وثيقة تاريخية .. رسالة "الأمير الخطابي" إلى الرئيس عبد الناصر
إبراهيم حرشاوي
يتسم تاريخ الحركة الوطنية المغربية بكثرة المصادر التي أرخت لها وتنوعها لدرجة أنها تُعقّد مهمة الباحثين في تصنيف وتحليل المعطيات، خاصة عندما يتعلق الأمر بظاهرة مثيرة ومسيرة نضالية مهمة غطّت مراحل مفصلية خلال النصف الأول للقرن العشرين كالمسيرة التي سلكها عبد الكريم الخطابي.
فليس من السهل أن يتم تسليط الأضواء على الهوية السياسية والإيديولوجية لهذا الزعيم المغربي، دون الرجوع إلى الكم الهائل من المصادر والوثائق التّاريخية التي تشمل – من بين ما تشمله – مراسلاته مع مختلف الهيئات الرسمية وشبه الرسمية وقيادات الحركات التحررية في الوطن العربي والعالم.
ومن بين الوثائق التاريخية التي تلقي الضوء على هذه الجوانب والحيثيات والتي لم تتعرض لها كتابات المؤرخين المهتمين بالحركة الوطنية المغربية، رسالة الخطابي إلى عبد الناصر التي تضيء على الجانب الإيديولوجي والتوجه السياسي لدى الخطابي على المستوى العربي إبان المدّة التي قضاها في مصر بين سنة 1947 إلى سنة 1963 وعلاقته أيضا بالمشروع القومي العربي للرئيس المصري جمال عبد الناصر.
هذه القراءة الموجزة تعتمد على رسالة الخطابي إلى عبد الناصر التي تحمل عنوان "مذكرة خاصة عن المغرب العربي" والمحررة في يوم 22 من شهر يناير سنة 1959 (انظر نص الرسالة في كتاب الدكتور زكي مبارك: محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية الاستقلال، منشورات فيديبرانت، الرباط، 2003).
وتعد هذه الرسالة من ضمن الوثائق التي تضمنها كتاب 'ثورة الجلاء في شمال المغرب' لقائد انتفاضة الريف المغربي سنة 1958 وهو السيد عبد السلام أمزيان، وهو من القلائل الذين اهتموا ودرسوا حياة عبد الكريم الخطابي، وقد تمكن من قضاء ثلاثة أعوام من حياته جواره بعد فراره من المغرب عقب انتفاضة الريف سنة 1958-1959.
أما بالنسبة لقراءة مثل هذه الوثيقة فكثيرا ما تؤثر العوامل الذاتية لدى الباحث والمتلقي على حد سواء عندما يُطرح الجانب الإيديولوجي عند عبد الكريم الخطابي. فهناك مثلا نزوع واضح لدى الحركة الأمازيغية لتحويل الخطابي إلى رمز قومي أمازيغي اِستنادا للقراءة مؤدلجة ومشحونة بهاجس الانفصال، للفترة التي أسس فيها الجمهورية الريفية في عشرينيات القرن الماضي أولا، ولمعارضته للمقاربة السياسية لاستقلال المغرب التي تبنتها بعض فصائل الحركة الوطنية المغربية المتحالفة مع القصر الملكي ثانيا. ولهذا تقتضي الموضوعية في أي محاولة لقراءة الجانب الإيديولوجي والسياسي للزعيم الخطابي تفادي الأسلوب الانتقائي لإثبات مقولة أو فرضية ما عبر معالجة مقاطع من بعض النصوص أو من حِقب تاريخية معينة خارج سياقها بدلا من البحث عما يدحض الفرضية أو ما يثبت نقيضها.
أما في هذه المادة فسيُلقى الضوء بشكل عام على موقف عبد الكريم الخطابي من قيام الجمهورية العربية المتحدة ومحاولة ربطه بين مصير هذا المشروع العربي الوحدوي وبين الانتفاضات التي شهدتها منطقة المغرب العربي عقب استقلال تونس والمغرب، بما في ذلك الثورة الجزائرية التي كانت قد دخلت وقتذاك عامها الخامس.
تنقسم الرسالة إلى ثلاثة محاور أساسية يفسر فيها الخطابي لعبد الناصر آخر التطورات والتحديات في إقليم المغرب العربي، حيث يستهل رسالته بما وصلت إليه الأمور في كل من الجزائر والمغرب وتونس، يليها محور عن المخطط الاستعماري الرامي إلى إجهاض وحدة معركة المغرب العربي وإبعاده عن حركة التحرر القومي العربي. أما المحور الثالث والأخير فيتضمن تفسيراً موجزاً عن انتفاضة الريف ومسعاها، وربطها بمصير الوحدة السورية – المصرية التي كانت أهم إنجاز وحدوي عربي في ظل عنفوان التيار القومي.
تعود الفترة التي وجه فيها عبد الكريم الخطابي تلك الرسالة إلى جمال عبد النّاصر إلى الحقبة المصرية والتي تعد الأخيرة في مسيرته السياسية، حيث اعتاد الكتاب والمُؤرخون تحقيب سيرته إلى ثلاثة مراحل: أولاً، المرحلة المغربية التي بلغت ذروتها مع ثورة الريف. تعقبها المرحلة الثانية لما نُفي من طرف الاستعمار الفرنسي إلى جزيرة لاريونيون بالمحيط الهندي.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي تلك التي اِستقرّ فيها الخطابي في مصر من سنة 1947 حتّى سنة 1963. وقد امتازت هذه المرحلة عن باقي المراحل في كفاح الخطابي كونها مثلت حقبة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار في الوطن العربي ودول جنوب الكرة الأرضية بصفة عامة. وقد استأنف الخطابي في تلك المرحلة نشاطه السياسي والميداني عبر تأسيس لجنة تحرير المغربي العربي التي أكّدت على عروبة ووحدة معركة استقلال المغرب العربي في ميثاقها التأسيسي.
وعن خلافاته مع النخب الحاكمة في كل من المغرب وتونس ينبغي فهم خلفياتها وحيثياتها عند الاطلاع على المحور الأول للرسالة. لقد أدّى الحراك التفاوضي بين تونس والمغرب من جهة، وفرنسا من جهة أخرى، إلى شرخ داخل الحركة التحررية المغاربية؛ فمع نيل كل من المغرب وتونس استقلالهما، اعتبر الخطابي هذا الاستقلال أعرجا وغير كامل، حيث تمّ خرق بنود "وحدة المعركة والاستقلال التام" لميثاق "لجنة تحرير المغرب العربي" من طرف قيادات بارزة كالحبيب بورقيبة وعلال الفاسي.
ومُذاك، طفت الأسباب على السطح التي جعلت التناقضات في المواقف والاستراتيجيات تؤدي إلى انقسام المقاومة المغاربية إلى مشروعين: مشروع براغماتي يساوم على الثوابت مقابل استقلال شكلي، ممثلا بالنخبة الحاكمة في الدولة المغربية والتونسية، ومشروع ثوري وحدوي سيتمسك بمبدأ استئصال الاستعمار من جذوره يقوده الخطابي.
وكان من تداعيات هذا التناقض في القاهرة تصلب موقف المعارضة التونسية ضد التوجه التسووي للتيار البورقيبي في تونس؛ فوجود الجناح الراديكالي للحركة الوطنية التونسية بجوار الأمير الخطابي وتطابق أفكارها مع أفكاره زادت من حدة التوتر بين الجانبين. وقد تزعم التيار التونسي الراديكالي آنذاك كل من صالح بن يوسف وعزالدين عزوز والطاهر لسود وغيرهم من القادة الجذريين.
أما بالنسبة لخدمة الثورة الجزائرية، والدور التنسيقي مع جمال عبد الناصر الذي لعبه الخطابي لمصلحة ثورة الفاتح من نوفنبر، واِرتباطاته بأعلى حلقات هرم الدولة المصرية، فتجدر الإشارة إلى شهادة أحمد بن بلّة المنشورة في كتاب "ابن بلّة يتكلم: المذكرات السياسية والثقافية للزعيم أحمد بن بلّة" للصافي سعيد.
يقول بن بلّة في هذا المضمار: "لا أنسى أنّ العلاقة مع الزعيم الخطابي كانت خاصة. لقد نظر إلينا منذ البداية باحترام شديد. أما الآخرون فكانوا يروننا كشباب متحمس وطيب النية، ولكنه صغير على 'الأعمال الكبرى'. والخطابي هو الذي تدخل لدى الجامعة العربية من أجل سفري إلى بيرن (سويسرا) للاتصال بمناضلي المنظمة الخاصة. من ناحية بورقيبة كان قد عاد إلى تونس في ذلك الوقت بعد خلاف مع الخطابي الذي كان يرى فيه شخصاً يريد أن يعمل من أجل زعامته الخاصة فقط. وعن طريق الخطابي أيضاً، استطعت أن أتصل بضباط مصريين قريبين من مجلس قيادة الثورة، ثم مع عبد الناصر شخصياً.
كان هو الذي هيأ لي اللقاء الأول". وفي السياق ذاته، ينبغي التأكيد على ما سجل للخطابي من مواقف رافضة لمباحثات "إيكس ليبان"، أي المفاوضات التي أجراها الملك محمد الخامس مع فرنسا معتبراً إياها عبثية، كونها أفسحت المجال للفرنسيين كي يتفرغوا للجزائر بهدف إجهاض ثورتها.
في المحور الثاني للرسالة، نبه الخطابي إلى مُخطط إعاقة وحدة معركة تحرير المغرب العربي من طرف الحاكمين في الأقطار المغاربية الثلاث، وسعيهم لإبعاد هذه المنطقة عن القومية العربية. ويثير انتباه القارئ لهذا المحور وعي الخطابي وتمسكه بالمشروع القومي العربي وحرصه على تحقيق أهدافه من خلال إثارته خمس نقاط تمثل حسب اعتقاده خطراً على المشروع القومي العربي وهي:
- إعاقة المجاهدين الجزائريين المسلحين عن تحقيق استقلالهم الكامل لكي تبقى فرنسا مرتكزة بالجزائر، وحتى يمكنها المحافظة على عملائها الحاكمين في تونس والمغرب، وذلك بجعل القطرين الأخيرين جسراً للقوات الفرنسية إلى الجزائر، ولمطاردة المجاهدين وشل حركتهم.
- إنشاء اِتحاد المغرب العربي.
- دخول تونس والمغرب في ظروف قومية ودولية معينة وتحت شروط معينة إلى الجامعة العربية لتخريبها وتحطيمها، إما علناً ومباشرةً وبشكل غير مباشر وببطء وحذر.
- بث الشكوك وسوء الظن بين شطري الأمة العربية – المشرق والمغرب- بإثارة النعرات الإقليمية والعنصرية والسياسية.
- الدأب على مهاجمة الجمهورية العربية المتحدة باعتبارها أول تطبيق عملي حديث لعقيدة القومية العربية وباعتبارها قاعدة هذه القومية المتحررة.
تلزم القراءة السياقية لموقف الخطابي أعلاه الرجوع إلى مواقفه العروبية والقومية قبل ظهور جمال عبد النّاصر في الساحة السياسية، إذ لا تكفي حجة إقامته بمصر لجعل الخطابي قومياُ ناصرياُ بشكل تلازمي. ففي البيان التأسيسي للجنة تحرير المغرب العربي الذي نشره الخطابي في بداية سنة 1948 بالقاهرة، أي قبل أربع سنوات من ثورة يوليو، أعطى الخطابي الأولوية للإسلام والعروبة في البندين الأول والثاني مؤكدا بذلك على عروبة المغرب الكبير وانتمائه لبلاد العروبة.
فهذه الإشارة هي بمثابة الرد على السياسة البربرية للاستعمار الفرنسي التي بلغت ذروتها بإصدار قانون ''الظهير البربري'' سنة 1930 لتكريس سياسة التفرقة بين المغاربة. فالموقف العروبي للخطابي يصب باتجاه الفرضية التي وضعها محمد عابد الجابري بخصوص بزوغ الخطاب العروبي لدى الحركة الوطنية المغربية في تلك المرحلة، حيث أكّد أنّ الوعي العروبي في المشرق إذا كان قد نشأ في سياق تحدي سياسة التتريك لعروبة المشرق، فإن الوعي العروبي في المغرب نشأ باعتباره امتدادا للتحدي الاستعماري الممثل في السياسة البربرية (انظر''يقظة الوعي العروبي في المغرب: مساهمة في نقد السوسيولوجيا الاستعمارية'' (د. محمد عابد الجابري، مجلة المستقبل العربي، العدد87، 31 ماي 1986).
عربياً، يسجل للخطابي تعريفه العربي للقضية الفلسطينية. وتكفي الإشارة إلى تصدّر القضية الفلسطينية على الصعيد العربي أولويات لجنة التحرير، وقد صرّح الخطابي للإعلام في سنة 1948 بـ"أنّ فلسطين بلاد عربية ولا بدّ أن تبقى عربية"، معبّراً بذلك عن إيمانه بعروبة فلسطين وبأنّ أي اعتداء على جزءٍ من الوطن العربي هو اعتداءٌ على الوطن برمّته. ومع اندلاع الحرب لم تُتح الفرصة للخطابي للمشاركة ميدانياً في القتال، لكنّه قام بدوره القيادي من خلال توجيه مجموعة من المتطوعين القادمين من المغرب العربي واحتفاظه بخريطة ميدانية لفلسطين ليتتبع تحركات الجيوش العربية. فمما لا شك فيه أنّ القضيّة الفلسطينية كانت وقتذاك هي المهماز الذي أيقظ الوعي القومي في كل البلاد العربية، وفي المغرب تحديدا كانت هي القضية التي ساهمت في نشأة ميول نحو مقاربة قومية للقضايا العربية لدى الحركة الوطنية المغربية.
مغاربيا، يرجع تخوف الخطابي من إنشاء 'اتحاد المغرب العربي' إلى الدوافع والحسابات السياسية لعقد مؤتمر طنجة المغاربي سنة 1958، حيث كان الخطابي ككثير من القوميين في المشرق العربي يتهمون زعيم حزب الاستقلال المغربي - ورئيس هذا المؤتمر- علال الفاسي بطرح وحدة مغاربية لمعاكسة الوحدة المصرية – السورية ومواجهة انتشار المد القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر.
كما ينطبق هذا الموقف على الحبيب بورقيبة، إذ لم يقتنع هذا الأخير بفكرة الوحدة العربية مما جعله يبتعد عن هذه الفكرة وعن المشرق لترويج فكرة الوحدة المغاربية. وظلت مواقف بورقيبة معادية للمد القومي؛ فعلى سبيل المثال نجد تونس البورقيبية تقطع علاقاتها مع الجمهورية العربية المتحدة شهر أكتوبر 1958، لما شعرت هي الأخرى بخطورة الوضع كونها دولة تابعة للنفوذ الفرنسي.
وقد اتهم الحبيب الشطي مندوب تونس لدى جامعة الدول العربية، الجمهورية العربية المتحدة بالاستحواذ والسيطرة على الجامعة، مما يعد اندراجاً في مواقف تونس تحت سياسة آيزنهاور وحلفائه المعروفين في حلف بغداد. كما لا يجوز نسيان دعوة بورقيبة لحل القضية الفلسطينية عبر قبول فكرة تقسيم فلسطين وفقاً لقرار الأمم المتحدة في الخطاب الشهير الذي ألقاه في مدينة أريحا بفلسطين، ما يبين موقفه غير القومي من القضايا المحورية العربية مرة أخرى.
أما المحور الثالث والأخير للرسالة فيتطرق فيه الخطابي لضرورة دعم انتفاضة الريف محاولاً إقناع عبد الناصر بربط أهداف هذه الانتفاضة – كما سبقنا الإشارة– بالمشروع القومي العربي حيث جاء فيه عن هذا الموضوع ما يلي: "وأهداف هذه الثورة الحاضرة التي ستؤدي أغراضها بإذن الله إن نالت التأييد من قادة الحرية والقومية العربية هي: أ- في الميدان الخارجي: 1) إجلاء القوات الأجنبية عن القطر المغربي جلاء تاماً وناجزا.ً
2) إعادة تطبيق الاستراتيجية التحريرية بفتح جبهة القتال ضد قوات الاحتلال في المغرب إلى جوار الجزائر في سبيل تحرير تونس والجزائر.
