذي لا يزال قلبه متعلقًا بطلبِ العفو عن أخطائه، لا يمكن أن نتصوره بعيدًا عن مشاعر العفو عن الآخرين أيضًا، فهو يحب أن يعفو عن غيره كما يحب أن يُعفَى عنه. وإذا كان يعلم أنَّ ارتشافه وارتواءه من كوثر العفو هو السبيل إلى خلاصه من نار المعاناة التي أشعلتها آلام المعاصي في دواخله، فهل يمكن له ألا يعفو هو أيضًا لا سيّما إذا أيقن أن العفو عنه يمرّ عبر طريق العفو عن الآخرين؟

لن ينال المغفرة إلا من يغفر، ومن لا يَغفِرْ فلن يُغفَر له، أما من يسدون طرق التسامح أمام الآخرين، فهم وحوش فَقدوا إنسانيتهم، وإن غلاظ القلوب الذين لم يَسبِق لهم أن تلوَّوْا بوعكات ذنوبهم، لن يتذوقوا ما في العفو من لذة سامية.

رأى السيد المسيح عليه السلاتم ذات يوم امرأة آثمة يسوقها الناس ليرجموها، فقال لمن احتشدوا هناك: “من كان منكم بلا خطيئة فليرم بأول حجر”، فهل يُتصوَّر من أي شخص أدرك الرسالة الدقيقة التي تنطوي عليها هذه العبارةُ المعبِّرة أن ينبري لرجم الآخرين وهو يعلم أن له رأسًا يستحق الشج قبل الآخرين؟! فيا ليت التعساء الذين يستهلكون أعمارهم في أيامنا هذه في سبيل مقاضاة الآخرين، يستوعبون هذه الرسالة.

صحيح أنه ينبغي أن يَلقَى المجرم جزاءه، وليس لأي شعور راقٍ -بما فيه الشفقة- أن يَحُول دون تطبيق هذا الحكم الذي نزل الأمر به من المقام السامي، ولكن ليس هناك حُكمٌ يقضي برجم مَن أدانتهم عداوتُنا وبغضاؤُنا، بل يستحيل ذلك، والحق أننا ما لم نحطم ما في ذواتنا من الأصنام بشجاعة كشجاعة إبراهيم عليه السلام، فلن نستطيع أن نتخذ قرارات صائبة، لا في حقنا ولا في حق غيرنا.

إن الإنسان الذي لا يزال قلبه متعلقًا بطلبِ العفو عن أخطائه، لا يمكن أن نتصوره بعيدًا عن مشاعر العفو عن الآخرين أيضًا، فهو يحب أن يعفو عن غيره كما يحب أن يُعفَى عنه.
لقد ظهر العفو إلى الوجود بالإنسان، وبه وصل إلى الكمال، وتجلى بأرقى صوره في أعظم شخصية عرفها الوجود صل الله عليه وسلم.

وأما الحقد والكراهية والبغضاء فهي بذور جهنمية بَذَرَتْها الأرواح الخبيثة بين بني الإنسان، وعلينا أن نُنقذ إنساننا الذي يُساق نحو عواقب مجهولة في خضم ألفِ أزمة وأزمة، علينا أن ننقذه لنقاوم بذلك الذين ينفخون في كِير العداوة والبغضاء، ويحوِّلون وجه المعمورة إلى مهاوي الجحيم. لقد لُوِّث القرنان المنصرمان على أيدي الذين لا يعرفون العفو والتسامح أيَّما تلويث! وشُوِّها أيَّما تشويه! وحينما يَرِد على بالنا احتمالُ أن يتحكم هؤلاء التعساء في مستقبلنا، فلا نتمالك إلا أن نرتعد فرقًا وتختلج قلوبنا. إن أكبر هدية يقدمها أجيالُ هذا العصر لأولادهم وأحفادهم، أن يعلِّموهم “فضيلة العفو”، وأن يدربوهم على الصفح عن أسوأ التصرفات وأشدِّ الأحداث إثارةً للغثيان.

أما التفكير في العفو عن تلك الأرواح الطاغية الثائرة التي تفترس الإنسان وتتلذذ بتعذيب الآخرين، فهو إهانة لمؤسسة العفو. أجل، إن العفو عنهم إهانة وتحقير للإنسانية، فضلاً عن أنه ليس من صلاحياتنا، ولا نعرف أحدًا يرى مثل هذه الإهانة أمرًا معقولاً.

