منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 ابن البيطار

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75848
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ابن البيطار Empty
مُساهمةموضوع: ابن البيطار   ابن البيطار Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:18 pm

ابن البيطار



مُقدِّمة:
تَزخر الحضارة الإسلامية بشخصيات برَزت في شتَّى مجالات العلوم الطبيعية؛ ففي رحِم هذه الحضارة الولود تَمخَّضت شخصيَّات كان لها قَصَب السَّبق في اكتشافات غيَّرت مَجرى العلوم الطبيعية، وشكَّلت صورة حضارة ظلَّت لقرون عديدة مُنتجِة للعلوم، ومُصدِّرة للحضارات الوليدة، وفي هذا الرَّحِم ظهرت إرهاصات عَباقرة في مجال العلوم الطبيعية ساهَمُوا في إعادة تشكيل الحياة العلميَّة في عصورهم، وكان لهم الفضل في إنارة الطريق للأجيال التي تَبعتهم لتَهتدي بِهُداهم، وتَقتفي أثَرَهم؛ فحُقَّ للحضارة الإسلامية أنْ تَفخر بهؤلاء الرجال الذين شكَّلوا حضارة عريقة ظَلتْ تمدُّ العالم لقرون عديد، وسَاهمتْ في إخراجه من عصور الجَهالة والظلام إلى عصور العِلم والنور.
 
ومن بين هؤلاء العباقرة يَقف ابن البيطار شامخًا، تَنحني له رؤوس العلماء في مجال الصيدلة وعلوم العقاقير الطبية؛ فقد كان له أيادٍ عِظام في ازدهار هذا الفنِّ؛ فهيَّا بنا نتعرَّف عليه، ونفتح معًا صفحة مطويَّة من كتاب عظماء الحضارة الإسلامية في العلوم الطبيعية؛ حتى يتأكَّد شبابنا أنَّ رجالات الإسلام في العصور الغابِرة كانوا أصحاب فضْل على من يدَّعون الآن أنَّهم أصحاب العلوم، وأن العِلم حِكر على أبنائهم!
 
تَمهيد:
فَليَسمح لي مُؤرِّخونا أنْ أتقمَّص شخصيَّتهم في هذه الأسطر؛ فقد عاش ابن البيطار نحو الستين عامًا مُتنقِّلاً بين حضارات عدة ودول عديدة؛ ففي الأندلس -مسقط الرأس ومَرتع الصِّبا- والمغرب العربي كانت دولة المُوحِّدين، وكانت حضارتهم تَشهدُ لها آثارهم في الفنون والآداب والعلوم، "بقي علينا أنْ نَستعرِض من الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر المُوحِّدي، ناحية من أهمِّ نواحيها، وهي ناحية العلوم والفنون؛ ففي هذا الميدان - ميدان العلوم والفنون - تَصلُ الحركة الفكرية الأندلسية إلى ذِروة قوتها وازدهارها، وتَسطَع خلالها أسماء من أعظم شخصيات التفكير الأندلسي، بل من أعظم شخصيات التفكير الإسلامي على الإطلاق، ويكفي أنْ يكون من بينها، عبقريات مِثل ابن طفيل، وابن زهر، وابن رشد، وابن الرومية، وابن البيطار، إنَّنا نستطيع أنْ نصِف الدولة المُوحِّديَّة بأنها كانت دولة حامية للعلوم، كما كانت حامية للآداب، حامية للفنون في نفس الوقت، حماية تَشهد بها منشآتها العمرانية العظيمة في المغرب والأندلس"[1].
 
وفي مصر -التي كانت مَحلَّ صِيته ودار إقامته- كانت الدولة الأيوبية في عصر ازدهارها وأوج نضوجها الحضاري؛ حيث "أدَّى الأيوبيون لمصر خدْمات جليلة؛ إذ حمَوها من هجمات الصليبيين، وكان أكثر ملوكهم ذوي مَقدِرة وكفاية، وكذلك كان الوزراء، وقد كانت سياستهم التَّجارِية حازِمة، فاتَّفقوا مع البنادقة، وعقدوا معاهدات تَجارية كان من شأنها أنْ زادت ثروة مصر، وقد اهتمُّوا بالعلوم والأدبيَّات اهتمامًا عظيمًا، فظهر في عهدهم الكتاب والمؤرِّخون: مِثل القاضي الفاضل، وبهاء الدين زهير، وكَثُر المُتعلِّمون، وانْتشرتْ المدارس، وظهرت نَهضة أدبيَّة عظيمة"[2].
 
لقد عاش ابن البيطار في عصور ذهبية للحضارة الإسلامية؛ وربما ساهَم هذا الأمر في منْحه الفرصة الذهبية للتقدُّم والرقي؛ فقد حبَاه الله – سبحانه وتعالى - بوجوده بين دولتين إسلاميتين انْبثقَتا من الدولة العباسية، وكانَتَا ذات حضارة وريادة؛ فأعمَل عقْلَه، وأخَذ على نفْسه مَهمَّة التبحُّر في عِلم ربَّما أحبَّه عن أبيه.
 
1- حياة  ابن البيطار:
في أحضان رُبَا الأندلس - الفردوس المفقود - وُلِد، وبين مدن المغرب العربي شبَّ، وعلى ضفاف نهر النيل ذاعَ صيته، وكانت نهاية حياته الحافلة بالعطاء العلمي بعاصمة الخلافة الأموية، وبين هذه الدول كانت حياته، فهيا بنا نتعرَّف عليه من خلال إلقاء الضوء على هذه الحياة.
 
أ- اسمه: عبدالله بن أحمد[3].
 
ب- لقبه: ضياء الدين.
 
ج- كنيته: أبو محمد.
 
هـ- شهرته: ابن البيطار.
 
و‌- محل ميلاده: مالقه، وتَقع جنوب الأندلس على شاطئ البحر المتوسط.
 
ز- مَوطِنه: الأندلس فهو"كان من أعظم علماء الأندلس في هذا العصر[4]".
 
ح- سنة الميلاد: وُلد أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار عام 589 هـ (1193 م).
 
ط- سنة الوفاة: تُوفِّي عام 646هـ، 1248م.
 
ي- محل الوفاة: دمشق.
 
ك- محل إقامته: إشبيليَّة.
 
ل- رحلاته: "ورحَل إلى المشرق وهو في العشرين من عمره، زار خلالها المغرب، وجاب مراكش والجزائر وتونس وأقطار شمال إفريقيا ومن ضمْنها مصر، ومن ثم ساح في سوريا وبلاد الإغريق وإيطاليا وتركيا"[5].
 
