سيمور هيرش في «مذكرات صحافي استقصائي»: فضح السياسة الأمريكية من نيكسون حتى ترامب
يتناول الصحافي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش (82 عاما) في كتابه «مذكرات صحافي استقصائي» إصدار الدار العربية للعلوم ناشرون 2019، ترجمة وتحقيق محمد جياد الأزرقي مواضيع دولية مهمة، منها أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كذلك الشرق الأوسط بوصفه أحد المسارح الرئيسة في العالم التي فيها للسلطات الأمريكية مصالح حيوية.
في المذكرات التي تغطي خمسة عقود من عمر هيرش، يطلع القارئ على رحلة مشوقة من خلال تتبع حياة الرّجل، الذي صار أيقونة الصحافة الاستقصائيّة في العالم، من بداياته الشديدة التواضع في شيكاغو حتى استوائه على عرش النجوميّة الذي استحقه، مروراً بحكايات مقالاته وكتبه الكثيرة التي صدّع كل منها رأس الإمبراطوريّة الأمريكية، وقد تسبب معظمها في نقاشات لم تنته إلى اليوم وأكسبته جوائز عالمية عدة. والملحوظ هنا أن سيمور هيرش شديد الالتزام بمواقفه وقناعاته التي واظب على إشهارها، في كل ما كتب تقريباً، منذ بداياته الأولى في عالم الصحافة، وهي أولوية إدانة السياسة الأمريكية، وكذلك كثرة المتاعب التي سببها للساسّة الأمريكان وساكني البيت الأبيض تحديداً، من ريتشارد نيكسون وصولاً إلى دونالد ترامب. في تلك المذكرات يُقدِّم سيمور هيرش قراءة واجبة لكل صحافي، ولكل من يطمح بأن يكون صحافيّاً. ويعترف بأن سرّ نجاحه كان دوماً «أن تقرأ كثيراً قبل أن تكتب».
الرحلة ومصاعبها
كرّس المؤلف الفصول الثلاثة الأولى من كتابه للحديث عن أسرته ونشأته ودراسته. حيث وُلِدَ سيمور هيرش في عام 1937، في مدينة شيكاغو لأسرة يهودية أمريكية، هاجر والداه من ليتوانيا وبولندا خلال الحرب العالمية الأولى. اضطر للعمل مبكراً مع والده في المصبغة التي كان يديرها في قلب أحد غيتوهات الافارقة الأمريكيين في الجزء الجنوبي من شيكاغو، قبل أن يتولاها وحيداً إثر وفاة والده. التحق هيرش بجامعة شيكاغو لدراسة القانون، بدأ حياته المهنية عاملاً لنسخ الملفات في (مكتب أخبار مدينة شيكاغو) وهو أحد المراكز الإعلامية الشهيرة التي تم تأسيسها في العشرينيات من القرن الماضي، انتقل بعدها للعمل صحافيا بوليسيا في إحدى الصحف المحلية، ثم عمل مراسلا لوكالة يونايتد برس ثم إلى الأسوشييتد برس.
وبحلول عام 1968 عمل سكرتيراً صحافياً لحملة السيناتور يوجين مكارثي، لأنه كان مناهضا لحرب فيتنام. برز هيرش كصحافي استقصائي بفضل حنكة مدير «نيويورك تايمز» المحترف إيه روزينتال، حيث بقي هيرش يعمل في «نيويورك تايمز» ثماني سنوات متتالية، رغم طبيعته المشاكسة وصراعاته الدائمة مع المحررين والمراجعين القانونيين، الذين كانوا كثيراً ما يخففون من حدّة قد يجدونها في نصوصه، أو يتجنبون مقاطع قد تدخل الجريدة في خلافات قانونيّة معقدة مع السلطات الأمريكية. ترك «التايمز» إلى مجلة أمريكا الأسبوعيّة الأهم «نيويوركر». وكان محظوظاً بالعمل مع مدير تحرير محترف آخر ديفيد ريمنيك، حيث كان يعرف قيمة هيرش ووفَّر له الأجواء التي يمكنه أن يبدع في ظلّها. بعد تلك الرحلة مع الصحافة الاستقصائية قرر أن يعمل بشكل مستقل من خلال تأليف الكتب وبيع مقالاته الاستقصائيّة لـ«التايمز و«نيويوركر» وغيرهما من صحف العالم الكبرى.
فضح هيرش القصص الواهية لغزو العراق في عام 2003، وأيضاً الكشف عن جرائم العسكر الأمريكيين المتعلقة بفضح تعذيب جنود أمريكيين لموقوفين عراقيين في سجن (أبو غريب).
لعنة فيتنام
ويطالعنا المؤلف في فصله الخامس بشرح بداية صِدامه مع المؤسسة العسكرية، وما قامت به آلتها المدمرة في حرب فيتنام. حدثت الأزمة الجديرة بالذكر في يوم 12 ديسمبر/كانون الأول عام 1966، حين أشار تحديداً إلى وزير الدفاع روبرت مكنمارا ونائبه سايروس فانس ومساعده الصحافي آرثر سِلفِستر. فقد كشف عن تورط عناصر من الجيش الأمريكي في مجازر حرب فيتنام. ثمَّ ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن الفضيحة الأشهر في تاريخ السياسة الأمريكية فضيحة «ووترغيت»، حيث تورطت إدارة نيكسون مع حزبه في التستر على عملية تجسس على مقر الحزب الديمقراطي في فندق (ووترغيت)، الأمر الذي انتهى إلى فضيحة أخذت اسم الفندق، قبل أن تصبح في القواميس رديفاً اصطلاحياً لكل فضيحة. كما ساهم هيرش بمتابعة القضية عبر تحقيقاته التي ساهمت في تأكيد تلك الفضيحة، ولعلّ أبرع وصف طرحه هيرش للمستشار والوزير هنري كيسنجر أنّ «الرجل يتنفس كذباً، بل أسوأ من ذلك».
غزو العراق
يَرِدُ في الكتاب أيضاً قضايا عديدة تهمُّ المطلعين على الأوضاع العربية والعالمية. فقد فضح هيرش القصص الواهية لغزو العراق في عام 2003، وأيضاً الكشف عن جرائم العسكر الأمريكيين المتعلقة بفضح تعذيب جنود أمريكيين لموقوفين عراقيين في سجن (أبو غريب). عندما قرر علي القاسمي، أحد أشهر سجناء أبو غريب، أن يفتح أبواب ذاكرته، ليروي قصصاً عن الإهانات التي تعرض لها نزلاء هذا المعتقل القريب من العاصمة العراقية بغداد، حيث مورست وراء جدرانه أعمال التعذيب والقتل والاغتصاب.
المؤلفات
كما تطرق هيرش في الفصل السابع عشر إلى ثلاثة كتب ألفها، الأول، عن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بعنوان «ثمن السلطة». والكتاب الثاني عن إسقاط طائرة الركاب الكورية فوق الساحل الشرقي للاتحاد السوفييتي وعنوانه «تدمير الهدف». أَمَّا كتابه الثالث فخصصه للحديث عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، في كتابه الشهير «خيار شمشون» الذي صدر عام 1990 والذي يتعلق بالنووي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية، حيث كشف فيه الخبير النووي الإسرائيلي مردخاي فعنونو معلومات مثيرة وسريّة عن البرنامج النووي الإسرائيلي ونشرَ هيرش معلومات تفيد بِأَنَّ الموساد الإسرائيلي استدرج مردخاي فعنونو من لندن إلى روما ليتم اختطافه وإعادته إلى تل أبيب، وهناك حكم عليه بالسجن لمدة ثمانية عشر عاماً، حيث أصبح القصة الرئيسية في صحيفة «التايمز» منذ أن نزل الكتاب إلى الأسواق في خريف عام 1991.