لقد ترعرع جيل على تشجيع العداوة، ثم ألقي به في عالم ظلّ يشاهِد في حلباته مَشاهد الوحشية المروِّعة، فكان لا يرى إلا مناظر الدماء والصديد حتى في الأوقات التي تُضيء آفاقه وينبلج فيها فجر جديد. فهل كان لهذا الجيل أن يتعلم شيئًا من مجتمع يصوِّت بالدم ويتنفس بالدم ويفكر بالدم ويضحك بالدم؟

لقد كان ما يُقدَّم له مختلفًا تمامًا عما كان يتلهف إليه قلبه بفارغ الصبر، فاكتسب فطرة ثانية تحت تأثير الإهمال والتلقينات الخاطئة. وليتنا في هذا الوقت الذي صارت فيه الفتن سيلاً هادرًا والفساد طوفانًا كاسحًا، تَفَهَّمْنا مشكلاته على الأقل، ولكن هيهات هيهات، وأين نحن من تلك البصيرة؟!

إننا نؤمن بأن العفو والتسامح سيضمد كثيرًا من جراحنا، المهم أن يكون هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته ويحسنون استخدامه، وإلا فإن كثيرًا من المعالجات الخاطئة التي دأَبْنا عليها، ستضعنا أمام مضاعفات وتعقيدات كثيرة، وستجعلنا بعد هذا الحين أيضًا في حيرة وارتباك.

اِعرف المرضَ أوَّلاً ثم تصدَّ للتداوي،

هل تحسب أن كل مرهم لأي جرحٍ يداوي! (ضياء باشا).

(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:14 (مارس 1980). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

فتح الله كولن  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتح الله كولن    فتح الله كولن  Emptyالثلاثاء 12 مارس 2019, 7:41 pm

دنيا في رحم الولادة
 فتح الله كولن


يمر العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بأحلك الفترات تأزمًا على مر التاريخ، من حيث الاعتقاد والأخلاق والمنهج الفكري والمعرفة والصناعة والعادات والتقاليد والأوضاع السياسية والاجتماعية.

لقد نجح المسلمون ردحًا من الزمان، في تأسيس حضارة عظمى وإدارة مُثلى تَحار دونها العقول، لمّا كانوا أكثر أهل الأديان تمسكًا بحقائق الدين، وأشدَّ أهل الأرض التزامًا بفضائل الأخلاق، وأوثقَ مجتمعات المعمورة أعرافًا وتقاليد، وأسمى أبناء المبسوطة نُظُمًا فكرية وأنماطًا معرفية، وأكثر أمم العالم قدرةً على قيادة الأرض لما يتمتعون به من أفق سياسي واسع ونظر اجتماعي عميق.. لقد أحيوا دينهم بمثالية عالية لا خلل فيها، وسموا بأخلاقهم إلى حد الكمال، وتمثلوا برؤية علمية فريدة، وتجاوزوا الزمان الذي عاشوا فيه سبّاقين له متقدمين عليه، واعتمدوا على الركائز الثلاث -الإلهام والعقل والتجربة- مستوعبين لمضامينها مستثمرين لمعانيها.. ومن ثم وُفّقوا إلى أن يوسعوا إدارتهم من جبال “بيرينيه” إلى المحيط الهندي، ومن قازان إلى الصومال، ومن بُواتييه(1) إلى سد الصين… وبينما كانت البشرية تتخبط في أحلك عصور الظلام، فقد أتاحوا للشعوب التي عاشت تحت رعايتهم وفي ظلال حمايتهم، إمكانية التنعم بحياة كريمة تضاهي تلك الأنظمة المرسومة في “المثاليات” وجعلوا الدنيا بعدًا من أبعاد الجنة.

