منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده   تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Emptyالأربعاء 15 مايو 2019, 2:19 am

تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده (1)

للمهندس الزراعي الأستاذ ((أحمد وصفي زكريا)) عناية بالتاريخ، وبحوث موفقة، فيها درس وتحقيق، والجزء الأول من كتابه (جولة أثرية) قد خدم تاريخ الشام خدمة جلى، وقد أقام في ((اليمن)) حيناً كان من ثمراته مقالات نشر منها سلسة في مجلة ((المقتطف)) المصرية، وهذه حلقة نرجو أن تتلوها حلقات، لما ستعود به من النفع على تاريخ اليمن خاصة والتاريخ العربي الإسلامي عامة.


ليس من شك في أن اليمن فيما مضى ذا حظ عظيم من التمدن والعمران، ووفرة الثروة، وفراهة السكان لكن اليمن لم يبلغ في قدم تاريخه شأو بقية الأقطار التي كانت في شمالي الجزيرة العربية، لأن أحداثه المعروفة لا تبدأ إلا من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، بينما أحداث تلك الأقطار تبدأ من الألف الثالث والرابع، وإذا جاوزنا ما قبل التاريخ لا نجد لليمن حتى قبل ذلك المنتصف ذكراً في أي سفر أو رقيم أو نقش مما يستند عليه في تحقيق ماضي الأمم والبلاد فلا يعرف حتى الآن ما كان عليه جو اليمن وبره وقطينه خلال الألفين الثالث والرابع المذكورين، حينما كانت تندفع موجات الساميين من قلب جزيرة العرب نحو شمالها، فتنتشر على ضفاف الدجلة والفرات والعاصي والأردن، وتؤسس حضارات ودولاً باسم – الأكاديين والعموريين والآشوريين والبابليين والعبريين، وكذلك لا يعرف ما إذا كان اليمن يمكن عده من بقاع ((قلب جزيرة العرب)) الدافع لتلك الموجات، أم أن هذا القلب كان منحصراً في بلاد نجد والحجاز، وهل أخرج اليمن قسماً من تلك الموجات، أم لم يحتج قطينه للخروج والهجرة – على ما نرجح – لتوفر أسباب الرزق والرفه لديهم أكثر من بلاد نجد والحجاز القاحلة في الغالب. ثم من كان هذا القطين، ومن أي الأقوام يتألف، وما حال هذه الأقوام من المعيشة والمنعة، ومن أين أتوا في الأصل، أحق أنهم – وهم ساميون – نشؤا مع الحاميين من نبعة واحدة في شرقي إفريقية، فذهب الحاميون شمالاً نحو مصر، وذهب الساميون شرقاً نحو قلب الجزيرة المذكورة فكان من جملتهم أهل اليمن الأقدمين [1] ثم من قوم عاد، ومن أهل الرس، الذين ذكروا في القرآن الكريم وفي كتب التاريخ العربية، أكانوا من أولئك اليمانيين الذين نتساءل عنهم، وكيف استطاع قوم عاد أن يعيشوا في ((أحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر))[2] بينما هذه الأحقاف هي الآن مفاوز معطشة وبراري موحشة، ثم كيف قضى هؤلاء عهودهم وكيف انقرضوا، وهل الآثار القليلة في بعض أنحاء حضرموت التي تنسب إليهم[3] هي لهم، أم هي في الغالب للأقوام الذين جاؤوا بعدهم ممن سيأتيك ذكرهم؟.. كل ذلك ما برح في طي الحدس والافتراض ينتظر تقدم البحث والتنقيب في مجاهل تلك البلاد النائية.

أما الذي عرف من تاريخ اليمن القديم منذ القرن الرابع عشر أو الخامس عشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الذي ظهر فيه الإسلام أي خلال واحد أو اثنين وعشرين قرناً، هو أنه تأسست فيه دول أو دويلات عديدة، فلبثت تقدمها في ميادين العمران والحضارة أكثر من ثبوته في الفتح والسياسة، فقد بحث مؤرخو اليونان والرومان مثل ((ديودور)) و((هيرودوت)) و((استرابون)) عن مدن اليمن ودوله ومسالكه التجارية وحالاته الاجتماعية التي كانت في عهدهم، وبحث مؤرخو العرب كالطبري والمسعودي وابن الأثير وابن قتيبة وابن الكلبي وابن خلدون عن دوله البائدة وأحداثه المشهورة التي سمعوها من ألسن الرواة، وبحث جغرافيو العرب عن محافد اليمن وآثاره وأسداده وحصونه وقصوره، وكان المبرز في هذا المضمار هو الفيلسوف اليماني أبو الحسن الهمداني المتوفى في القرن الرابع الهجري صاحب كتاب ((صفة جزيرة العرب))[4] و((الإكليل))[5]، وفي الحق أن أحداً من كتّاب العرب من قبل ومن بعد لم يبلغ شأو الهمداني في دقة البحث وحسن الوصف لبلاد العرب عامة واليمن خاصة، فقد سبق رحمه الله في هذا المضمار علماء الغرب ممن أتى بعده بعشرة قرون، ويلي الهمداني ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان الذي أحاط بجل أنحاء المعمورة في عهده، وجعل لليمن من معجمه حظاً موفوراً يستحق الإعجاب. ويلي ياقوت في خدمة جغرافية اليمن فضلاً عن تاريخه نشوان بن سعيد الحميدي اليماني صاحب كتاب مختصر شمس العلوم ودواء العرب من الكلام المطبوع في ليدن سنة 1916.

وقد تأيد قسم كبير مما ذكره هؤلاء المؤرخون والجغرافيون بفضل مكتشفات علماء الآثار من الإفرنج الذين خاطروا بأنفسهم وتمكنوا من الوصول إلى بعض المدن والأماكن التاريخية في مشارق اليمن، وأخصها مأرب عاصمة السبأيين، و((معين)) عاصمة المعينيين، بيد أن مدناً وأماكن عديدة أخرى في أحقاف الرمل التي تقدم ذكرها – ولا سيما في برية الجوف الممتدة من غربي تلك الأحقاف إلى سفوح جبال اليمن الشرقية وفيها العاصمتان المذكورتان – ما برحت حتى الآن ممتنعة على علماء الآثار لا يستطيعون أن يصلوا إليها ليبحثوا وينقبوا في أطلالها ونقوشها، وهي أمثال شبورة وروث والعبر ووبار وهرم وبيحان وبراقش والبيضاء والسوداء وغيرها، وبعض هذه المدن والأماكن إما مطمور تحت السافية، أو خاو على عروشه تفعل فيه الأعاصير والهوام، أو هو على خرابه يسكن بين أطلاله أعراب همج لا يدينون لسلطة ما حتى ولا لحكومة صنعاء، ولا يدعون غريباً أياً كان يصل إلى مواطنهم هذه حذراً من أن يغتصب لهم الكنوز التي يتخيلون وجودها تحت الأنقاض، كما ثبت ذلك للسائح الألماني هنفريس في شبوة وبيحان حينما مر بهما مغامراً من حضرموت إلى اليمن، وقد قال جغرافيو العرب الذين تقدمت أسماؤهم عن هذه المدن: إنها أسماء مدن ومواضع ومخاليف بالجوف من اليمن كانت لملوك حمير، وفيها حصون ومباني عجيبة (كذا). وقال نشوان الحميري عن وبار ما نصه: ((وبار اسم أرض كانت لعاد في مشارق اليمن، وهي اليوم مفازة لا يسلكها أحد لانقطاع الماء، ويوجد بها قصور، وقد كبستها الريح بالرمل، ويقال إنها كانت لأهل الرس، وهم أمة من ولد قحطان، والله أعلم)) ولا يسع المتأمل في تاريخ اليمن القديم إلا أن يعجب من وجود تلك المدن والمواضع والمخاليف بين الرمال والمفاوز، وكيف أنها تحتوي على مبان وقصور وصفت بكلمة (عجيبة)، وأيد ذلك الأثريون الذين بلغوا ورأوا بعضها. وقد توصلت بعد التأمل إلى أن تلك المدن والمواضع في إبان ازدهارها كانت وسط إقليم ظواهره الجوية مواتية من حيث اعتدال الهواء، ووفور الأمطار، وخصب التربة وسهولة العل والنهل من الصهاريج والآبار المترعة بمياه الأمطار الوافية، ومن السيول الدافقة في كثرة أو قلة من جبال اليمن وأنحائه الشرقية، وأن هذه المواتاة ظلت دائمة منذ تكون القطر اليماني في الأطوار الجيولوجية إلى فجر التاريخ والقرون القديمة التي تلته، أضف إلى ذلك أن تلك المدن والمواضع كانت على قارعة مسالك تجارية عظيمة، كما كانت تدمر وسط بادية الشام، واستنتجت بعد ذلك أنه قد حدث في أرض اليمن وجباله البركانية هزاهز عنيفة طمست كل أو جل ينابيعه التي كانت تدفع بالغدران السارحة نحو براري الجوف وأحقاف الرمل، وحدث في سمائه ما غير ظواهرها الجوية، وجعل كميات الأمطار تناقص قرناً بعد قرن إلى حد أصبح لا يكفي للعل والنهل، وجاءت عوامل خارجية أيضاً قضت بتغير المسالك التجارية من البر إلى البحر، وحرمت سكان اليمن من أكبر موارد رزقهم، فانحط شأن المدن والمواضع المذكورة، وهجرها سكانها على التوالي، وصارت بمرور الأحقاب وانقطاع الأسباب وسط رمال وقفار تشكو العطش والجدب والخواء، بعد أن كانت مغمورة بالري والخصب والعمران، ولا غرو فالبلاد تشقى وتسعد كالعباد. إن هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه تؤيده الأدلة الكثيرة البارزة للعيان في كل القطر اليماني، وقد سبق أن قلت في (حديث اليمن) المنشور في مجلة المقتطف (جزء تشرين أول سنة 1937 ص 314): على أن مقادير المطر في العصر الأخير صارت أقل مما كانت عليه في العصور الخوالي، يظهر ذلك للمتأمل في كثرة الغيول والأودية الجافة أو الجارية وعمقها المتناقص، ولم يسجل ميزان المطر في مرصد صنعاء الجوي سنة 1935 أكثر من 300 ميليمتر، وهذا المجموع العائد إلى سنة واحدة وإن لم يكن كافياً للاعتداد به، لكن بقية السنين لا تكون فيها الزيادة على ما يظهر أكثر من نصف أو ثلثي المجموع المذكور، وهو يعد قليلاً على كل حال إذا قيس بجفاف إقليم اليمن وجفاف صخوره وأتربته، ولا يزال شيوخ صنعاء يذكرون بحسرة اتراع الغيول بالماء، وقد كانت مثلاً قبل 40 – 50 سنة تروي في شمالها مساحات واسعة في قرى شعوب والروضة والجراف فأصبح الآن بعضها جافاً كل الجفاف، وبعضها تناقص إلى ثلث أو نصف مقداره السابق، فصارت تلك المساحات غامرة بعد أن كانت زاهرة ناظرة، ثم قلت في هامش ذلك المقال: أيد الهمداني ظني بتأثير الزلازل في تقليل مياه اليمن إذ قال كتابه الإكليل (ج 8 ص 88) عند كلامه عن غيل وادي ضهرSadوكان هذا الغيل في الجاهلية على ضعف ما هو عليه اليوم حتى وقعت في اليمن زلازل قطعت بعض ماءاته)) اهـ.

وقد زادني إيقاناً بما ذكرت ما قرأته نقلاً عن كتاب ((الربع الخالي)) لمؤلفه (المستر) عبد الله فيلبي[6] فقد قرر هذا المؤلف (بعد أن اخترق ذلك الربع الموحش وشاهد أدلة جيولوجية كافية للاستدلال) أن بقاع الربع الخالي حافلة بالخصب والعشب في عصور سحيقة تعود إلى ما قبل التاريخ، وأن أودية الدواسر وتثليث.... الخ التي تهبط من جبال عسير نحو الربع الخالي كانت أنهاراً تصب في بقاعه الواسعة، وأنه لما جفت هذه الأنهار وأصبحت أودية كما هي اليوم غاظ الماء، وجف الهواء، فأقحلت تلك البقاع وأقفرت. اهـ. فإن صح هذا الرأي عن أودية عسير والربع الخالي فهو أشد صحة عن أودية اليمن وأحقاف الرمل وبراري الجوف المجاورة له في جنوبه، وإن هذه الأودية والأحقاف والبراري لما كانت ذات أرض وسماء سمحتين لبثت صالحة لارتواء البشر وعيشهم، فقطنها أقوام كثيرون وتعاوروها، فمنهم من قضى ومضى قبل أن يعرفه التاريخ كما جرى بقوم عاد وأهل الرس، ومنهم من أبقى له آثاراً وأخباراً موثوقاً بها شرع التاريخ يدونها منذ القرن الخامس عشر أو الرابع عشر قبل الميلاد فحييت.

ويظهر أن العطش والجدب اللذين حصلا من تطور العوامل الجيولوجية وتغير الظواهر الجوية بدءا بأحقاف الرمل وسادا فيه، أما المدن والمواضع التي كانت في غربي تلك الأحقاف، أي في برية الجوف الواقعة في سفح جبال اليمن، فقد ظلت تلك العوامل والظواهر مؤاتية على قلة، حملت سكانها الذين رأوا ما حل بأهل الأحقاف على بناء الأسداد فوق الأودية الهابطة من الجبال المذكورة، وأتقنوا هذا العمل وأكثروا منه بعد في بقية أنحاء اليمن؛ وكان أشهرها وأعظمها ((سد العرم)) الذي كان يروي مدينة مأرب وما حولها، وكان مبنياً على وادي ذنة الجامع المعظم مياه الجبال المذكورة[7] وقد حفظ أهل مأرب خصب تربتهم واخضرار جنتيهم اللتين ذكرهما القرآن الكريم وكان الخصب والاخضرار المذكورين يدومان كلما دامت عنايتهم بترميم سد العرم وغيره وحفظها من الصدع، إلى أن ضعف حالهم في القرن السادس الميلادي، فعجزوا عن الترميم، فخرب سد العرم، وخربت مأرب وجناتها بسبب ذلك ولأسباب أخرى سيأتي ذكرها، واندرس العمران من براري الجوف حتى لم يبق في يومنا إلا أثر ضئيل، وانحصر في أنحاء اليمن العربية على النحو والمبلغ اللذين سيأتي ذكرهما.

وليس الأمر منحصراً في براري الجوف بل إن في أرجاء اليمن وحضرموت كثيراً من الأطلال الأثرية الدالة على عمران وازدهار عريقين في التقدم، وكنت أشاهد أثناء تجوالي في مدن اليمن وقراه على جدران الدور والمساجد وأبوابها عتبات وأحجاراً منقوشة بالخط السبئي الحميري (المعروف بالمسند) تنتظر من يحل رموزها ولا يزال الأهلون ينبشون عن الأطلال والمواضع القديمة عاديات ثمينة ونقوشاً مكتوبة بالخط المذكور ينقلونها إلى ((عدن)) ويبيعونها من غواة هذه السلع وتجارها من الانكليز وغيرهم، وقد جمعت حكومة عدن بعض تلك الآثار وحفظتها في متحف صغير معروض للزوار، بينما حكومة صنعاء لم تقم بعد بما يماثل هذا العمل الهام، ويرجى أن يأتي يوم تقدر فيه قدر هذه الآثار قبل أن يقضى عليها بالمرة، وقد يكون في أقلها حجماً وشأناً ما يميط اللثام عما برح العلماء يتحسرون على معرفته من تاريخ اليمن خاصة والعرب عامة.

وأشهر علماء الآثار الذين تجشموا مشاق السفر إلى اليمن وتجولوا فيه مغامرين هم (كارستن نيبوهر) الذي ذهب سنة 1763م على رأس بعثة علمية للجغرافية والطبيعيات وكان معه العالم النباتي الشهير (فورسكال) الذي مرض وتوفي في يريم (إحدى مدن اليمن الأعلى)، وقد جابت هذه البعثة وقتئذ البلاد اليمانية من ثغر اللحية إلى ثغر مخاوفها إلى ثغر فصنعاء[1]، ودرست موضوعات شتى، وزارت في صنعاء إمام ذلك العهد وكان اسمه ((المهدي العباس)) ووصفت كيفية دخولها عليه، ورسمت صورة مجلسه، وقد علمت هذه البعثة وقتئذ بوجود كتابات أثرية في بلدة ((ظفار)) الحميرية لكنها لم تبلغها، بل لفتت الأنظار إليها، وكتبت بالإفرنسية مجلدين ضخمين عن نتائج رحلاتها التي دامت سنتين، واستفزت بيانات نيبوهر ((ستينرن)) الألماني فجاء سنة 1811 ونقل الكتابات المنقوشة على صخور ظفار، وأرسل نسخاً منها إلى أوربا، ولما حلوها أكبروا أمرها وانتبهوا إلى وجوب كشف غيرها ومعرفته، فجاء ((ولستيد)) الإنكليزي سنة 1834 وكشف كتابة حصن غراب على ساحل حضرموت وكتابة في محل اسمه نقب الحجر، وعقبه ((كروتنوف)) الألماني سنة 1836 فكشف خمس قطع سبئية في صنعاء، وعقبه ((آرنو)) الإفرنسي سنة 1843 وهو الأوروبي الأول الذي خاطر بنفسه ووصل إلى مأرب وشاهد سدها ونسخ ما وجد من النقوش فيهما فضلاً عما نسخه في صنعاء، وكتب عن مأرب وسدها كتابة مستفيضة، وعقبه ((هاليفي)) الفرنسي سنة 1869 وهذا كان موفقاً في الوصول إلى وادي نجران، وإلى مأرب وأواسط الجوف الذي عثر فيه على مدينة ((معين))، وتمكن من الاطلاع على أماكن ونقوش أثرية كثيرة نسخ منها عدة مئات، بعضها معينية والبقية سبئية، وألف كتاباً خاصاً عنها، ثم ذهب بعد ((هاليفي)) كثير من العلماء الأوروبيين من مختلف البلاد بين سني 1870 و1895 وجابوا اليمن من ثغر الحديدة أو من ثغر عدن إلى صنعاء وما حولها فقط، وبعضهم حاول الإيغال إلى مأرب فلقي حتفه، وجاء سنة 1895 غلازن الألماني، وكان هذا موفقاً أكثر من ((هاليفي))، فقد ارتاد أكثر بلاد اليمن وبلغ مأرب، ونقل كتابات وحقق معلومات جغرافية ولغوية وأثرية كثيرة أفادت تاريخ اليمن والعرب فوائد جليلة جداً.

 
وقد وضع هؤلاء العلماء وغيرهم أيضاً – حتى من الذين لم يزوروا اليمن أمثال ((رودو كناكيس)) الألماني و((ريكمانس الإفرنسي)) – عشرات من الكتب في مختلف اللغات الأوروبية تبحث عن مختلف أحوال اليمن الجغرافية والطبيعية والأثرية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت في عصور قبل الإسلام، وجل هذه المعلومات مما استنبطوه من قراءة الكتابات والنقوش المذكورة آنفاً، وكان المبرز في هذا المضمار من قبل ومن بعد الألمان، وأكثر هذه الكتب في اللغة الألمانية، ولم يخل الترك في دورهم الأخير من بضعة قواد وأطباء عملوا جهد إمكانهم بالبحث العلمي والتدوين، فوضع الأولون كتباً عن تاريخ اليمن الحديث ووقائعه الحربية التي أدركوها ووضع الثانون عن نباتاته وشؤونه الاجتماعية والصحية، وآخر من ذهب من الأوربيين إلى اليمن في سنة 1352هـ و1933م ((راتجنس وويسمان)) الألمانيان من أساتذة جامعة هامبورغ، إلا أنهما تجولا ما بين الحديدة وصنعاء وأطرافهما فقط، ووضعا في صنعاء مرصداً للظواهر الجوية وألفا عما درساه خلال سنتين من شئون اليمن الطبيعية والجغرافية والأثرية ثلاثة كتب قيمة حافلة بالرسوم والخرائط المتقنة، وذهب في سنة 1254هـ و1935م ألماني آخر اسمه ((هلفريس)) وهذا غامر مغامرة لم يسبقه إليها أحد، فقد دخل اليمن من شرقه قادماً من حضرموت ومجتازاً رمال الأحقاف، وتخلص من القتل مرتين في شبوة وبيحان؛ ونشر رحلته بالألمانية ودعاها ((في البلاد المحرومة من الظل، أو في مملكة سبأ)) وهي رحلة حافلة بالرسوم، تسلي أكثر من أن تفيد، والعربي الوحيد الذي تجشم مشاق التجوال في كثير من أرجاء اليمن وتمكن من الحصول على مساعدة جلالة الإمام بالوصول إلى مأرب، وبحث وكتب عنها هو السيد نـزيه المؤيد الدمشقي، وقد وضع في سنة 1355هـ و1936 م عما رآه كتاباً دعاه ((رحلة في بلاد العربية السعيدة)) ولما كنت في اليمن في السنة المذكورة جاءت بعثة مؤلفة من بعض أساتذة الجامعة المصرية لمختلف الأبحاث العلمية كالسلالات واللهجات والأحوال الطبيعية وما إليها، وبعد مكوث وعمل داما ستة أشهر في مختلف أنحاء اليمن وحضرموت – دون مأرب – عادت البعثة إلى مصر على أن تنشر نتيجة أبحاثها المذكورة، فعساها توفق إلى ذلك قريباً.

هذا وما برح علماء الآثار والمشتغلون بالمشرقيات يتمنون لو يسمح لهم بارتياد بلاد اليمن والتنقيب في أماكنها التاريخية، والخالي الغرض السياسي منهم إنما يرغبون كشف الغوامض والمجهولات التي ما زالت تكتنف تاريخ اليمن القديم وتاريخ العرب الأولين المرتبط بتاريخ اليمن، ويبغون خاصة التأكد من مهد الساميين، أكان في شرقي إفريقية كما يظنه بعض الباحثين أم قلب جزيرة العرب كما يقول به جمهور المؤرخين، وهل اليمن معدود من ذلك القلب، ويبغون أيضاً معرفة منشأ اليمانيين أو العرب الأولين، هل هم أحباش في الأصل انتقلوا من شرقي إفريقية إلى اليمن على رأي بعضهم، أم الأحباش عرب انتقلوا إلى شرقي إفريقية من اليمن على رأي غيرهم، وإن لم يكن اليمانيون والعرب الأولون أحباشاً ولم يأتوا من شرقي إفريقية فهل نبتوا في أرضهم وتدفقوا في الهجرات منها إلى الشمال أم أتوا من شمال جزيرة العرب وقطنوا فيه، وكلا الرأيين في كتب التاريخ العربية، ثم يود المولعون في أنساب العرب معرفة حلقة الاتصال بين شعبي قحطان وعدنان العربيين وزمن وقوع ذلك وكيفيته، وفي أي حين انقسم القحطانيون إلى حمير، وكهلان، والعدنانيون إلى ربيعة ومضر، ويود المولعون في تاريخ آداب اللغة العربية معرفة كيف كان ماضي هذه اللغة وكيفية منشئها قديماً، وما مبلغ الصلة بين اللغة القحطانية واللغة العدنانية، وكيف تطورت القحطانية وتلاشت وسادت العدنانية، وكيف كانت أحوال هاتين اللغتين... وغير ذلك من الغوامض والمسائل التي ليس لها جلاء وجواب إلا بارتياد اليمن واستقراء أطلاله ونقوشه في جو من السهولة والطمأنينة، ولما تسمح حالة اليمن ومدارك كثير من أهله في الزمن الحاضر بذلك.

....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده   تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Emptyالأربعاء 15 مايو 2019, 2:20 am

.... تابع


تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده


ليس تاريخ اليمن القديم وغموض أخباره مما شغل بال المتأخرين فحسب، بل قديماً اضطرب مؤرخو العرب في أمره، وحاروا في اختلاف قصصه، واختلاط الحقائق بالخرافة في أخباره، فقال أحدهم ابن حزم (بعد أن ذكر ملوك التبابعة): وفي أنسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة. وقال ابن خلدون: اختلفت أحوالهم واتفقت أسماء كثير من ملوكهم، ووقع اللبس في نقل أيامهم ودولهم. فلنأت بما صح منها متحرياً جهد الاستطاعة... الخ. إلا أن هؤلاء المؤرخين رحمهم الله، رغم ترددهم وحيطتهم هذه، لم تخل منقولاتهم من الاضطراب الذي شكوا منه، منه أنهم درجوا القصائد والأبيات المنسوبة إلى بعض ملوك بني حمير في وصف فتوحهم وانتصاراتهم الموهومة أو المبالغ بها جداً، وهي منظومة باللغة العربية العدنانية، بينما كانوا يعرفون أن لغة أولئك الملوك حميرية تختلف عن العدنانية إلى حد بعيد، كما دل على ذلك كلمة قديمة قالها أبو عمرو ابن العلاء وهيSadما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا) وكما دلت أيضاً الكتابات السبئية الحميرية المكتشفة حديثاً. وهل ينظم المرء بغير لسانه، ومن أين لأحدهم الذي أسموه تبعاً أبا كرب أن يقول:


لست بالتبع اليماني إن لم 
تركض الخيل في سواد العراق  
أو تؤدي ربيعة الخرج قسراً 
لم يعقها عوائق العواق 
 


فأين اليمن من سواد العراق حتى تصل خيله وتركض فيه، ناهيك بالصين والمغرب اللذين زعموا أن غيره من التبابعة بلغهما وافتتحهما، بل من أين له أن يعمر ثلثمئة وعشرين سنة [1].


ومن أقولهم: أن أول أجيال العرب من بني سام، انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين. فهذا القول يبعد عن رأي المحققين المتأخرين من جهة ويقرب من جهة أخرى، فبعده في أن المتأخرين يرون أن بني سام نشأوا في قلب جزيرة العرب، ولما ضاقت بهم هذه الجزيرة هجروها وتدفقوا نحو أطراف العراق والشام ومصر، وتركوا عيش البداوة وتحضروا. وقربه في أن المتأخرين يرون أيضاً أن بعض بني سام وأسموهم المعينيين - وسيأتي حديثهم - جلوا بعد حين من العراق لما زاحمهم فيه الآرييون وجاؤوا إلى اليمن موطن آبائهم الأولين وأنشؤوا فيه أول دولة عرفها التاريخ فيه، أي أن هؤلاء انتقلوا من حاضرة إلى حاضرة لا من حاضرة إلى بادية.


وفيما يخص اليمن قالوا ما خلاصته: إن دولاً عديدة تعاورت الحكم في اليمن من أقدم الأزمان، منها العادية والقحطانية والحميرية، فقوم عاد من بني سام الذين تقدم القول أنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيه بنو حام، وأن مواطنهم الأولى كانت بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان وحضرموت والشحر، وأنهم اتصل ملكهم وعظم طغيانهم وعتوهم، ولما بادوا خلفهم قوم لم يذكروا من أين أتوا، بل أسموهم (القحطانية) وحسبوهم أجداد عرب اليمن، ولقبوهم بالعرب العاربة، كما لقبوا قوم عاد بالعرب البائدة، وقالوا إن القحطانيين اقتبسوا العربية من العاديين، وأن من القحطانيين سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان باني مدينة مأرب وسدها (كذا)، وأنه لما مات خلفه ابنه حمير مؤسس الدولة الحميرية، واختلفوا في أسماء ملوك حمير وعصورهم وعدوا من مشهوريهم الحارث الرائش، وأبرهة ذا المنار، وإفريقش، وبلقيس، التي قالوا إنها وفدت على سليمان ملك بني إسرائيل، وأسعد أبا كرب، وذا نواس، وكان الكبار من ملوك حمير يلقبون بالتبابعة (جمع تبع)، ومتوسطوهم بالأقيال (جمع قيل) وصغارهم بالأذواء (جمع ذو)، وبالغ بعض المؤرخين في وصف فتوح هؤلاء واتساع سلطانهم ووصولهم إلى حدود الصين شرقاً وبلاد البربر غرباً، ونحلوهم قصائد وأشعاراً مطولة في الإشادة بتلك الفتوح التي جلها موضوع أو مبالغ به جداً. وقصارى ذلك كما يظهر من كلام ثقات المؤرخين أن الفتوح الحربية لم تتجاوز جزيرة العرب وربما اليمن وحضرموت وعمان فحسب. أما التوسع التجاري فليس من شك في بلوغهم به أطراف الجزيرة ونفوذ قوافلهم إلى العراق والشام ومصر - كما سوف نذكره -، ولكن هذا لا يعد توسعاً حربياً أو سياسياً كما أرادته تلك النقول الموضوعة والقصائد المنحولة، ويظهر من كلام أولئك الثقات أيضاً أن ملوك حمير كانوا ملوكاً منفردين، كل منهم في مخلافه لا يتجاوزه، والمخلاف كالقضاء في بلاد الشام والعراق الآن، مؤلف من عدة محافد، والمحفد كالناحية مجموعة من القرى المتجاورة. كان الأقيال يتنازعون ويغير بعضهم على بعض، وقد ينبغ منهم من يمتد نفوذه أكثر من غيره فيدعى ملكاً أو تبعاً ويؤسس مملكة يتوارثها أعقابه، فتتألف منهم دولة يطول بقاؤها أو يقصر، ويتسع سلطانها أو يضيق، حسب الأحوال، شأن كل قطر تكثر فيه ملوك الطوائف.


وبالغ المؤرخون العرب أيضاً في حكاية تصدع سد مأرب وفي نسبتهم هجرة القحطانيين وتشتتهم إلى ذلك التصدع دون غيره، بينما يذهب المحققون الآن إلى أن تصدع ذلك السد حدث قبيل ظهور الإسلام بأقل من قرن، والهجرة والتشتت حدثا قبل ذلك بعدة قرون، وفي فترات متعاقبة بحكم تحول الظواهر الجوية، وتبدل المسالك التجارية كما قدمنا. والتصدع إنما كان نتيجة الضعف والانحطاط اللذين طرأا على الحميريين من هجوم الأحباش واستبدادهم.


ثم إن نسابي العرب يرجعون جميع قبائل اليمن إلى حمير وكهلان ولدي سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان جد عرب اليمن، وأن من حمير كان التبابعة وقضاعة، وأن قضاعة تفرعت إلى قبائل بلى وكلب وتنوخ وجهينة وبهرا وسليح ونهد وعذرة، وأن من كهلان كان الأزد وطي ومذحج وهمدان وكندة ومراد وإنمار، وعدوا من فروع الأزد الغساسنة والأوس والخزرج وخزاعة ودوس وغيرهم، ومن فروع مذحج خولان وبني سعد العشيرة والنخع وعنس، وعدوا من قبائل اليمن أعقاب سبا أيضاً، وهم لخم وجذام وبنو الأشعر وعاملة، ويذكرون أن هذه القبائل القحطانية - ما عدا التبابعة وأشياعهم الذين بقوا في اليمن - هي التي هاجرت إلى شمالي جزيرة العرب على أثر خراب سد العرم وقطنت وأسس بعضها دولاً كالغساسنة في الشام، والمناذرة اللخميين في العراق فظلت مئات السنين حتى ظهر الإسلام، بينما المؤرخ جرجي زيدان في كتابه تاريخ العرب قبل الإسلام يبدي أسباباً وجيهة للارتياب في صحة انتساب هذه القبائل المهاجرة إلى اليمن.


وقد قسم مؤرخو العرب أدوار اليمن قبل الإسلام إلى ثلاثة: الأول من البدء إلى عهد تبع أبي كرب والثاني من عهد أبي كرب إلى ذي نواس، والثالث من عهد ذي نواس إلى ظهور الإسلام، وفي الدور الثالث جاء الأحباش حينما تهود ذو نواس الحميري واضطهد نصارى نجران، ففتحوا اليمن ودوخوه واستقروا فيه وعاثوا، وبلغت بهم الجرأة أن زحفوا إلى مكة لهدم الكعبة فأخفقوا ورجعوا، ولما ضاق ذرع اليمانيين بجور الأحباش، استنصروا الفرس فأنجدوهم بجيش أخرج الأحباش من اليمن فتولاه نواب الفرس، وانتقل اليمانيون من جور إلى جور، وكان آخر نواب الفرس ((باذان)) عاصر البعثة النبوية وأسلم وانتشر الإسلام على أثره في اليمن.






أما علماء الإفرنج الذين ذكرنا أسماء بعضهم وقلنا إنهم عنوا باليمن زيارة وتنقيباً وبحثاً، والذين حذوا حذوهم من الشرقيين في تحقيق التاريخ وتطبيقه على الآثار والنقوش؛ نخص بالذكر منهم جرجي زيدان مؤلف (تاريخ العرب قبل الإسلام)، فقد جاءت مكتشفاتهم وبحوثهم عن اليمن أجلى بياناً لتاريخه مما ذكره العرب وأكثر إعلاء لشأن سكانه القدماء. وقد قدمنا أن أبعد ما وصل إليه علم هؤلاء من تاريخ اليمن، لا يتعدى حدود القرن الرابع عشر أو الخامس عشر قبل الميلاد. في تلك الحقبة المتأخرة من عصور التاريخ الأولى هبط اليمن قوم اسمهم (المعينيون) واستعمروا الطرف الشمالي الشرقي منه المعروف بالجوف. وقد قدمنا أن أول عمران اليمن حدث في براري هذا الطرف حيث الآن رمال سافية وفلوات خالية إلا من بعض الأعراب الهمج. وهؤلاء المعينيون لم يعرفهم مؤرخو العرب ولا ذكروهم. وإنما ذكروا في بعض أشعارهم مدينة (معين) التي كانت عاصمة المعينيين كما ذكروا مدناً أخرى خربة أسموها براقش والبيضاء والسوداء.