3) إعادة القطر المغربي إلى دائرة قوميته العربية الحرة بأسرع ما يمكن وبكل الوسائل الصريحة المباشرة".
احتلت هذه الانتفاضة التي قادها محمد الحاج سلّام أمزيان مكانة بارزة في التاريخ السياسي المغربي ما بعد الاستقلال، وترجع أسبابها إلى الخيبة التي عمت منطقة الريف في أول سنوات الاستقلال إثر إقصاء نخبتها من المؤسسات الوطنية، بالإضافة إلى الغطرسة التي اتسمت بها سياسة حزب الاستقلال في هذه المنطقة.
وقد كانت هذه الانتفاضة ناضجة سياسيا بحيث تم تأطيرها من طرف زعيمها الحاج سلام أمزيان بحركة سياسية أُطلق عليها اسم "جبهة النهضة المغربية". وقد كانت مطالب هذه الجبهة واضحة المعالم ومنسجمة مع تلك التي أوردها الخطابي في رسالته.
أما بالنسبة للدعم المصري لهذه الانتفاضة فينبغي التوقف عند الشهادة التي أدلى بها فتحي الديب، مسؤول الاستخبارات المصرية لمنطقة المغرب العربي، في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر" إذ كشف عن عدم معاداة عبد الناصر للملك المغربي محمد الخامس نتيجة لمواقفه الوطنية، ولاسيما بعد نفيه من طرف الاستعمار الفرنسي في شهر غشت سنة 1953، بالرغم من الصراع بين عبد الناصر والأنظمة الملكية العربية.
وهو ما يوحي أن فتحي الديب ربما يكون قد خلط بين الاستراتيجي والتكتيكي في الموقف الناصري. وربما يُفسر موقف فتحي الديب هذا ما صرح به الحاج سلام أمزيان لمصطفى أعراب في كتابه "الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال" بخصوص تنبيه فتحي الديب لصديقه علال الفاسي عبر إخباره بإرسال مصر باخرة محملة بالسلاح لدعم المنتفضين بالريف مما أفشل تموين الانتفاضة وعرّض قادتها لخطر الاعتقال والتصفية. وهو ما يوحي أن هناك مراكز قوى داخل الدولة الناصرية كانت تعمل على النقيض من توجهات عبد الناصر لا في مصر فحسب، بل في غيرها من الأقطار العربية، وأن تلك المراكز كانت في حالة تضاد مع عبد الناصر ومع حسابات الخطابي المنبثقة من منطق تجربته الفريدة في نوعها المتمثلة في قيادته حرب التحرير الشعبية ضد الاحتلال الإسباني شمال المغرب، إذ ليس من المنطقي أن ترسل مصر باخرة سلاح لتقوم بتسليمها بعد ذلك...
وهكذا يمكن أن نستنتج أن ما اصطبغت به رسالة الخطابي من توجه قومي أو ناصري حتى، ليس اختياراً "تكتيكياً" من جانبه لإقناع زعيم الدولة التي كان يقيم فيها، بقدر ما هو تناقض جذري مع المشروع الاستعماري في الوطن العربي وإيمان راسخ بمبادئ العروبة والإسلام ووحدة المعركة القومية. ولذا تبقى تجربة الخطابي السياسية في مصر تعبيراً عن مشروع تحرري أنبتته الحركة الوطنية المغربية والحركة الإصلاحية العربية والتي أخذت بعداً أكثر قوميا وعروبيا باحتكاكها والتحامها بالخطاب القومي العربي والمشروع التحرري الناصري.
لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار صفة القومية العربية عن التوجه السياسي والإيديولوجي للخطابي إبان فترته المصرية، كما لا يمكن إنكارها عن رفاق دربه المغاربيين كأحمد بن بلة وصالح بن يوسف... الذين مثلوا الجناح الجذري لحركة التحرر في منطقة المغرب العربي.