يمر العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بأحلك الفترات تأزمًا على مر التاريخ، من حيث الاعتقاد والأخلاق والمنهج الفكري والمعرفة والصناعة والعادات والتقاليد والأوضاع السياسية والاجتماعية.
ومن المؤلم حقًّا، أن هذا العالم لما ابتعد عن المقومات التاريخية والقيم الإسلامية التي نهضت به قرونًا طويلة، فوقع أسيرًا في أغلال الجهل والرغبات البدنية والجسمية والانحلال الأخلاقي والخرافات.. انحدر إلى مهاوي الظلام والخسران، وانساق من انهيار إلى آخر.. مُهانًا تحت الأقدام، مبعثرًا كحبات مسبحة انفرط عقدُها أو كصفحات كتاب سُلّ خيطُه.. مزلزَلاً بجدل عقيم، مقصومَ الظهر بتفرق لا حد له.. مشدوهًا متحيرًا يتغنى بأناشيد الحرية وهو يعاني من أسرٍ أودى به إلى أشد أنواع الخزي والعار.. أنانيًّا يختال بنفسه رغم أنه بلا هوية.. أعلن العصيان على الله ورسوله متذرعًا برفض الثوابت التي يحظر المساسُ بها، فوقع فريسة في مخالب ثوابت أخرى بَئس بها أيما بؤس.
بيد أن هذه الفترة العصيبة المتأخرة لم تدم أمدًا بعيدًا، رغم كثرة جهود “الأربعين حراميًّا” في الخارج، وحفنة من الأخِسّاء في الداخل. وما زال المسلمون الذين يشكلون خمس البشرية اليوم، يخوضون كفاحًا من أجل انبعاث جديد في بقاع الأرض كافة، ويناضلون للفكاك من عهد هذا الأسر اللعين. وإن ما لاقوه من مصائب واعترضهم من نكبات صباح مساء لا سيما في العقود الأخيرة، قد أثمر لديهم طاقة ميتافيزيقية دافعة وفرارًا إلى الله وشحذًا لعزيمة الكفاح.
إن توافق روح الإسلام مع طبع الإنسان، ودفعه له نحو الرقيّ المادي والمعنوي، وانفرادَه بمكانة لا تُدرَك في الموازنة بين الدنيا والعقبى.. هذا كله جعلَنا –حتى في أحلك المراحل ظلمة- نتنسّم عبَقَ معاني “الحقُّ يعلو ولا يُعلَى عليه”، ونفتح أعيننا ونغمضها على حقيقة ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(الأعراف:128)، ومن ثم فإننا لم نقع في اليأس والقنوط البتة. وأنّى ذلك ونحن نشاهد من الآن، تسارعًا مطردًا في التوجه إلى الإسلام من غالب فئات البشر، ناهيك عن أن الإسلام تصدّر مكانة عالية في دائرة واسعة امتدت من أمريكا إلى آسيا، ومن الدول الإسكندنافية إلى أستراليا.
واليوم، يدخل في دين الإسلام في كل أنحاء العالم مئات الآلاف من الناس كل سنة، ويلوذون بنور القرآن مع أنهم على يقين بأن مصيرهم إلى الجوع والفقر، ولم تَحظَ الكنيسة بعُشر ما حظي به الإسلام من القبول والاستحسان، رغم كثرة الفعاليات المذهلة لمختلف المذاهب النصرانية والمنظمات التنصيرية.
إن منتهى آمالنا أن نعيش في مستقبل قريب جدًّا -إن لم نُخلِف عهدنا مع الله تعالى- معاني سورة النصر بجمالها وجلالها كرة أخرى.. وأن ترفرف تحت مظلة الإسلام راياتُ الإيمان والأمن والأمل، وبالتالي الأمان والاطمئنان مرة أخرى في شتى بقاع الأرض من أمريكا إلى أستراليا، ومن دول البلقان إلى سد الصين، ومن أوربا إلى مجاهيل إفريقيا، وأن تتعرف البشرية في الأرض كلها على نظام عالمي جديد يفوق الخيال، وأن ينتفع كل إنسان من تلك النسائم الجديدة بقدر ما تتسع له قابلياته وعالمه الفكري.

