على متن كوينسي
هكذا تمت الترتيبات بنجاح .. ونجحت خطة التكتم والسرية التي حذقها إيدي وتمرن عليها .. وتم نقل الملك إلى كوينسي الرابضة في المياه المصرية حيث كان ينتظر الرئيس .. وهنا يظهر شاهد العيان وتظهر مذكراته .. وليام إم ريجدون William M. Rigdon المساعد البحري للرئيس روزفلت هو شاهد العيان هو الذي رأى وأطلع على ملخص الرئيس حول ضيفه الملك .. ما يحبه وما يكرهه .. صفاته ومعتقداته .. عاداته العربية والإسلامية .. يقول عنه أن لصاحب الجلالة شخصية ساحرة وقوية .. وأن اي تراخ حول معارضته للأهداف الصهيونية في فلسطين تعد تعارضا مع مبادئه .. بمجرد ما أن وضع الملك قدميه على ظهر السفينة كوينسي وألتقى بالرئيس الأمريكي روزفلت وجها لوجه حتى صارت الألفة بينهما .. كلاهما بدأ بالبحث عن أوجه التشابه وليس أوجه الإختلاف .. كان التركيز دائما على التوافق والإنسجام .. عما يجمع ولا يفرق.
هذا ما أوضحه إيدي الذي كان دائما بينهما يلعب دور الوسيط والمترجم وهو يروي تلك اللحظات الأولى من اللقاء .. يتحدث الملك حول كونه شقيقا وتوأما للرئيس فيرد عليه الرئيس بانه محظوظ فمازالت قدميه تستطيعان حمله إلي اي مكان يريد .. فيجيبه الملك .. بل أنت المحظوظ يا سيدي الرئيس .. فأقدامي تضعف على مر السنين وهذا الكرسي المتحرك الذي تجلس عليه يعول عليه كثيرا .. فأنت متأكد من قدرتك على الوصول .. عندئذ قال له الرئيس .. لدي كرسيان متحركان. وهما أيضا توأمان. فهل تقبل واحدا منهما كهدية شخصية مني لك .. فقال له الملك ممتنا .. سأستخدمه يوميا ودائما سأتذكر بحب صديقي الواهب العظيم والعزيز
الكاريزما والتلقائية إقناع ومصداقية
دبلوماسية تنطوي على رقة ودماسة رغم الفارق الثقافي .. هو من الغرب ونحن من الشرق .. لكن للقلوب أحكامها الخاصة .. ولقد حدثت بالفعل التوأمة منذ اللحظات الأولى .. ولم يكتفي الرئيس بهديته الشخصية التي قربت القلوب .. فإذا به يقدم له هدية أخرى لتقرب المسافات .. وكانت الهدية عبارة عن الطائرة الركاب DC3 .. في هذه الطائرة مقعد يدور حول محور يسمح للملك دائما الإتجاه نحو مكة أثناء الطيران وكانت هذه الطائرة أول نواة للخطوط الجوية السعودية الحديثة .. ودليلا على علاقة صداقة طويلة الأمد بين البلدين .
تبادل الكلمات .. لغة حوارية قد يفلح الكثيرون في أدائها .. بالتدرب والصقل والمواجهة والقدرة على التعبير .. لكنها تبقى صنعة لها صناعها وجواهرجيتها الذين يتفننون في صنعها .. شأنها شأن اي صناعة أخرى .. يمكن أن تصفها بالجمال وليس الصدق .. ويمكن أن تتذوق الصنعة ولا تعيش في وجدانك .. ينقصها دائما العفوية والكاريزما أو الحضور .. فإن تحليت بها لكل ما تريد من درجات المصداقية .. وهذا ما حدث بالفعل بين الملك والرئيس .. فالكاريزما والتلقائية أخرجتا الغريبين من غربتيهما فصارا يعرفان بعضهما البعض كما لو أنهما صديقين حميمين منذ زمن بعيد .. حان موعد الغذاء فذهبا معا لتناول الغذاء .. ووفقا لتوجيهات ريجدون قدم القهرمان أو خدم السفينة على مائدة الغذاء ليمون الجنة Grapefruit ولحم كاف من الأغنام Lamb والأرز وبعض التوابل والمقبلات كالبيض وجوز الهند والصلصة والزبيب والفلفل الأخضر والطماطم والزيتون والخيار المخلل .. ويذكر ريجدون في مذكراته أن الملك كان في بداية الأمر مترددا في تناول الطعام لكنه ما أن بدأ يختار حتى إنفتحت شهيته .. وعندما حان موعد القهوة سأل الملك روزفلت عما إذا كان بإمكان خادمه الرسمي الذي يقدم له القهوة أن يقدم شرف النخب من القهوة العربية فوافق الرئيس على ذلك وأخذ قدحين منها بإستمتاع واضح .. وبنفس الطريقة فعل الملك الذي كان مازال مستمتعا بوجبته ..
موقفٌ صعبٌ حدث بخطأ في الترجمة
تعبيرات المجاملة بين شخصين غريبين لا يعرف أحدهما لغة الآخر ولا يعرف كلاهما ثقافة الآخر تتطلب من المترجم الحرص والحذر في ترجمة الكلام .. وعلى الرغم من إجادة إيدي للغة العربية إلا أنه وقع في خطأ الترجمة حينما حاول الملك أن يجامل الرئيس فقال له بأن هذه الوجبة هي الأولى التي تناولها منذ مدة طويلة ولم يتبعها إضطرابات هضمية وأنه يود لو أن الرئيس يكون كريما معه فيهديه هذا الطعام على سبيل الهدية .. ولكن سوء الترجمة أو الترجمة الحرفية لم توفي بالمعنى المقصود وأعطت الرئيس إنطباعا بأن الملك يريد هذا الطعام لنفسه .. ولقد كتب ريجدون في مذكراته "بحار البيت الأبيض" أن الملك كان يعني المجاملة وأن ايدي أخطأ الترجمة.
كان الرئيس روزفلت دائما متحدثا ماهرا لبقا خاصة في المواقف الصعبة التي تثير الدهشة والحرج .. وكان دائما يملك الرد مهما كانت حجم المشكلة وما أن سأله الملك هذا السؤال حتى وجد المخرج .. فشرح له الرئيس أن المأكولات في كوينسي ملتزم بتقديمها في فترة محددة من الزمن وفق تعاقد لا يمكن الإخلال به .. وبأنه قد سر بأن جلالته سر من الطعام وأسف كثيرا بأنه لم يلبى له هذا الطلب .. وأنه ربما يسمح جلالته له بان يجرب واحدة من مأكولاته .. لغة الطعام وتبادل الأنخاب وتبادل المجاملات والهدايا بدايات لابد منها في مثل هذه اللقاءات .. لكنها ليست هي الموضوع .. فالرئيس قادم لزيارة الملك لأسباب تخص الدولة وليس الشخص وتخص مستقبل أمته وليس الحاضر .. وتخص إستراتيجية الدولة الشابة التي تريد أن تصبح دولة عظمى .. كان لابد أذن أن يختلي الرئيس بالملك وأن يتناقشا معا بين أخذ ورد في محادثة جوهرية دامت نحو أربع ساعات كان روزفلت خلالها لا يعرف الكلل .. فكان رغم مرضه وإجهاده وإنشغاله بالكثير من القضايا والمفاوضات الشاقة التي أضعفت صحته وأنهت على حياته بعد شهرين فقط من هذا اللقاء يبدو حيويا متألقا
روزفلت .. ما بين الحيوية وشحوب الموتى
خلال لقائه .. لاحظ إيدي أن الرئيس كان في قمة حالته كمضيف له تأثيره وحيوته وحديثه البارع الرائع .. وقال بأن عيناه كانتا كما هما دائما تتميزان ببريقهما ولمعانهما وبتلك الإبتسامة الرائعة التي دائما يكسب بها الناس في اي وقت يتحدث فيه معهم كصديق .. ومع ذلك كان بإمكانه أن يلقاه بعيدا عن الحراسة بوجهه الساكن الشاحب شحوب الموت . .. العديد من الأمريكيين الرسميين في رحلة روزفلت ولقائه بالملك عبد العزيز ألتقطوا بعضا من الحوار والحديث الذي تم بينهما ولكن معظم ماهو معروف يرجع مصدره إلى مذكرات مختصرة لإيدي. الذي كان بصفته مترجما لكلي الجانبين الرجل الأمريكي الوحيد بعد الرئيس الذي سمع مجمل مادار من حديث. يقول إيدي بأن الرئيس أدار المناقشة وفقا لما ألمح به الملك عبد العزيز من أنه لا توجد موضوعات محددة للمناقشة كما أكد بأن الملك لم يطلب مساعدات إقتصادية ولم يناقش هذا الموضوع على الرغم من الضيق والمعاناة التي تواجهها المملكة في طول البلاد وعرضها بسبب الحرب التي قطعت مصادر دخلها من منابعها .. وكان روزفلت مباشرا ودخل في صميم الموضوع فتحدث عن تعهد اليهود ومستقبل فلسطين بعد أن أصبح واضحا في ذلك الوقت بأن الإنتداب الحكومي الذي منحته عصبة الأمم بطلب من الحكومة البريطانية قبل ذلك بعشرين عاما سوف يوشك على النهاية بعد الحرب
قضية فلسطين .. الموضوع السائد في اللقاء
