من الأخطاء في رمضان.. الغفلة عن إحياء ليلة القدر:
ليلة القدر من المنح الربانية على الأمة المحمدية، حيث جعل الله العمل في هذه الليلة خير من ألف شهر، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، وهو حدث عظيم لم تشهد الأرض ولا السماء مثله في عظمته، فهي ليلة ذات قدر عند الله تعالى وسماها بالليلة المباركة، فقال تعالى:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]، وهي الليلة التي مَن أقامها فقد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صل الله عليه وسلم - قال:
"مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"، ولذلك كان النبي - صل الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، تقول عائشة - رضي الله عنها -:
" كان النبي - صل الله عليه وسلم - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلة وأيقظ أهله وشد مئزره".
كناية عن الاجتهاد في الطاعة واعتزال النساء.
• وكان النبي - صل الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان التماسًا لهذه الليلة المباركة".
ومع هذا الفضل العظيم والأجر الكبير، نجد كثيرًا من المسلمين يغفلون عن إحياء هذه الليلة؛ لانشغالهم بمطالب دنيوية من شراء ملابس للعيد، أو عمل الكعك والبسكويت، أو كثرة الزيارات... أو غير ذلك من الأعمال الدنيوية، والتي حرمت صاحبها من إحياء ليلة القدر المباركة، ولا يدري هذا المسكين لعلها تكون آخر ليلة قدر يدركها، فالبدار... البدار، فإنما هي الأنفاس لو حُبست عنا انقطعت أعمالنا التي نتقرب بها إلى الله تعالى.
قراءة القرآن بلا تدبر في رمضان
من الأخطاء في رمضان؛ قراءة القرآن بلا تدبُّر:
فتجد أحدهم يقرأ القرآن في رمضان ويكثر من قراءته، والغرض من ذلك هو أن يختم القرآن أكثر من ختمة، وهذا خير كبير وأجره عظيم، ولكن تجد أن البعض يختم أكثر من ختمة ولا يتدبر في آية من آيات المصحف، وهذا خطأ كبير مخالف لقول رب العالمين:
﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
يقول الإمام القرطبي - رحمه الله -: قال العلماء:
يجب على القارئ إحضار قلبه، والتفكر عند قراءته، لأنه يقرأ خطاب الله الذي خاطب به عباده، فمَن قرأ ولم يتفكر فيه - وهو من أهل أن يدركه بالتذكر والتفكر - كان كمن لم يقرأه، ولم يصل إلى غرض القراءة من قراءته، فإن القرآن يشتمل على آيات مختلفة الحقوق، فإذا ترك التفكر والتدبر فيما يقرأه استوت الآيات كلها عنده، فلم يدع لواحدة منها حقها، فثبت أن التفكر شرط في القراءة، يتوصل به إلى إدراك أغراضه ومعانيه، وما يحتوى عليه من عجائبه. (التذكار في أفضل الأذكار ص-195).
ويقول الحافظ جلال الدين السيوطي في كتاب "الإتقان في علوم القرآن" (1/ 106):
وتسن القراءة بالتدبر والتفهم، فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب....وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظه به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوَّذ، أو تنزيه نزَّه وعظَّم، أو دعاء تضرَّع وطلب. أهـ.
فعلى الإنسان أن يحدد له وقت زمني يقرأ فيه ورد من القرآن، بغض النظر عن الكم الذي قرأه، لكن عليه أن يتفكر فيما يقرأ، ولو لم يخرج من هذه الجلسة إلا بجزء بسيط من القرآن لكن قراءة بتفكر وتدبر، فيكون هذا أفضل وأنفع له.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله - في كتاب "إحياء علوم الدين" (3/516):
فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط، يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعًا لجلاله، واستشعارًا لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله - عز وجل - ، كذكرهم لله - عز وجل - ولدًا وصاحبة يغض صوته، وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقًا إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفًا منها.
ويقول محمد بن كعب القرظي - رحمه الله -:
مَن بلغه القرآن فكأنما كلَّمه الله، وإذا قدَّر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله، ويعمل بمقتضاه. (إحياء علوم الدين -1/516).
وذكر الغزالي - رحمه الله - عن بعض العلماء أنه قال:
هذا القرآن رسائل أتتنا من قِبل ربنا - عز وجل - بعهوده، نتدبَّرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات والسنن المتَّبَعات. (نفس المصدر).
ويقول وهيب بن الورد - رحمه الله -:
نظرنا في هذه الأحاديث فلم نجد شيئًا أرق للقلوب، ولا أشد استجلابًا للحزن، من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره.
فكان السلف يؤكد على أن تدبر القرآن وتفهمه - إلى جانب كونه مطلبًا دينيًا - فهو وسيلة تربوية ناجحة لشفاء القلوب من قسوتها، والأعين من جمودها.
الانقطاع عن العبادة بعد رمضان، والإغراق في المعاصي
فمن الناس مَن ينقطع عن العبادة بمجرد ظهور هلال شوال، فإلى هؤلاء نقول: إذا كان رمضان قد انقضى فإن الأعمال الصالحة لا تنقضي, فلا تكن عبداً رمضانياً وكن عبداً ربانياً كما قال الشلبي - رحمه الله - عندما سئل أيهما أفضل رجب أم شعبان؟ فقال:
كن ربانياً ولا تكن شعبانياً. أهـ.
فمَن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقضى, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فعليك أن تعبد الله في رمضان وفي شوال، وفي سائر شهور العام, فإن رب رمضان هو رب شوال، وهو رب سائر شهور العام.
وليعمل المؤمن بوصية الله لعيسى - عليه السلام -، حيث قال عن رب العالمين:
﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ [مريم: 31].
والنبي - صل الله عليه وسلم - قال كما في "صحيح مسلم":
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..." الحديث.
فالعمل لا ينقطع إذاً إلا بالموت, كما قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر:99].
يعني: الموت
• وكان رسول الله - صل الله عليه وسلم - لا ينقطع عن أعمال البر والخير في رمضان ولا في غيره.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضى الله عنها - أنها سئلت:
"كيف كان عمل رسول الله - صل الله عليه وسلم - هل كان يخص شيء من الأيام؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة".
وقالت - رضى الله عنها - أيضاً كما عند البخاري ومسلم:
"ما كان رسول الله - صل الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة".
ومعنى هذا أنه كان يقوم في رمضان وفي غيره.
بل هناك من الناس مَن ينقطع عن العبادة بعد رمضان، ويعود على ما كان عليه من معاصي وذنوب فإلى هؤلاء أيضاً نقول: يا مَن منع نفسه في شهر رمضان عن الحرام، فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام، فإن إله الشهور واحد، وهو على الزمان مطلع ومشاهد.
وقد كان النبي - صل الله عليه وسلم - يتعوَّذ من النقصان بعد الزيادة، يقول فيما رواه الخمسة:
"اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور".
ولقد حذرنا ربنا - سبحانه وتعالى - أن نكون مثل هذه المرأة التي جاء ذكرها في سورة النحل:
حيث قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ﴾ [النحل:92].
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
كانت امرأة خرقاء بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وأفسدت ما غزلته بعد إحكام وربط. أهـ.
وهذا حال البعض منا بعد رمضان, فبعدما صام وقام، وفعل أفعالاً جليلة عظيمة، يأتي بعدها وينقضها، وما علم هذا المسكين أن من علامة قبول العمل الصالح اتباعه بعمل صالح بعده.
فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة!
فيا مَن وفَّى في رمضان على أحسن حال... لا تتغير بعده في شوال، وفى سائر شهور العام.
ويا من اعتقه مولاه من النار في رمضان... إياك... إياك أن تعود إليها بعد أن صرت حراً من رق الأوزار.
باع قوم من السلف جاريةً لهم:
فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان، لقد كنت عند قومٍ كل زمانهم رمضان، ردُّوني عليهم.
ويروى أن الحسن بن صالح - رحمه الله -:
وهو من الزُّهاد العُبَّاد - كانت له جارية - فاشتراها منه بعضهم، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد قامت فنادتهم: يأهل الدار. الصلاة. الصلاة - تقصد قيام الليل - فقاموا، وقالوا: هل طلع الفجر؟ فقالت لهم: أأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟! فلما أصبحت رجعت إلى الحسن بن صالح، وقالت له: لقد بعتني إلى قوم سوءٍ لا يصلون إلا المكتوبة فردني، فردَّها.
فاللهم بلغنا رمضان أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، واجعلنا فيه من عتقائك من النار.
وأسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه، وأن يرحمنا برحمته، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل مثوانا جنته،
وأن يتقبلنا في عباده الصالحين... آمين