«فسالت أودية بقدرها»
قال تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
الله الأَمْثَالَ" (الرعد: 17).
شبّه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار، بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات.. وشبه القلوب
بالأودية؛ فقلب كبير يسع علماً عظيماً كوادٍ كبير يسع ماءً كثيراً، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير.. "فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا".
واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها.. وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومرّ عليها احتمل غثاءً وزبداً، فكذلك الهدى
والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه
فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء.. فإنه أثارها ليذهب بها، فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق
والباطل.
ثمَّ ذكر المثل الناري.. فقال: ".. وَمِمَّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ.." وهو الخبث الذي يخرج عند
سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب
جفاء..
فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها، كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث
ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي.. الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب
وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره..
فآيات القرآن تحيي القلوب، كما تحيا الأرض بالماء..
وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها، كما تحرق النار ما يلقى فيها..
وتميز جيدها من زبدها، كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه..
ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما؛ فليس من أهلهما والله الموفق.
"مفتاح دار السعادة" لابن القيم