ن- المناخ التاريخي الذي أُحيط بفترة ميلاده:  تَولَّى أمور الخلافة وشؤون الحكم بالدولة المُوحِّدية بالأندلس مَسقط رأس ابن البيطار، أبو يوسف يعقوب عام 580 هـ، 1184م، "والذي تلقَّب بالمنصور، والذي يُعتبر أكبر شخصية في تاريخ المُوحِّدين بعد محمد بن تومرت، وعبدالمؤمن بن علي، وقد قرَّر هذا الخليفة المُوحِّدي أنْ يقوم بِحملة كُبرى على الأندلس، فعبَر سنة 586 هـ، واستعاد شلب، وحاول استعادة قصر أبي دانس ثم عاد إلى إشبيلية، وفي سنة 1157م تُوفِّي ألفونسو السابع ملك قَشتالة، وبعد حرب أهلية على العرش تَولَّى أمْر مملكة قشتالة وليون الفونسو الثامن، الذي بدأ فعَقَد صُلحًا مع المُوحِّدين سنة586 هـ، وعندما انتهتْ مُدَّة هذا الصُّلح 590هـ، 1194م بَدَأ بمهاجمة أراضي المسلمين؛ فعَبَر أبو يوسف يعقوب إلى الأندلس في جيش ضخم سنة591م، وكانت وِجْهته الحقيقية طُليطلة، ولكن ألفونسو الثامن عجَّل بالمسير نحوه، وكان أبو يوسف يعقوب قد احتشد احتشادًا عظيمًا لتلك الحملة، فأخذ معه خير مُقاتلي الموحدين، وضمَّ إليهم أحسن مقاتلي الأندلس، وبعَث في نفوس رجاله حماسًا دينيًّا عظيمًا، وخافه ألفونسو الثامن، فاستعان بالبابوية وبملوك إسبانيا النصرانية، وسار في جيش ضخم من قلعة رباح، وعسَكَر عند حصْن يُسمَّى (الأرك) في نهاية الطريق المؤدًّي من طليطلة إلى قرطبة، وبدأت المعركة الحاسمة في التاسع من شعبان 591 هـ، يوليو 1195م، وقد انْجلت المعركة عن نصْر حاسم للمسلمين حُصرت فيه صفوف الإسبان، وتَمكَّن المسلمون من كسْر حِدة الموجة النَّصرانية، وتُعتَبر هذه المعركة أُختًا لمعركة الزَّلاقة، وكان لها أَبعد الأثر في تَثبيت جبهة الإسلام الأندلسي لمدة قرن كامل من الزمان على الأقل"[6].
 
هذه الفترة المُزدهِرة لدولة المُوحِّدين بالأندلس هي الفترة التي قضاها ابن البيطار بالأندلس؛ "فقد ولِد في مالقة بالأندلس في نهاية القرن السادس الهجري، وأتمَّ دراسته في إشبيلية، وكان يعيش في ضواحيها مع شيوخه وأساتذته، كأبي العباس النباتي، وعبدالله بن صالح، وابن الحجاج الإشبيلي، وخاصة مع أبي العباس النباتي الذي كان له على ابن البيطار تأثير كبير"[7].
 
ولعلنا نستنتج مما سبَق أنَّ الحياة السياسية بالأندلس إبان فترة التكوين الفكري لابن البيطار، كانت من أخصب فترات الحضارة الإسلامية بالأندلس، ولا نُبالغ إذا قلنا: "إنَّ الخلفية السياسية تُؤدِّي حتمًا إلى انتعاش الحركة العلمية والفكرية؛ ومن ثَمَّة تؤدي إلى ازدهار الحضارة، وهذا ما تم في العصر الذي عاش فيه ابن البيطار وليدًا وطفلاً وصبيًّا وفتًى؛ فقد تَشرَّب العِلم وليدًا من أبيه، وطفلاً من مدارس الأندلس، وعلى وجه الدقة مدارس إشبيلية؛ ثم حين بلغ مبلغ الصبا نَهل العلم عن أساتذة الأندلس العِظام؛ حتى إذا ما بلَغ مبلغ الفتوّة، فراح يُفكِّر، ويُقرِّر أمره، ورأى أنَّ طريقه الذي عليه أن يَسلكه هو طريق الكيمياء والصيدلة والطب؛ وهذه العلوم جميعها فترة حياته كانت علومًا مُتشابِكة ذات علاقة بعضها ببعض.
 
السياسة إذن لها عَلاقة وطيدة بازدهار الحضارة، فما من أمة ازدهرت حضارتها، وصارت من الأمم المتحضرة إلا وكانت أمور السياسة والحكم في أيدي رجالات تَعرف قيمة الحضارة وترفع درجات العلماء، وهذا ما حدَث لابن البيطار الذي عاش مرحلة تكوينه العلمي بدولة الأندلس التي كانت من أعرق دول العالم حينئذ؛ فقد ازدهرت العلوم فيها، وتَجلَّت الفنون، وبات لها شأن لا يُنكِره إلا جاحدٌ.
 
ومن هنا؛ من الممكِن أن نَخلُص لنتيجة مُؤدَّاها أنَّ الحالة السياسية بالأندلس إبان فترة التكوين الفكري والعلمي لابن البيطار كانت لها عظيم الأثر في هذا التكوين، ولاشكَّ أنَّنا نعلَم جميعًا القول القائل: "من شبَّ على شيء شاب عليه"؛ وقد شبَّ ابن البيطار على حبِّ العِلم، وعلى وجه الدقة عِلم من العلوم الطبيعية، وهو عِلم الكيمياء، وبدأ يَرسُم طريقه إلى هذا العِلم.
 
س- نُبذة عن العلم الذي سلَكه ابن البيطار:
"وفي الحقيقة شهِدت الفترة ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين تَطوُّرًا كبيرًا في مجال الطب، خاصة لاهتمام الحكَّام والأمراء بالعِلم الطبي وإنشاء دور الاستشفاء (البيمارستانات)، بل وصَل الأمر إلى حدِّ أنْ كان لهم دور أيضًا في تطوُّر البحث الطبي في هذه المرحلة، فقد تعدَّدت الإشارات إلى صدور الأوامر السلطانية بالتأليف الطبي، مِثل ما نَجدُه في مخطوطة (بهجة الفكر في علاج أمراض العين) لابن أبي عقيل؛ حيث يَذكر أنَّ السلطان (نجم الدين أيوب) قد أمره بتأليف كتاب في أمراض العين، والأسباب المُحدِثة لها والعلامات الدَّالة عليها، والعلاجات الشافية منها، ويقول في ذلك: "امتثلتُ إلى ذلك، ووضعتُ الكتاب مُشتَمِلاً على ذكْر العين)، ثم يَشرُع المُؤلِّف في عرْض الموضوع عرضًا سريعًا موسوعيًّا على طريقة علماء العصر.
 
وإلى جانب اهتمام الحكام والأمراء بالتأليف، إلا أن القرنين السادس والسابع الهجريين قد مثَّلا عصْر التطبيق وظهور الاكتشافات الطبية الجديدة، مثال ذلك الدورة الدموية لابن النفيس، وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت الصِّلة الوثيقة بين الصيدلة والطب؛ حيث كان الطبيب يُعدُّ أدويتَه بنفْسه، حسب معرفته وتَجارِبه الخاصة، والدليل على ذلك الـتآليف الكثيرة التي وضَعها الأطباء في الصيدلة؛ أي: في الأدوية المُفرَدة والمركَّبة سواء كانت من نبات أو حيوان أو معادن، وقد عرَّفوا الأدوية المُفرَّدة بالعقاقير الأصيلة، أما الأدوية المركبة فسمَّوها (الأقراباذين)، وبقي هذان الاسمان متداولين عبر التاريخ، وتقدَّموا تقدُّمًا ملحوظًا في معرفة خواص العقاقير، سواء كانت من النباتات أو المعادن أو الحيوانات، فهُم الذين أرسوا قواعِد عِلم الصيدلة.
 
وهناك إجماع عند مؤرِّخي العلم أنَّ علماء العرب والمسلمين هم الذين وضَعَوا قواعد علم الصيدلة وفَصَلوها عن عِلم الطب؛ لأن الصيدلة والطب كانتا مِهنة واحدة، وقد حاول علماء المسلمين أنْ يَحصلوا على مُختصِّين في مجال الصيدلة، فأنشؤوا المدارس التي تُعلِّم الدارسين طريقة تحضير الأقراباذين وطريقة تَسويقها، كما أنَّهم أوَّل من عمِل صيدلية عامة، وصيدلية خاصة مُلحَقة بالمستشفى، يقول الدكتور عبدالرحمن مرحبا: "وللعرب نصيب كبير في نشأة الصيدلة وتقدُّمها، فقد بلغتْ على أيديهم مَبلغًا عظيمًا من الرُّقي، فالعرب هم المؤسِّسون الحقيقيون لمهنة الطب التي رفعوها عن مستوى تِجارة العقاقير، وهم الذين أنشؤوا المدارس لتحضير الأقراباذين وأماكن لبيعها وتصريفها، وأخضعوا هذه الصناعة لرقابة الدولة لمنْع الغشِّ، فكان الصيادلة لا يُزاوِلون مهنتَهم إلا بعد الترخيص لهم، وقد افتتحوا الصيدليات العامَّة في أواخر القرن الثامن للميلاد في عهد المنصور، كما أَلَحقوا بكلِّ (بيمارستان) صيدلية خاصة به.
 
ومنذ أيام المأمون في القرن التاسع كانت الصيدليات تحت إشراف الدولة؛ صيانة لها من تُجار العقاقير، ويقول طوقان: "كان في كلِّ مدينة مفتِّش خاص للصيدليات وتحضير الأدوية"، لقد حازت بحوث المسلمين في حقْل الصيدلة موقِعَ الصدارة، منذ وقت مبكِّر، ولا أدَلَّ على ذلك من أنَّنا نَجد كثيرًا من المؤلَّفات الصيدلية لكثير من حكماء الإسلام وعلمائه، مِثلَ بعض أجزاء القانون لابن سينا الذي خصَّصه لدراسة الأدوية والعقاقير الهامة، والتي يعتمد عليها الطبيب في علاجه، وكذلك البيروني مُعاصِره والمُتفوِّق عليه في هذا الجانب بكتابه (الصيدلة في الطب) والذي ألَّفه مُسجَّلاً فيه خمسة أضعاف ما سجَّله (دسيقوريدس) في دراساته للعقاقير، وكانت مَيزته في هذا الكتاب معرفته التامَّة بكلٍّ من اللغة السنسكريتية والفارسية والعربية واليونانية، إضافة إلى لهجته الخوارزمية؛ مما مكَّنه من أنْ يُورِد في كتابه أسماء العقاقير بكلِّ هذه اللغات، محاولاً التوحيد بين مصطلحات علم الصيدلة عالميًّا بقدْر الإمكان، هذا فضلاً عن وضْعه لمُقدِّمة الكتاب والتي تُعدُّ دستورًا طبيًّا لا غَنى للطبيب من الاطلاع عليه، خاصة أنَّه يُورِد فيه الأخلاقيات العلمية التي يَنبغي أنْ يَتَّصف بها الصيدلاني، وكذلك الأسلوب العلمي الذي ينبغي أنْ يَتبعه في عمله الطبي وتكوينه للأدوية والعقاقير، ويَكتسِب الصيدلي عنده معرفة بقوى الأدوية وتأثير العقاقير بطول التَّجرِبة واستمرار الممارسة، وقد تَمكَّن البيروني من جعْل الصيدلة - وإن تكن آلة الطب - علمًا مُستقلًّا كاستقلال المنطق عن الفلسفة، والعَروض عن الشعر.
 
وعلى الرُّغم من اعتماد الصيادلة العرب في بداية أبحاثهم ودراساتهم على كُتُب السابقين، إلا أنهم تَمكَّنوا من إضافة مادة طبية غزيرة، سواء كانت نباتية أ حيوانية أم معدنية، بفضْل اتِّساع رقعتهم الجغرافية ونُموِّ كثير من النباتات الطبية فيها، بالإضافة إلى تَفوُّقهم في عِلم الكيمياء؛ مما مكَّنهم من ابتكار أدوية لم تكن معروفة من قبل، ركَّبوها من تلك الأصول، وأضافوا إلى ما عرَفوا من صُنوفها عن الهنود واليونان؛ فكانوا بهذا سبَّاقين إلى ابتداع الأقراباذين أو الفارما كولوجي Pharmacology على الصورة التي وصَلتْ إلينا.
 
ولا أدلَّ على تقدُّم المسلمين في عِلم الصيدلة من أنَّهم كانوا يتحقَّقون من أي الأجزاء من النبات يكون العقَّار أَفيد وأَقوم وأَفضل، وكذلك مواعيد جمْع العقاقير من النبات وجَنيها أو قطفها منها، وكيفية إدخالها وتَخزينها، مُحتفِظة بفوائدها وقوَّتِها دون أنْ يَتطرَّق إليها الفساد، مع معرفة علامات فسادها، وكذلك انتقاء أجود النبات المُستخدَم في صنْع العقار، ولقد أَطنبَ في هذا المجال الكثير من أطباء العرب كابن سينا، والطبري، والمجوسي، وداود الأنطاكي، والرازي، والبيروني، وابن البيطار"[8].
 
كان العشَّابون في عصْر ابن البيطار يُعالِجون بعُشبهم أمراضًا عديدة؛ وهم بذلك يقومون بدور الصيادلة الذين ربَّما يَقومون بتحضير الدواء وإعداده، بل واكتشاف عقاقير تُعالِج مرضًا تَمَّ اكتشافه حديثًا؛ لذا فابن البيطار كان يقوم بأدوار ثلاثة تَجعله يَنتمي لعلماء ثلاثة فروع من فروع العلوم الطبيعية أو العلوم البحتة، فهو يتحرَّى النبات، ويُحلِّله كعلماء الكيمياء، ثم يقوم على صناعة الدواء من النبات الذي قام باختياره وتطبيق التَّجارِب التحليلية عليه لاكتشاف مدى قدرة هذا النبات على معالجة المرض، فهو بذلك يقوم بدور الصيدلي في عصرنا هذا، ولم يكن ابن البيطار يَصنع الدواء، ويكتشف العقار فحسب، بل كان يُعالِج المرضى؛ فهو بذلك يقوم بدور الطبيب في  عصرنا هذا، ونستطيع أنْ نَخلُص بهذا التحليل إلى كون ابن البيطار من علماء النبات، أو على وجه الدقة ممَّن كان يُطلق عليهم خلال هذه الفترة "العشَّابين"؛ فهم الذين يقومون على عِلم النبات.
 
ع- نبوغه في العلم الذي اختاره لنفسه (علم النبات):
حسنًا فعل ابن البيطار حين قرَّر أنْ يَرحل عقِب بلوغه سنِّ الشباب؛ ليُنمِّي عقلَه بالعِلم الذي اختار أنْ يَسلك طريقه؛ فقد "سافر ابن البيطار إلى مراكش والجزائر وتونس، وواصَل دراسة النباتات بها، ثم توجَّه إلى مصر حيث التحق بخدمة السلطان الأيوبي"الملك الكامل" الذي عيَّنه رئيسًا لعشَّابيه، وبعد ذلك عمِل في خدمة ابنه "الملك الصالح نَجم الدين" في مقرِّه بدمشق. وفي دمشق عكَف ابن البيطار على دراسة نباتات البيئة السورية، ومن دمشق توجَّه إلى آسيا الصغرى (القسم الأسيوي من تركيا في العصر الحالي)، وتابَع دراسة نباتاتِها، ثم انْتقَل إلى بلاد اليونان وإيطاليا دون أنْ يتوقَّف عن دراساتِه هذه وتسجيل ملاحظاته عن النباتات في بيئاِتها الطبيعيَّة"[9].
 
لا شكَّ أن هذه الأسفار والرحلات العلميَّة - على اختلاف بين المؤرِّخين بشأن بداية رحلاته ونهايتها - قد شكَّلت فِكْر ابن البيطار العلمي، واستطاعتْ أنْ تُشكِّل - مع ما حصَّل عليه من علم بالأندلس على يد رجالاتها - علمًا خاصًّا بابن البيطار؛ فقد درَس بالأندلس العلم النظري على أيدي أساتذته، وبات من الضروري أنْ يَنطلِق ليرى ما درَس رؤية عينيَّة تَصقِل هذا الدرس، وتُنضِجه وتَجعله يُبدِع ويَبتكِر الجديد والمفيد.
 
نستطيع أنْ نُقسِّم حياة ابن البيطار العلميَّة إلى مراحل ثلاث، أمَّا الأولى منها فقد كانت مرحلة التكوين، والتي كان يُعنى فيها بدرس علم الكيمياء والطب والنبات على أيدي أساتذته بالأندلس، وتأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة الدراسة العملية؛ حيث "سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم، ولقي جماعة يعاينون هذا الفنَّ، وأخَذ عنهم معرفة نبات كثير وعاينه في مواضعه، واجتمع أيضًا في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النبات وعاين منابتَه، وتحقَّق ماهيَّتَه، وأتقن درَّة كتاب (ديسقوريدس) إتقانًا بلَغ فيه مبلغًا لا يكاد يُوجد من يُجاريه فيما هو فيه، وذلك أنَّني وجدتُ عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات وفي نقْل ما ذكَره ديسقوريدس وجاليونس فيه ما يُتعجَّب منه.
 
ولقد شاهدتُ منه في ظاهر دمشق كثيرًا من النبات في مواضعه، وقرأتُ عليه أيضًا تفسيره لأسماء أدوية كتاب دريسقويدس، فكنتُ أجد من غَزارة علمِه ودرايته وفهْمه شيئًا كثيرًا جدًّا، وكنتُ أحضُر لديه عدة من الكُتُب المُؤلَّفة في الأدوية المُفرَدة، مِثلَ كتاب ديسقوريدس وجالينوس والغافقي، وأمثالها من  الكتب الجليلة في هذا الفن، فكان يَذكر أوَّلاً ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صحَّحه في بلاد الروم، ثم يَذكُر جملة ما قَاله ديسقوريدس من نعتِه وصفته وأفعاله، ويَذكُر أيضًا ما قاله جالينوس فيه من نعته ومزاجه وأفعاله وما يَتعلَّق بذلك، ويذكر أيضًا جُملاً من أقوال المُتأخِّرين، وما اختلَفوا فيه ومواضع الغَلَط والاشتباه الذي وقَع لبعضهم، فكنت أراجع تلك الكتب معه ولا أجده يُغادِر شيئًا مما فيها"[10].  وتأتي مرحلة أخرى، وهي مرحلة النبوغ؛ فقد انتقل التلميذ الذي أخذ يَنهل العلم نهلاً من أساتذته إلى مرحلة التجريب والتأمل والابتكار، ثم بات يُحدِّث بما عَاين وشاهَد؛ ليكون بذلك في طور الأستاذيَّة؛ حيث "يُعتبر ابن البيطار من أوائل الكيميائين الطبيين (Iatrochimistes) رُغم أنَّ اهتمامه اقْتصر على الأعشاب دون العناصر الكيميائية "[11].
 
وفي مرحلة النبوغ التي نحن بصدد الحديث عنها نرى أنَّ ابن البيطار قد اهتمَّ فيها بتدوين هذا العِلم الذي يَخزُنه عقله؛ فقد قام "بوصْف أكثر من ألف وأربعمائة عقار طبي، وقارنَها مع ما سجَّله أكثر من مائة وخمسين مُؤلَّفًا ممَّن سبقوه"[12].
 
