عقاب الزنا في الدنيا والآخرة
الحدود في الإسلام
الحدود ومفردُها حدٌّ، والحدُّ في اللغة هو الشّيء الفاصل بين شيئيْن، وفي الشرع هي العقوبة المقدرة من الله تعالى لانتهاك العبد حقًّا من حقوقه أو من حقوق العباد، ويُجمع غالبية الفقهاء على أنّ الحدود هي حقٌّ لله تعالى تنفذ عند ارتكاب الأفعال الموجبة للحدّ وتشمل: الحرابة والزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف -مع اختلاف أهل العلم في حدّ القذف حق لله أم حق للعبد- والقتل العمد والرِّدة، وشُرعت الحدود للحفاظ على توازن وتماسك المجتمع المسلم من الإنزلاق نحو المعاصي والرذيلة المدمرة وتأديب الفاعلين ليكونوا عبرةً لغيرهم، وهذا المقال يسلط الضوء على عقاب الزنا في الدنيا والآخرة.
عقاب الزنا في الدنيا والآخرة
تعدُّ خطيئة الزنا واحدةٌ من الخطايا والآثام التي تُوجب إيقاع أشدّ أنواع العقوبة على مرتكبها في الدنيا والآخرة، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحديد عقاب الزنا في الدنيا والآخرة كونها واحدةٌ من الذنوب التي تستوجب إقامة الحدّ الشرعي على مرتكبها رجلًا كان أم امرأةً، باعتبارها من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله وقتل النفس دون حقٍّ:”قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ قال: أن تجعلَ للهِ ندًا وهو خلقَك، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتلَ ولدَك من أجلِ أن يَطعمَ معك. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تُزانيَ حليلةَ جارك” 1).
عقاب الزنا في الدنيا في حال ثبوته على الرجل أو المرأة في الشريعة الإسلامية يختلف بحسب الحالة الاجتماعيّة لأيٍّ منهما أي المُحصن أو غير المحصن، والإحصان في الشريعة الإسلامية له شروطٌ هي: العقل والحرية والبلوغ والوطء في نكاحٍ صحيحٍ شرعًا، وبالتالي عقاب الزنا للرجل غير المُحصن أو المرأة غير المحصنة لإنتفاء أحد شروط الإحصان هو الجلد مائة جلدةً والتغريب عن مكان الإقامة لعامٍ واحدٍ، أما عقاب الزنا للمُحصن أو المُحصنة فهو الرجم حتى الموت سواءً كان متزوجًا أو مطلقًا أو أرملًا ، أما عقوبة الزنا في القانون فهي الحبس مدةً تتراوح ما بين عدة أشهرٍ إلى عدة سنواتٍ بحسب الحالة الاجتماعية للرجل أو المرأة وتوافر باقي أركان الزنا، وتختلف آلية تطبيق القوانين المتعلقة بالزنا بحسب الدول.
لا يُعلم عقاب الزنا في الآخرة لمن مات دون توبةٍ -إذ إنّ الواجب على مقترف هذا الفعل الشنيع التوية النصوح والاستغفار والاعتراف بالذنب- فأمره بيد الله تعالى إن شاء عذّبه بارتكابه كبيرةً من الكبائر وإن شاء تجاوز عن فعلته تلك وغفر له وهذا اعتقاد الجمهور من علماء أهل السنة والجماعة، أمّا من يقع عليه العذاب في الآخرة فيكون في تنورٍ من نارٍ يُعذّب فيه كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- عن عقاب الزناة في رؤيا رآها حين أتاه ملكان فإنطلقا به إلى السماء:”فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ قَالَ قَالَا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ) الحديث، وفي آخره: وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي” 2) 3) 4) 5)
التوبة من الزنا
الزنا من أكبر الفواحش التي ارتُكبت على هذه الأرض بوسوسةٍ وتزيينٍ من الشيطان، لكن اقتراف الرجل أو المرأة لهذا الذنب العظيم لا يُغلِق في وجهه باب الرحمة والمغفرة ما لم تطلُع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الشريف:”من تاب قبل أن تطلُعَ الشمسُ من مغربِها، تاب اللهُ عليه” 6)، ويجب أن تتوافر في توبة الزاني والزانية شروطًا عدة أهمها: العزم على الإقلاع عن هذه الفاحشة نهائيًّا وعقد النية على عدم العودة للزنا ثانيةً مهما كانت المغريات والإكثار من الاستغفار والدعاء وذِكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم والصلاة والصيام والسعي لآداء العمرة والحج والإكثار من أعمال الخير التطوعية وغيرها من الأساليب المعينة على عدم العودة للزنا.
حكم الزنا في الإسلام
الزنا
الزنا فاحشة عظيمة ومعصية شديدة، وهو من أبشعِ الذنوب وأقبحها، لما له من أثرٍ سيّء على الفرد والمجتمع، ويجعل في وجه الزاني ظلمة، وفي قلبه ظلمة، لهذا يُعدّ من كبائر الذنوب التي جعل الله تعالى عقابها شديدًا، فالزّاني والزّانية يُوقعان نفسيهما في حرامٍ شديد، ويُسقط الله هيبتهما في قلوب العباد، ويُسوّد وجهيهما، ويحلّ عليهما سخط الله وعقابه، ولهذا ورد تحريمه في الكثير من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: “وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا” 1)، وفي هذا المقال سيتم ذكر حكم الزنا في الإسلام.
أثر الزنا على المجتمع
أثر الزنا على المجتمع فيه كبيرٌ يورثُ الكثير من الفساد، وهو أثرٌ مدمّر يهدّدُ أركانَ المجتمع ويُسبب ضياعه، لذلك فإنّ الإسلام لم يكتفِ بمنع الزنا وتحريمه، وإنما بتحريم جميع الأسباب التي تُؤدّي إليه، إذ منع التبرّج وتعطّر المرأة وخضوع المرأة للرجال الغرباء بالقول، وغير ذلك مما يُمهد الطريق للوقوع في الزّنا، وبعض أثر الزنا على المجتمع ما يأتي:2)
يُسبب انتشار الأمراض الخطيرة في المجتمع: من أكثر ما يُسبب الزنا للمجتمع أنّه يؤدي للإصابة بالأمراض النفسية والعضوية والاجتماعية، منها الأمراض الخطيرة التي تفتك بالإنسان مثل: مرض الإيدز الذي يُعدّ الزنا سببًا رئيسًا لانتشاره وتفشيه في المجتمعات، مما يُسبب النهاية الوخيمة.
يُسبب اضطراب المجتمع وتفككه: الزنا سببٌ رئيس لتفكك الأسر وضياع أبنائها وانحلالها وضياع الحياء فيها، فأصبح أبناؤها كالبهائم ليس لهم هدف سوى إشباع غريزتهم، ويجعل المجتمع فاشلًا وهابطًا ليس فيه همٌ سوى إشباع الغريزة والشهوة الجنسيّة.
يجلب الفقر: يُسبّب الزنا ضيق ذات اليد، ودمار المجتمع اقتصاديًا، لأنّ الزاني يُنفق أمواله فيما يُغضب الله، ويترك حقوق أبنائه وأهله ووالديه في أمواله، ولا يكون له همٌ إلّا ان يُنفق المال لإشباع شهواته الجنسية.
يفتح الباب للمزيد من الذنوب والمعاصي: الزنا بابٌ لارتكاب معاصٍ أخرى شديدة، فالزنا طريقٌ لشرب الخمر والقتل والسرقة والاغتصاب والمخدّرات وغير ذلك من الذنوب التي تُسبب الهلاك للفرد والمجتمع، وتوقع الفرد في ظلمة المعاصي المهلكة.
ينزع الإيمان من القلوب: الزنا سببٌ لنزع الإيمان وزواله من قلوب مرتكبيه، لذلك يجعل المجتمع بلا إيمان، ويُسبب ضعف الوازع الديني، إذ يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن” 3)
يعزل أبناء المجتمع عن بعضهم: يُسبّبُ الزنا الانعزال عن الناس، وكره أبناء المجتمع لبعضهم البعض، لأنّ الزاني يشعر بينه وبين نفسه بالعار، فيمتنع عن مجالسة الناس، وهذا يُحدث فجوة كبيرة في المجتمع.
حكم الزنا لغير المتزوج
حكم الزنا لغير المتزوج وللمتزوّج محرّم، وهو مُحرّم في الكتاب والسنّة والإجماع، وقد ورد تحريمه في الكتاب بآياتٍ كثيرة منها قوله تعالى: “الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ”4)، أما في السنّة النبوية، يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: “ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له”5)، أمّا في الإجماع فقد اجمع علماء الإسلام منذ عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وزمن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين إلى اليوم على أنّ حكم الزنا محرّم، لكن الاختلاف يكمن في الحدّ، إذ إنّ حدّ الزنا لغير المتزوج يختلف عن حدّ الزنا للمتزوج، وجميع النصوص في الكتاب والسنة النبوية والإجماع أجمعت أنّ حكم الزنا لغير المتزوج لا يقتضي إقامة حدّ القتل عليه، وهو ما يُعرف بالزاني غير المحصن، إذ أنّ الزاني غير المحصن يُجلد ولا يُقتل، ويقول الله تعالى في حكم الزنا لغير المتزوج: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ “6)، وقد أجمع الفقهاء أنّ حدّ الزنا لغير المتزوج يكون بالجلد ثمانين جلدة والتغريب.7)
حكم الزنا للمتزوج
حكم الزنا للمتزوج حرام، ويجب إقامة حدّ الزاني المحصن عليه، وحدّ الزنا للمتزوج هو الرجم حتى الموت، ويجب تنفيذ الرجم على الفاعل والمفعول به إن كان كلاهما محصنًا، وقد ورد عن النبي -صل الله عليه وسلم- أنه قال: “اقتلوا الفاعل والمفعول به”
، ويجب إقامة حدّ الزنا على الزاني المتنزوج حتى وإن كان شريفًا، والرجم حتّى الموت للمحصن مشروعٌ بإجماع علماء المسلمين، لكن يجب الانتباه إلى أنّ حكم الزنا وحدّه لا يثبت إلّا بأربعة شهداء.9)
كفارة الزنا في الإسلام
الزنا ذنبٌ عظيمٌ، وعظم ذنبه أكبر من أن يُكفّر بكفّارة، وقد اتفق جمهور العلماء أنّه لا كفّارة للزنا لأنّه أعظم من أن يُكفّر،10)، فالزنا من أعظم الكبائر، وقد توعّد الله تعالى الزاني بالعقاب المضاعف يوم القيامة والعذاب المقيم والخلود في جهنّم، وذلك لعظم هذه الفاحشة وسوء عاقبتها، إذ يقول الله تعالى في محكم التنزيل: “وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * ضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا”11)، وعلى من وقع في الزنا أن يتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحة لعلّ الله يقبل منه، ويكون هذا بالإكثار من العمل الصالح وصدق الإيمان، وأن يُقلع عن الذنب تمامًا؛ لأّن التائب عن الذنب كمَن لا ذنب له، لقوله تعالى: “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى”12) والواجب يقتضي أن يتقي المسلم الوقوع في هذه الفاحشة العظيمة، وأن يتجنب كل ما يؤدّي إليها، وأن يُبادر بالتوبة الصادقة، علمًا أنّ إقامة الحد لمرتكب هذه الفاحشة هو نوعٌ من التكفير عن هذا الذنب العظيم، ودائمًا باب التوبة لله مفتوح، بشرط أن تكون التوبة صادقة وخالصة لوجه الله تعالى.13)
المراجع
1. ↑ {الإسراء: آية 32}
2. ↑ فاحشة الزنا، “
www.saaid.net”، اطُّلع عليه بتاريخ 3-9-2018، بتصرّف.
3. ↑ الراوي: علي بن أبي طالب، المحدث: ابن عدي، المصدر: الكامل في الضعفاء، الصفحة أو الرقم: 9/122، خلاصة حكم المحدث: [فيه] يحيى بن هاشم يضع الحديث ويسرقه
4. ↑ {النور: آية 3}
5. ↑ الراوي: الهيثم بن مالك الطائي، المحدث: الألباني، المصدر: ضعيف الجامع، الصفحة أو الرقم: 5173، خلاصة حكم المحدث: ضعيف
6. ↑ {النور: آية 2}
7. ↑ حد الزنا، “
www.alukah.net”، اطُّلع عليه بتاريخ 3-9-2018، بتصرّف.
8. ↑ الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: ابن حزم، المصدر: المحلى، الصفحة أو الرقم: 11/387، خلاصة حكم المحدث: ضعيف
9, 10. ↑ حد الزنا، “
www.alukah.net”، اطُّلع عليه بتاريخ 3-9-2018، بتصرّف.
11. ↑ {الفرقان: آية 68-70}
12. ↑ {طه: آية 82}
13. ↑ جريمة الزنا والخلاص من آثاره، “
WWW.binbaz.org”، اطُلع عليه بتاريخ 3-9-2018، بتصرّف.