من المؤلم حقًّا، أن هذا العالم لما ابتعد عن المقومات التاريخية والقيم الإسلامية التي نهضت به قرونًا طويلة، فوقع أسيرًا في أغلال الجهل والرغبات البدنية والجسمية
ورثة الأرض
الدنيا تدور وتدور.. وكلما دارت فإنها تؤوب إلى فلكها الأصلي. فيا ترى، هل ورثة الأرض الحقيقيون جاهزون لاسترداد مراثهم الذي أضاعوه وسلبه الآخرون؟
إن الحق الموهوب -ابتداءً- شيء، والحق الموهوب بسبب التمثل العملي شيء آخر. فالحق إن لم يمثّل حسب مقاييس قيمه الذاتية، فإنه يمكن أن يُسلَب من أصحابه في أي لحظة، ويُسلَّم إلى قوم آخرين يكونون أجدر ولو نسبيًّا بتمثيل الخير، وهكذا إلى أن ينشأ الممثلون الحقيقيون للحق.
يقول الله تعالى في الفرقان البديع البيان: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105)، فلا ينبغي لامرئ أن يساوره شك في أن هذه الحقيقة التي أقسم الله تعالى عليها ستقع يومًا ما، وأن هذه الوراثـة لن تقتصر على الأرض وحدها؛ لأن مَن يـرث الأرض ويحكمها، يتحكم في آفاق الفضاء والسماء. وبعبارة أخرى فإن هذه سلطنة على الكون كله، ولما كانت هذه السلطنة عن طريق النيابة والخلافة، كان لابد لها أن تتوافق مع خصال التمثيل التي أوجبها المالك الحقيقي للسماوات والأرض؛ بل يمكن القول بأن ذلك الحلم إنما يتحقق بقدر حيازة هذه الخصال ومعايشتها.
ثمة مرحلة في تاريخنا سادها الضباب والدخان، حَرَمَ المالك الحقيقي الإرث فيها عمن ادعوا أنهم ورثة الأرض الحقيقيون، لأنهم لم يبذلوا الجهد الذي تتطلبه تلك الوراثة السماوية، ومن ثم فإن الخلاص من هذا الحرمان لا يتأتى إلا بالعودة إليه تعالى واللجوء إليه مجددًا.
إن الله ما وعد وراثة الأرض هذا ولا ذاك، بل وعدها الصالحين من عباده.. الذين هم للروح المحمدية والأخلاق القرآنية يمثلون.. والذين هم بالوفاق والاتحاد يقومون ويقعدون.. والذين هم بمقتضيات عصرهم واعون.. والذين هم بالعلم والفن يتزودون.. والذين هم للموازنة بين الدنيا والعقبى متقنون.. وخلاصة القول، إن الله تعالى قد وعد تلك الوراثة عِقبان الروح والمعنى ممن يحلّقون في مدار واحد مع سادتنا الصحابة الكرام، نجوم سماء النبوة.. إنها سنة إلهية… “وشريعة فطرية” لا تتبدل ولا تتغير، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر:43).

عوامل الوراثة
ومن هنا فإن وراثة الأرض مرهونة أولاً بالصلاح الذي يتبلور في تمثل الدين على هدي الكتاب والسـنة وفي السعي لاتخاذ الإسلام روحًا للحياة، ثم بوراثة علوم العصر وفنونه. ولا يغيبن عن خلَدنا البتة، أن المجتمعات والأمم مصيرها إلى الخذلان غدًا مهما كانت ظاهرةً اليوم، ما لم تأخذ بـ”الشريعة الفطرية” التي نشهدها في الكون، مظهرًا لتجليات صفتي “القدرة” و”الإرادة” ولم ترعَ مجموعة القوانين الإلهية الصادرة عن صفة “الكلام”.. أو كانت عرضة لتغير داخلي في حياتها المعنوية. وكما أن التاريخ -مقبرةَ الأمم البائدة- يجهر بهذه الحقيقة مدوّيًا، فإن الآيـة الكريمة: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الأنفال:53) تذكّرنا بأساس قويم في الظهور والانهيار، أو العز والذل، وتشير بوضوح إلى قصور هائل لدى المسلمين في هذا العصر.

الدنيا تدور وتدور.. وكلما دارت فإنها تؤوب إلى فلكها الأصلي. فيا ترى، هل ورثة الأرض الحقيقيون جاهزون لاسترداد مراثهم الذي أضاعوه وسلبه الآخرون؟
ويتلخص هذا القصور في المسخ الذي أصاب المسلمين في حياتهم الروحية والقلبية من حيث بنيتهم الداخلية، وفي التخلف الشاسع عن العصر من حيث بنيتهم الخارجية.
وسواء كان هذا المسخ والتخلف ناجمًا عن الموانع الخارجية المتتالية قرنًا بعد قرن، أم كان عن جهلنا ونقصنا وضعفنا، إلا أن الواقع يشهد بأن أمة الإسلام باتت تنـزف الدم في الآونة الأخيرة، وأصبحت غير مبالية بمصادر قوتها التي نهضت بها قرونًا طويلة.. نهضت بها وجعلتها وارثة الأرض حقًّا.
أرجوكم، هل يمكن القول بأن الذين ادّعوا تمثيل الإسلام في مرحلة بائسة من حياة أمتنا كانوا أرباب حياة قلبية وروحية عميقة على مستوى الأوائل؟ وهل بوسعنا أن نقول أيضًا، إن المسلمين في تلك المرحلة مثل الصحابة الكرام في عدم انشغالهم بالحياة لأنفسهم وفي تحفزهم من أجل إحياء الآخرين؟ تُرى، كم وجهًا مشرقًا في تلك المرحلة فضّل الموت في عزة على الحياة في ذلة كما في المثل: “إما الدولةُ في الأمجاد أو الغِربـانُ على الأجساد”؟ وكم روحًا نورانية لم تخضع لضغوط أعدائنا البتة واستقامت في حياتها فما حادت أبدًا عن النهج القويم؟
وإنّ التخلف الإداري وقصور الإداريين ليَكْلَمُ الفؤادَ، خاصة في تلك المرحلة البائسة. لاسيما أننا عجزنا عن إنقاذ أنفسنا من الرزوح تحت الوصاية، بينما حرّم القرآن الكريم علينا الحياة تحت وطأتها. أوَننكر أننا نتذلل على أعتاب الظالمين الذين يسحقوننا تحت نِير سيطرتهم منذ سنين وسنين؟ وهل بوسعنا أن ندعي أننا استجبنا -كما يليق بورثة الأرض- لما أمرنا به ديننا من اسـتعداد تام وتأهب حذر في مواجهة ألد أعداء أوطاننا وتصوراتنا ورؤانا؟ واذكروا قسم الله تعالى بالخيل ووسائل الكفاح في القرآن الكريم، وكذا أمره سبحانه بإعداد كل أنواع الأجهزة والعتاد.

الدين والدنيا
الصحيح هو أننا ارتكبنا في فترة مّا خطأ من أفدح الأخطاء التي لا تغتفر، حيث تركنا ديننا في سبيل إعمار دنيانا، وتبنينا فكرًا قادنا إلى ترجيح الدنيا على الدين. ومنذ ذلك الحين -وما زلنا- نتخبط في شباك “المستحيلات”.. فأضعنا الدين وعجزنا عن إحراز الدنيا.. وبات عالمنا هذا المجيد المنكوب، يمر بمرحلة نزف واستفراغ تتمثل في رفض ميراث مبارك يضرب بجذوره إلى ألف عام.. ومحاولة تدليس على الأمة باختلاق أصل جديد له.. وتأسيس دولة عملاقة على قاعدة هشة ضعيفة.. وتعريض التاريخ والأمة والأرومة والثقافة الموروثة إلى الازدراء والتحقير.. والالتجاء إلى من ناصبونا العداء ألف سنة، إلى أفكارهم المفعمة بالشحناء.. ثم دس أشد الأفكار إلحادًا في الوطن مصحوبة بأفحش الألفاظ.. حتى إن الجوائز والمكافآت كانت تنهمر على من يزخرف هذه الأفكار شعرًا ونثرًا.. وبات عالم المسحوقين والضعفاء والمظلومين هذا، يمارَس عليه من أدناه إلى أقصاه تطبيق الشيوعية في عواطفه وأفكاره وأخلاقه.
ثمة شرذمة مصابون بداء الإلحاد، عاجزون، مرتابون حتى في أنفسهم، يتدرعون بأيديولوجيات سياسية وأشخاص وتابوهات (ثوابت يحظر المساس بها) لمهاجمة الدين وتدنيس المقدسات حتى إنه لَتصدر عنهم اليوم أقبح الأساليب وأخزاها. وإني لأذكر زمانًا كان فيه أمثال هؤلاء التعساء إبان رواج الشيوعية والاشتراكية يستفرغون حقدهم وكرههم وغيظهم، ويناضلون لكبت صوت الدين وأهله وكأنهم في جهاد، معتمدين في ذلك كله على نظم لا أصل لها. ورغم أن “شاعر الأمل” إبان كفاحنا الوطني جعل من نشيده الوطني ملحمة تروي انبعاث الأمة من جديد، إلا أنه يعبر عن هذه الفترة الحالكة التي فُرِضت فيها رقابة قاسية على الإسلام والمسلمين فقُتِلوا وأخمدت جذوتهم وأفسدت طبائعهم فيقول في أبيات مفعمة بمزيد من الأسى والانكسار:

الصحيح هو أننا ارتكبنا في فترة مّا خطأ من أفدح الأخطاء التي لا تغتفر، حيث تركنا ديننا في سبيل إعمار دنيانا
قد انسلخ الحياء وانحسر،
فالعار ملء البوادي والقفار
كم وجهٍ قبيح لم نعرفه اختفى خلف رقيق الستار
فلا وفاء، والعهد عدم، والأمانة لفظ بلا مدلول
والكذب رائج،
والخيانة شائعة في كل مكان، والحق مجهول
العقل مرتعب جزع،
يا رب! ما أفظع هذا الانقلاب
ضاع الدين والإيمان،
فالدين خراب والإيمان تراب…(2)
وأود أن أنوه هنا إلى أن هذه الأمة الأصيلة قد عجزت عن قمعها بالكلية شتى أنواع الضغوط القهرية الإلحادية المزاجية التي تعرضت لها طوال هذه السنوات، ولم تطفئ أبدًا شعلة أفكارها ذاتِ البُعد الأزلي والأبدي. فهذه الأفكار كانت أحيانًا جمرة تحت الرماد، وأحيانًا شرارة تشتعل نارًا بحركة طفيفة، ومصدرًا للنور كافيًا لإضاءة الدنيا أحيانًا أخرى. لكنها بقوة الجذب المركزي الناجمة عن الحيطة والحذر والتروي، اختُزلت وتقلصت بقدر ما تتسع لها نواةٌ، فاستطاعت أن تجتاز أحلك أيام الدهر لتصل إلى مرحلة تَقدِر فيها على أداء مهمتها، وهي على أهبة الاستعداد لتغمر الأرض كلها بأنوارها حينما يحين أوانها.
بيد أن ذلك منوط بأن نستخلص العبرة من سنوات البؤس الطويلة إكرامًا للمعاناة المؤلمة التي تجرعناها، والجهود المضنية التي بذلناها. فلنبادر مرة أخرى لكي نثبت أننا ورثة الأرض الحقيقيون بفهمنا للإسلام حقًّا، ذلك النبع الكافي لتحقيق انبعاثنا المادي وانبعاثنا الروحي.. وبانخراطنا في جموع عباد الله الصالحين.. هؤلاء الأبطال المشبوبون عاطفة، المسدَّدون فكرًا، المرهَفون حِسًّا، المستنيرون شعورًا، الأقوياء إرادة.. هؤلاء المتشبّعون بفكرة إعلاء كلمة الله المتحفزون لها دومًا.. المنظِّمون لحياتهم العلمية بمنهاجية فريدة.. الموفَّقون إلى مزواجة العقل والقلب.. الأمناءُ في أعمالهم الثقاتُ في سلوكهم.. المستقرون في شخصياتهم بحيث لا يندحرون أمام نوازعهم النفسية أبدًا. فعلينا أن نواصل السير قُدُمًا في هذا الاتجاه المفقود والخط المضيَّع تحت عناية الله ورعايته.
ـــ
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.
الهوامش:
(1) بيرينيه: سلسة جبال بين فرنسا وإسبانيا. قازان: عاصمة جمهورية تاتارستان ذات الحكم المحلي في روسيا، والمدينة على نهر الفولغا. بواتييه: مدينة في فرنسا اشتهرت بمعركة بلاط الشهداء. (المترجم)
(2) من ديوان “الصفحات” للشاعر محمد عاكف، وهذه ترجمة من التركية. (المترجم)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
فتح الله كولن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: كتب وروابات مشاهير شخصيات صنعت لها .... :: شخصيات :: شخصيات دينيه-
انتقل الى: