معادلة الغياب والغربة لها وقعٌ آخر..
أبي الذي في السماء: وجع الدمع والغياب
د. أحمد يوسف
ليس سهلاً أن تصحو صباحاً ليقول لك الناس: "عظَّم الله أجركم، ربنا يتقبله في الصالحين"!! ربما إذا كنت قريباً من مشهد الغياب تُخفف عنك وقع الصدمة تعازي الأقارب والجيران، كما أن وجود مرض سابق أو دخول المرء في العقد الثامن أو التاسع يعطي مؤشرات متقدمة للشيخوخة وإرهاصات عن قرب دنو الأجل، وتتهيأ بذلك مشاعرك لتقبل فكرة قُرب رحيل "الغالي" إلى الدار الأخرة.
وكما جرت العادة، فإن أيام العزاء الثلاثة تمر بسرعة، ثم تنفض الخيمة، وتبدأ بعدها أحاديث المواجع والذكريات لعدة أسابيع أُخر، ثم تمضي الحياة برتمها الطبيعي، حيث يقتصر التذاكر بعد ذلك على كلمة "الله يرحمه".
ولكنَّ معادلة الغياب والغربة لها وقعٌ آخر.. إذ إن فقدانك لأبيك وأنت بعيد عنه، وغير قادر أن تقول له بدموعك وداعاً لها أحزان أخرى، فألا تسمع منه في آخر أيامه كلمات الرضى وترنيمات الحنان جدُّ موجعة، وألمها كحسرة يطول، حيث إن ثقل الغياب المفاجئ يأتي صاعقاً، ومع حالة الصدمة والذهول تحتبس الدموع ولا تجد طريقها للمآقي، وتتعسر تنهيدة البكاء.
مات والدي وأنا بعيدٌ في غربتي عن أرض الوطن، وغادر من كان يأتينا بالرزق كدَّاً وكدحاً من عرق يده، وفارقنا في عمرٍ يبدو مبكراً لرجلٍ لم يسبق له أن عانى أمراضاً مزمنة، فجاء غيابه مفاجأة لنا.
شيءٌ من ذكريات أبي..
كان أبي - ككل فلسطيني - يعتد بنفسه، ويشعر بالمظلومية التي لحقت بشعبنا، جراء التخاذل الدولي والتواطؤ العربي. ولذلك، كان دائم النقد والتحامل على الزعماء العرب، الذين خدعونا وأوهمونا بأن الحرب مع العصابات الصهيونية كسبها والانتصار فيها مضمون، ولكنهم - للأسف – كانوا وراء نكبتنا الكبرى عام 1948.
كانت هيبة أبي هي الصولجان الذي نعتز به ونفخر، أما عصبيته فكنا نخشاها كثيراً عندما كنا في سن الطفولة والشباب، كان أبي (رحمه الله) قاسياً في العقاب، وخاصة إذا ما كانت أخطاؤنا تعدِّياً على الغير أو شقاوة زائدة في غير محلها، فكان التدخل للتأديب والاعتذار عن الجُرم، والتعهد بعدم العودة إليه، ولكنه (رحمه الله) كان لا يوفر من مظاهر العطف والحِنيِّة لكسب قلوبنا أي لحظة وداد إلا واغتنمها ليحفظ على وجوهنا الابتسامة والارتياح.
نعم؛ كنا نخشاه، ولكننا كنا نستظل بهيبته ونحتمي بقوة شخصيته. كنا نشاهد صعوبات الحياة ومسغبة الظروف التي تخطاها بكل عزيمة وإصرار، حيث كان عصامياً وممتلئاً اعتداداً بالنفس.. فرغم أنه كان ابن تاجر كبير في قرية حليقات، وأحد رجالاتها ووجهائها وأعيانها الميسورين، إلا أن أبي هاجر بأهله عام 1948 - مثل باقي الفلسطينيين - لا يملك من ماله وأمره شيء، وهو رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وكان في أسرته وحيداً. ولذلك، اعتمد على تراث والده في مدرسة الحياة، كما عوَّل على قوة ذراعه وكراهيته للظلم في الوصول إلى حقه، وفرض احترامه على الناس.
عشنا مرحلة الطفولة والشباب وهو مصدر تاريخنا وثقافتنا الوطنية، وهو لنا بمثابة ناظر المدرسة، حيث كان يتابع دروسنا بالسؤال، ويتأكد على أننا قمنا بكتابة الواجب المدرسي، وكان يتابع مع الأساتذة من حين لآخر.
في الخمسينيات والستينيات كان التعليم هو رأس المال الفلسطيني الذي يبحث الكل عنه، وكانت "عقدة أبي" أنه ترك التعليم عند شيخ القرية، وتمرد عليه في طفولته، حيث كانت حالة الغنى التي عليها والده حصانة له من أي عوز أو حاجة، فكان التعليم لمثله – آنذاك - ترفاً لا قيمة له، إلا أن تداعيات النكبة كان لها وقع سلبي كبير عليه، وعلى فرصه في العثور على عمل يليق به، ويحفظ هيبته وكرامته.
عندما بدأت عمليات التوظيف للعمل بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بمخيمات اللجوء في قطاع غزة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، شعر والدي بخسارة كبيرة، حيث إن فرص العمل لشخص أُميٍّ مثله محدودة، وأن المتاح من الوظائف هو أشبه بالأشغال الشاقة، والتي سوف تؤبد حياته من مهد تلك اللحظة إلى القبر. لذلك، كان يُظهر ندمه ويتحسر على ما فاته من العمر بدون تعليم؛ لأن والده لم يشجعه بما فيه الكفاية في هذا المجال، ولم يحثه على الانضباط والالتزام بدروس الشيخ موسى؛ معلم القرية ومؤدب الأولاد.
كان أبي يُردد دوماً على مسامعنا القول بأسى وحسرة: "لو تعلمت لكنت اليوم أكبر من فلان وفلان"، وكان يذكر لنا أسماء أشخاص ما رفع قدرهم إلا التحصيل العلمي؛ أي "الشهادة"، وكان أحياناً يواسي نفسه بامتداح ما علمته إيَّاه دروس الأيام وتجارب الحياة، وما كسبه منها بعرق الجبين من خبرات، قائلا: "مين بَالكم أفضل.. العقلُ واللى العلم؟!"، فنرد عليه بثقة قائلين: العلم طبعاً، فيقول: لا.. بل العقل.. وكان يُصر دائماً بأن العقل هو من يحتضن العلم ويصقله، وبدون العقل فلا قيمة للعلم، وكنا نخالفه مجتمعين في ذلك.
كان أبي (رحمه الله) قد سبق له العمل مع البريطانيين خلال سنوات شبابه في التنقيب عن البترول داخل أراضي القرية قبل النكبة، فكان يتحدث اللغة الإنجليزية، وكنا نشعر بغبطة وسرور حين نسمعه يتكلم مع أختي الكبيرة "نعمة" ببعض الكلمات من "لغة الكفار"؛ كما كان يحلو لجيلي أن يُسميها من باب الممازحة.
نعم؛ عشت شبابي بهيبة طلَّة أبي، وفي ظل "النبوت" الذي كان يحمله، وكنت أفخر برؤيته بهذه الفتوة والمكانة، حيث كان شجاعاً مهاب الجانب، وإن كان لا يُظهر قُوَّته إلا على المفترين والظالمين والمتسلطين في الحارة أو الجوار بالمخيم.
كنت أحرص على دروسي بالمدرسة، وأطمح بالتميز والذِكر الحَسن حتى يشعر أبي بالفخر والسعادة، وكان يرضيه - بشكل عام - سلوكي المدرسي ودرجاتي العلمية، على غير بقية إخوتي.
كبرت عمراً، وكانت مكانة أبي تكبر معي، إلى أن بدأت حياتي تتجه نحو الاغتراب، بحثاً عن العمل ومتابعةً لدراساتي العليا.
ربما حققت لأبي أكثر مما كان يحلم به من رؤية ابنه بمكانٍ فيه هيبة ومقام، ولكن هذه الرؤية لم تتحقق مشاهدتها في حياته داخل الوطن، ولكن في بلاد الغربة البعيدة.
زيارة أمريكا: مشاهدة الأولاد والأحفاد
ذات يوم، قلت له: "يابا إن شاء الله تيجي تزورنا في أمريكا"، فرد بلهفة وشوق: "يا مندرا يارب هذا يصير، وآجي أشوفكم يابا في أمريكا؟". قلت له بثقة: نعم؛ وتلتقي كل من تُحب.
فعلاً؛ جاء أبي لزيارتي في أمريكا عام 1991، وشاهدني أجلس خلف مكتب كبير أضخم من كل ما سبق أن شاهده لمن كانوا مدراء له في العمل، وكنت ألحظ شعور الفخر في عينييه بابنه "اللي صار واتصور"، وقد شاهدني في أبهى ما يمكن أن يتخيله الوالد لولده، حيث المكانة التي حظيت بها بين زملائي في العمل، والتقدير والاحترام وسط الجالية، وكنت وأنا أرقب عينيه أتحقق من ارتقاء منسوب الرضى والاعجاب في وجهه.
ثمانية شهور عاشها والدي معي في مدينة شيكاغو والعاصمة الأمريكية واشنطن، وقضى بعض شهورها في مدينة ميامي/ فلوريدا مع أخي محمد (أبو يوسف)، وكان هو الآخر مديراً كبيراً لأحد المؤسسات الأمريكية، ويمتلك فيلا جميلة في ضواحي المدينة، وكانت مشاهد السعة في الرزق والخُضرة والجمال الذي عليه حال الناس تعيد له بالتأكيد ذكريات طفولته وشبابه في حقول القرية ومراعيها الواسعة قبل النكبة.
لقد قضى أياماً جميلة معي ومع أخي، وشاهد أحفاده من الأمريكان، حيث إن زوجة أخي ليست عربية، ولم يسبق لوالدي رؤيتها أو اللقاء بأحفاده منها.
كنت أصحبه معي - عادة - إلى الأنشطة التي تقيمها جاليتنا الفلسطينية وإلى المركز الإسلامي، وأحياناً نذهب سويةً لمشاهدة بعض فعاليات جاليتنا المسلمة في مناسبات وطنية أو دينية، حتى لا يشعر بالوحشة والضجر.
كانت تلك الأجواء تعطيه انطباعات طيبة عن أحوال الفلسطينيين والمسلمين في الغرب، وكان يقوللي: "يا عمي والله أنتو عايشين ومكيِّفين".
ومن اللطائف التي أتذكرها له، أنه في إحدى احتفالات جاليتنا الفلسطينية في مدينة جريسي المجاورة لنيويورك، تجمع حوالي مئة شخصية من النشطاء والنخب للمشاركة في لقاء فكري حول الانتفاضة الفلسطينية، وكنت في ذلك المنتدى مدير اللقاء. شاهدني والدي بفخر وأنا أدير الحوار بين هذا العدد من الشخصيات الفلسطينية والإسلامية المرموقة في أمريكا. بعد اللقاء، أخذني على جانب، وقال لي: "والله يابا ما كنت عارف إنك هالقد كبير"، وصار يناديني من يومها بـ"أبو أحمد"، حيث كنت قبل هذا اللقاء اسمي "أحمد"، كما تعوَّد أن يناديني منذ سنوات الطفولة والشباب.
في مساء تلك الليلة، كان هناك مهرجان احتفالي كبير تشارك فيه الجاليتان الفلسطينية والعربية بالولاية، ويجتمع فيه ما بين ألفٍ وألف وخمسمائة شخص بخلفيات عائلية مختلفة.
بعد انتهاء الفقرات التوعوية والترفيهية للاحتفال، تجري عادة حملة لجمع التبرعات للقضية الفلسطينية، حيث يُذكِّر المتحدثون من عليِّة القوم بفلسطين ومكانتها الدينية، والواجب الملقى على أكتافنا كمسلمين لدعم مؤسساتها وتعزيز صمود أهلها، فيتدافع الحضور للتبرع في الصناديق بما تجود به أنفسهم من أموال وحِليٍّ، وتعهدات بمساندة مشاريع معينة كالمدارس وعائلات الأيتام والفقراء في المخيمات الفلسطينية.. كان والدي يلف رأسه بالحطة الفلسطينية الحمراء في ذلك اليوم، ويجلس في صفوف متقدمة، فكانت "الحطة الفلسطينية" تجذب إليه كاميرات التغطية في المهرجان.
