بريطانيا وقضاياها الثلاث: الاقتصاد والديمقراطية وأوروبا
د. سعيد الشهابي
عندما تشكك «أعراق الديمقراطيات» في نفسها ومدى حقيقة ديمقراطيتها فان ذلك يعكس مدى تراجع المشروع الديمقراطي في العالم، ويؤكد عمق نزعة الاستبداد لدى القيادات السياسية في اغلب البلدان. وما تعيشه بريطانيا هذه الايام من توتر داخلي غير مسبوق مؤشر لكل ذلك، ودافع لاعادة تقييم المشروع الديمقراطي ومعه النظام الرأسمالي.
قبل عشرة اعوام حدثت الازمة المالية التي عصفت بالمصارف، وطرحت تساؤلات حول مدى قدرة النظام الرأسمالي على الاستمرار اذا ما فشل نظامه المصرفي الذي يعتبر عصبه الاساس. لقد كان فشلا ذريعا ادى لتداعيات عديدة من بينها تراجع اقتصادات العديد من دول الاتحاد الاوروبي كأسبانيا واليونان، وكادت خزانات هذه الدول تعلن افلاسها لولا دعم دول الاتحاد خصوصا المانيا. ومن المؤكد ان صعود ظاهرة اليمين المتطرف من بين وجوه هذا التداعي القيمي وتراجع المنظومة التي حكمت العالم طوال القرن الماضي. وهناك امتعاض لدى الكثيرين ازاء هذه الظاهرة خصوصا بعد فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة وصعود بعض الاحزاب اليمينية الى الحكم في عدد من دول الاتحاد الاوروبي. في ظل هذه السحابة القاتمة جاءت الازمة البريطانية الحالية التي لم تشهد مثلها منذ عقود. ومهما قيل عن الاسباب فان قرار رئيس الوزراء البريطاني (غير المنتخب) تعليق عمل البرلمان خمسة اسابيع لهدف معلن وهو تمرير قرار الانسحاب من الاتحاد الاوروبي بدون اتفاق، لم يحدث منذ اكثر من مائتي عام. كما ان عزم البرلمانيين الرافضين قرار بوريس جونسون بعقد جلسة برلمانية يوم الاحد المقبل لم يحدث الا في حالات قليلة: عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعندما حدثت ازمة السويس في العام 1956 وحين اتخذ قرار الحرب بخصوص جزر فوكلاند في 1982.
ما الذي يحدث في بريطانيا؟ والى اين تسير امورها وديمقراطيتها وتماسك مجتمعها واطروحاتها السياسية والثقافية التي سعت لتصديرها للعالم؟ ربما كانت هناك اسباب تجمعت عبر العقود لتوصل الوضع الى حالة التوتر والاستقطاب المجتمعي والسياسي غير المسبوق، ولكن من المؤكد ان قرار الاستفتاء على البقاء ضمن الاتحاد الاوروبي او الخروج منه كان محوريا في توفير الظروف التي ادت الى الاوضاع الحالية. فلم يكن الاستفتاء الذي اجري في العام 2016 حول ذلك حاسما، بل كان يعبر عن تعادل كفتي الخروج او البقاء مع ميل قليل لصالح الخروج. يومها اعتقد الذين ادلوا باصواتهم في الاستفتاء ان الخروج سيحدث بقرار مؤسس على نتائج الاستفتاء بدون تعقيدات ذات شأن. ولكن بعد ثلاث سنوات من النقاشات والمفاوضات بين لندن وبروكسيل، اصبح واضحا ان تعقيدات الوضع مختلفة عما كان في اذهان الذين ادلوا باصواتهم حول المسألة.
انها مناسبة لإعادة قراءة المشاريع الغربية للتعرف على حقيقة ديمقراطيتها واستيعاب عمق التخدير النفسي والفكري للنخب تحت مسميات شتى، وما اذا كان ذلك يخدم مشروع الحرية والانسانية والديمقراطية الحقيقية
فهناك تبعات لقرار الخروج لم تكن واضحة للرأي العام: الحدود الجديدة التي ستفصل بين الطرفين، الحدود بين ايرلندا الشمالية الخاضعة للحكم البريطانية وجمهورية ايرلندا في الشطر الجنوبي من «جزيرة ايرلندا»، التبعات المالية التي ستفرض على الخزينة البريطانية والتي تصل الى حوالي 40 مليارا، العلاقات الاقتصادية المستقبلية وسياسة الضرائب على البضائع التي تعبر الحدود. ومع ان المسألة قد لا تطال حلف شمال الاطلسي (ناتو) فليس مستبعدا ان تطرح المسألة بشكل اكثر تعقيدا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد. لم يتوقع المواطن العادي وهو يدلي بصوته لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي ان زعماءه سيقضون ثلاث سنوات متواصلة ليصلوا في نهاية الامر الى طريق مسدود. يضاف الى ذلك استقالة رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، التي وصلت لذلك المنصب بعد استقالة رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، الذي أخطأ حسابات الربح والخسارة عندما قرر اجراء الاستفتاء. وبعد عامين ونصف وجدت السيدة ماي نفسها غير قادرة على التوصل الى اتفاق واضح مع الاتحاد الاوروبي حول صيغة قرار الانسحاب وشروطه. ففي الوقت الذي كان الاتحاد يرغب في انسحاب بريطاني سريع، الا انه في الوقت نفسه، لا يريد تسهيل المسألة امام الدول الاخرى التي قد تفكر في الانسحاب. وهكذا وصلت الامور الى طرق مسدودة، تنطوي على الكثير من الشكوك والحسابات غير الواقعية وغياب حسن الظن، ومواصلة الدرب بدوافع مادية او سياسية.
