الرأسمالية المعاصرة: خمس أزمات وحفار قبر واحد
على سبيل المفارقة، التي لا تخلو من وعيد ساخر أيضاً، يذكّر الكاتب الأمريكي أشلي سميث بأنّ «العهد الجديد» حسب رؤيا يوحنا، يشير إلى أربعة فرسان من المبشرين بالقيامة: الوباء، والحرب، والمجاعة، والموت؛ لكننا اليوم أمام خمس أزمات كونية كبرى، يتابع الرجل، هي بأكملها من صنع النظام السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والتكنولوجي والثقافي… الذي يُختصر في تسمية واحدة: الرأسمالية المعاصرة. صاحب هذا الرأي أحد أنشط الكتّاب الاشتراكيين في الولايات المتحدة، وهؤلاء كما هو معروف كانوا فئة نادرة، أو لاح أنها سائرة إلى ندرة أشدّ وأوسع نطاقاً، خاصة بعد تفكك «المعسكر الاشتراكي» وشيوع نظريات نهاية التاريخ وانتصار اقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد. لكنّ المنتظَر لم يتحقق على أرض الواقع، بسبب اندحار تلك النظريات وعودة التاريخ من الأبواب الأوسع للأزمات القديمة والأخرى المستجدة، فكسب أولئك النادرون أكثر من جولة، وعاد بعضهم إلى الصدارة، وظفرت تشخيصاتهم المضادّة بقبول وانتشار؛ حتى في الأوساط الفكرية والاقتصادية الأشدّ تشبثاً بأطروحات الرأسمالية والإمبريالية والعولمة.
وفي موقع المجلة الإلكترونية الأمريكية Tempest نشر سميث مقالة مطولة بعنوان «خمس أزمات للرأسمالية: التحديات التي تواجه اليسار اليوم» لم يهدف فيها إلى تبيان ما يعانيه النظام الرأسمالي العالمي اليوم من أزمات جلية، لأنها ببساطة تمسّ مصائر مليارات البشر، فحسب؛ بل يسعى، كذلك، إلى حثّ حركات المقاومة على البحث عن برامج مضادة وصياغة بدائل عملية. الأزمات الخمس لا مجاهيل فيها عملياً، لأنها بالفعل على صلة مباشرة ومأساوية بالحياة اليومية للمعمورة بأسرها: الركود الاقتصادي، المنافسة الإمبريالية، كارثة المناخ، الهجرة الشاملة وأنظمة الحدود، ثمّ حقبة الأوبئة في ظلّ الرأسمالية المعولمة.
وهذه أزمات متجذرة في جوهر النظام الرأسمالي، حسب سميث دائماً، وهي تواصل تشكيل ديناميات إيديولوجية واقتصادية واجتماعية على امتداد العالم؛ ولا تتوقف عند عواقب مباشرة أو آنية فقط، بل هي تخرّب مقداراً غير قليل من الركائز الليبرالية للنظام الرأسمالي ذاته، فتنسف شرعية الأحزاب السياسية التقليدية والمهيمنة لتفسح المجال أمام ولادة أحزاب التشدد على اليمين واليسار معاً، وتُطلق موجات احتجاج شعبية هائلة وغير مسبوقة، كما تعيد إحياء أنظمة الاستقطاب التي لاح أنها اندثرت مع الحرب الباردة وثنائية القطبين الرأسمالي والاشتراكي؛ فلا يتخذ الاستقطاب سمات عقائدية وسياسية واقتصادية فقط، وإنما يتجاوزها إلى أقطاب تكنولوجية ومعلوماتية على غرار الصراع بين ميكروسوفت الأمريكية وهواوي الصينية…
وإلى جانب جائحة كوفيد ـ 19، التي تعصف موجتها الخامسة بالمجتمعات المتقدمة في الغرب، رغم نجاح معظم الدول الرأسمالية في احتكار اللقاح وتطعيم أكثر من 70٪ من السكان؛ لا يكاد يمرّ أسبوع من دون اندلاع أزمة هنا أو هناك، تعكس واحدة أو أكثر من أنساق التأزّم الخمسة التي شخّصها سميث في مقالته. إذا لم تتوتر واشنطن مع بكين حول تايوان أو هونغ كونغ، فإنها تدخل في توتر مع موسكو حول عبور غواصة او تفجير قمر صناعي؛ وإذا لم تتأزم العلاقات بين باريس وكل من واشنطن ولندن وكانبيرا حول عقد الغواصات الفرنسية، فإنّ بولندا تقف على شفير مواجهة حدودية مع بيلاروسيا (وروسيا من خلفها) حول موجات المهاجرين… وفي غمرة هذه البذور التأزيمية، وسواها كثير بالطبع، ثمة استعصاءات شتى متنوعة المضامين بالطبع، لكنها تتلاقى بصفة إجمالية وتكاملية مع هذا أو ذاك من المآزق العضوية التي تصيب النظام الرأسمالي العالمي الراهن.
