تاريخ اليمن قبل الإسلام وبعده (1)
للمهندس الزراعي الأستاذ ((أحمد وصفي زكريا)) عناية بالتاريخ، وبحوث موفقة، فيها درس وتحقيق، والجزء الأول من كتابه (جولة أثرية) قد خدم تاريخ الشام خدمة جلى، وقد أقام في ((اليمن)) حيناً كان من ثمراته مقالات نشر منها سلسة في مجلة ((المقتطف)) المصرية، وهذه حلقة نرجو أن تتلوها حلقات، لما ستعود به من النفع على تاريخ اليمن خاصة والتاريخ العربي الإسلامي عامة.
ليس من شك في أن اليمن فيما مضى ذا حظ عظيم من التمدن والعمران، ووفرة الثروة، وفراهة السكان لكن اليمن لم يبلغ في قدم تاريخه شأو بقية الأقطار التي كانت في شمالي الجزيرة العربية، لأن أحداثه المعروفة لا تبدأ إلا من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، بينما أحداث تلك الأقطار تبدأ من الألف الثالث والرابع، وإذا جاوزنا ما قبل التاريخ لا نجد لليمن حتى قبل ذلك المنتصف ذكراً في أي سفر أو رقيم أو نقش مما يستند عليه في تحقيق ماضي الأمم والبلاد فلا يعرف حتى الآن ما كان عليه جو اليمن وبره وقطينه خلال الألفين الثالث والرابع المذكورين، حينما كانت تندفع موجات الساميين من قلب جزيرة العرب نحو شمالها، فتنتشر على ضفاف الدجلة والفرات والعاصي والأردن، وتؤسس حضارات ودولاً باسم – الأكاديين والعموريين والآشوريين والبابليين والعبريين، وكذلك لا يعرف ما إذا كان اليمن يمكن عده من بقاع ((قلب جزيرة العرب)) الدافع لتلك الموجات، أم أن هذا القلب كان منحصراً في بلاد نجد والحجاز، وهل أخرج اليمن قسماً من تلك الموجات، أم لم يحتج قطينه للخروج والهجرة – على ما نرجح – لتوفر أسباب الرزق والرفه لديهم أكثر من بلاد نجد والحجاز القاحلة في الغالب. ثم من كان هذا القطين، ومن أي الأقوام يتألف، وما حال هذه الأقوام من المعيشة والمنعة، ومن أين أتوا في الأصل، أحق أنهم – وهم ساميون – نشؤا مع الحاميين من نبعة واحدة في شرقي إفريقية، فذهب الحاميون شمالاً نحو مصر، وذهب الساميون شرقاً نحو قلب الجزيرة المذكورة فكان من جملتهم أهل اليمن الأقدمين [1] ثم من قوم عاد، ومن أهل الرس، الذين ذكروا في القرآن الكريم وفي كتب التاريخ العربية، أكانوا من أولئك اليمانيين الذين نتساءل عنهم، وكيف استطاع قوم عاد أن يعيشوا في ((أحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر))[2] بينما هذه الأحقاف هي الآن مفاوز معطشة وبراري موحشة، ثم كيف قضى هؤلاء عهودهم وكيف انقرضوا، وهل الآثار القليلة في بعض أنحاء حضرموت التي تنسب إليهم[3] هي لهم، أم هي في الغالب للأقوام الذين جاؤوا بعدهم ممن سيأتيك ذكرهم؟.. كل ذلك ما برح في طي الحدس والافتراض ينتظر تقدم البحث والتنقيب في مجاهل تلك البلاد النائية.
أما الذي عرف من تاريخ اليمن القديم منذ القرن الرابع عشر أو الخامس عشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الذي ظهر فيه الإسلام أي خلال واحد أو اثنين وعشرين قرناً، هو أنه تأسست فيه دول أو دويلات عديدة، فلبثت تقدمها في ميادين العمران والحضارة أكثر من ثبوته في الفتح والسياسة، فقد بحث مؤرخو اليونان والرومان مثل ((ديودور)) و((هيرودوت)) و((استرابون)) عن مدن اليمن ودوله ومسالكه التجارية وحالاته الاجتماعية التي كانت في عهدهم، وبحث مؤرخو العرب كالطبري والمسعودي وابن الأثير وابن قتيبة وابن الكلبي وابن خلدون عن دوله البائدة وأحداثه المشهورة التي سمعوها من ألسن الرواة، وبحث جغرافيو العرب عن محافد اليمن وآثاره وأسداده وحصونه وقصوره، وكان المبرز في هذا المضمار هو الفيلسوف اليماني أبو الحسن الهمداني المتوفى في القرن الرابع الهجري صاحب كتاب ((صفة جزيرة العرب))[4] و((الإكليل))[5]، وفي الحق أن أحداً من كتّاب العرب من قبل ومن بعد لم يبلغ شأو الهمداني في دقة البحث وحسن الوصف لبلاد العرب عامة واليمن خاصة، فقد سبق رحمه الله في هذا المضمار علماء الغرب ممن أتى بعده بعشرة قرون، ويلي الهمداني ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان الذي أحاط بجل أنحاء المعمورة في عهده، وجعل لليمن من معجمه حظاً موفوراً يستحق الإعجاب. ويلي ياقوت في خدمة جغرافية اليمن فضلاً عن تاريخه نشوان بن سعيد الحميدي اليماني صاحب كتاب مختصر شمس العلوم ودواء العرب من الكلام المطبوع في ليدن سنة 1916.
وقد تأيد قسم كبير مما ذكره هؤلاء المؤرخون والجغرافيون بفضل مكتشفات علماء الآثار من الإفرنج الذين خاطروا بأنفسهم وتمكنوا من الوصول إلى بعض المدن والأماكن التاريخية في مشارق اليمن، وأخصها مأرب عاصمة السبأيين، و((معين)) عاصمة المعينيين، بيد أن مدناً وأماكن عديدة أخرى في أحقاف الرمل التي تقدم ذكرها – ولا سيما في برية الجوف الممتدة من غربي تلك الأحقاف إلى سفوح جبال اليمن الشرقية وفيها العاصمتان المذكورتان – ما برحت حتى الآن ممتنعة على علماء الآثار لا يستطيعون أن يصلوا إليها ليبحثوا وينقبوا في أطلالها ونقوشها، وهي أمثال شبورة وروث والعبر ووبار وهرم وبيحان وبراقش والبيضاء والسوداء وغيرها، وبعض هذه المدن والأماكن إما مطمور تحت السافية، أو خاو على عروشه تفعل فيه الأعاصير والهوام، أو هو على خرابه يسكن بين أطلاله أعراب همج لا يدينون لسلطة ما حتى ولا لحكومة صنعاء، ولا يدعون غريباً أياً كان يصل إلى مواطنهم هذه حذراً من أن يغتصب لهم الكنوز التي يتخيلون وجودها تحت الأنقاض، كما ثبت ذلك للسائح الألماني هنفريس في شبوة وبيحان حينما مر بهما مغامراً من حضرموت إلى اليمن، وقد قال جغرافيو العرب الذين تقدمت أسماؤهم عن هذه المدن: إنها أسماء مدن ومواضع ومخاليف بالجوف من اليمن كانت لملوك حمير، وفيها حصون ومباني عجيبة (كذا). وقال نشوان الحميري عن وبار ما نصه: ((وبار اسم أرض كانت لعاد في مشارق اليمن، وهي اليوم مفازة لا يسلكها أحد لانقطاع الماء، ويوجد بها