السيد بوريس جونسون استلم منصب رئاسة الوزراء الشهر الماضي ليس عن طريق الانتخاب المباشر من قبل الشعب، بل باصوات 93 الفا من اعضاء حزب المحافظين الذين اختاروه زعيما للحزب بدلا من تيريزا ماي. ولم يخف جونسون يوما طموحة في الوصول الى رئاسة الوزراء، ولكن حظه وفر له فرصة معقدة لتحقيق ذلك الحلم. اراد رئيس الوزراء الجديد «الوفاء» بتعهده قبيل ترشحه لرئاسة حزبه، وذلك باعلان 31 تشرين الأول/اكتوبر موعدا نهائيا لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. هذا التعهد لم يكن في مكانه، خصوصا بعد ان فشلت السيدة ماي ثلاث مرات في الحصول على دعم البرلمان للاتفاق الذي توصلت اليه مع الاتحاد الاوروبي. واصبح واضحا بعد ذلك ان الطرق امام بريطانيا باتت مسدودة، ما عدا طريق الخروج بدون اتفاق، وهو الخيار الذي صوت البرلمان ضده، او اعادة الاستفتاء حول الموضوع نفسه، او تغيير الحكومة عبر انتخابات عامة.
أصر جونسون على التشبث بالخروج حتى مع عدم وجود اتفاق، الامر الذي ترفضه الاحزاب الاخرى خصوصا حزبي العمال والاحرار، وقطاعا كبيرا من البرلمانيين من حزب المحافظين الحاكم. المشكلة الاخرى ان هذا الحزب لا يمتلك اغلبية برلمانية تسهل عمل رئيس الوزراء عند الحاجة. فليس لديه سوى عضو واحد زيادة على النصف، الامر الذي لا يعتبر ضامنا لتمرير اي قرار. اما الحزب الوحدوي الايرلندي المتحالف مع الحكومة فيقف ضد الخروج من اوروبا اساسا، لأن ايرلندا عضو بالاتحاد الاوروبي ولا يريد الحزب ان يكون بمنأى عن المسار العام في البلد الذي ينتمي اليه عرقا. يعتبر اصرار جونسون على الخروج خيارا صعبا وقد يكون مدمرا للمملكة المتحدة نفسها. فالاسكوتلانديون يريدون البقاء ضمن اوروبا، وتهدد احزابهم الرئيسية باجراء استفتاء ليس بالانفصال عن اوروبا بل عن بريطانيا، الامر الذي يضاعف مخاطر الوضع الحالي. وهناك عاملان آخران يشجعان جونسون، ومعه المؤسسة البريطانية على الخروج: اولهما التقارب مع أمريكا والتناغم مع دونالد ترامب الذي لم يخف دعمه لرئيس الوزراء البريطاني الحالي، وهو امر مثير للجدل كذلك نظرا لما يمثله ترامب من رجوح كفة اليمين المتطرف. اما العامل الآخر فيتمثل برغبة بريطانيا في توسيع نفوذها الدولي وحلم بعض ساستها باستعادة الموقع التاريخي لـ «بريطانيا العظمى». وما قرار العودة البريطانية الى شرق السويس الا احد مصاديق تلك العودة برغم تغير الظروف وموازين القوى. ويمكن القول ان حادثة احتجاز بريطانيا الناقلة الإيرانية «جريس 2» قبل بضعة اسابيع والتحفظ عليها من قبل سلطات جبل طارق ساهمت في اضعاف الهيبة البريطانية، لان إيران لم تنتظر طويلا قبل ان تحتجز باخرة بريطانية كانت تمخر مياه المنطقة. وقد اجبرت بريطانيا على الافراج عن الناقلة الإيرانية بينما ما تزال الناقلة البريطانية محتجزة لدى الإيرانيين. هذه الحادثة وحدها تكفي لاعادة تقييم قرار العودة الى شرق السويس لاداء دور الشرطي في مياه الخليج المضطربة.
ولكن ربما الاخطر من بقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي او خروجها يتمثل بتجاوز واحدة من اهم القيم الديمقراطية: الدور البرلماني في اتخاذ القرارات السيادية للبلدان. فلم يكن متصورا يوما ان يتحدى رئيس الوزراء البرلمان المنتخب ويطالب الملكة بتعليقه خمسة اسابيع لكي يمكن تمرير قرار الانسحاب من اوروبا بدون اتفاق. لماذا؟ لأنه يعلم ان البرلمان لن يقر ذلك. انها ضربة موجعة للمشروع الديمقراطي الذي طالما تباهت به بريطانيا.
ان من الضرورة بمكان اعادة النظر في نظريات الحكم ذات الصلة بالرأسمالية والديمقراطية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. كما ان من الضروري استيعاب ما هو جوهري ومطلق وما هو هامشي ونسبي، لكي تتضح معالم النظام «الديمقراطي» المتصل بالمشروع الرأسمالي الذي يتطلع للهيمنة على الاطراف الاضعف في المجموعة الدولية. انها مناسبة لإعادة قراءة المشاريع الغربية للتعرف على حقيقة ديمقراطيتها واستيعاب عمق التخدير النفسي والفكري للنخب تحت مسميات شتى، وما اذا كان ذلك يخدم مشروع الحرية والانسانية والديمقراطية الحقيقية.