ثورة البتكوين: تقدير وتقييم الأوصاف المؤثرة في الحكم الشرعي-1
د. عبد الباري مشعلد. عبد الباري مشعل
1- أرى في البتكوين (Bitcoin) دون غيرها من العملات الرقمية المشفرة حدثًا عالميًا كبيرًا، وهو ما يفسر اهتمام البنوك المركزية والمؤسسات الدولية بها. لقد أثبتت البتكوين مقاومتها لكل التحديات خلال عشر سنوات من انطلاقتها، وطبقًا لمخترع البتكوين ساتوشي "البتكوين وجدت لتبقى. البتكوين" ووفقًا للعديد من القراءات المعمقة هي عملة البشرية في المرحلة القادمة.
2- في حوار حول البتكوين، وبغرض توصيف موقف الفريق الرافض للبتكوين والمتمثل في أغلبية البنوك المركزية؛ استدعيت مثال تصرف شركات الاتصالات تجاه برامج الاتصال المجانية، حيث لم تنفع مقاومتها لهذه الوسائل وباءت محاولاتها العديدة بالفشل، واضطرت للاستسلام؛ بل وتحولت إلى تقديم خدمات الإنترنت الداعمة لتلك الوسائل. ولذا فإن معارضة الحكومات والبنوك المركزية للبتكوين، لن يؤثر على المزايا الرئيسة لعملة البتكوين والتي وجدت من أجلها وهي عدم وجود جهة مركزية أو خاصة تتحكم فيها، وهو ما سيؤدي بالبشرية إلى الحفاظ عليها واستمراريتها.
3- وعلى الصعيد الشرعي بات معروفًا أن أغلبية الآراء تميل إلى تحريم البتكوين، وقلة من الآراء تتجه إلى الإجازة الشرعية، غير أن نظرة فاحصة إلى مجمل الأوصاف التي استند إليها الذين يحرمون البتكوين، تؤكد أن أغلبية الآراء المانعة تتسم بالتقليد والمتابعة دون اجتهاد مستقل مبني على فحص عميق لهذه الأوصاف وسبر أغوارها. وقد لاحظت هذا في عدد كبير من الأبحاث المشاركة في الندوات والمؤتمرات المتخصصة في هذا الموضوع باللغة العربية.
4- وبصفة عامة يمكن إجمال الأوصاف فيما يأتي: اللامركزية، عدم الوسيط، الغفلية أو التعامل بالأسماء المستعارة، كثرة التقلبات السعرية، كثرة عمليات المضاربة بالبتكوين، كثرة العمليات غير المشروعة بالبتكوين. ونظرًا للمغالطات التي تروجها الأبحاث العديدة المنشورة في اللغة العربية سأناقش هذه الأوصاف بشكل علمي موضوعي يضع الأمور في نصابها، ويساعد من يسعى للاجتهاد فقهًا في المسألة إلى الوصول إلى الصواب في المسألة بإذن الله تعالى.
5- ومن الملائم التنبيه في هذا السياق بأننا لا نقصد في هذه المناقشات تشجيع الناس على الاستثمار في البتكوين Bitcoin، أو تعميم القول والحكم الشرعي على كل العملات الرقمية المشفرة الأخرى، والتي تتطلب إبداء الرأي في كل حالة لوحدها، وضرورة التنبه إلى كثرة عمليات الخداع والتغرير فضلاً عن تداخل عمليات العملات المشفرة مع عمليات التسويق الشبكي التي اشتهر تحريمها في حالات أخرى. وسأبدأ بمناقشة وصف اللامركزية.
6- يقصد باللاَّمركزية إغفال أو عدم معرفة المُصدٍر لعملة البتكوين سواءٌ أكان جهة حكومية أم جهة خاصة، بالمقارنة بالنقود الحكومية الحالية التي يتم إصدارها من البنوك المركزية. وأطلق المحرِّمون على إغفال المصدر شخصيته الحقيقية عمدًا بالجهالة والغرر، وهذا سوف يؤثر على الثقة بالعملة ومن ثم القبول العام لها، وما ذهب إليه القوم غير مُسلَّم، باعتبارين؛
7- الاعتبار الأول: الجهالة والغرر تكون في محل العقد، والعبرة هنا في واقع الأمر، والواقع أن البتكوين موجودة ومُتموَّلة ويُتعامَل بها، وتُتداول في مقابل العملات الأخرى، وتُستعمل في الشراء؛ فلا جهالة في محل العقد بهذا الاعتبار.
8- الاعتبار الثاني: أن الجهة المركزية أو من تفوضه بالإصدار تمنح الثقة في النقود الحكومية الحالية رغم أنها عديمة القيمة في ذاتها، وهي مجرد ورقة أو أرقام إلكترونية في العديد من صورها الحالية والتي تعزيزها في الكثير من التطبيقات الرقمية، والبتكوين في الحقيقة تخطت حاجز الثقة المقصود بنجاح كبير، وذلك عند تبادل أول بتكوين بالدولار، وكذلك عند شراء أول سلعة (بيتزا) بالبتكوين، ثم حازت على القبول في آلاف المحلات التجارية حول العالم. البتكوين عوضت الثقة التي تمنحها الجهات المركزية من خلال البرتوكول أو القانون الخاص العام (بتكوين-بلوكتشين) الذي يحكم تعاملاتها والذي لا يملكه أحد بعينه، ويراقب نفسه بنفسه، ويحمي نفسه بنفسه، وقد أعلن ساتوشي عن اختفائه من الصورة بعد تعدين أول بتكوين، وأنه لم يعد حاجة لوجوده، وترك العملة في ملك البشرية.
9- ختامًا.. إن وجود الجهة المركزية في العملات الحكومية لم يكن شيئًا إيجابيًا دائمًا بل كان في الكثير من الحالات سلبيًا من حيث تدخل هذه الجهة في ضخ النقود الحكومية وطباعة نقود تضخمية، مما أدى إلى فقدان العديد من العملات الوطنية كفاءتها كمخزن للقيمة مقارنة بالذهب وحماية المستثمرين الأجانب، بسبب تعرض تلك العملات الحكومية للانخفاض المستمر في القيمة. البتكوين جاءت لتحييد تأثير الحكومات على العملة التي يجب تكون عملة واحدة لكل البشرية كما كان الذهب، ومن هنا يمكننا استيعاب أن البتكوين جاءت لمنافسة الدولار فقط، لأن الدولار هو العملة الحالية للبشرية. ويطلق بعض الباحثين على البتكوين بأنه الذهب المستقبلي. وتتميز البتكوين بأن عرضها ليس خاضعًا للتحكم من جهة حكومية أو دولية، وإنما يخضع لحجم التعاملات بها حول العالم.