المؤسسة العسكرية وثورات «الربيع العربي»
حسن نافعة
حين انطلقت الموجة الأولى من ثورات «الربيع العربي» نهاية عام 2010 وبداية عام 2011، بدت وكأنها موجهة أساسا ضد المؤسسة العسكرية، التي أفرزت أنظمة حكم مستبدة وفاسدة كانت قد بدأت تشيخ في مواقعها. فالثورة التونسية اندلعت في مواجهة نظام زين العابدين بن علي، وهو رجل عسكري كان قد وصل إلى السلطة عقب انقلاب أطاح بسلفه بورقيبة، وظل يحكم منفردا لما يقرب من ربع قرن.
والثورة المصرية اندلعت في مواجهة نظام حسني مبارك، وهو رجل عسكري أفرزه نظام عسكري، وظل يحكم منفردا لمدة ثلاثين عاما، وكان يسعى في أيامه الأخيرة لتوريث السلطة لابنه من بعده. والثورة الليبية اندلعت في مواجهة نظام معمر القذافي، وهو رجل عسكري وصل إلى السلطة عبر انقلاب أطاح بالنظام الملكي، وظل يحكم منفردا لأكثر من أربعين عاما، وكان يسعى بدوره لتوريث السلطة من بعده لأحد أبنائه. والثورة اليمنية اندلعت في مواجهة نظام علي عبد الله صالح، وهو رجل عسكري كان قد شارك في انقلاب تعرضت قياداته للاغتيال تباعا، إلى أن آلت إليه السلطة، التي نجح في الاحتفاظ بها لنفسه على مدى ما يقرب من ثلث قرن، وكان يسعى بدوره لتوريثها إلى ابنه من بعده. والثورة السورية اندلعت في مواجهة نظام بشار الأسد، وهو نجل رجل عسكري كان قد استولى على السلطة عبر انقلاب قام به في بداية سبعينيات القرن الماضي، وتم تعديل الدستور خصيصا من أجله، لتمكينه من وراثة السلطة عقب رحيل والده عن دنيانا عام 2000.
تجدر الإشارة هنا إلى أن سيطرة المؤسسة العسكرية على النظم، التي سعت ثورات «الربيع العربي» لإزاحتها، لا يعني تماثل الدور الذي لعبته هذه المؤسسة إبان تلك الثورات، فالواقع أن هذا الدور تباين كثيرا من حالة إلى أخرى. ففي الحالة التونسية ساهمت عوامل عديدة في تحييد المؤسسة العسكرية، التي وقفت على مسافة واحدة من مختلف القوى المتنافسة طوال المرحلة الانتقالية. من هذه العوامل: قوة المجتمع المدني، واستقلالية الحركة النقابية، وتمتع حركة النهضة الإسلامية بقدر لا بأس به من العقلانية والمرونة السياسية، الخ. أما في الحالة المصرية فقد تضافرت عوامل أخرى لتمكين المؤسسة العسكرية من احتواء الثورة في البداية، من خلال التظاهر بتأييدها، أملا في إسقاط مشروع التوريث أولا، ثم محاصرتها والانقضاض عليها في مرحلة تالية، الأمر الذي مكنها في النهاية من الهيمنة المباشرة على كافة مفاصل السلطة والحياة السياسية. من هذه العوامل: الدور التاريخي للمؤسسة العسكرية المصرية كطليعة للتغيير (ثورة عرابي، حركة «الضباط الأحرار، إلخ)، ضعف وانقسام وتشرذم التيارات المدنية، الأخطاء التي ارتكبتها جماعة الإخوان، خاصة عقب وصولها إلى السلطة… وفي حالات ليبيا واليمن وسوريا، تضافرت عوامل مختلفة، تتعلق أساسا بالبنية المجتمعية، التي يغلب عليها الطابع القبلي أو الطائفي أو العرقي، في تفكك المؤسسة العسكرية أو تفسخها عقب اندلاع الثورة، وتحول ما تبقى منها إلى وقود في حروب أهلية أو إقليمية ودولية بالوكالة.
ولأن جميع ثورات الموجة الأولى من «الربيع العربي»، باستثناء الثورة التونسية، واجهت مصيرا مظلما، بالتصفية أو الإجهاض أو خلط الأوراق، فقد كان من الطبيعي أن تؤدي إلى تغييرات هيكلية في شكل ومضمون العلاقات المدنية العسكرية في مرحلة ما بعد الثورات، اختلفت من حالة إلى أخرى. ففي مصر، على سبيل المثال، أصبحت المؤسسة العسكرية، ربما لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية المصرية، طرفا مباشرا ومستهدفا، في صراع سياسي داخلي ينحو بشكل متزايد نحو استخدام العنف. أما في ليبيا وسوريا واليمن، فقد أصبحت المؤسسة العسكرية، التي انهارت تحت وطأة الصراعات والحروب الأهلية، في حاجة ماسة إلى أن يعاد بناؤها من جديد على أسس وطنية حقيقية قبل التفكير في إعادة صياغة علاقتها بالمؤسسات المدنية.
الموجة الثانية من ثورات «الربيع العربي»، التي تجتاح الجزائر والسودان حاليا وليس من المستبعد أن تواصل اندفاعها نحو شطآن عربية أخرى، تبدو مختلفة من نواح كثيرة عن الموجة الأولى. فالحراك في كل من السودان والجزائر، رغم اختلاف السياق السياسي والدستوري في الحالتين، يبدو واعيا بجملة من الأمور، في مقدمتها الحرص على:
تجنب الفرقة والانقسام بين القوى السياسية الرئيسية المشاركة فيه.
نهج الحراك في السودان والجزائر يعكس قدرا كبيرا من النضج ويعيد إحياء أمل الشعوب العربية في غد أفضل
المحافظة على سلميته، مهما بلغت استفزازات النظام الحاكم، وتجنب الدخول في مواجهة مع الأجهزة الأمنية، أو السماح للعناصر التخريبية أو للمزايدات بتحقيق أي اختراق. ويلاحظ هنا أن الحراك في السودان تمكن بالفعل من المحافظة على سلميته، رغم لجوء نظام البشير لاستخدام العنف، وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا، كما يلاحظ أن الحراك في الجزائر نجح حتى الآن في المحافظة التامة على سلميته، وتلك أحد أهم مظاهر قوته.
– ممارسة أكبر قدر ممكن من ضغط الشارع لحمل المؤسسة العسكرية على الانحياز لمطالب الشعب، والمساعدة على التخلص من النظام القديم، على الرغم من أن القيادات العليا لهذه المؤسسة تعد جزءا لا يتجزأ من هذا النظام.
عدم السماح بإعادة إنتاج النظام القديم، من خلال وجوه وقيادات جديدة، والإصرار على اقتلاع هذا النظام من جذوره.
تسليم السلطة إلى المؤسسات المدنية في نهاية فترة انتقالية معقولة، وعدم السماح للمؤسسة العسكرية بالانفراد بإدارة المرحلة الانتقالية، والقيام بكافة الإجراءات التي تضمن استئصال جذور النظام القديم، وانتقال سلس ونهائي للسلطة عقب انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تجري على كافة المستويات.
تجنب الانخراط في محاور إقليمية أو دولية متصارعة، مع تعميق الوعي بوجود قوى إقليمية ودولية نافذة لديها مصلحة واضحة في إجهاض الثورات العربية كافة، ولن تتردد في استخدام كل ما في حوزتها من وسائل العصا والجزرة لتحقيق هذا الهدف.
كان لافتا للنظر إقدام الجماهير المشاركة في حراك الجزائر والسودان على ترديد شعارات تعبر عن رفضها القاطع «للنموذج المصري» وتعكس حرصها على تجنب الوقوع في شراكه، وهو ما يؤكد الاستيعاب التام للدروس المستفادة من التجربة المصرية، ويوحي بالأمل في مصير مختلف للموجة الثانية من ثورات «الربيع العربي». صحيح أنه قد يكون من السابق لأوانه التنبؤ بمآلات الحراك الذي تشهده كل من السودان والجزائر، غير أن ما تحقق من إنجازات حتى الآن، وهو كثير، يوحي بأنهما يسيران على الطريق الصحيح. وصحيح أيضا أن الشوط الذي يتعين قطعه قبل وصول الحراك في البلدين إلى غاياته النهائية ما زال طويلا، غير أن النهج الذي يدار به الحراك في البلدين يعكس قدرا كبيرا من النضج ويعيد إحياء أمل الشعوب العربية في غد أكثر إشراقا. ومع ذلك فمن الخطورة بمكان التقليل من حجم العقبات التي ما تزال تعترض الطريق نحو تحول ديمقراطي حقيقي. فتجربة السودان التاريخية تشير إلى أن المؤسسة العسكرية ليست هي العقبة الوحيدة، أو حتى الرئيسية التي تعترض طريق التحول الديمقراطي الكامل. فكثيرا ما كانت الانقلابات العسكرية تتم بوحي من قوى سياسية معينة، وأحيانا بالاستناد التام إليها، وكثيرا ما تسبب عجز القوى المدنية عن الاتفاق على صيغة تسمح بتداول سلمي ودائم للسلطة، عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وحدها، وقادرة على ضبط العلاقة بينها وبين المؤسسة العسكرية وفق أسس صحيحة وفعالة، إلى دوران الحياة السياسية في حلقة مفرغة من تعاقب الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية. ونأمل في أن ينجح السودان هذه المرة، ليس فقط في إعادة السلطة للمدنيين، وإنما في خلق بيئة سياسية غير قابلة أصلا لفرص واحتضان بذرة الانقلابات العسكرية.
إذا كانت الموجة الثانية من ثورات «الربيع العربي»، التي نأمل في نجاحها، تذكرنا بأحد أهم الشروط اللازمة لثبيت دعائم التحول الديمقراطي، ألا وهو الشرط الخاص بضبط العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني، فإن فشل الموجة الأولى من هذه الثورات يذكرنا بوجود شرط آخر من شروط تثبيت دعائم الديمقراطية، ألا وهو ضبط العلاقة بين الدين والسياسة، وعلى النخب السياسية والفكرية أن تستوعب الدرسين معا، وأن تعمل على توفير شروط تحققهما على أرض الواقع، كي يتمكن العالم العربي من إنجاز عملية التحول الديمقراطي على أرض الواقع.
كاتب وأكاديمي مصري