ولقد سال الرئيس الملك النصح فيما يتعلق بمشكلة اللاجئين اليهود القادمين من بلادهم في أوروبا .. فأجابه جلالته وفقا لما جاء في المذكرة الرسمية المشتركة التي أعدت في ذلك الوقت بواسطة إيدي ويوسف ياسين مستشار الملك بأنه يرى أن اليهود عليهم أن يعودوا للعيش في البلاد التي أخرجوا منها .. أما بالنسبة لليهود الذين دمرت مساكنهم بالكامل والذين ليس لديهم فرصة العيش في أوطانهم فيجب أن يعطوا مساحة للعيش في دول المحور التي إضطهدتهم .. فقال له روزفلت أن اليهود كانوا يعارضون العودة إلى ألمانيا ويعبرون عن رغبة وجدانية للذهاب لفلسطين. لم يهتم الملك كثيرا بالحجة التي طرحت بأن اليهود الأوروبيين الباقين على قيد الحياة خائفين من العودة إلى بلادهم .. وقال بأن الحلفاء بالتأكيد سوف يسحقون النازي وسوف يهزمونهم إلى الدرجة التي لن يعد فيها تهديد وإلا فما هي أهمية هذه الحرب وما هو معناها .. وذكر بان الأعداء والذين قاموا بعملية الإضطهاد لابد لهم أن يدفعوا ثمن عدائهم وإضطهادهم .. وأكد بأنه هكذا يشن العرب الحرب .. وقال طبقا لرواية إيدي بأن التعويضات يجب أن يدفعها المجرمون وليس الأبرياء المتفرجون الذيم لم تكن لهم ناقة ولابعير .. وتساءل عن الجرح الذي سببه العرب ليهود أوروبا ليعاقبون عليه قائلا : مالجرح الذي سببه العرب ليهود أوروبا ؟ .. أنهم الألمانيون المسيحيون الذين سرقوا منازلهم ومعيشتهم .. دع الألمان يدفعون .. وقال بأن العرب واليهود لايمكن أن يتعاونوا معا لا في فلسطين ولا في أي مكان آخر .. ونبه إلى زيادة التهديدات على الوجود العربي وإلى الأزمة التي ستترتب على الهجرة المستمرة لليهود كما أكد بأن العرب سوف يختارون الموت على أن يتركوا أراضيهم لليهود . ولقد كتب تشارلز بوهلين Charles E. Bohlen في مذكراته وهو دبلوماسي أمريكي بارز كان بين الفريق الرسمي لروزفلت أن الملك أثار نقطة أخرى حول فلسطين لم تذكر في مذكرة إيدي أو حتى في التقرير المشترك الذي أعده .. وقال في هذا الكتاب وهو بعنوان شاهد على التاريخ Witness to History أن الملك أعطى خطبة مطولة حول مواقف العرب الأساسية تجاه اليهود وأنكر وجود أي صراع بين فرعي الجنس السامي في الشرق الأوسط بسبب التفاوت الثقافي والمهاري بين المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية وبين العرب المقيمين .
أمريكيون رسميون آخرون أرتحلوا مع روزفلت قالو في مذكرات عديدة لهم أن الرئيس بدا غير متفهم لصلابة معارضة الملك للمزيد من الهجرة نحو فلسطين .. وكرر ذلك اكثر من مرة وكان يتلقىنفس الرد السلبي .. عندئذ طرح الرئيس فكرة قال أنه سمع من تشرشل عن إعادة توطين اليهود في ليبيا والتي هي أكبر من فلسطين وأقل من حيث السكان .. فرفض الملك عبد العزيز هذه الفكرة أيضا قائلا بأن ذلك غير عادل لمسلمي شمال أفريقيا وأكد الملك أن أمل العرب مبني على كلمة شرف من الحلفاء وعلى المعروفين في الولايات المتحدة الأمريكية بحبهم للعدالة .. وردا على ذلك أعطى روزقلت وعده المشهور بأن فلسطين ستصبح حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية للعامين المقبلين وأكد بأنه أنه لن يفعل شيئا لمساعدة اليهود ضد العرب ولن يعمل أي خطوة عدائية تجاه الشعب العربي وأن حكومته لن تصنع أي تغييرات في سياستها الأساسية في فلسطين بدون إستشارة مسبقة وكاملة مع كلي العرب واليهود.
روزفلت .. وداعاً
إنتهى اللقاء وعاد روزفلت ليخبر الكونجرس بالمشكلة العربية: مشكلة المسلمين واليهود. مشيرا إلى أن ما تعلمه من إبن سعود في خمس دقائق يعادل ما تعلمه في أكثر من دستتين أو ثلاثة من الخطابات المتبادلة.
وفي الخامس من إبريل أي قبل موته بأسبوع واحد، أعاد روزفلت تكرار هذا الوعد كتابة وأرسل رسالة خطية للملك بالتحية معنونة بإسم صديقي الطيب العظيم يؤكد فيها الوعد الذي قطعه على نفسه. لكن لغة السياسة دائما تفرق بين الشخص أو الإنسان ورجل الدولة. وكان الملك ممتنا بوعد روزفلت ويبني عليه أحلاما كبيرة لكن الموت سبقه قبل تحقيق الحلم وجاء خلفه هاري ترومان ليقضي عليه نهائيا بعد تأييده لقرار التقسيم في فلسطين والإعتراف بدولة يهودية جديدة. هناك وضع روزفلت حجر الأساس للعلاقات الأمريكية السعودية رغم قصر العمر. وأرسى معالم إستراتيجية واضحة تؤكد أهمية المملكة من الناحية الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. وجاء من بعده رؤساء وسياسيون ودبلوماسيون وخبراء ومفكرون وأساتذة جامعيون يدركون أهمية هذه العلاقة ويؤكدون على حتمية وجودها وإستمرارها. ومنهم كثيرون أقتربوا من الشارع السعودي وتعرفوا عليه وعلى أفراده ومواطنيه، هذا الشعب الطيب الكريم.
التاريخ
في وقت مبكر من عام 1945، ودون علم البريطانيين، اقترح الرئيس الأمريكي على الملك عبد العزيز آل سعود بمقابلته، وذلك إلى جانب إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي وملك مصر فاروق الأول.
تناقش روزفلت والملك عبد العزيز حول الاستيطان اليهودي في فلسطين. روزفلت في محاولة منه للحصول على دعم الملك لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، واجه رفضا قاطعا لهذه الفكرة من مخاطبه. ثم ناقشا بعد ذلك موضوع مستقبل العائلة المالكة السعودية والنفط العربي. إنتهيا إلى اتفاق يضمن للحكم الملكي السعودي حماية عسكرية مقابل الحصول على النفط.
يرتكز اتفاق كوينسي على أربعة نقاط:
استقرار المملكة العربية السعودية هو جزء من المصالح الحيوية للولايات المتحدة التي تقدم كذلك الحماية الغير مشروطة لعائلة آل سعود، وأقل منها للمملكة بصفة عامة ضد أي تهديد خارجي.
بالتالي استقرار شبه الجزيرة العربية وإعطاء القيادة الإقليمية للمملكة العربية السعودية ودورها الهام في المنطقة هم أيضا جزء من المصالح الحيوية للولايات المتحدة.
في المقابل، تضمن المملكة الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة للولايات المتحدة، دون أن تعطي حق الملكية لأي جزء من الأراضي السعودية، والشركات المتعاملة تقوم فقط بكراء الأراضي التي تعمل فيها. شركة أرامكو السعودية تتمتع باحتكار جميع حقول النفط في المملكة لمدة لا تقل عن 60 سنة.
بقية النقاط هي حول التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وبشأن عدم التدخل الامريكي في شؤون السياسة الداخلية السعودية.
ما بعد ذلك
بقيت السعودية متصلة ومرتبطة بالولايات المتحدة منذ اتفاق كوينسي، وذلك حتى نأي نفسها عن حليفها الأمريكي منذ 2011، بسبب عدم تدخل الولايات المتحدة عسكريا في الحرب الأهلية السورية والتقارب الإيراني الأمريكي بعد انتخاب حسن روحاني رئيسا للجمهورية الاسلامية. نتيجة لذلك، رفضت السعودية مقعدها التي تحصلت عليه عند انتخاب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2013.