قصور، وقد كبستها الريح بالرمل، ويقال إنها كانت لأهل الرس، وهم أمة من ولد قحطان، والله أعلم)) ولا يسع المتأمل في تاريخ اليمن القديم إلا أن يعجب من وجود تلك المدن والمواضع والمخاليف بين الرمال والمفاوز، وكيف أنها تحتوي على مبان وقصور وصفت بكلمة (عجيبة)، وأيد ذلك الأثريون الذين بلغوا ورأوا بعضها. وقد توصلت بعد التأمل إلى أن تلك المدن والمواضع في إبان ازدهارها كانت وسط إقليم ظواهره الجوية مواتية من حيث اعتدال الهواء، ووفور الأمطار، وخصب التربة وسهولة العل والنهل من الصهاريج والآبار المترعة بمياه الأمطار الوافية، ومن السيول الدافقة في كثرة أو قلة من جبال اليمن وأنحائه الشرقية، وأن هذه المواتاة ظلت دائمة منذ تكون القطر اليماني في الأطوار الجيولوجية إلى فجر التاريخ والقرون القديمة التي تلته، أضف إلى ذلك أن تلك المدن والمواضع كانت على قارعة مسالك تجارية عظيمة، كما كانت تدمر وسط بادية الشام، واستنتجت بعد ذلك أنه قد حدث في أرض اليمن وجباله البركانية هزاهز عنيفة طمست كل أو جل ينابيعه التي كانت تدفع بالغدران السارحة نحو براري الجوف وأحقاف الرمل، وحدث في سمائه ما غير ظواهرها الجوية، وجعل كميات الأمطار تناقص قرناً بعد قرن إلى حد أصبح لا يكفي للعل والنهل، وجاءت عوامل خارجية أيضاً قضت بتغير المسالك التجارية من البر إلى البحر، وحرمت سكان اليمن من أكبر موارد رزقهم، فانحط شأن المدن والمواضع المذكورة، وهجرها سكانها على التوالي، وصارت بمرور الأحقاب وانقطاع الأسباب وسط رمال وقفار تشكو العطش والجدب والخواء، بعد أن كانت مغمورة بالري والخصب والعمران، ولا غرو فالبلاد تشقى وتسعد كالعباد. إن هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه تؤيده الأدلة الكثيرة البارزة للعيان في كل القطر اليماني، وقد سبق أن قلت في (حديث اليمن) المنشور في مجلة المقتطف (جزء تشرين أول سنة 1937 ص 314): على أن مقادير المطر في العصر الأخير صارت أقل مما كانت عليه في العصور الخوالي، يظهر ذلك للمتأمل في كثرة الغيول والأودية الجافة أو الجارية وعمقها المتناقص، ولم يسجل ميزان المطر في مرصد صنعاء الجوي سنة 1935 أكثر من 300 ميليمتر، وهذا المجموع العائد إلى سنة واحدة وإن لم يكن كافياً للاعتداد به، لكن بقية السنين لا تكون فيها الزيادة على ما يظهر أكثر من نصف أو ثلثي المجموع المذكور، وهو يعد قليلاً على كل حال إذا قيس بجفاف إقليم اليمن وجفاف صخوره وأتربته، ولا يزال شيوخ صنعاء يذكرون بحسرة اتراع الغيول بالماء، وقد كانت مثلاً قبل 40 – 50 سنة تروي في شمالها مساحات واسعة في قرى شعوب والروضة والجراف فأصبح الآن بعضها جافاً كل الجفاف، وبعضها تناقص إلى ثلث أو نصف مقداره السابق، فصارت تلك المساحات غامرة بعد أن كانت زاهرة ناظرة، ثم قلت في هامش ذلك المقال: أيد الهمداني ظني بتأثير الزلازل في تقليل مياه اليمن إذ قال كتابه الإكليل (ج 8 ص 88) عند كلامه عن غيل وادي ضهر
وكان هذا الغيل في الجاهلية على ضعف ما هو عليه اليوم حتى وقعت في اليمن زلازل قطعت بعض ماءاته)) اهـ.