ف- أخلاقه:
كان ابن البيطار يَتميَّز بصفات ربَّما أثَّرت بيئته في تكوينها؛ فجمال ورقَّة الأندلس، وطِيب هوائها، جعَله طيِّب العِشرة، رَضيَّ النفْس، فَطِنًا، ذكيًّا، سريع البديهة، ولعلَّ الله - عز وجل-  حباه بصفات العالم الذي لا يَبخلُ بعلم، ولا يَترفَّع عن التعلُّم ممن دونه في العِلم أو السنِّ.
 
ق- أساتذته:
ومن الجدير بالذكر أنَّ ابن البيطار قد استفاد من الإسهامات التي قدَّمها أساتذة سابقون عليه، وقد تأثَّر تأثيرًا كبيرًا بمؤلَّفاتهم وأعمالهم، ومن بين هؤلاء:
1- ديسقوريدس والذي كان له مُؤلَّفات هامة، من بينها كتاب (الحشائش) الذي قام ابن البيطار بترجمته ونقَل منه الكثير في كتابه (الجامع للأدوية المفردة)، وعندما قام ابن البيطار بترجمته لم يكتفِ فقط بترجمته ونقْل نصوصه، ولكنه امتاز بعُمق المعرفة والدِّقة في تناوله؛ حيث جمَع المصادر الهامَّةِ لمادة البحث، ولم يكتفِ بمصدر واحد فقط، بل رجَع إلى عِدَّة مصادر، وعقَد بعض المقارنات بين ديسقوريدس وجالينوس وعلماء العرب السابقين، وقد كان حريصًا على نقْل أسماء النباتات بدقَّة، وأضاف العديد من التعليقات على هوامش الكتاب (الحشائش) للزيادة في الإيضاح والتوصل إلى نتائج جديدة.
 
2- جالينوس حيث إنَّه من تَصفَّح مُؤلَّفات ابن البيطار، نَجد أنَّه قد استفاد أيضًا من جالينوس Galenos (31ق.م)، حيث تَأثَّر بمُؤلَّفاته الكثيرة، ومن بينها كتابه الذي يتضمَّن أنَّ الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفًا، وكذلك بكتابه (الاسطقسات) (العناصر)، وكتابه (التشريح الكبير)، وكتابه (حيلة البرء)، وقد كان جالينوس أوَّل الأطباء الذين أَجْروا اختبارات للوقوف على طريقة عمَل بعض الأعضاء مثل الكُلَى، وصلة الحبل الشوكي بحركات الجسم، والحساسية، وطريقة عمل التنفس والنبض، فأثبت علميًّا أن الشرايين تحتوي على دم، وتنقله على ما يذهب إليه الأب جورج قنواتي.
 
ومن أبرز إنجازات جالينوس - والتي تأثَّر بها ابن البيطار - اهتمامه بإجراء التَّجارِب وتحضير الأدوية، فقد كان جالينوس يُحضِّر الأدوية بنفسه، وقد وصَف 473 وصْفًا طبيًّا من مختلف المصادر نباتات وحيوانات ومعادن.
 
3- وإذا كان ابن البيطار قد استفاد من علماء اليونان، فإنَّه أيضًا قد تأثَّر بعلمائنا العرب الذين قد تأثَّروا بدورهم بالعلم اليوناني، ومن أبرز هؤلاء العلماء: أبو حنيفة الدينوري، الذي كان من علماء اللغة المعروفين، والذي وضَع كتابًا في النبات، ولم يصنف مثله في اللغة العربية؛ إذ يُعدُّ أول كتاب عربي ألِّف في النبات، وإن كان العرب قبله قد تكلَّموا في النبات، بدليل أنَّه نقَل هو نفسه من كثير من العلماء الذين سبَقوه في هذا الميدان، إلا أنَّهم لم يضعوا كتابًا معروفًا مُتكامِلاً في ذلك.
 
وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الذي كان نباتيًّا لُغويًّا، بينما كان ابن البيطار عشَّابًا وطبيبًا نباتيًّا، تَحدَّث عن النبات وأوصافه، أَصلِه وساقه وورقه وزهره وثمره؛ حتى لا يَخلِط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يقف على ذلك بذكره ما يُستخلَص منه من عقار مُفيد في العلاج، وكيف يُؤخذ كدواء، ومتى يُؤخذ، وكيف يُعدُّ، وكيف يتم تَعاطيه ومقدار الجرعة؟
 
4- كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف ابن سينا الذي اسْتقصَى نسبة كبيرة من النباتات، والتي كانت معروفة في عصْره، فأوردَ في كتابه (القانون) طائفة كبيرة من النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والعطرية والطحلبيَّة، وبين الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد، وذَكَر المُتشابِه وغير المتشابه، وعُني بذكر مواطن النبات والتربة التي يَنمو فيها إنْ كانت مَلِحة أو غير مَلِحة.
 
ولكن نجد تَميُّزَ ابن البيطار عن ابن سينا في كثير من المواضع؛ فبينما نَجد ابن سينا يَهتمُّ بدراسة النبات، ويَتناوله تَناولاً عامًّا من حيث أوصافه الدقيقة، التي تُميِّزه عن غيره، وذكَر منابته، نجد ابن البيطار يُركِّز على الخصائص الطبيَّة وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ويوجِّه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبيَّة، ويُقارِن الباحث الجنبلاطي، بين مقدرة ابن سينا وابن البيطار بقوله: "وليس معنى ذلك أنْ نَتَّهم ابن سينا بالقصور في أبحاثه الخاصة في علم النبات، أو أنَّه يُفضِّل الخصائص الطبيَّة، بل كان يُعطيها من الأهمية مِثلَ ما يُعطي وصْفًا للنبات، ومن هنا تتَّضح دقَّةُ ابن سينا، وإنْ لم يكن صيدليًّا كما كان ابن البيطار، فابن سينا كان اهتمامه في مجال التأليف الطبي المُتَّسِِق الذي يَتناول الطبَّ والصيدلة معًا، بينما كان ابن البيطار يَهمُّه مجال الصيدلة وحدَه.
 