انتهى اللقاء قرب منتصف الليل، وركبنا الباص الذي حضرنا به، وكان متوسط الحجم، متوجهين إلى واشنطن العاصمة في رحلة تستمر حوالي خمس ساعات، وقد جرى بيننا في تلك الليلة حديثٌ ممتعٌ، وكنا حوالي خمس عائلات بينهم نساء وأطفال. واصلنا الحديث والسهرة، وكنا نتداول النكات حول مجريات الاحتفال، وما سجلناه من خواطر وقفشات.. في لحظة وبدون مقدمات، نطقت طفلتي تسنيم، قائلة لوالدي: "يا سِيد أنا ما شفتك تبرعت بشيء"، فرد عليها، وكان متفاجئاً من براءة السؤال: "والله ياسِيد إلك حق، بس أنا ضيف عندكم، ومكانش معاي فلوس في جيبي"، فقالت له بابتسامة: "الناس ياسِيد بتتبرع بأي شيء، ليش ما تبرعت بضبتك"؛ أي بطاقم الأسنان، فقال لها مجارياً طفولتها: "هذه إلك فيها، بس والله ما خطرت في بالي ياسِيد، ولو قولتيلي وقتها يمكن عملتها، ما هم في الآخر حيرجعولي الطقم، إيش بدهم يسو فيه"!! وانفجرنا جميعاً في الضحك.
كانت ليلة سفر طويلة، تلوح معها نسائم الفجر القادم من واشنطن.. سهرت تلك الساعات مع أبي أسمع منه روايات وذكريات لم يسبق أن مرت بأذني من قبل.. ليلةٌ تألق فيها أبي، وهو صاحب دعابة إذا كان مزاجه رائقاً، وتلك الليلة كان يبدو أن المزاج عنده عال العال.
كان في الصباح يأتي إلى المكتب سيراً على الأقدام، حيث البيت لا يبعد كثيراً عن مكان العمل، فكان يُسلِّم على زملائي في العمل، ويشرب معنا القهوة، ثم يستأذن قائلاً: يعطيكم العافية ما بدِّي اعطلكم عن العمل، ويخرج يتمشى في الجوار.
كانت أيامنا معه هنيِّة مفعمة بالسعادة والارتياح، وكان عادة ما يسهر ليشهد عودتي المتأخرة في الليل، ويقول لي: "الله يعطيك العافية يا ولدي"، ويدعو لي بما رقَّ وطاب من جميل الكلام.
لم اسمع أبي يتهددنا يوماً بالويل والثبور، حيث كان يكره سماع أو ترديد اللعنات والسيء من الدعوات التي تنذر بعواقب الأمور، وكان يحذرنا دائماً من "غضب الوالدين"؛ لأنه عانى بسبب مثل هذه الدعوات، التي كانت تلاحق شقاوته في القرية.
لاشك أن جدية أبي واجتهاده في العمل، وصبره وتجلده على معاناة المخيم، وتحمله - كجيله من الفلسطينيين - لكل صور الفقر والعوز، وكدِّه لتوفير "حد الكفاف" من احتياجات أهل بيته، قد غرس فينا غريزة الاستجابة للتحدي والمثابرة، وهمهمة الرجولة المبكرة، واحتضان الأخ لأخيه وشراكته في كل ما يملك، فكان التآخي والترابط الأسري الذي حافظ على تماسك العائلة، وشعورها بالمودة والتراحم، وعند الشكوى التداعي بالسهر والحمي.
لن أنسي ذلك اليوم الذي شاهدني فيه والدي وأنا أدفع مبلغاً كبيراً إيجاراً للسكن، فسألني مستغرباً: "لماذا لا تشتري لك بيتاً؟ فقلت له بأسى: "منين يا حسرة؛ الطقيِّة ع قد الرأس، وشراء البيت يُكلِّف فوق ربع مليون دولار، وأنا راتبي يا دوب بيغطي الإيجار ومصاريف البيت والأولاد"!! فقال لي مُطمئناً: " اترك الأمر لي.. أنا سأجعل أخوك صالح يبعتلك تشتري بيت".
كنت أعلم أن أخي صالح (أبو خالد) هو رجلُ أعمالٍ وثريّ لحدٍّ ما، وكان دائم السخاء معي، ولكن شراء بيت في أمريكا باهظ التكاليف، وأنا لم يكن لدي مخططات للإقامة الدائمة في أمريكا.
غادر أبي أمريكا بعد ثمانية شهور قضاها بين أولاده وأحفاده.. لم يمر إلا بضعة شهور، وإذ بأخي (أبو خالد) يرسل لي حوالة مالية أكبر بكثير من كل ما توقعت.
هكذا ربانا أبي؛ "أنت ومالك لأخيك"، ولا قيمة لأحد بدون عزوة أخيه.. أكثر من عشرين سنة مرَّت على رحيل أبي، ولكنه كالوطن تسكن ذكرياته معنا، وتعيش أحاديثه بيننا، ومواقفه التي غرست فينا الرجولة نتفيأ ظلالها، ونحاول توريثها لمن خلفه من الأحفاد.
كان أبي (رحمه الله) إذا عطس في جوف الليل أو تنحنح شعر الجيران بالأمان، فمهابة وجوده في الحي تردع كل من تسول نفسه بالتعدي وسرقة مكان في الجوار.
الرحيل المفاجئ..
تروي لي أختي فاطمة (أم يوسف)، والتي كانت تسكن قريباً من مكان بيت العائلة، بأن أبي وخلال الشهور التي سبقت وفاته، بدأ يشعر بقرب دنو الأجل، بعد أن زاره في المنام أكثر من مرة رفيقه السابق في العمل والجوار "حسين جمعه"، والذي كان قد سبقه للدار الآخرة قبل عدة سنوات، وقال له: "يا أبو أحمد بدنا إيَّاك عندنا".. فأجابه أبي: "طيب بس في مشكلة ننهيها ونشرِّف عندكم". كان مشاهد ذلك الحُلم قبل أربعين يوماً من وفاته.
كان أبي يكره - عادة - ذكر الموت أو تداول الحديث عنه، وكان دائماً مفعماً بحب الحياة وحيوية الوجود.
تروي أختي (أم يوسف) قائلة: قبل موته بأسبوع جمع أبي كل البنات وتحدث إليهنَّ، وقص عليهنَّ ما تواردت به خواطره، وكان يشاركهن المزاح، وإن كانت نظرات عيونه كمن كان يقول لهنَّ وداعاً.
قالت له أختي فاطمة، وقد وجدته لا يتوقف عن العمل وإجهاد صحته: "يابا اقعد وارتاح، شايف غَبرة الموت ع وجهك"، فرد عليها مستسلماً: "صادقة والله يابا، الموت علينا حق".
بعد يومٍ أو يومين اتصل بها من يخبرها بأن أباها تمَّ نقله على عجل للمستشفى، وعليها القدوم فوراً. تقول أختي (أم يوسف): انتابني الشعور حينها بأن أبي قد فارق الحياة.
وعندما طرحت عليها سؤالاً عن أحوال أيامه الأخيرة، كيف كانت؟ وعن مشاعره تجاه أبنائه البعيدين عنه؟ قالت لي: للأمانة كان دائم الرضى والدعاء لهم، وكان كثيراً ما يروي لنا عن ذكريات رحلته إلى أمريكا وما شاهده هناك.
وأحفظ لأختي أم يوسف تواصلها بأخي محمد وقامت بتنبيهه بضرورة الاتصال بأبيه والحديث معه، وهو بدوره كلمني وقال لي: يبدو أن أبي يوشك أن يودعنا.. اتصل به الآن. وفعلاً؛ اتصلت به، وشعرت بسعادة غامرة ونحن نتكلم لأكثر من نصف ساعة بعد فترة غياب تجاوزت الأربعة شهور. بعد هذه المكالمة بثلاثة أيام، كان أبي قد انتقل إلى الرفيق الأعلى.
رحم الله والدي، فقد أدى الأمانة وأوصل الرسالة، وتركنا أخوة أحبة بلا ضغائن أو إحن، وكان له من شجرته الباسقة ثمانية وسبعون بين بنينَ وحفدة، قضى البعض منهم شهيداً، وما تبقى هو ولد صالح يدعو له