وقد زادني إيقاناً بما ذكرت ما قرأته نقلاً عن كتاب ((الربع الخالي)) لمؤلفه (المستر) عبد الله فيلبي[6] فقد قرر هذا المؤلف (بعد أن اخترق ذلك الربع الموحش وشاهد أدلة جيولوجية كافية للاستدلال) أن بقاع الربع الخالي حافلة بالخصب والعشب في عصور سحيقة تعود إلى ما قبل التاريخ، وأن أودية الدواسر وتثليث.... الخ التي تهبط من جبال عسير نحو الربع الخالي كانت أنهاراً تصب في بقاعه الواسعة، وأنه لما جفت هذه الأنهار وأصبحت أودية كما هي اليوم غاظ الماء، وجف الهواء، فأقحلت تلك البقاع وأقفرت. اهـ. فإن صح هذا الرأي عن أودية عسير والربع الخالي فهو أشد صحة عن أودية اليمن وأحقاف الرمل وبراري الجوف المجاورة له في جنوبه، وإن هذه الأودية والأحقاف والبراري لما كانت ذات أرض وسماء سمحتين لبثت صالحة لارتواء البشر وعيشهم، فقطنها أقوام كثيرون وتعاوروها، فمنهم من قضى ومضى قبل أن يعرفه التاريخ كما جرى بقوم عاد وأهل الرس، ومنهم من أبقى له آثاراً وأخباراً موثوقاً بها شرع التاريخ يدونها منذ القرن الخامس عشر أو الرابع عشر قبل الميلاد فحييت.
ويظهر أن العطش والجدب اللذين حصلا من تطور العوامل الجيولوجية وتغير الظواهر الجوية بدءا بأحقاف الرمل وسادا فيه، أما المدن والمواضع التي كانت في غربي تلك الأحقاف، أي في برية الجوف الواقعة في سفح جبال اليمن، فقد ظلت تلك العوامل والظواهر مؤاتية على قلة، حملت سكانها الذين رأوا ما حل بأهل الأحقاف على بناء الأسداد فوق الأودية الهابطة من الجبال المذكورة، وأتقنوا هذا العمل وأكثروا منه بعد في بقية أنحاء اليمن؛ وكان أشهرها وأعظمها ((سد العرم)) الذي كان يروي مدينة مأرب وما حولها، وكان مبنياً على وادي ذنة الجامع المعظم مياه الجبال المذكورة[7] وقد حفظ أهل مأرب خصب تربتهم واخضرار جنتيهم اللتين ذكرهما القرآن الكريم وكان الخصب والاخضرار المذكورين يدومان كلما دامت عنايتهم بترميم سد العرم وغيره وحفظها من الصدع، إلى أن ضعف حالهم في القرن السادس الميلادي، فعجزوا عن الترميم، فخرب سد العرم، وخربت مأرب وجناتها بسبب ذلك ولأسباب أخرى سيأتي ذكرها، واندرس العمران من براري الجوف حتى لم يبق في يومنا إلا أثر ضئيل، وانحصر في أنحاء اليمن العربية على النحو والمبلغ اللذين سيأتي ذكرهما.
وليس الأمر منحصراً في براري الجوف بل إن في أرجاء اليمن وحضرموت كثيراً من الأطلال الأثرية الدالة على عمران وازدهار عريقين في التقدم، وكنت أشاهد أثناء تجوالي في مدن اليمن وقراه على جدران الدور والمساجد وأبوابها عتبات وأحجاراً منقوشة بالخط السبئي الحميري (المعروف بالمسند) تنتظر من يحل رموزها ولا يزال الأهلون ينبشون عن الأطلال والمواضع القديمة عاديات ثمينة ونقوشاً مكتوبة بالخط المذكور ينقلونها إلى ((عدن)) ويبيعونها من غواة هذه السلع وتجارها من الانكليز وغيرهم، وقد جمعت حكومة عدن بعض تلك الآثار وحفظتها في متحف صغير معروض للزوار، بينما حكومة صنعاء لم تقم بعد بما يماثل هذا العمل الهام، ويرجى أن يأتي يوم تقدر فيه قدر هذه الآثار قبل أن يقضى عليها بالمرة، وقد يكون في أقلها حجماً وشأناً ما يميط اللثام عما برح العلماء يتحسرون على معرفته من تاريخ اليمن خاصة والعرب عامة.
وأشهر علماء الآثار الذين تجشموا مشاق السفر إلى اليمن وتجولوا فيه مغامرين هم (كارستن نيبوهر) الذي ذهب سنة 1763م على رأس بعثة علمية للجغرافية والطبيعيات وكان معه العالم النباتي الشهير (فورسكال) الذي مرض وتوفي في يريم (إحدى مدن اليمن الأعلى)، وقد جابت هذه البعثة وقتئذ البلاد اليمانية من ثغر اللحية إلى ثغر مخاوفها إلى ثغر فصنعاء[1]، ودرست موضوعات شتى، وزارت في صنعاء إمام ذلك العهد وكان اسمه ((المهدي العباس)) ووصفت كيفية دخولها عليه، ورسمت صورة مجلسه، وقد علمت هذه البعثة وقتئذ بوجود كتابات أثرية في بلدة ((ظفار)) الحميرية لكنها لم تبلغها، بل لفتت الأنظار إليها، وكتبت بالإفرنسية مجلدين ضخمين عن نتائج رحلاتها التي دامت سنتين، واستفزت بيانات نيبوهر ((ستينرن)) الألماني فجاء سنة 1811 ونقل الكتابات المنقوشة على صخور ظفار، وأرسل نسخاً منها إلى أوربا، ولما حلوها أكبروا أمرها وانتبهوا إلى وجوب كشف غيرها ومعرفته، فجاء ((ولستيد)) الإنكليزي سنة 1834 وكشف كتابة حصن غراب على ساحل حضرموت وكتابة في محل اسمه نقب الحجر، وعقبه ((كروتنوف)) الألماني سنة 1836 فكشف خمس قطع سبئية في صنعاء، وعقبه ((آرنو)) الإفرنسي سنة 1843 وهو الأوروبي الأول الذي خاطر بنفسه ووصل إلى مأرب وشاهد سدها ونسخ ما وجد من النقوش فيهما فضلاً عما نسخه في صنعاء، وكتب عن مأرب وسدها كتابة مستفيضة، وعقبه ((هاليفي)) الفرنسي سنة 1869 وهذا كان موفقاً في الوصول إلى وادي نجران، وإلى مأرب وأواسط الجوف الذي عثر فيه على مدينة ((معين))، وتمكن من الاطلاع على أماكن ونقوش أثرية كثيرة نسخ منها عدة مئات، بعضها معينية والبقية سبئية، وألف كتاباً خاصاً عنها، ثم ذهب بعد ((هاليفي)) كثير من العلماء الأوروبيين من مختلف البلاد بين سني 1870 و1895 وجابوا اليمن من ثغر الحديدة أو من ثغر عدن إلى صنعاء وما حولها فقط، وبعضهم حاول الإيغال إلى مأرب فلقي حتفه، وجاء سنة 1895 غلازن الألماني، وكان هذا موفقاً أكثر من ((هاليفي))، فقد ارتاد أكثر بلاد اليمن وبلغ مأرب، ونقل كتابات وحقق معلومات جغرافية ولغوية وأثرية كثيرة أفادت تاريخ اليمن والعرب فوائد جليلة جداً.
وقد وضع هؤلاء العلماء وغيرهم أيضاً – حتى من الذين لم يزوروا اليمن أمثال ((رودو كناكيس)) الألماني و((ريكمانس الإفرنسي)) – عشرات من الكتب في مختلف اللغات الأوروبية تبحث عن مختلف أحوال اليمن الجغرافية والطبيعية والأثرية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت في عصور قبل الإسلام، وجل هذه المعلومات مما استنبطوه من قراءة الكتابات والنقوش المذكورة آنفاً، وكان المبرز في هذا المضمار من قبل ومن بعد الألمان، وأكثر هذه الكتب في اللغة الألمانية، ولم يخل الترك في دورهم الأخير من بضعة قواد وأطباء عملوا جهد إمكانهم بالبحث العلمي والتدوين، فوضع الأولون كتباً عن تاريخ اليمن الحديث ووقائعه الحربية التي أدركوها ووضع الثانون عن نباتاته وشؤونه الاجتماعية والصحية، وآخر من ذهب من الأوربيين إلى اليمن في سنة 1352هـ و1933م ((راتجنس وويسمان)) الألمانيان من أساتذة جامعة هامبورغ، إلا أنهما تجولا ما بين الحديدة وصنعاء وأطرافهما فقط، ووضعا في صنعاء مرصداً للظواهر الجوية وألفا عما درساه خلال سنتين من شئون اليمن الطبيعية والجغرافية والأثرية ثلاثة كتب قيمة حافلة بالرسوم والخرائط المتقنة، وذهب في سنة 1254هـ و1935م ألماني آخر اسمه ((هلفريس)) وهذا غامر مغامرة لم يسبقه إليها أحد، فقد دخل اليمن من شرقه قادماً من حضرموت ومجتازاً رمال الأحقاف، وتخلص من القتل مرتين في شبوة وبيحان؛ ونشر رحلته بالألمانية ودعاها ((في البلاد المحرومة من الظل، أو في مملكة سبأ)) وهي رحلة حافلة بالرسوم، تسلي أكثر من أن تفيد، والعربي الوحيد الذي تجشم مشاق التجوال في كثير من أرجاء اليمن وتمكن من الحصول على مساعدة جلالة الإمام بالوصول إلى مأرب، وبحث وكتب عنها هو السيد نـزيه المؤيد الدمشقي، وقد وضع في سنة 1355هـ و1936 م عما رآه كتاباً دعاه ((رحلة في بلاد العربية السعيدة)) ولما كنت في اليمن في السنة المذكورة جاءت بعثة مؤلفة من بعض أساتذة الجامعة المصرية لمختلف الأبحاث العلمية كالسلالات واللهجات والأحوال الطبيعية وما إليها، وبعد مكوث وعمل داما ستة أشهر في مختلف أنحاء اليمن وحضرموت – دون مأرب – عادت البعثة إلى مصر على أن تنشر نتيجة أبحاثها المذكورة، فعساها توفق إلى ذلك قريباً.
هذا وما برح علماء الآثار والمشتغلون بالمشرقيات يتمنون لو يسمح لهم بارتياد بلاد اليمن والتنقيب في أماكنها التاريخية، والخالي الغرض السياسي منهم إنما يرغبون كشف الغوامض والمجهولات التي ما زالت تكتنف تاريخ اليمن القديم وتاريخ العرب الأولين المرتبط بتاريخ اليمن، ويبغون خاصة التأكد من مهد الساميين، أكان في شرقي إفريقية كما يظنه بعض الباحثين أم قلب جزيرة العرب كما يقول به جمهور المؤرخين، وهل اليمن معدود من ذلك القلب، ويبغون أيضاً معرفة منشأ اليمانيين أو العرب الأولين، هل هم أحباش في الأصل انتقلوا من شرقي إفريقية إلى اليمن على رأي بعضهم، أم الأحباش عرب انتقلوا إلى شرقي إفريقية من اليمن على رأي غيرهم، وإن لم يكن اليمانيون والعرب الأولون أحباشاً ولم يأتوا من شرقي إفريقية فهل نبتوا في أرضهم وتدفقوا في الهجرات منها إلى الشمال أم أتوا من شمال جزيرة العرب وقطنوا فيه، وكلا الرأيين في كتب التاريخ العربية، ثم يود المولعون في أنساب العرب معرفة حلقة الاتصال بين شعبي قحطان وعدنان العربيين وزمن وقوع ذلك وكيفيته، وفي أي حين انقسم القحطانيون إلى حمير، وكهلان، والعدنانيون إلى ربيعة ومضر، ويود المولعون في تاريخ آداب اللغة العربية معرفة كيف كان ماضي هذه اللغة وكيفية منشئها قديماً، وما مبلغ الصلة بين اللغة القحطانية واللغة العدنانية، وكيف تطورت القحطانية وتلاشت وسادت العدنانية، وكيف كانت أحوال هاتين اللغتين... وغير ذلك من الغوامض والمسائل التي ليس لها جلاء وجواب إلا بارتياد اليمن واستقراء أطلاله ونقوشه في جو من السهولة والطمأنينة، ولما تسمح حالة اليمن ومدارك كثير من أهله في الزمن الحاضر بذلك.
.... يتبع