ومعرفة الإفرنج بالمعينيين حصلت من بعض أخبار التوراة وتواريخ اليونان ومن النقوش الكتابية التي اكتشفها العالم الأثري هاليفي سنة 1869 في مدينة معين المذكورة، وهي تقع إلى الشمال الشرقي من مأرب وكانت خربة مجهولة. وأصل المعينيين غامض، لم يعرف كيف نبتوا في اليمن ومن أين أتوا. وقد ذهب المؤرخ جرجي زيدان إلى أن أصلهم من عمالقة العراق الذين كان لهم دولة عظيمة في بابل دامت بين القرن الرابع والعشرين والحادي والعشرين قبل الميلاد، من أشهر ملوكها حمورابي. وأنه لما زالت شوكة العرب الساميين بزوال تلك الدولة على أثر مزاحمة الآريين؛ نزح بعض أهلها فراراً من أولئك المزاحمين، وكان المعينيون من جملة القبائل التي نزحت، وإذ كانت قد تعودت الحضارة ولم يعد يطيب لها التجول في البادية، التمست مقراً تقر فيه فنزلت اليمن وتوطنت الجوف. وقد استدل المؤرخ المذكور على قوله من تشابه أسماء الملوك في الأمتين: البابلية والمعينية كاب يدع واليفع وحصن صديق وتبع كرب، ومن اشتراكهما بأسماء المعبودات وأسس الاعتقادات وطرق العبادة، ومن الأحوال الاجتماعية والسياسية. ويوافق ذهابه هذا ما ذكره ابن خلدون من أن أول أجيال العرب من بني سام انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام. إلا أنه في حالة قبول هذا الذهاب الذي تغلب عليه الصحة، تبقى معرفة السبب في اختيار المعينيين الجوف دون غيره من بقاع اليمن الشرقية والغربية، العلة كان إذ ذاك ذا أرض خصبة وسماء سمحة أكثر من غيره، ومعرفة ما كانت عليه بقية بقاع اليمن المذكورة، أكانت خالية خاوية وهو ما لا نظنه، ومعرفة حالة الجوف المذكور ومن كان يسكنه، وكيف لم يترك هؤلاء السكان أثراً ولا خبراً، وكيف استظهر عليهم المعينيون وحلوا محلهم؟ هذه غوامض نضيفها إلى ما قدمناه من المسائل التي ما برحت في حاجة للتحقيق والجلاء.
 
قالوا بعد أن حل المعينيون في الجوف اليماني واستعمروه، أسسوا فيه دولة ذات عز وسلطان وشادوا المحافد والقصور على مثل ما عرفوه في بابل، وتعاطوا التجارة بمختلف السلع، واقتبسوا الأبجدية الفينيقية، ودونوا لغتهم بحرف خاص بهم مازال يتنوع بتوالي الأجيال حتى صار إلى الحرف المسند الذي كتبت به اللغة الحميرية بعد. وبلغ عدد ملوك هذه الدولة الذين عثر النقابون على أسمائهم في أنقاض معين ستاً وعشرين ملكاً. وإنهم كانوا يعرفون باسم مزواد. وإن نفوذ المعينيين التجاري امتد إلى شواطئ البحر المتوسط وخليج فارس، وإن مسالكهم التجارية كانت ممتدة في أواسط جزيرة العرب، وإن محطاتهم ومستعمراتهم انتشرت حتى شمالي الحجاز بدليل النقوش المعينية التي عثروا عليها في العلا شمالي المدينة المنورة وفي الصفا شرقي حوران وغيرها. وفي العصور القديمة كانت مسالك التجار بين الهند وإفريقية وبين آشور وفينيقية ومصر، منحصرةً في مواني الجزيرة العربية كعدن وقانا (حصن غراب) وظفار ومسقط، وفي الطرق البرية الممتدة في صحاري الجزيرة المذكورة. فكانت السفن تأتي من الهند وإفريقية حاملة السلع المختلفة وفي مقدمتها خشب الآبنوس وريش النعام والذهب والعاج والأفاويه والطيوب وأخصها البخور والمر اللذين كان لهما سوق نافقة في المعابد، والعقاقير والأصباغ والحرير والمنسوجات، فيتلقفها تجار المعينيين ويسيرون بها وسط الصحاري المذكورة متنقلين من محطة إلى أخرى، وقد كانوا أقاموا هذه المحطات وحصنوها لسلامة قوافلهم حتى يصلوا إلى العراق والشام أو مصر، وهي بلاد كانت إذ ذاك رافلة في الحضارة والترف يتهافت أغنياؤها على شراء تلك السلع، ثم ترجع تلك القوافل مثقلة بمنتوجات الشرق الأدنى كالحبوب والزيوت والخمور والمصنوعات المختلفة تبعث بها في سفن المحيط الهندين إلى بلاد الشرق الأقصى. وقد ظلت القوافل أهم وسائل النقل مدة قرون طويلة.


وقد أثرى المعينيون من هذه التجارة والنقل ثروة عظيمة وازدهرت حضارتهم وبنوا عدة مدن في الجوف كان المؤرخ اليوناني استرابون ذكرها باسم ميناي ويثيل وكارنا وناسكوس. وقد اكتشف هاليفي هذه المدن وقرأ أسماءها عليها بالحرف المسند. وهي التي قلنا إن العرب كانوا يعرفونها ويذكرونها في أشعارهم وينسبها جغرافيوهم إلى الحميريين ويسمون الأولى معين والثانية براقش والثالثة السوداء والرابعة البيضاء.


وقال الهمداني في كتابه الإكليل (ج 8 ص 124 طبعة بغداد): ومن محافد اليمن براقش ومعين وهما بأسفل جوف أرحب في أصل جبل هيلان وهما متقابلتان. فمعين خراب خاوية على عروشها. وأما براقش فقائمة، وأسماء أهلها مكتوبة بالحرف المسند، يسكنها بنو الأوبر من بلحرث بن كعب... الخ وفيها يقول علقمة ذو جدن:


وقد أسسوا براقش حين أسسوا 
ببلقعة ومنبسط أنيق 
وحلوا من معين حين حلوا 
لعزهم لدى الفج العميق 
 


وقال الهمداني أيضاً: وبالجوف سوى براقش ومعين والبيضاء والسوداء، مآثر بان فيها آثار عجيبة وقصور آجر خربة بين الجوف ومأرب، يعدون الناس منها الذهب القبوري ودنانيرهم ودراهمهم عليها صور. اهـ


ونذكر تصديقاً لكلام الهمداني أن في متاحف أوروبا اليوم كثيراً من النقود المنقولة من اليمن وعليها صور الملوك وأسماؤهم وأسماء المدن التي ضربت فيها بالحرف المسند ورموز سياسية أو اجتماعية أو دينية. ونذكر أيضاً أن أخبار المعينيين التي ما برحت قليلة وغامضة، تكاد تشبه ما يقال في القرآن الكريم عن قوم عاد ذوي العبث والبطش والجبروت وأصحاب الأنعام والبنين والجنات والعيون. وقد قدمنا أن مؤرخي العرب جعلوا منشأهم من بابل وحسبوا مساكنهم بين اليمن وعمان وحضرموت. فهل المعينيون هم العاديون، ذلك ما يتبادر إلى الذهن ويحتاج للتأكد.


هذا وقد ظل المعينيون ينعمون برغد وسؤدد طائلين نحو سبعة قرون حتى غلبهم السبئيون وأبادوهم وخلفوهم في السيادة والتجارة وذلك حول سنة 650 قبل الميلاد. والدولة السبئية هي المعروفة لدى العرب بالقحطانية والحميرية والعرب العاربة. لأن سبا في عرف العرب من أعقاب قحطان. قيل إن السبئيين جاءوا إلى اليمن من الحبشة في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد. فأقاموا بجوار المعينيين وخالطوهم واقتبسوا لغتهم وديانتهم وحضارتهم وزاحموهم في امتلاك بعض أنحاء اليمن وجعلوا عاصمتهم صرواح. تشهد بذلك الكتابات المعينية التي اكتشفت وفيها ذكر لوجود السبئيين في اليمن، وإن بعض ملوك المعينيين مثل (خالي كارينا صادوق) و(يحثيل ريام) كانا في الزمن الذي كان فيه ملوك سبئيون. والمظنون أن هذا كان بين 700 و 600 سنة قبل الميلاد. ويقال إنه جاء في كتابة معينية ما يفيد أن السبئيين وقبيلة أخرى اسمها خولان، كانوا يشنون الغارات على الطريق المؤدية من نجران إلى معان في جنوبي الشام. وقد أشار كتاب أيوب من التوراة إلى هذه الغارات.


ومازال السبئيون يزدادون بسطة في الثروة والقوة حتى ظهروا على المعينيين لأسباب مجهولة لعلها للوهن الذي قد يكون أصابهم كما يصيب عادة الأقوام التي تسترسل في النعيم والترف بمرور الأجيال بينما خصومهم في إبان نهضتهم وفتوتهم، وما إن وطد السبئيون نفوذهم حتى أنشأوا دولة كبيرةً كانت كسالفتها دولة تجارة وقوافل وزراعة وجعلوا عاصمتهم (مأرب) وزينوها بالقصور والدور والشوارع والأعمدة والهياكل الجميلة التي لا تزال أطلالها تدهش الزائرين بروعتيها وجمال هندستها[1].


ويظهر أن السبئيين لما رأوا الظواهر الجوية في براري الجوف مالت إلى التحول وأن مطرها قد قل وأن الأنهار التي كانت تتدفق من جبال اليمن الشرقية نحو تلك البراري تضاءلت وصارت أودية وغدراناً، فكروا بالانتفاع من سيول تلك الجبال التي كانت تذهب سدى فبنوا سد العرم في مأرب وسدوداً أخرى في كثير من أنحاء اليمن وحضرموت، وأتقنوا فن الري وتوزيع المياه فتقدمت الزراعة وأثروا منها كما كانوا أثروا من التجارة والنقل. وقد حملتهم تلك الثروة على العناية بالعمران فبنوا الحصون والمباني العظيمة والهياكل الشامخة في اليمن وحضرموت وما بينهما[2] وتفننوا بزخرفتها وتزيينها بالنقوش والتماثيل والأعمدة وشادوا حولها الأسوار المنيعة وفرشوها بالديباج وأواني الذهب والفضة. وكان سد مأرب من أعظم أعمال العمران في اليمن، شاهده في القرن الرابع الهجري الجغرافي اليماني أبو الحسن الهمداني وذكره في كتابه الإكليل (ج Cool، إلا أنه ظل غير معروف أو موصوف بدقة إلى سنة 1843م لما زاره الأثري آرنو ورسم خريطته وأفاض في وصفه. كما زاره هاليفي وغلازر في سنتي 1869 و1895 والسيد نزيه المؤيد الدمشقي في سنة 1355هـ و1936م وأفاض في وصفه أيضاً في رحلته. وهذا السد جدار ضخم بنوه في باب وادي ذنة بين جبلي بلق لتجتمع سيول جبال اليمن الشرقية وراءه في فصل الأمطار وتنصرف من ثم لري السهول الممتدة حول مآرب، وفي هذه السهول كانت الجنتان الواقعتان عن يمين مآرب وشماليها كما جاء في القرآن الكريم في سورة سبأ. وكانت هذه السهول والجنان تشبه غوطة دمشق أو أكثر على ما يظهر وتفيض بالغلال والثمار. وقد عثر الأثريون المذكورون في أنقاض هذا السد على نقوش كتابية بالحرف المسند استدلوا منها على أن بناته هم سمهعلي ينوف وابنه بثعمر بدأا به وأكمله خلفاؤهما.


وفي تلك الحقبة شرع البطالسة خلفاء الإسكندر المقدوني في مصر يبنون السفن ويمخرون في البحر الأحمر وينقلون السلع بين مواني الشرق والغرب. إلا أن هذه المنافسة لم تؤثر تأثيراً يذكر في تجارة السبئيين وقوافلهم. فقد ظلوا يمدون جميع الهياكل المصرية والفينيقية بالبخور والطيوب وغيره. وكما اشتهر السبئيون بالإقدام والنشاط في أعمال التجارة والزراعة، اشتهروا بالبسالة في الحروب، حتى إنهم صدوا حملة القائد الروماني يوليوس غالوس وأرجعوه عن أسوار مأرب. وقد كان قصدها طمعاً بما بلغه عن ثروتها وترف أهلها. حدث ذلك في سنة 24 ق.م وهذه الحملة الرومانية وإن أخفقت لكنها عرفت الرومانيين ببلاد العرب وجعلت مؤرخيهم يذكرونها ويذكرون اليمن خاصة ويصفونها بالعربية السعيدة. ويذكر أن الدولة السبئية قضت دورين في حياتها. الأول لما كانت عاصمتها في صرواح، وهي الآن قرية في شرقي اليمن لا تزال آثارها وأطلال قصورها ظاهرة ومأهولة ببعض السكان، تبعد عن مآرب نحو خمسين كيلو متراً إلى الغرب. وقد كانت الدولة السبئية في هذا الدور تحاول النهوض ومزاحمة المعينيين، وكان لرؤسائها حينئذ السلطة الروحية ولقبهم مكرب سبأ، إلى أن انتهى هذا الدور سنة 650 ق م. والدور الثاني لما انتقلت العاصمة إلى مآرب، وفيه اختص الملوك بالسلطة الزمنية وصار لقبهم ملك سبأ. وهذا الدور هو أزهى عصور الحضارة السبئية، ودام أكثر من خمسة قرون.


ظل السبئيون في يسار وترف زائدين وإذا تصدعت السدود رمموها إلى أن زادت المنافسة التي ذكرناها وفقدت قوافل البر ما كان لها من الشأن، وذلك بتقدم فن الملاحة لدى الرومانيين الذين خلفوا اليونان وبحلول الطرق المائية في البحرين الأبيض والأحمر مكان الطرق البرية المعرضة لخطر غارات البلاد وقطاع الطرق دائماً. فضعف شأن السبئيين وتحولت غايتهم من شرقي اليمن الذي مالت ظواهره الجوية من الخصب إلى الجدب أكثر من قبل، وانتقلوا إلى اليمن الأعلى فعمروا فيه مدينة ريدان وهي الآن قرب بلدة يريم الحالية وعمروا مدينة صنعاء أيضاً فأخذت مأرب بالتقهقر.


وانتقلت الدولة في سنة 115 ق م إلى الحميريين. وهم من فروع السبئيين أو من أتباعهم وبالإمكان أن تعد دولتهم تتمة دولة السبئيين. وكان ملوكهم يدعون ملوك سبأ وريدان ثم لما فتحوا حضرموت أضافوا كلمة وحضرموت. وكان حكام المقاطعات أو المخاليف يدعون بالأقيال أو الاذداء، كذي يزن وذي جدن وذي أشرع، ونقل الحميريون عاصمتهم إلى صنعاء وكانت دولتهم دولة حرب وفتح، فقد نبغ من ملوكها وأقيالها من فتح البلاد المجاورة كحضرموت وعمان ودافع الأحباش الذين كانوا يطمعون باليمن ويهاجمونه الفينة بعد الفينة. بدأوا بذلك منذ القرن الرابع الميلادي.


وورث الحميريون تجارة السبئيين وزراعتهم وصناعتهم، وزادوا فيها ركوب سفن البحر فوق ما كان من قوافل البر، وأتقنوا فن جر الأثقال والريازة فبنوا مدناً وحصوناً وقصوراً شاهقة متعددة الطباق، حتى بلغت فيما قيل عشرين سقفاً في قصر غمدان الذي كان في صنعاء، بينما الآن لا يزيد عدد طباق قصور صنعاء الحالية على الخمس أو الست وأجادوا استثمار جبال اليمن، فحولوا منحدراتها السحيقة إلى حقول مدرجة لا يزال أعقابهم سكان اليمن الحاضرين يقلدونها، وأكثروا من عدد السدود وعنوا بترميمها كلما تصدعت، فلم يغادروا قطرة تذهب سدى كما تذهب الآن للأسف، وحفروا المناجم واستخرجوا المعادن وصنعوا الطيوب والعطور وتاجروا بها وأثروا.


وما زال الحميريون في بذخ وترف وظهور وعلو يد، حتى زاد حسد الأحباش وطمعهم بهم، فاتخذوا اضطهاد أحد ملوك حمير لنصارى نجران حجة، وكان اسم هذا الملك الحميري يوسف ذي نواس، وكان متهوداً يجبر الناس على التهود ويضطهد المتنصرين وحرق بعضهم في الأخاديد. ولما استجار نصارى نجران بقياصرة بيزنطية، كلفوا هؤلاء محاربة ذي نواس. فجاء الأحباش بهذه الحجة وانقضوا على الحميريين 525م وغلبوهم بعد حرب ودفاع شديدين وعاشوا في بلادهم. ومن المؤسف أنهم خربوا القصور وبعثروا الآثار والنقوش الكتابية وقضوا على عمران اليمن كله الذي كان نتيجة جهود اثنين وعشرين قرناً في عهود المعينيين والسبئيين والحميريين، ومما عملوه أنهم نشروا الديانة النصرانية واضطهدوا مخالفيها حتى أنهم بنوا في صنعاء كنيسة عظيمة دعوها (القليس) أرادوا أن تنافس الكعبة في مكة فيحج إليها العرب، لكنهم لم يفلحوا بذلك وأخفقت التجر التي بعثوها إلى مكة لهدم الكعبة سنة 570 م.


ولما عظم بلاؤهم على أهل اليمن وطال، استنجد هؤلاء بالفرس فأنجدوهم نكاية بخصومهم البيزنطيين، ورغبة باستعمار اليمن, وأرسلوا مع رئيس اليمانيين حينئذ، وكان اسمه سيف بن ذي يزن، جيشاً اشترك مع اليمانيين في محاربة الأحباش وانتصر عليهم وطردهم. بيد أن اليمانيين انتقلوا من نير الأحباش إلى النير الفارسي، لأن الفرس استطابوا المكوث في اليمن واستعماره، في حين أنهم كانوا قادمين لنجدته، وقد أضعفت هذه الحروب اليمانيين وحالت دون ترميمهم سد مأرب، فكان تهدمه الأخير الذي حدث حول سنة 543 أو 570م مع مصيبة الأحباش وما أتوه من التهديم والتفظيع وغلبة المسالك البحرية على البرية نهائياً وتحول الظواهر الجوية في مشارق اليمن وبراري الجوف من خصب إلى جدب... كل ذلك كان سبباً في انتهاء عمران اليمن القديم وزوال سعادته التي بهرت عيون الرومان، وضياع استقلال أهله، لأن الفرس ولوا نوابهم حكم اليمن وبسطوا نفوذهم على جنوبي الجزيرة العربية، كما كان منبسطاً على شماليها وشرقيها، وما زالوا حتى ظهر الإسلام وانتشر في اليمن.




.... يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده   تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده Emptyالأربعاء 15 مايو 2019, 2:21 am

...  تابع

تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده

الشراكسة في اليمن: يظهر أن هؤلاء كانوا من مماليك الشراكسة الذين حكموا مصر. ملك اليمن منهم ثلاثة أمراء. وكان ظهورهم سنة 922، وقد بقوا خمس سنوات لم يأتوا إلا بما لا يحمدون عليه، أولهم الأمير حسين الكردي، وكان سبب دخوله اليمن أنه بعد رجوعه من الهند غير موفق كما قدمنا، جاء إلى سواحل اليمن، وبعث يطلب من الملك عامر - آخر ملوك بني طاهر - مؤنة لعسكره، ولما رفض عامر تلبية الطلب غضب حسين وعزم على سلبه بلاده، وقيل: إن الإمام شرف الدين الذي سيأتي ذكره، حرضه على ذلك وأعانه بجمع من الزيدية، وكان مع الأمير حسين مدافع وبنادق نارية مما كان يجهله اليمانيون وقتئذ، فانتصر بهذه الأسلحة الحديثة على جند الملك عامر، واستولى على الحديدة وزبيد ونهبهما، ثم ذهب إلى عدن وحاصرها بسفائنه فلم يفز بطائل، وبعد أن أخذ ما أخذ أبقى نائبه [برسباي] في اليمن، ورجع إلى جدة فقتل فيها، وبعد ذهاب حسين تفرد برسباي المذكور في اليمن واجتمع إليه عدد من بقايا الشراكسة الذين خرجوا من مصر على أثر دخول السلطان سليم العثماني، وظل برسباي يجور ويستبد. ثم سار إلى حرب الملك عامر الذي كان ضعف أمره فغلبه واستولى على تعز ونهبها، وظل لاحقاً بقفا عامر حتى قتله وشتت شمل أتباعه، ثم جاء إلى صنعاء وأخذها من عامل الملك عامر وعذبه واستصفى أمواله، كما نهب عسكره صنعاء وأفحشوا فيها؛ وبينما هم راجعون إلى زبيد بما غنموه هاجمتهم قبائل الجبال فقتلت برسباي وكثيراً من أمرائه وجنوده واستولت على غنائمه، فخلفه في زبيد الأمير إسكندر، وكان يحكم التهائم، كما كان الإمام شرف الدين يحكم الجبال، ولما بلغ إسكندر أن السلطان سليم أتم فتح مصر وقضى على دولة المماليك الشراكسة وأخذ الخلافة، صار يخطب باسمه، لكن ذلك لم ينفعه، فقد داهمه الترك العثمانيون سنة 927 وقتلوه واستولوا على اليمن، وسيأتي بيان ذلك.

 

[دولة الأئمة الزيدية أيضاً]: عقب وفاة الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي الذي تقدم ذكره، خلفه أبناؤه في منـزلهم في صعدة لا يتجاوزونها إلى الجنوب إلا قليلاً، ولم تزل إمامة هؤلاء الرسيين مطردة خلال القرن الخامس إلى أن وقع الخلاف بينهم، وجاء فرع من أبناء أعمامهم واسمهم السليمانيون، فغلبوا على صعدة في القرن السادس، وأول السليمانيين المتوكل أحمد بن حمزة، هاجم زبيد واستخلصها من بني المهدي ثم أضاعها، وخلفه المنصور عبدالله سنة 593، فحاربه طغتكين والملك المسعود الأيوبيين، ثم رجع بنو الرسي واستعادوا الإمامة، وكان أولهم الموطأ أحمد الذي حارب ملوك بني الرسول إلى أن قتله أتباعه وحزوا رأسه سنة 656 وخلفه آخرون ألقابهم: المؤيد بالله، والمنصور بالله، والمهدي لدين الله، والمطهر، والناصر،.... إلى كثير من أمثال ذلك.

 

ولما كانت أحكام المذهب الزيدي ليس فيها إمامة بالنص ولا باليقين، ولا مجال لتسمية أولياء للعهد، جاز لكل سيد فاطمي، عالم زاهد، شجاع سخي، قادر على القتال في سبيل الحق يخرج للمطالبة أن يكون إماماً وقد اشترطت تلك الأحكام على الإمام أن يخرج على الأمراء والسلاطين أيضاً للمطالبة بالخلافة، لهذا صار كل سيد علوي فاطمي في اليمن يرى في نفسه حيازة هذه الشروط يخرج لتقلد الإمامة، فإذا ما ستولى عليها يقوم لطلب الخلافة ويثير لأجلها الفتن والاضطرابات ويشهر الحروب ويخوض المعارك، حتى ينال مبتغاه ويسود، أو يخفق في مسعاه، فيأوي إلى أحد المعاقل متحيناً الفرص للوثوب والقتال، وهكذا، ولا بأس إذا هلك خلال ذلك حرث اليمن ونسله وتقوض عمرانه وشقي من بقي من سكانه.

 

وصف القلقشندي هؤلاء الأئمة في كتابه صبح الأعشىى [ج 3 ص 51] فمما قاله: [إمارتهم أعرابية بدون كبر ولا شمم، وربما اشترى أحدهم سلعته بيده ومشى بها في أسواق بلده، وما منهم إلا ويعتقد في نفسه، ويعتقد أشياعه فيه أنه إمام معصوم مفترض الطاعة ويرون أن ملوك الأرض وسلاطين الأقطار يلزمهم طاعته ومبايعته حتى خلفاء بني العباس، وأن جميع من مات منهم عاصياً بترك مبايعته ومتابعته، وهم يزعمون ويزعم لهم أن سيكون لهم دولة يدال بها بين الأمم وتملك منتهى الهمم، وأن الإمام الحجة المنتظر في آخر الزمان منهم، يتربصون الدولة في أقطار الأرض]. اهـ

 

قلت: إن هذه المعتقدات الغريبة والمزاعم البعيدة المثال، ناهيك شرط الخروج على الأمراء والسلاطين بطلب الخلافة، المكلفين به بحكم الإمامة، كل ذلك كان يدفع بهؤلاء الأئمة دائماً إلى إيقاد نيران الفتن والحروب ومجاذبة الدول الحاكمة في التهائم والجبال ليصفو لهم اليمن أولاً، ثم يتجاوزون إلى غيره.. وقد لبثوا منذ منتصف القرن الثالث إلى منتصف القرن العاشر؛ يهاجمون ملوك بني يعفر وبني المهدي وبني أيوب وبني الرسول وبني طاهر، كما هاجموا بعدُ الترك العثمانيين، وذلك كلما آنسوا في أنفسهم قوة وفي أولئك ضعفاً فإن ظفروا، امتلكوا صنعاء واستقروا فيها ومدوا أيديهم حتى زبيد ولحج وحضرموت، وإن فاز أولئك عليهم انكمشوا إلى معاقلهم في صعدة، وأخلدوا إلى سكينة موقتة يتحينون الفرص للوثوب، ويكون بينهم وبين ملوك تلك الدول - كما جاء في صبح الأعشى - مهادنات ومفاسخات تارةً وتارةً، وإذا تفاسخوا يكون النصر سجالاً بين الفريقين، وكثيراً ما كان يظهر للإمام منهم من إخوانه وأبناء عمه معارض أو معارضان أو ثلاثة أو أربعة - في وقت واحد أو في أوقات متتابعة - لجواز ذلك في المذهب الزيدي، ولادعاء كل منهم بحيازة شروط الإمامة أكثر من غيره، فلا يسع القوي منهم إلا مهاجمة الضعيف، فينشب القتال وتسفك الدماء حتى يفوز أحدهم ويتفرد بها، وفي خلال ذلك تبقى بلاد اليمن المنكوبة الحظ في أمر مريج وعويل وضجيج، وقلّ من هؤلاء الأئمة من مات حتف أنفه، بل إن كثيراً منهم مضى مسجوناً أو مسموماً أو محزوز الرأس، ولا تتسع هذه العجالة لأسمائهم وأخبارهم وأعمالهم التي ليس فيها سوى أحاديث الفتن والكوارث الآخذ بعضها برقاب بعض، وكلها لأجل نوال الإمامة أو تدعيم السيادة؛ على أن كثيراً من هؤلاء الأئمة كان على جانب غير يسير من علوم اللغة والفقه بالمذهب الزيدي، ولبعضهم في هذه العلوم فقط مؤلفات[1]، أما في موضوعات العمران والإنشاء وفيما يعود لإصلاح البلاد وإسعاد العباد فلم ير أو يسمع أن أحداً منهم أتى بأثر جدير بالتنويه والشكر، رغم مواتاة الأحوال وطول البقاء لكثير منهم، مما يدل على أن هذه الأمور والأعمال الأساسية كانت خارج تصورهم وتقديرهم، اللهم إلا بعض الأضرحة والقبب والمساجد. وقد زرت قسماً منها سنة 1354.

 

وقد برز من هؤلاء الأئمة في الحروب والغارات خلال القرن العاشر المتوكل يحيى شرف الدين الذي دامت إمامته 42 سنة (923 – 965) فقد قاتل هذا الإمام ملوك بني طاهر وأمراء الشراكسة وباشوات الترك العثمانيين، ثم خلفه ابنه المطهر، وهذا دامت إمامته 15 سنة (965 - 980) كان اليد اليمنى لأبيه من قبل، وقد قاتل عامر عبدالوهاب وعامر داود وكانا آخر ملوك بني طاهر كما قاتل الترك العثمانيين في معارك عظيمة استمرت أعواماً طويلة، ويشبهه في مقاتلة الترك المنصور القاسم بن محمد المتوفي سنة 1029 إلى أن خرج الترك في زمن خلفه المؤيد محمد بن القاسم سنة 1041، فخلا الجو في اليمن بعدهم للأئمة وتفردوا في حكم الجبال والتهائم كلها حتى عدن وحضرموت وذلك خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر وكل الثاني عشر وأكثر الثالث عشر (1041 - 1289).

 

ولم يخل أحد هؤلاء خلال المدة الأخيرة المذكورة أيضاً من معارضين من إخوانه وأبناء أعمامه، وكل منهم يحاول التفرد بالإمامة، فيقوم في أحد أنحاء الجبال ويدعو لنفسه وتهيج الفتن والكوارث الدامية الهدامة التي تقدم وصفها، وهي من أجلّ أسباب زوال سعادة اليمن القديمة، ولم ينبغ في هذه المدة منهم سوى المتوكل إسماعيل المتوفي سنة 1079 ظل إماماً 33 سنة واستولى بعد معارك شديدة على لحج وعدن وحضرموت إلا أن قبائل هذه البلاد وأمرائها - وهم شافعية لا يروقهم الخضوع للزيدية - ظلوا يناجزون الأئمة الذين خلفوا المتوكل إسماعيل حتى تم لهم الخلاص والاستقلال عنهم حول سنة 1145، ونبغ منهم أيضاً المهدي العباسي المتوفي سنة 1189، اشتهر بفضله وببناء المساجد والبرك وباستقرار الأمن نوعاً ما في عهده، وهذا هو الإمام الذي زاره السائح الدانيماركي نيبوهر سنة 1176 ووصف كيفية دخوله عليه ودرج في رحلته صورة مجلس الإمام المذكور[2].

 

وظل حال الأئمة على شيء من القوة إلى أن ضعف في أوائل القرن الثالث عشر؛ وكثرت الفتن في ديارهم وعجزوا عن إطفائها، واشتد الاختلال والاعتلال في عهد المنصور علي بن العباس والمهدي عبدالله بن أحمد ومن أتى بعدهما، وثارت القبائل سنة 1216 وعمت الفوضى وحوصرت صنعاء محاصرة شديدة سنة 1223، وخرجت التهائم من يد الأئمة إلى يد الأشراف من أهلها، وظلت في يدهم إلى أن أرسل خديوي مصر محمد علي باشا جيشاً في سنة 1251 واستولى على عسير والحديدة وتعز ومخاليفهما، ثم تركها لهم سنة 1256، وانحصر الأئمة في اليمن الأعلى فقط، والفتن قائمة والسبل خائفة، وحولهم قليل إلى أن اضطروا إلى استدعاء الترك العثمانيين سنة 1265 أولاً، ثم في سنة 1289 ثانياً على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

مجلة التمدن الإسلامي، السنة الرابعة، العدد السابع، 1357هـ - 1358هـ - 1938م


[1] إن كثيراً من هذه المؤلفات التي وضعها الأئمة المذكورون وملوك بني الرسول وغيرهم ممن نبغ في اليمن من قبل ومن بعد، قد خرج من اليمن وانتقل إلى استانبول بيد الترك أو إلى إيطاليا بيد الإيطاليين، وقد جمع الإيطاليون واشتروا كتباً كثيرة من اليمن ووضعوها على ما علمت في مكتبة الأمبروزيانا في ميلان، ومعظمها في فقه المذهب الزيدي وبعضها دواوين شعر لبعض شعراء اليمن، وقليلها في تاريخ اليمن عامة وصنعاء خاصة، وما زال خروج الكتب مستمراً حتى فقدت كتب التاريخ الصالحة للمراجعة أو كادت، حتى أن اللجنة التي ألفتها إدارة المعارف في صنعاء لتدوين تاريخ اليمن ما برحت تذيع في جريدة الإيمان (كما في العدد 143 ربيع الثاني 1357) وتستنهض حمية من عنده أمثال هذه الكتب لكنها لم تظفر ببغيتها إلا قليلاً فيما يظهر.

[2] Voyage en Arabie, Niebuhr P. 330
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تاريخ اليمن
» تاريخ اليمن الحديث
» تاريخ اليمن الاسلامي
» تاريخ إنجلترا المنسي مع الإسلام
» صفحات منسية من تاريخ الإسلام في إيطالية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: التاريخ :: التاريخ الاسلامي-
انتقل الى: