[rtl]العلاقة بين المجتمع والسلطة في الدولة الإسلامية[/rtl]لطالما شكلت طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة أكبر المشكلات المؤرقة لمختلف الدول والتوجهات الفكرية المرتبطة بتصورات معينة عن شكل الدولة، وتثار عندها التساؤلات التالية: هل المجتمع هو مالك الأمر في موضوع حكم الدولة فيعطي الحاكم أو الحكومة صلاحيات الحكم ويسحبها إذا أراد؟ وهل توجد منظومة يمكنها الضغط على الحكومة من شخصيات الشعب وتشكيلاته المختلفة؟ وما حدود تدخلات الحكومة في المجتمع، فهل تملك الحكومة منظومة التعليم ومنظومة الأخلاق ومنظومة الصحة والمؤسسات الاجتماعية المختلفة؟
مبدئيًا، كلما زاد تدخل النظام السياسي في تفاصيل المجتمع تحول المجتمع إلى مجتمع هش ضعيف، وبالتالي تتمكن السلطة من الاستبداد والسيطرة على المجتمع؛ فالمجتمعات الاشتراكية عمومًا، والأنظمة المستبدة في الدول العربية بشقيها الملكي والجمهوري تميزت بتدخلها في تفاصيل المجتمع، والسيطرة على كل منظوماته؛ ما جعله مجتمعًا مشلولًا لا يستطيع التحرك في مواجهة الحكومة؛ فالدولة تملك المناهج التعليمية، وتملك منظومة الأخلاق، وتملك دور العبادة، وتتحكم في الموعظة على المنابر، ولا وسائل إعلام إلا إعلام الحكومة، ولا نقابات خارجة عن سيطرة الحزب الحاكم، ووصل الأمر إلى التحكم في السكان ومواليدهم، كما في قضية تحديد النسل في الصين مثلًا، والتحكم في أماكن توزيعهم في الدولة ومجال عملهم!
وموضوع هذه المقالة الرئيس في الحديث عن العلاقة في الدولة الإسلامية، من الناحية النظرية والنموذجية، وليس من ناحية الحوادث التاريخية القصيرة والمرتبطة بظروف معينة.
فما الظروف التي تحكم علاقة الرعية والحاكم (شكل العقد الاجتماعي)؟ وما دور العلماء في الدولة وعلاقتهم بالحكام؟ وكيف أدار المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (منظومة الأخلاق)؟ وما دور نظام الأوقاف في بناء الحضارة الإسلامية: من امتلكه وكيف أداره؟ وماذا بخصوص المدارس المتعددة للمذاهب الفقهية المختلفة؟
السلطان للأمة
تقوم فكرة العقد الاجتماعي في الدول الحديثة على رضا الشعب بوجود دولة في صيغة “سلطة”، مع إعطائها الحق في احتكار القوة، والحق في جباية الضرائب، مقابل رعايتها للمصالح العامة وإعطاء الناس حريتهم من خلال حكمهم بالدستور الديمقراطي المتفق عليه برأي الأغلبية.
لكن في فلسفلة الدولة في الإسلام ليس الناس من أوجدوا الدولة؛ لأن وجود السلطان هو ضرورة شرعية فرضها المشرع، وتكون القيمة العليا هنا في النظام هي إنفاذ حكم الشرع، وبالتالي ضرورة وجود سلطة تقيم هذا الشرع، وضرورة تطبيق القوانين استنباطًا من أحكام الشريعة.
إذا كانت الدولة وقوانينها قائمة بأمر الشرع لا بقرار الناس، فأين يكون معنى القاعدة المعروفة “السلطان للأمة”؟ السلطان للأمة في تنصيبها للحاكم من خلال البيعة بما يضمن إقامة أحكام الشرع، فيكون العقد هنا: “نبايعك إمامًا ما أقمت فينا الشرع”. وقد ظهر هذا المفهوم جليًا في خطبة صديق الأمة:
- اقتباس :
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
وبالتالي، يحافظ هذا المفهوم على أن المجتمع هو صاحب السلطة، وهو من أعطاها وجودها الشخصي بعناصر الحكومة، رغم أنه ليس صاحب الوجود المعنوي أو الاعتباري للدولة، ويكون للأمة الحق في الاعتراض على قرارات السلطة ومراقبة عملها دون أن يكون لها الحق في مطالبته بتنفيذ أحكام تعارض الشريعة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منظومة الإسلام الأخلاقية، فتكون هذه المسؤولية الجماعية هي الضامن للحفاظ على القيم الإسلامية داخل المجتمع، قال تعالى:
- اقتباس :
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
ويبين حديث رسول الله: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان” أن حالة ردع المنكر مسؤولية جماعية تقع على كل فرد داخل المجتمع بعينه، وتقع على العامة في اجتماعهم، وعلى الحاكم وحكومته؛ فيحفظ الحاكم المجتمع ويمنع انتشار المنكر المؤدي لضياع المقاصد الشرعية، ويمنع الفرد المنكر في أسرته، ويمنع المعلم المنكر في تلاميذه، وهكذا دواليك حتى يتحقق حفظ المجتمع ككل.
وعليه، يمنع الناس فساد الإمام؛ فيأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر ويراقبون أحكامه وأحكام عماله وقضاته، ويمنع الحاكم انتشار الفساد بالمجتمع من خلال محاربة أي مظاهر منكرة باستخدام السلطة المخولة لديه.
ونستنتج هنا أن منظومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجعل المجتمع قويًا بذاته، يحفظ بنيانه ويتعامل مع الأفكار الدخيلة من تلقاء نفسه، فيبقى المجتمع قويًا ببقاء منظومته الأخلاقية، وإن غابت السلطة أو انهارت، أو حتى في حالة فساد الحاكم وجوره.
الحضارة الإسلامية: هبة نظام الأوقاف
حظي المجتمع الإسلامي بذلك النظام الفريد المسمى «الأوقاف»، والذي كان أحد أهم أسرار قوته، من خلال ما يوفره هذا النظام من مداخيل مالية كبيرة توجه كلها في رعاية الضعفاء والفقراء، وفي بناء المكتبات والمدارس، ورعاية طلبة العلم وعابري السبيل، والقيام على المستشفيات، وغيرها من مؤسسات المسؤولية الاجتماعية.
هذا النظام، وما يشمله من تفرعات مثل الصدقات الجارية، شكّل عماد الحضارة الإسلامية، وسر تفوق النظام الإسلامي على الاشتراكية والرأسمالية؛ فتبقى أملاك الناس لهم دون أن تسلبهم الدولة حقوقهم. ويشكل نظام الأوقاف داعمًا للاحتياجات الاجتماعية، تعوض عن الدعم الحكومي إذا نقص، أو تكون أكبر منه في الأساس.
وهذا شكل اللبنة التي بُنيت عليها الحضارة الإسلامية ومعالمها المعروفة؛ فالمساجد والمكتبات والتكيات ودور الطعام للفقراء وطلبة العلم وعابري السبيل هي من صنعت العمران الإسلامي الذي نفاخر به، وهي من صنعت العلوم والمعارف الإسلامية، لذلك يقال: “الحضارة الإسلامية هبة نظام الأوقاف”.
كما أن ما يحفظ لهذا النظام روحه وسر قوته بقاءه بعيدًا عن سيطرة الدولة، فيكون شيئًا من المجتمع يرتكز عليه الفقراء، ويكون ملكًا لعامة الرعية يتوارثونه ويعملون على تنميته وإكثاره.
العلماء والبلاط
في النظام الإسلامي علاقة معقدة بين الحكام والعلماء، فالدولة ليست وكيلة على الدين ولا تشكل مؤسسته الأولى والوحيدة، والعلماء في الأصل ليسوا موظفين عند الحاكم، وإن كانت مهمة الحاكم حراسة الدين.
وقد اختلفت العلاقة عبر التاريخ بين مفرطين في السعي حول البلاط بحثًا عن رضى الحكام، وبين علماء يبتعدون عن البلاط إلى حد المبالغة في ذم الدخول على الحكام، وآخرين مفرطين في معاداة الحكام إلى حد الخروج.
والتاريخ الإسلامي غني بأمثلة عن الحالات السابقة لا يتسع المقام للخوض فيها، لكن الهدف هنا البحث عن غاية وجود منظومة العلماء والشيوخ داخل الدولة. فالأصل أن النظام يحتوي، من ضمن ما يحتويه، العلماء بمذاهبهم المختلفة، وتلاميذ كل مذهب ورواد كل مدرسة، ومعاهد ومساجد تنقل هذا العلم وتقدم ما ينتج عنه من مؤلفات ومعرفة غنية، وصولًا لأن يصبح كل ما سبق منظومة متكاملة مستقلة بذاتها.
ولا تكون بأي حال من الأحوال العلاقة بين المنظومتين علاقة هرمية، تكون السلطة بها في أعلى الهرم والعلماء في أدناه، ولا تكون منظومة العلماء هي السلطة المتحكمة بالرعية.
كما أنه ليس من المنطق أن يبتعد العلماء عن الحياة العامة منصرفين إلى العلم البحت بما يعزلهم عن المجتمع والتأثير فيه، فيصبحوا بلا قيمة تذكر بالنسبة لعامة الناس وحاجاتهم اليومية. فالحالتان السابقتان تفسدان العلماء، فيكونوا مطية للحاكم في حال اتباعه، يوظفوهم بما يخدم سلطته ويوسعها، أو يكونوا هامشيين منعزلين عن الناس في حالة الانصراف إلى العلم وترك التدخل في السياسة.
ولكن الأصل أن تكون العلاقة بين المنظومتين علاقة أفقية، بحيث يحتويهم النظام دون أن يدخلوا مباشرة داخل جهاز الدولة؛ فيكون لهم تعليقهم على السياسات والقرارات الحكومية، ويملكون القوة للتحشيد ضد القرارات التي يعارضونها من خلال شعبيتهم وعلاقتهم المباشرة والوثيقة مع العامة، فيشكلون بذلك جماعة ضاغطة تكون لها دور غير مباشر في تعيين وعزل الحكام، وفي تمرير القرارات والسياسات العامة، ويشكلون بذلك جزءًا مما يسمى جماعات الضغط.
فيكون العلماء مراقبين على الحكام وحراس الدين الحامين لقيم النظام الإسلامي، دون أن يدخلوا في شؤون الحكم ومكاسبه ومطامعه بطبيعة الحال؛ ما يؤدي إلى فسادهم وحرفهم عن غاية وجودهم الأساسية.
سقطت الدولة، وبقي المجتمع!
تسقط الإمبراطوريات عمومًا بسقوطها السياسي باحتلال عاصمتها أو مدنها المهمة، وأحيانًا تنهار الإمبراطوريات وينتهي دورها الحضاري بموت الحاكم المؤسس أو الحاكم القوي؛ فلا يبقى منها إلا بعض الحجارة الأثرية، أو بعض المواريث المعرفية مما أنتجته تلك الحضارة، ولا يكون لها أمل في نهضة أخرى أو حياة جديدة.
ويبقى بذلك المعيار الفاصل لبقاء الحضارة أو فنائها هو بقوة المجتمع الذي تشكل داخلها، من خلال قيمة السلطة في عقله الجمعي: باعتبارها مبرر وجوده على هذا المبدأ والسبب الوحيد لوجود حضاراته؟ أم أن دورها -أي السلطة- وظيفي فقط، يبقى المبدأ الجامع قبلها وبعدها؟
وفي التاريخ الخبر والمثال الحي على ذلك، فقد سقطت الدولة الإسلامية فعليًا لا نظريًا بسقوط العاصمة بغداد بيد التتار، فنُهِبت العاصمة ودُمِّر عمرانها وأُغرِقت الكتب، لكن يمكن قراءة هذه الحادثة التاريخية من زاوية أخرى بسؤال ما الذي حصل للمجتمع الإسلامي في حينها؟
تمكن ذلك المجتمع الصلب من استجماع قواه في سعي المسلمين للدفاع عن العقيدة -المبدأ العام الذي تقوم عليه حضارتهم ودولتهم-؛ فاستجمعوا قواهم دون وجود الدولة وأعلنوا الجهاد ضد المغول، حتى كانت كل مدينة تجاهد لوحدها بما أوتيت من عدة ورجال. لكن الأهم هنا هو القدرة العجيبة للمنظومة على الاحتواء؛ حيث تمكن المجتمع من الحفاظ على عقيدته في مواجهة العقيدة الدخيلة، حتى دخلت أعداد كبيرة من التتار في الإسلام! ومن ثم، عادت الحياة للحضارة الإسلامية بحكام جدد، وبذات المجتمع الصلب.
وفي العصر الحالي، وبعد مرور حوالي قرن على زوال الجسم السياسي للدولة الإسلامية، بقيت أمواج الاستعمار تلاطم المسلمين، وتهزهم الفتن، ويبطش بهم الحكم الجبري، ورغم ذلك بقي مجتمعهم قائمًا ببقاء أجزاء من منظوماته وفساد أخرى، وظلوا محافظين على أواصر الوصل مع حضارتهم وتاريخهم، هائمين بحثًا عن طريقة تعيد الأمور لنصابها، وتعيد لهم منظومتهم التي فقدوها.
وختامًا، ليس المقصود من هذه المقالة رسم صورة وردية عن التاريخ الإسلامي الذي يبقى -بلا شك- تاريخًا بشريًا يحمل ما يحمل من أوزار وأخطاء، لكنها محاولة للبحث عن أصل العلاقات داخل الدولة في الإسلام، وعن روح المنظومة الإسلامية.