أزمات متجذرة في جوهر النظام الرأسمالي تواصل تشكيل ديناميات إيديولوجية واقتصادية واجتماعية على امتداد العالم؛ ولا تتوقف عند عواقب مباشرة أو آنية فقط، بل هي تخرّب مقداراً غير قليل من الركائز الليبرالية للنظام الرأسمالي ذاته
وذات زمن غير بعيد، في عمر رأسمالية «ما بعد انتهاء التاريخ» على الأقلّ، قضى أكثر من 15 ألف فرنسية وفرنسي جرّاء موجة طقس حارّ لم تدم أكثر من أسبوع، ولم تكن الطبيعة مسؤولة وحدها عن إزهاق كلّ هذه الأعداد الهائلة من الضحايا، إذْ تحملت الدولة الرأسمالية المعاصرة مسؤولية مباشرة، لأنها تزعم الحرص على الإنسان/ المواطن أوّلاً، ولأنها تمتلك من أسباب التكنولوجيا ما يكفي لقهر ــ أو في الحدّ الأدني السيطرة على ـ سورات غضب الطبيعة ثانياً. وكان مصرع هذه الأعداد بسبب أيّام معدودات من المناخ الحارّ أشبه بهزّة 11 أيلول/ سبتمبر أخرى، مع فارق أنّ الضحايا الفرنسيين لم يسقطوا على يد الإرهابيين من انتحاريي الطائرات الخارقة للأبراج، وإنما سقطوا ضحية مزيج من تعبيرات الطبيعة العشوائية وإهمال الدولة التي لا يتوجّب أن تكون عشوائية. ومن المدهش أنّ كبش الفداء الوحيد الذي قدّمته الحكومة الفرنسية، يومذاك، كان مدير الصحة العامة في فرنسا، الذي قدّر أنّه يتحمّل بعض المسؤولية المباشرة عمّا حدث. لا وزير الصحة استقال، ولا رئيس الوزراء اكترث بقطع إجازته في الريف الفرنسي، ولا الرئيس جاك شيراك توقف عن زيارة المتاحف والمعالم السياحية حيث كان يقضي عطلته السعيدة في كندا.
وقبل مؤتمر غلاسكو الأخير، الذي انتهى بدموع ذرفها رئيسه على هزال مقررات المحفل وتوصياته، كانت جلسات مؤتمر المناخ والبيئة الذي عقدته الأمم المتحدة في كيوتو باليابان، أواخر 1997، قد دشنت نهج القصور والتقصير فتجردت على الفور من طابعها الكوني العالمي وتركت جانباً هواجس وهموم العالم الأكبر والأفقر والأعرض غير المصنّع؛ وانقلبت إلى تمرين مستعاد مكرر لما كان قد جرى قبل بضعة أشهر في قمّة دنفر للدول السبع المصنعة + روسيا. آنذاك مارست الولايات المتحدة ما يكفي من الخيلاء على حليفاتها الأوروبيات والآسيويات، وطرحت النموذج الأمريكي في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، بوصفه النموذج الكوني الأصلح والأنصع والأكثر شباباً. وبعد يوم واحد فقط، في أروقة الأمم المتحدة ومن منابر مؤتمر الأرض الثاني، مارست الولايات المتحدة الخيلاء ذاتها، مترجمة هذه المرّة إلى ما يشبه السادية البيئية.
الأرقام، من جانبها، كانت تقول إنّ الأمريكي يسمّم البيئة ثلاث مرات أكثر من أيّ أوروبي، وثلاثين مرّة أكثر من المكسيكي، وخمسين مرّة أكثر من أيّ مواطن من مواطني العالم الثالث. والأرقام ذاتها كانت تقول إنّ إسهام الولايات المتحدة في التنمية البيئية الكونية لا يتجاوز 0.1 من الناتج القومي الإجمالي، على العكس من تعهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بأنّ الولايات المتحدة ستلتزم بمعدل 0.7، والذي اعتُبر سقف الحدّ الأدنى في مؤتمر ريو 1992. والإنسانية سوف تنتظر من البيت الأبيض ما هو أسوأ في الواقع، ففي صيف 2017 أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، لأنه يرفض أي شيء يمكن أن يقف في طريق «إنهاض الاقتصاد الأمريكي» ولأنه حان وقت إعطاء الولايات الأمريكية «أولوية على باريس وفرنسا».
وفي الوسع دائماً، وكلما اقتضت الحاجة بالأحرى، استرجاع ذلك المقال الحزين الذي نشره جيفري ساكس في أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، وتضمّن اعترافاً مدهشاً بأنّ اعتلال اقتصادات الكون يفرض علينا إعادة قراءة معطيات ما بعد الحرب الباردة بأسرها. والرجل، كما هو معروف، أحد كبار اقتصاديي العالم المعاصر، وأحد آخر أبرز الأدمغة الاقتصادية الليبرالية، وكان أستاذ التجارة الدولية في جامعة هارفارد، ومدير معهد هارفارد للتنمية الدولية. شهادته تلك لا تتكامل، للمفارقة المذهلة، مع توصيف المآزق كما عرضتها هذه السطور هنا، فقط؛ بل يلوح أنّ الليبرالي ساكس يزاحم اليساري الماركسي أشلي سميث على… استعادة نبوءة كارل ماركس وفردريك إنغلز، قبل 173 سنة: «الرأسمالية تنتج قبل كل شيء حفّاري قبرها»!