5- كما تَأثَّر ابن البيطار بالشريف الإدريسي الذي يُعدُّ عالِمًا جغرافيًّا وعالمًا نباتيًّا، خاصة بكتابه "الجامع لصفات أشتات النبات"، والذي أَتى فيه بأفكار جديدة ومُبتكَرة، فقد حرَص على أنْ يَتجنَّب ما جاء في الكتب السابقة من خلْط وتشويه وتقصير، وأنه اتَّخذ مَسلكًا فريدًا يَهدِف إلى التعريف بأسماء النباتات بُلغاتها المختلفة من يونانية وفارسيَّة، وهنديَّة وبربرية، ولاتينية - ممَّا يُذكِّرنا بإنجاز البيروني في كتابه "الصيدلة في الطب" - وترتيبها على حروف المعجم، وهذا أيضًا ما فعَلَه ابن البيطار؛ حيث سار على نَهْج الإدريسي، ناقدًا المُتقدِّمين على تقصيرهم في هذا الشأن.
 
6- كما تأثَّر ابن البيطار بالغافِقي النباتِّي المشهور الذي يُعدُّ من أعظم الصيدليين العرب أصالة، حيث أخَذ منه أجزاء غير قليلة من كتابه في الأدوية المُفرَدة.
 
7- كما لا يُمكِن إغفال تأثُّر ابن البيطار بكثير من العلماء العرب والصيادلة والعشَّابين، والذين تَظهر أسماؤهم في مُؤلَّفاته؛ مِثلَ الزهاوي، وابن جزلة، وأبو بكر الرازي، وابن سمحون، وثابت بن قرة، وماسرجويه، وابن العوام، الذين كَتَبوا تُراثًا ضخمًا، تَمكَّن ابن البيطار من الاستفادة منه وتوظيفه في تأسيس عِلم الصيدلة وتأصيله عند العرب والمسلمين[13].
 
ليس من العيب أنْ أتأثَّر بالغير أيًّا كان جنسه ودينه؛ فقد شرَع لنا الإسلام أنْ نأخذ عن الغير ما يَعود بالنفع لنا، وهذا ما قام به ابن البيطار؛ فقد أخذ عن علماء اليونان والإغريق كما أخذ عن علماء العرب والمسلمين، واسْتهدَى بمقالاتِهم، واسْترشَد بمؤلَّفاتِهم؛ ليُقدِّم لنا في النهاية عِلمًا نافعًا، ظلَّ باقيًا أبد الآبدين، وآثارًا خالدة قامت بفضلها أمجاد أمم في هذا العِلم.

....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75848
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ابن البيطار Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابن البيطار   ابن البيطار Emptyالأحد 15 سبتمبر 2019, 11:20 pm

.... تابع

ابن البيطار




 
2- إسهامات ابن البيطار العلمية:
أَسهم ابن البيطار في تقدُّم عِلم النبات؛ "فقد نَما وتَرعرع عِلم النبات على يدي ابن البيطار؛ إذ أولاه الاهتمام الجادَّ؛ لأنه يَحتاج إليه في الطبِّ والصيدلة والفلاحة"[14].
 
وحريٌّ بنا أنْ نَتعرَّض الآن لهذه الإسهامات التي أدَّاها ابن البيطار خلال أربعين عامًا، منَحَ خلالها جلَّ وقته للنهوض بعلمٍ أَخذ على عاتِقه أنْ يُساهِم في ازدهاره، وهذه الإسهامات هي:
1- "يُعدُّ ابن البيطار رائدًا للعلاج الضوئي الكيماوي؛ فقد استخدم بذور نبات الخلة في علاج البهاقvitiligo، وكانت إحدى قبائل الأمازيغ (البربر) في المغرب العربي تَستخدِم هذا العلاج الفريد، وتُطلِق عليه باللغة الأمازيغية اسم "استرلال"، وكان ابن البيطار يَخلط بذور الخلة مع عسل النحل، ويُقدِّمها للمريض، ثم يَجعله يتعرَّض للشمس ساعة أو ساعتين حتى يتصبَّب عرقًا، وكان يُتابِع حالةَ مرضاه بدقَّة حتى إنَّه ذكَر أنَّ البقع المُصابة تتأثَّر، وتَظهر بِها فقاعات، بينما الجلد السليم لا يتأثَّر، ثم تَكتِسب اللون الطبيعي بالتدريج، وفيما يتعلَّق بهذا المرض كان ابن البيطار أوَّل من ذكَر أنَّ الجلد المُصاب يَصعبُ علاجه فوق النتوءات العظمية" [15].
 
2- "جَمَع أبو محمد بن البيطار المَالقي (1190 -  1248) كلَّ ما عرَفه المسلمون في عِلم النبات في موسوعة عظيمة غزيرة المادة ظلَّت هي المرجع المُعترَف به في هذا العِلم حتى القرن السادس عشر، ورفعته إلى مقام أعظم علماء النبات والصيادلة في العصور الوسطى"[16].
 
3- "اكتشف ابن البيطار عقاقير لم تكن معروفة من قبل"[17].
 
4- "كان لابن البيطار الدور العظيم في الانتقال بالزراعة والنبات إلى مرحلة جديدة، وكان لمؤلَّفاته الأثر البعيد المدى فيمن جاؤوا بعده من علماء زراعيِّين ونباتيِّين، كما كان لبحوثه تأثيرًا في عصر النهضة الأوربية الحديثة"[18].
 
5- "ومِن المؤكَّد أنَّ تَأثير ابن البيطار وأمثاله من التجريبيِّين المسلمين المُشتغِلين بالنباتات والأعشاب والكيمياء الدوائية، والمُؤلِّفين لكُتُب في عِلم الصيدلة والعقاقير الطبية - قد وصَل أثرُه العميق إلى أوروبا في عصْر النهضة، ممَّا دعا المُستشرِقة (زيغريد هونكه) إلى القول بأنَّ (اثنان أخذَا عِلمَي الأدوية والكيمياء العربية كعلوم مُنبثِقة عن التَّجرِبة والمراقبة وفي خدمة الحياة المُتطوِّرة، وحاوَلا إنقاذ مَيزاتِها التجريبية، وهما روجر بيكون وأرنولد الفيللانوفي، فقد رأَيَا في التجرِبة التي أخَذَاها عن العرب السبيل الحقيقي للوصول إلى نتائج حاسمة في العلوم الطبيعية، وخاصة في الكيمياء، وعاصَرَا التأثير العربي في ميدان عِلم العقاقير في أوروبا فترة النهضة وتَعدَّاها حتى وصَل إلى القرن التاسع عشر، حيث تُرجِمت أجزاء من كتاب (الجامع) لابن البيطار، واسْتعمِلت مصادر عربيَّة في تصنيف الأقراباذين الأوروبي)، حتى تقول المُستشرِقة (هونكه): "كل صيدلية ومستودع أدوية في أيامنا هذه، إنَّما هي في حقيقة الأمر نُصُب تذكاري للعبقرية العربية"[19].
 
3- آثار ابن البيطار:
يُواري التراب كلَّ الأجساد لا يُفرِّق بين الغثِّ والثمين، والضار والنافع، والإنسان والحيوان، والذكر والأنثى، والعالِم والجاهل؛ بيد أنَّ الجسد يَزول ويَندثِر، ولكنَّ الروح تَبقى خالدة باقية إذا ما كان هذا الميت عالِمًا كابن البيطار؛ فقد مات جسدًا، وبقيت أعماله تُخلِّد اسمه، وتَجعله يقف في صفِّ الخالدين عبْر التاريخ، وسوف نتعرَّض لأعمال ابن البيطار خلال الأسطر التالية:
1- "المغني في الأدوية المُفرَدة"، وهو مُرتَّب وَفْق العلاج والمرض، ويَقع في عشرين فصلاً.
 
2- "جامع مفردات الأدوية والأغذية، أو الجامع في الطبِّ"، وقد قال عنه صاحب ما لايَسع الطبيب جهْله، وكُنت وقَفت على كثير من الكتب في الفنِّ، فلم أجد أجمع منه، ولا أنفع لكن وجدتُ فيه من التطويل والتَّكَرار والتقصير والاشتباه ما لا يُحصى مع خُلو أكثرِه عن بيان ما تَشتدُّ الحاجة إليه، ثم إنَّه اشترط شروطًا في تبيين اسم الدواء لم يَنهض بأكثرِها، والتزم نقْل كلام المشايخ بذاته، ونحو ذلك من التقصير، لكنَّه له فضيلة النقل والجمع، واستدرك على العشابين أحوالاً كثيرة اشتبهت عليهم أداه إليها حسن اجتهاده، فاستخرتِ الله – تعالى- ونُفيت عنه قشرتُه، وأُظهرت منه لبته"[20].
 
3- "ميزان الطبيب".
 
4- الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخَلل والأوهام، وهو تعليقًا على منهاج البيان فيما يَستعمِله الإنسان من الأدوية المفردة والمركَّبة.
 
5- "الأفعال الغريبة والخواص العجيبة".
 
6- "شرح أدوية ديسقوريدس": عبارة عن قاموس بالعربيَّة والسريانيَّة واليونانيَّة والبربري وشرح للأدوية النباتية والحيوانية.
 
7- "رسالة في تَداوي السموم".
 
8- "رسالة في الأغذية والأدوية".
 
9- "مَقالة في الليمون وشرابِه ومنافعه".
 
10- "كتاب الصناعتين" و هو كتاب قيِّم في علم الطب البيطري.
 
11- "الدرة البهية في منافع الأبدان الإنسانية"، وهو مختصر "للجامع للمفردات"[21].
 
حُقَّ  لنا أن نَفخَر بانتمائنا إلى حضارة كان ابن البيطار أحد أبنائها، ولكن علينا أنْ نقوم بأداء واجبنا تُجاه هذا الرجل العالِم؛ ويَكمُن هذا في العمل على نشْر علْمه والانتفاع به، وليس هذا بطباعة مُؤلَّفاته فحسْب، وإنَّما بالاستفادة منها، فكم من كُتُب ومُؤلَّفات تَعجُّ بها المكتبات، وتَمتلأ بها المخازن، ولا تَستفيد بها العقول أو تتأمَّلها العيون.
 
نأمل أن نكون قد وُفِّقنا في عرْض لَمحة من حياة عالِم يَنتمي للحضارة الإسلامية التي ظلَّت تُمسِك بالريادة قرون عديدة، وإنَّا لنأمُل أنْ تُردَّ إلينا ريادتنا العلمية على أيدي شباب مِثل ابن البيطار، لهم عزيمتُه وحبُّه للعلم وشغفُه بالتجرِبة؛ حتى لا نَظلَّ مزرعة تُزرع فيها شتلات العلماء وحين تُثمِر أشجارها يأتي الغريب ليأخَذَها، ونَظلَّ ننظر إليه بعين الحسرة والندامة!
 
مراجع البحث:
1- أبي فاضل، يوسف، "موسوعة علماء الكيمياء"، إعداد يوسف أبي فاضل، - ط 1- بيروت، مؤسَّسة مصري للتوزيع، 1988.
2- الخطيب، محمد، موسوعة علماء الكيمياء، إعداد محمد الخطيب، - ط 1- عُمان، دار أسامة، 2001.
3- الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، "تاريخ الإسلام ووفيَات المشاهير والأعلام"  شمس الدين محمد بن أحمد بن عُثمان الذهبي، تَحقيق عمر عبد السلام تَدمري- ط 1- بيروت، دار الكتاب العربي، 1998، مج 47 (حوادث ووفيات 641 - 650هـ).
4- الصَّفدِي، صلاح الدين خليل بن أيبك "كتاب الوافي بالوفيات"، تأليف  صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي؛ تحقيق واعتناء أحمد الأرناؤوط، تُركي مصطفى، - ط1،- بيروت،دار إحياء التراث العربي،2000، - ج 17.
5- بَدران، إبراهيم، موسوعة العلماء والمُخترِعين، إعداد إبراهيم بدران، محمد أسعد فارس،- ط1، – بيروت، المؤسَّسة العربيَّة للدراساتِ والنَّشر، 1978.
6- بركات محمد مراد، "ابن البيطار عالم الصيدلة وشيخ العشَّابين في الأندلس" (593 - 646هـ، 1196 - 1248م،- مجلة الإعجاز العلمي، - ع 7.
7- بروكلمان، كارل "تاريخ الأدب العربي" ألَّفه كارل بِروكَلمان؛ الإشراف على الترجمة العربية محمود فهمي حجازي، – القاهرة، الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 1995، القسم الخامس (9).
8- جودة، محمد غريب "عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب"،  محمد غريب جودة – ط 1 – القاهرة، مكتبة القرآن، 1989م.
9- جورج قَنواتي، "تاريخ الصيدلة" ص(58) دار المعارف مصر عام 1959م.
10- خليفة، حاجي، "كشْف الظنون عن أَسَامي الكتب والفنون"، مصطفى بن عبدالله الشهير بحاجي خليفة؛ تصحيح ومراجعة وتعليق وحواشي محمد شرف الدين يالتقايا، رفعت بيلكه الكليسي.
11- بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د.ت)، مج(2).
12- دولت عبدالرحيم إبراهيم، الاتِّجاه العلمي عند ابن البيطار ومصادره، "الكتاب التذكاري" عن الدكتور توفيق الطويل، المجلس الأعلى للثقافة مصر1995.
13- ديورانت، ول، "قصة الحضارة"، ول ديورانت، تَرجمة محمد بدران،- القاهرة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، 2001،- (مكتبةالأسرة)،- مج (7).
14- رفعت، محمد "معالم تاريخ العصور الوسطى"، تأليف محمد رفعت، محمد أحمد حسونة، القاهرة، مكتبة الهلال، 1926.
15- عبدالحليم منتصر، أثَر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية - بيروت، عام 1987م.
16- عُرابي، سمير، "علوم الأدوية والصيدلة عند علماء العرب والمسلمين" تأليف سمير عرابي - ط 1 - القاهرة، دار الكتاب الحديث، 1999- "علماء العرب والمسلمين2".
17- علي الجمبلاطي"ابن البيطار الأندلسي أعظم صيادلة الإسلام".
18- عنان، محمد عبدالله، "دولة الإسلام في الأندلس" محمد عبدالله عنان - طبعة خاصة من مكتبة الخانجي لمكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، مكتبة الأسرة الأعمال الفكريَّة، ج (6) "عصر الموحدين وانهيار الأندلس"، ج (7) "نهاية الأندلس، وتاريخ العرب المُتنصِّرين".
19- كحالة، عمر رضا، "مُعجم المُؤلِّفين"، تراجم مصنفي الكتب العربية،تأليف عمر رضا كحالة- ط 1- بيروت، مؤسَّسة الرسالة، 1993.
20- مُؤنِس، حسين، "مَعالِم تاريخ المغرب والأندلس"، تأليف حسين مؤنس - طبعة خاصة، تُصدِرها دار الرشاد ضَمْن مشروع مكتبة الأسرة - القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004، مكتبة الأسرة. الأعمال الفكرية.



[1] - محمد عبدالله عنان، "دولة الإسلام في الأندلس"، طبعة خاصة من مكتبة الخانجي لمكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003 - ج (6) "عصر الموحِّدين وانهيار الأندلس"، مكتبة الأسرة، الأعمال الفكرية، ص (711 - 712).
[2] - محمد رفعت، "معالم تاريخ العصور الوسطى" تأليف محمد رفعت، أحمد حسونة – ط (9)، القاهرة، مكتبة الهلال، 1930م، ص (178).
[3] - انظر الذهبي "تاريخ الإسلام ووفَيات المشاهير والأعلام" شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛ تحقيق عمر عبد السلام تَدمري، ط (1)  بيروت، دار الكتاب العربي، 1998، مج (47)، ص (311)، وانظر أيضاً الصَّفدِي، ""كتاب الوافَي بالوفيات / تأليف صلاح الدين خليل بن أَيبك الصفدي، ط(1) بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2000، مج (17)، ص (30).
[4] -  محمد عبدالله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، طبعة خاصة من مكتبة الخانجي لمكتبة الأسرة، االقاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003، ج 7، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، (مكتبة الأسرة.. الأعمال الفكرية )، ص 459.
[5] - الخطيب، محمد، موسوعة علماء الكيمياء / إعداد محمد الخطيب، ط 1، عمان، دار أسامة، 2001، ص 9.
[6] - مؤنس، حسين، معالم تاريخ المغرب والأندلس، طبعة خاصة تصدرها دار الرشاد ضمن مشروع مكتبة الأسرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004، (مكتبة الأسرة.. الأعمال الفكرية)،  ص 438 – 439.
[7] -  كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، تراجم مصنفي الكتب العربية/ تأليف عمر رضا كحالة، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1993، مج 2، ص 222.
[8] - بركات محمد مراد، ابن البيطار عالم الصيدلة وشيخ العشابين في الأندلس (593 - 646هـ/ 1196 - 1248م) http://www.nooran.org/O/17/17-10.htm
[9] -  جودة، محمد غريب، عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب/ محمد غريب جودة، ط 1، القاهرة، مكتبة القرآن، 1989، ص227.
[11] -  أبي فاضل، يوسف، موسوعة علماء الكيمياء/ إعداد يوسف أبي فاضل، ط 1، بيروت، مؤسسة مصري للتوزيع، 1988. ص 11.
[12] بدران، إبراهيم، موسوعة العلماء والمخترعين/ إعداد إبراهيم بدران، محمد أسعد فارس، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978، ص 17.
[13] انظر جورج قنواتي: تاريخ الصيدلة ص58 دار المعارف مصر عام 1959م، وانظر أيضًا دولت عبدالرحيم إبراهيم: الاتجاه العلمي عند ابن البيطار ومصادره ص342، 343 الكتاب التذكاري عن الدكتور توفيق الطويل، المجلس الأعلى للثقافة مصر عام 1995. وانظر أيضاً علي الجمبلاطي: ابن البيطار الأندلسي أعظم صيادلة الإسلام ص192، 200 وانظر أيضًا عبدالحليم منتصر: أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية ص197 بيروت، عام 1987م.
[14] - عرابي، سمير، علوم الأدوية والصيدلة عند علماء العرب والمسلمين/ تأليف سمير عرابي، ط 1، القاهرة، دار الكتاب الحديث، 1999، (علماء العرب والمسلمين 2).ص 54.
[15] - جودة، محمد غريب، عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب/ محمد غريب جودة، ط 1، القاهرة، مكتبة القرآن، [1989] ص 229.
[16] - ديورانت، ول. قصة الحضارة/ ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001، (مكتبةالأسرة)، مج 7.ص 359
[17] -  الخطيب، محمد، موسوعة علماء الكيمياء/ إعداد محمد الخطيب.- ط 1.- عمان : دار أسامة، 2001. ص 9.
[18] - الخطيب، محمد. موسوعة علماء الكيمياء / إعداد محمد الخطيب.- ط 1.- عمان : دار أسامة، 2001. ص11.
[19] - بركات محمد مراد. ابن البيطار عالم الصيدلة وشيخ العشابين في الأندلس (593 - 646هـ/ 1196 - 1248م.- مجلة الإعجاز العلمي. – ع 7.
[20] - خليفة،حاجي. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة؛تصحيح ومراجعة وتعليق وحواشي محمد شرف الدين يالتقايا،رفعت بيلكه الكليسي. – بيروت : دار إحياء التراث العربي، [د.ت]. مج 2.
[21] - خليفة،حاجي. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة؛تصحيح ومراجعة وتعليق وحواشي محمد شرف الدين يالتقايا،رفعت بيلكه الكليسي. – بيروت : دار إحياء التراث العربي، [د.ت]. مج 2.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
ابن البيطار
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: كتب وروابات مشاهير شخصيات صنعت لها .... :: شخصيات :: شخصيات تاريخيه-
انتقل الى: