معركة مؤتة
معركة أو غزوة أو سرية مؤتة واحدةٌ من المعارك الإسلاميّة التي وقعت أحداثُها في عهدِ النبيّ -صل الله عليه وسلم- خارج حدود شبه الجزيرة العربية، وقد أجمع المؤرخون في كتب التاريخ والسير إلى إطلاق مسمى غزوة على هذه الواقعة على الرغم من عدم مشاركة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها؛ نظرًا للنتائج المهمة التي غيرت تاريخ المنطقة؛ إذ كانت بوابة دخول الإسلام إلى بلاد الشام والعراق ومنها للعالم بأسره، والجدير بالذكر أنّ مصطلح غزوة في التاريخ الإسلامي يُطلق على الحروب التي شارك فيها النبي الكريم عدا ذلك فهي معارك وسرايا وبعوث. وهذا المقال يُسلط الضوء على أحداث معركة مؤتة وتفاصيل أخرى حولها.
أسباب معركة مؤتة
اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- كافة الأساليب من أجل نشر الإسلام وإبلاغه إلى الناس أجمعين ومنها مكاتبة الملوك والأمراء والأباطرة والقياصرة في كافة الأنحاء داعيًا إياهم إلى الإيمان بالله وحده ونبذ ما هم عليه من الكفر، فأراد النبي الكريم إرسال تلك الرسالة الدعوية إلى قيصر عظيم الروم فاختار لتلك المهمة الصحابي الجليل الحارث بن عمر الأزدي، وفي الطريق اعترضه عاملٌ من عُمّال قيصر الروم في بلاد الشام يُدعى شرحبيل بن عمرو الغسّاني واقتاده معه مكبلًّا بأصفاده ثم قتله، وتعتبر جريمة قتل الرُّسل والمبعوثين والسفراء من أكثر الجرائم بشاعةً وإيذانًا بإعلان الحرب على الجهة القاتلة وهذا ما حدث فعلًا، إذ قرر الرسول -صل الله عليه وسلم- الحرب على قاتلي سفيره إلى قيصر الروم. 1) 2)
متى كانت معركة مؤتة
وقعت أحداث غزوة مؤتة في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة بين جيش المسلمين المكوّن من ثلاثة آلاف مقاتلٍ وتجمع القبائل العربية النصرانية والروم بجيشٍ واحدٍ قوامه مِئَتا ألف مقاتلٍ في موضعٍ يُقال له مؤتة وهي اليوم بلدة تتبع محافظة الكرك في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية. 3)
التجهيز لمعركة مؤتة
عندما علم النبي -صل الله عليه وسلم- وأصحابه بمقتل مبعوث رسول الله الحارث بن عمر الأزدي على يد عامل هرقل قيصر الروم غضب غضبًا شديدًا وعقد العزم -عليه الصلاة والسلام- على الثأر لمبعوثه الذي قتل ظلمًا وعدوانًا وفي ذات الوقت تأديب القبائل العربية النصرانية المتاخمة للحدود الشمالية لشبه الجزيرة العربية، فأرسل إليهم جيشًا تعداده ثلاثة آلاف مقاتلٍ دون أن يخرج -عليه الصلاة والسلام- مع الجيش وإنما جعل قيادته للصحابي زيد بن حارثة فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب فإن قُتل فعبد الله بن رواحة -رضوان الله عنهم- فإن قُتل فيختار جيش المسلمين من بينهم من يرضونه قائدًا لهم، ثم أوصى الجيش وقيادته بالوصية التي يُكررها على مسامع كل سريةٍ أو بعثٍ لقتال عدو وهي: “اغزوا باسمِ اللَّهِ وفى سبيلِ اللَّهِ وقاتلوا من كفرَ باللَّهِ، اغزوا ولا تغدروا ولاَ تغلُّوا ولاَ تمثِّلوا ولاَ تقتلوا وليدًا” 4).
أحداث معركة مؤتة
انطلق الجيش الإسلامي بقيادة زيد بن حارثة -رضي الله عنه- من المدينة بإتجاه الشام حتى وصل إلى معان -مدينة أردنية حاليًا- بعد رحلةٍ شاقةٍ وطويلة ليتفاجأ الجيش بأن التحالف الرومي العربي قد حشد لهم ما يربو على مائتي ألف مقاتلٍ رغبةً من كليهما في القضاء على الإسلام واجتثاث المسلمين من شبه الجزيرة العربية للأبد. 5) 6) 7)، وقد عقد جيش الإسلامي مجلسًا استشاريًّا مصغرًّا لاتخاذ قرارٍ بشأن المواجهة مع تجمع الروم والعرب وتمخض ذلك المجلس عن ثلاثة آراءٍ:
إرسال رسالةٍ إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- في المدينة شارحةً الوضع في أرض المعركة وانتظار قراره بالمدد أو الانسحاب أو القتال.
انسحاب الجيش كاملًا من المعركة لعدم التكافؤ.
القتال وعدم التراجع.
وبعد المداولة بين الصحابة استقرّ رأيهم على خوض المعركة، على الرّغم من عدم التكافؤ العدديّ والعَتَاديّ خاصةً بعد كلماتٍ قليلةٍ قالها عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- ألهبت الحماس والاستبسال وطلب الشهادة في أفراد الجيش المسلم، ويُعدّ هذا الرأي هو الأصوب؛ إذ لم يعارضه النبي -صل الله عليه وسلم- بأي كلمةٍ مما يُدلل على أنّ المسلمين طُلّاب آخرةٍ لا دنيا وإنما قتالهم في سبيل الله تعالى دون الاتكال على العدد أو العتاد وإنما على ما في قلوبهم من الاتكال على الله وحده.
بعد الإجماع على قرار خوض المعركة بدأ المسلمون في البحث عن مكانٍ مناسب للقتال قبل تحالف الروم والعرب فانطلقوا من معان إلى الشمال بإتجاه محافظة الكرك حاليًا واستقر مقامهم في موضعٍ هناك يُقال له مؤتة وهو عبارةٌ عن سهلٍ منبسطٍ لا تضاريس فيه يمنع نصب الكمائن للمسلمين، كما أنّ طبيعة البيئة الصحراوية كانت مناسبةً للعرب أكثر من الروم كونها تشبه أرض شبه الجزيرة العربية التي اعتادوا على القتال فوقها، وإلى الجنوب من مؤتة تقع صحراء ممتدة إلى شبه الجزيرة العربية والتي يخشى الروم التوغل فيها خوفًا من جيش كامن في النتظارهم خلف التلال الرملية.
بدء معركة مؤتة
اصطف الجيشان قُبالة بعضهما البعض فوق أرض مؤتة التي شهدت أشرس وأعنف المعارك التي سجلها التاريخ الإسلامي، وحمل زيد بن حارثة -رضي الله عنه- راية المسلمين، وبدأت المعركة وإلتحم الفريقان وتعالت أصوات السيوف واستشهد قائد المسلمين زيد بن حارثة فحمل راية المسلمين جعفر بن أبي طالب بيده اليمنى حتى قُطعت فحملها باليد اليسرى فقُطعت في سبيل الله فحملها -رضي الله عنه- بين عضديْه حتى خرّ شهيدًا على أرض مؤتة لذا لُقِب بذي الجناحيْن، فحمل من بعده الراية عبد الله بن رواحة فقتال قتالًا عظيمًا حتى استُشهد وروت دماؤه أرض مؤتة -رضوان الله عليهم-، وبقي الجيش المسلم بلا قائدٍ بعد استشهاد القادة الثلاثة الذين اختارهم النبي -صل الله عليه وسلم- لقيادةِ الجيش على الترتيب.
القائد الرابع في معركة مؤتة
بعد استشهاد قادة الجيش النبوي على الترتيب جاءت اللحظة الحاسمة لاختيار قائدٍ جديدٍ للجيش المسلم فدُفعت الراية إلى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ليكون قائد الجيش -ولم يمض على إسلامه سوى ثلاثة أشهرٍ- فوافق المسلمون على هذا الاختيار من قبل الصحابي ثابت بن أقرم -رضي الله عنه-، واستلم خالدٌ القيادة فقاتل قتالًا عظيمًا حتى تكسرت تسعة أسيافٍ في يده، وكان ثباته واستبساله في القتال المحفز الأكبر لثبات جُنده حتى غابت الشمس وحجزت الظلمة بين الفريقيْن.
عبقرية خالد
ما إن جنّ الليل حتى توقف القتال واستسلم الروم ومن حالفهم للراحة أما خالدٌ ومن معه فكانوا في حركة دؤوبةٍ لإخراج أنفسهم من هذه الحرب بأقل الخسائر الممكنة، وهنا برزت عبقرية خالد الحربية والقتالية والتي اعتُبرت واحدة من أفضل الخطط الحربية في التاريخ وكانت تهدف إلى إشعار الروم بأنّ مددًا جاء للمسلمين من المدينة بأعدادٍ كبيرةٍ لبثّ الرعب في نفوسهم فجعل خيل المسلمين تجري طوال الليل مثيرةً الغبار والأتربة كي يوهم الروم بأنّ جحافل قادمة للمسلمين، ثم أعاد ترتيب الجيش بجعل ميمنته ميسرة وميسرته ميمنة ومقدمته مؤخرة ومؤخرة الجيش مقدمته لإشعار الروم بأنّ جنودًا جددًا أتوا في الليل، كما جعل عددًا من الجنود على مسافةٍ بعيدةٍ من موضع المعركة مهمتهم إثارة الغبار بجري الخيل لإشعار الروم بأنّ المدد مازال مستمرًا.
والبند الأخير من الخطة كان في صباح المعركة حين بدأ خالدٌ بالانسحاب بالجيش على مرأى من الروم دون أنْ يحركوا ساكنًا اعتقادًا منهم باستدراج خالدٍ لهم إلى عمق الصحراء حيث تتوافد الجيوش المسلمة من المدينة، فأحجم الروم عن اللحاق بهم، وبالتالي استطاع خالدٌ الانسحاب بالجيش دون سقوط شهداء ثم بدأت رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالمين، واستشهد من المسلمين اثني عشرًا صحابيًّا فقط من بينهم قادة الجيش الثلاثة أما تحالف الروم والعرب فقُتل منهم حوالي ثلاثة آلافٍ وثلاثمائة وخمسين رجلًا.