لم يسقط حُكم الصّندوق: كيف تُوظّف السّلطة الحركات الاحتجاجيّة لتمكين اللّبرلة والتسلّط
«عَالفاضي، وَلا كإِنُّهْ صارْ إِشِي»[1] هكذا اختتم شادي مدانات، أحد نشطاء ومنظّمي المظاهرات الاحتجاجيّة التي تُعرف باسم «أحداث الخبز»، والتي انطلقت في الكرك منتصف شهر آب عام 1996 وانتشرت إلى عدّة مناطق أخرى في الأردن، حديثه معي حول النتائج المُتحقّقة عن تلك الهبّة، والتي تعتبر واحدةً من أربعة تحرّكات احتجاجيّة كبرى شهدتها البلاد في مواجهة ما يُسمّى بـ«برامج إعادة الهيكلة» الإقتصاديّة التي فرضها صندوق النّقد الدّولي، وآثارها المحليّة التي تمثّلت -بشكلها الأوضح، والأكثر ملامسةً لاحتياجات النّاس- برفع الدعم عن السلع الأساسيّة، وزيادةً في الأسعار والضرائب، وخصخصةً للقطاع العام، وخفضًا لسقوف الإعفاءات الضريبيّة.
أن تبدأ من الصّفر كلّ مرّة: التّغيير الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي لم يتم
بدأت أوّل تلك التحرّكات الاحتجاجيّة في العام نفسه الذي بدأ فيه تطبيق أوّل هذه البرامج: «هبّة نيسان» عام 1989، مندلعةً بعد رفع الدعم الجزئيّ عن أسعار المشتقّات النفطيّة وزيادة أسعارها، واستمرّت بـ«أحداث الخبز» عام 1996 إثر رفع الدعم الجزئيّ عن الخبز، وبالتالي ارتفاع سعره، ثمّ «هبّة تشرين» عام 2012 التي اندلعت إثر رفع أسعار المحروقات ضمن نفس سياق التّحرير الاقتصادي ورفع الدّعم عن السّلع الأساسيّة، وأخيرًا (وليس آخرًا): احتجاجات إضراب الأردن (أو «هبّة رمضان»، أو «هبّة حزيران») عام 2018، والتي اندلعت بسبب مقترح حكومي لقانون ضريبة دخل يخفّض سقوف الإعفاءات ويستهدف الطبقة الوسطى، تزامنت مع زيادة جديدة لأسعار الكهرباء والمحروقات ورفع الدّعم عن الخبز واستبداله بالدّعم النقديّ «لمستحقيّه»، ضمن حزمة أخرى من تطبيقات شروط اتفاقيّة صندوق النقد الأخيرة التي وُقّعت عام 2016،[2] اتفاقية كان يُفترض أن تطبّق خلال ثلاث سنوات مقابل قرض، يُصرف على دفعات مشروطة، قيمته 700 مليون دولار، صُرف منه حتى شهر أيّار من هذا العام (2019) أقلّ من نصفه،[3] مما يعني أن تطبيقاته، وبالتالي آثاره وتداعياته الاجتماعيّة، مثل الاتفاقيّات التي سبقته، ستستمر إلى، وتتفاقم خلال، مدّة أطول بكثير من تلك التي تفترضها الصيغ الأوليّة.
النّاظر في هذه السلسلة المتتالية من الاحتجاجات الشّعبيّة الدؤوبة، والواسعة النطاق، والعنيفة أحيانًا، سيجد أنّها لم تُحقّق -فعليًّا- أيّ تغيير جدّي أو جذريّ في النّهجين المتلازمين، الاقتصاديّ والسياسيّ، الذي تتسلّط بواسطته المجموعة الحاكمة على البلاد، ومقابل بعض المكاسب المرحليّة أو الصّغيرة أو الشكليّة أو الرّمزيّة التي حقّقتها بعض هذه الاحتجاجات، نجد أن السّلطة تخرج دومًا كفائزٍ حصريّ ووحيد، مُحقّقة إدماجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا أوسع داخل دائرة نفوذها، مُحتويةً القوى الاحتجاجيّة تحت جناحها، بل مُعيدةً إنتاج بعض عناصر نُخبتها من خلال إدخال دماء جديدة مُشتقّة من انتهازيّي هذه التحرّكات كأدوات تنفيذيّة جديدة لسياساتها، تُثبّت بها نفسها أكثر، من جهة، وتُضعضع بها البُنى الداخليّة غير النّاضجة، والمصداقيّة الخارجيّة لهذه التحرّكات الاحتجاجيّة، آنيًّا ومستقبلًا، من جهة ثانية، إذ يُرسِل هذا الاحتواء رسالةً مُضخّمةً مفادها أن قيادات و/أو رموز التحرّكات هم مجرّد مجموعة من الوصوليّين، مُضعفة بذلك الثقة البينيّة بين المُحتجّين الحاليّين والمُستقبليّين، مُفكّكة صفوفهم وأشكالهم التّنظيميّة الأوليّة، ليبدأ أي احتجاجٍ تالٍ من الصّفر مرّة أخرى، ويظلّ يدور في دائرة مُفرغة من البداية المُستمرّة، والإحباط والإنهاك التنظيميّين على المستوى التّاريخي الطويل، فيأخذ التحرّك شكل «الهبّة» كلّ مرّة: اشتعالةٌ مُفاجأة لا تلبث أن تنطفئ بنفس سرعة اشتعالها، دون أن تُنجز تغييرًا حقيقيًّا، أو تُراكم شيئًا للمستقبل.
كلّ الاحتجاجات الكبرى المذكورة تلاصق فيها شاغلان أساسيّان كتوأم سياميّ: التّغيير الاقتصاديّ والتّغيير السّياسي، لكن النتيجة الـنهائيّة حتى اليوم كانت تراجعًا شاملًا في كل المجالات:
على الصعيد الاقتصاديّ: تفاقمت المديونيّة التي جاءت خطط صندوق النّقد الدوليّ للمساعدة على سدادها بالأرقام المُطلقة من 9.5 مليار دينار عام 1989[4] إلى أكثر من 40 مليار دينار أوائل عام 2019،[5] ورغم أن المؤشّرات الاقتصاديّة الرقميّة سجّلت تحسّنًا مُتفاوتًا منذ 1992 بالمقارنة مع أوضاع سنوات الانهيار الاقتصاديّ (1988-1989)، إلا أن التحسّن الرقميّ شيء، والواقع المُعاش شيء آخر، ففارق الثّروات يتوسّع باضطراد، فيما تتركّز الثروة بيد القلّة ،[6] وبات تآكل الطبقة الوسطى ظاهرة واضحة،[7] وتزداد نسب الفقر إلى الدّرجة التي ترفض فيها الحكومة الحاليّة الإفصاح عن مجمل نتائج آخر دراسة مسحيّة تتعلّق به،[8] أمّا الأسعار وغلاء المعيشة فهما في مستويات تتباهى من خلالها العاصمة عمّان بكونها المدينة الأكثر غلاءً عربيًّا، متفوّقة على مدن خليجيّة وأوروبيّة وأميركيّة،[9] وانهارت الصناعة وأغلقت العديد من المصانع،[10] وتلاشت أحلام بناء اقتصاد يحوّل الأردن إلى «سنغافورة الشّرق الأوسط» (كما راج في النصف الثاني من تسعينيّات القرن الماضي) ونحن نرى المصانع تغلق، وأصحاب الأعمال ورؤوس الأموال يرحلون باستثماراتهم إلى دول أخرى.
أمّا على الصعيد السياسيّ، فالأمر بالسوء ذاته: وصلنا (من خلال سلسلة من التغييرات على قانون الانتخاب، وقانون الأحزاب، وقوانين الاجتماعات العامّة، والقوانين المتعلّقة بالإعلام، وممارسات ونفوذ الأجهزة الأمنيّة والحكّام الإداريّين) إلى برلمان ضعيف ذي طابع مناطقي-عشائري، وتنفيعي يتعلّق بـ«البزنس»،[11] اشتغالاته الأساسيّة خدماتيّة ووساطيّة، يحتاج السّلطة ويتوسّلها لاستجلاب المنافع والامتيازات، فلا يراقبها، ويمرّر -عادةً- ما تُشرّعه دون أن يُشرّع لها؛ وأحزابٍ أُضعفت إذ حُدّدت مساحات حركتها الضيّقة، وسُلبت أدوات تأثيرها، وفُتّت الكبير منها، بما حوّلها إلى ما يشبه الديكور لإسباغ شكل ديمقراطيّ على جوهر أوتوقراطيّ؛ أمّا فضاء النقاش العام فضيّق، ومحصور، ويُعرّض من يُشارك فيه (عبر ترسانة من القوانين الفضفاضة) إلى المحاكمة؛ في حين تحوّل الدستور (عبر سلسلة من التّعديلات) إلى تركيز أكبر وأشمل وأكثر إطلاقيّة للسّلطة في شخص الملك، الذي يحظى أيضًا بوضعيّة تجعله فوق القانون، مُحصّنًا من التّبعات، وبالتالي من المُساءلة والمسؤوليّة،[12] أمّا الإصلاح الدستوريّ الأعظم، أي إنشاء المحكمة الدّستوريّة، فهو يشكّل -بنظري- تراجعًا لا تقدّمًا، إذ حصر الدّستور إمكانيّة التقدّم لهذه المحكمة بمجالس الوزراء والنوّاب والأعيان فقط، أمّا قُضاتها فيعيّنهم الملك[13] الذي أضاف إلى السّلطات الثلاث التي هو رأسها -باعتباره «رأس الدولة»- سلطة تفسير الدّستور. في الوقت ذاته، تحظى مؤسّسات غير مُنتخبة، ولا سبيل لمحاسبتها، مثل الديوان الملكيّ، والأجهزة الأمنيّة، وعلى الأخصّ منها: المخابرات العامّة، باليد الطولى في البلاد، وبنفوذ واسع، يمكّنها من التدخّل العميق، والتأثير في تفاصيل يوميّة كثيرة، تبدأ من شؤون الحُكم ولا تنتهي بشؤون المواطنين، عبر آليّات غير رسميّة، وأحيانًا غير قانونيّة.
المحصّلة لم تكن تراجعًا فقط في السياسة والاقتصاد، بل ازديادًا في كفاءة السُّلطة فيما يتعلّق بالسيطرة، وتوسيع مروحة خياراتها وأدواتها المتاحة في التنفيس والاحتواء، داخل المساحة الوظيفيّة المُتاحة لها، كما سنرى.
صندوق النقد الدولي كآليّة لاستدامة وظيفيّة الكيانات الناشئة بعد الاستعمار، وابتزاز مجموعاتها الحاكمة
تقدّم خطط صندوق النّقد الدّولي نفسها على أنّها خطط إصلاح اقتصاديّ هيكليّ لاقتصادات دول أغلبها من المستعمرات السّابقة، فشلت في إحداث التنمية، وغرقت في الدّيون، كنتيجةٍ مباشرة لسوء إدارة، وعدم قدرة، وفساد، مجموعاتها الحاكمة. رغم هذا التّشخيص التبسيطيّ الذي يُلغي دور وآثار الاستعمار من جهة، ودور وآثار المنظومة الرأسماليّة القائمة، وعولمتها، وعلاقات القوّة الناتجة عنها من جهة ثانية، إلا أنّ الطريف في الأمر أن الصندوق يبني علاقته مع ذات المجموعات الحاكمة، والبُنى والهياكل السياسيّة، التي يقرّ ابتداءً بفسادها وسوء إدارتها وانعدام قدرتها، إذ يُؤسّس تدخّله على التّعامل معها وتزويدها بالأموال والقروض لتنفيذ سياساته الاقتصاديّة، وهو إذ يُبقي الهيكل السياسيّ الذي صنع الواقع الاقتصاديّ المُنهار، ويساعد في استدامته وبقائه عبر تزويده بالقروض، يُحمّل كلف سداد هذه القروض، وسداد فواتير عقود من الفساد وسوء الإدارة لا على السلطة التي مارستهما، بل على دافعي الضرائب الذين تتسلّط عليهم السّلطة؛ هذا فضلًا عن العمل ضمن منظور الاقتصاد العالميّ الكليّ الذي يربط الاقتصادات الطرفيّة (مثل اقتصاد الأردن) بإحكام، بعد تفكيك محليّتها الكفائيّة (الإنتاج من أجل سداد الحاجات المحليّة)، باقتصادات المراكز الرأسماليّة الاستهلاكيّة القويّة، وتفاهماتها البينيّة، عبر اشتراط آليّات فتح الأسواق، ومنع الحماية الجمركيّة، وسحب الدّعم الحكوميّ عن السّلع والخدمات الأساسيّة، وخصخصة المؤسّسات العامة، وتسهيل نفاذ سلع المراكز الرأسماليّة إلى أسواق بلدان الأطراف، وإفقاد السّلطة قدرتها على ضبط النمو الاقتصادي المحلّي وتطويره، وإعاقة توفير شروط نشوء صناعات إنتاجيّة محليّة. كلّ هذا الإخضاع الشامل يتمّ بواسطة إدخال تلك الكيانات في دائرة مُفرغة من الإغراق في الاستدانة، والاستدانة اللاحقة لدفع فوائد الديون الأولى، وهكذا إلى ما لا نهاية.[14]
الأردن، مثله مثل عديد الكيانات الناشئة بعد الاستعمار في المنطقة العربيّة، وأجزاء أخرى من «العالم الثالث»، هو كيان وظيفيّ.[15] جزء من وظيفيّة المجموعة الحاكمة داخل الكيان الوظيفيّ ترتبط بالتزاماتها تجاه الأطر الإقليميّة والدوليّة التي أنشأتها و/أو ترعى بقاءها، خصوصًا ما يتعلّق بتنفيذ المقاربات السياسيّة والاقتصاديّة التي تُبقي كيانها الوظيفيّ ضمن الدائرة الوظيفيّة المتاحة لحركتها داخل المنظومة الاقتصاديّة الرأسماليّة العالميّة من جهة، وداخل الحدود الوظيفيّة الجيوسياسيّة التي تُتيحها توازنات القوى دوليًّا وإقليميًّا من جهة ثانية، ودورها كوسيط يسهّل أو يمرّر متطلّبات الخارج إلى الداخل عبر آليّات مختلفة مثل تهيئة البنية التشريعيّة اللازمة، وقمع الاحتجاجات المناهضة لهذه المتطلّبات ونتائجها، الخ. ومقابل هذه الأدوار، تحظى المجموعة الحاكمة وكيانها الوظيفيّ بالرّعاية والمساعدة على البقاء، وتظلّ تحت التّهديد الوجوديّ المستمرّ، في حالة من استدامة التبعيّة المزدوجة.
نجد هذا واضحًا في النتيجة التي خلصت إليها دراسة قامت بها جين هاريغان وآخرون،[16] تناولت بالتّفصيل برامج صندوق النّقد والبنك الدوليّين في الأردن، مشيرةً إلى تضخيم مُتعمّد قام به الصندوق فيما يتعلّق بأداء السّلطة، والتزامها ببرامج هاتين المؤسّستين، والنتائج المتحقّقة عنها.[17] تمّ ذلك من أجل المحافظة على، ودعم، المجموعة الحاكمة ومواقفها المؤيّدة للـ«غرب»، وإغواء حكومات أخرى في المنطقة بالسير في طريق هذا النموذج «النّاجح» لإدخالها هي أيضًا ضمن آليّات الاندماج الكامل في المنظومة الاقتصاديّة الرأسماليّة العالميّة، وبالتّالي تسهيل خضوعها لآليّات ابتزاز وعقاب الكيانات الوظيفيّة وحكّامها في حال خرجوا عن السّرب.
[rtl]
مقابل بعض المكاسب المرحليّة أو الصّغيرة أو الشكليّة أو الرّمزيّة التي حقّقتها بعض هذه الاحتجاجات، نجد أن السّلطة تخرج دومًا كفائزٍ حصريّ ووحيد[/rtl]
تقول الدّراسة: «بعد اندلاع حرب الخليج [الأولى، 1990] ورفض الأردن الأوّليّ دعم التّحالف المواجِه لصدّام حسين، أُنهي اتفاق الاستعداد الائتماني في 13 كانون الثاني 1991 بعد أن تم صرف أقل من نصف قيمة التمويل [المتّفق عليه]».[18] وكآليّة مكافأة سياسيّة، عادت القروض بعد أن أعادت المجموعة الحاكمة في الأردن إعادة تموضعها الكامل باتّجاه الصفّ الغربيّ عام 1992، وهو ما تشير إليه الفقرة الختاميّة للدراسة بشكل واضح، مُلخِّصة جميع الملاحظات التي أشرنا إليها أعلاه:
«في حالة الأردن، يبدو مُرجّحًا أن كلا المؤسّستين كانتا مهتمّتين باستدامة ضخٍّ عالٍ للأموال. (…) ضخّ الأموال هذا كان ضروريًّا لدعم ما أصبح أحد أكبر حلفاء الغرب في المنطقة بعد عام 1992. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك رغبة كبيرة من واشنطن (صندوق النقد والبنك الدوليّين، بالإضافة إلى الحكومة الأميركيّة) لخلق نماذج من اللّبرلة الاقتصاديّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حتّى نهاية ثمانينيّات وبداية تسعينيّات القرن الماضي، قاطعت كثير من دول المنطقة صندوق النّقد والبنك الدّوليين. دول مثل إيران والسودان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والجزائر، كانت مُعادية [لهاتين المؤسستين] بشكل خاصّ. (…) الجهود الإصلاحية [الاقتصاديّة، أي الالتزام بخطط صندوق النقد الدولي] في الأردن ما بعد عام 1989، مثلها مثل تلك المطبّقة في المغرب وتونس ومصر، دُعِمَت بمساعدات ماليّة سخيّة من أجل تخفيف آلام الإصلاحات [الاقتصاديّة]، وترسيخ شرعيّة الأنظمة القائمة المُؤيّدة للغرب».[19]
في سياق «برامج إعادة الهيكلة الاقتصاديّة» والتمويل المقدّم من صندوق النّقد والبنك الدّوليّين، تتحوّل السياسة والاقتصاد، أو بشكل أكثر دقّة: التوجّهات السياسيّة والاقتصاديّة للقوى العالميّة المُهيمنة، إلى دائرة تغذية مزدوجة للمجموعات الحاكمة في الكيانات الوظيفيّة، وآلية ابتزاز فعّالة لا فكاك منها.
السّير الحذر على الحبل المشدود: المجموعة الحاكمة بين دورين وظيفيّين، داخليّ وخارجيّ
لكن ثمّة جزء وظيفيّ آخر للمجموعات الحاكمة، يشتقّ نفسه من الدّاخل، من مساحة السّيطرة الداخليّة (المجتمع المحلّي وعلاقاته البينيّة)، عبر دور الوساطة و/أو الرّعاية الذي تلعبه بين المصالح المُتعارضة للمجموعات الاجتماعيّة التي تتسلّط عليها، والتّوازن الهشّ الذي تخلقه بين مكوّناتها، للحفاظ على نفسها في موقع الضّرورة، كحاجز ووسيط لا غنى عنه، يمنع أيّ «انفجارات» محتملة، مضافًا إليه دور الوساطة الذي تلعبه المجموعة الحاكمة بين متطلّبات بقائها محتملةً من قبل المجتمع المحليّ، ومتطلّبات الاقتصاد العالمي وقواه المهيمنة.
تسير المجموعة الحاكمة، إذًا، على حبل مشدود بين جدارين وظيفيّين، واحد يمثّل الوظيفيّة الخارجيّة، والثاني يمثّل وظيفيّة داخليّة، ومصالح هذين الجدارين متناقضة. لذا، وكما نقرأ بين سطور الدّراسة أعلاه، وكمحاولة لمنع تفاقم الأزمات الدّاخليّة الناتجة عن خطط صندوق النّقد الدّولي إلى الحد الذي ينقطع فيه طرف الحبل عن الجدار الداخليّ، أدارت السّلطة في الأردن ملفّ تطبيقات هذه الخطط بذكاءٍ مُتناهٍ، يُحافظ على وظيفيّتها تجاه الجانبين، ويتيح لها تسريع التّنفيذ أو إبطائه استجابةً لحدّة الممانعة الدّاخليّة المتمثّلة بالحركات الاحتجاجيّة، وكفاءتها في إطفائها أو حرفها عن أهدافها، وقدرتها على استخدام هذه الاحتجاجات كذريعة لتنفيذ هذه الالتزامات ضمن جدول زمنيّ أطول، أو تحصيل منح أو قروض أو تسهيلات إضافيّة، و/أو تأمين دعم إضافيّ لبقائها.
أمام الاحتجاجات الكبرى المختلفة التي ذكرناها، لم يحصل أبدًا أن تمّ التّراجع بالمعنى الاستراتيجيّ، بل ظلّ النّهج كما هو دون أيّ تغيير، مع إبطاء مرحليّ لسرعة تحرّكه، وإدخال لعناصر سياسيّة جديدة تضمن مرورًا أسهل وأسلس له. اللّبرلة الكاملة السّريعة، ضمن المدد الزمنيّة التي اشترطتها اتفاقيّات صندوق النّقد، كانت ستضع السُّلطة في مواجهة كسر عظم مع الدّاخل، مُفقدةً إيّاها وظيفيّتها الدّاخليّة، لينهار بذلك أحد الجدارين اللذين يشدّان الحبل، بينما سيضعها تغيير النّهج الاقتصاديّ الـ(نيو)ليبرالي أمام اختلال وظيفيّ تجاه الخارج، ينهار به الجدار الآخر، لذا، يسعى الحُكم لإدارة هذه التّعارضات بما يضمن بقاءه أوّلًا وأخيرًا.
لا يعني هذا أنّ سلسلة الاحتجاجات لم تؤثّر في شيء، بل العكس: لقد أبطأت الاحتجاجات فعليًّا، وبشكل ملموس، من نفاذ برنامج اللّبرلة الاقتصاديّة، وحدّت مرحليًّا من تسارع آثاره، لكن علينا أن نعي أنّ هذا التباطؤ هو أيضًا جزء من آليّات استدامة المجموعة الحاكمة وبقائها، وجزء من آليّات المحافظة على الوضع القائم كما هو، يسير قدمًا بسرعة أو ببطء، لكن: دون تغيير، كما سنعاين فيما يلي.
هبّة نيسان 1989: انفراجة سياسيّة مؤقّتة لإدخال المُعارضة إلى مجال سيطرة السُّلطة
يتحدّث عدنان أبو عودة، أحد أركان حكم الملك حسين، ومستشاره السياسيّ أثناء هبّة نيسان، عن توجّه مسبق كان يجري بحثه في أوساط المجموعة الحاكمة قبلها لإدماج القوى السياسيّة والمجتمعيّة في التّغيير الجذريّ القادم: «هبّة نيسان عجّلت في قرار إجراء الانتخابات التي كان قد مهّد لها قرار فكّ الارتباط وغيرها من العوامل الإقليميّة، كما يرى أبو عودة، [و]«كانت لنا رغبة كسلطة في إشراك المُعارضة بتحمّل عبء الأوضاع الاقتصاديّة التي أدّت لتلك الأحداث، كما أنّها تنفيس لذلك الاحتقان»».[20]
لكن الأعباء لم تكن تقتصر حينها على الأوضاع الاقتصاديّة فقط، بل كانت منظومة كاملة من التحوّلات السياسيّة-الاقتصاديّة التي ستأخذ شكل سلسلة من القرارات الصعبة والمصيريّة قد تمّت، أو هي على وشك الحصول: فكّ الارتباط مع الضفّة الغربيّة 1988، بدء البرنامج الـ(نيو)ليبرالي في الأردن والتوقيع على أوّل اتفاقية مع صندوق النقد الدولي 1989، انطلاق عمليّة السّلام مع «إسرائيل» بمؤتمر مدريد عام 1991، وإعادة التموضع الكامل باتّجاه المعسكر «الغربيّ» عام 1992 بعد فترة قصيرة من الانفكاك عندما رفض الأردن المشاركة في حرب الخليج الأولى، وأخيرًا: توقيع معاهدة وادي عربة مع «إسرائيل» عام 1994.
هذا المسار التحوّليّ الجذريّ -بالمعنيين السياسيّ والاقتصاديّ- لم يكن ليكون ممكنًا دون احتواء «الجبهة الداخليّة»، المُعارِضة منها على وجه الخصوص، والتي كانت حينها تعمل «تحت الأرض» في ظلّ أحكام عرفيّة، وحظر وتجريم للعمل الحزبيّ، وتعطّل للحياة البرلمانيّة. وبينما كان أساسيًّا وهامًّا بالنّسبة للسّلطة حينها أن تُثبت قوّتها المطلقة والوحيدة، وتثبّت عدم وجود منافس أو بديل لها، كان أساسيًّا وهامًّا لها أيضًا أن تجترح آليّات وساطة وتنفيس لأيّ احتقانات ستنتج عن التوجّهات الجديدة، وتُقدّم «مؤسّسات» ذات طابع شعبيّ تمثيليّ تُشرعن بها سياساتها بدل أن تسير بها وحيدة، وتُنتج جيلًا جديدًا من الشّخصيّات السياسيّة تُضيفها إلى كادرها التنفيذيّ، فجاءت هبّة نيسان فرصة لوضع الخطط التي تحدّث عنها أبو عودة موضع التنفيذ الفعليّ.
فمن جهة، أظهرت المجموعة الحاكمة أنّها مستعدّة للتّعامل العنيف مع الاحتجاجات وقادرةٌ عليه، فأدخلت الجيش إلى المدن والقرى، وأطلقت النار وقتلت وأصابت محتجّين، وشنّت حملات اعتقال واسعة النّطاق، ونفّذت أشكال العقاب الجماعيّ كاقتحام البيوت وترويع السكّان وفرض حظر التجوّل،[21] وتمّ كلّ ذلك في عقر دار ما كان يُقدّم على أنّه الكتلة الاجتماعيّة الدّاعمة للمجموعة الحاكمة.
ومن جهة أخرى فتحت المجموعة الحاكمة باب الإغواء السياسيّ عبر مجموعة من الإجراءات الشكليّة والتنفيسيّة التي تمّ التّراجع عن أغلبها خلال السّنوات الأربع اللاحقة، واستخدمت نتائجها لتثبيت السّياسات نفسها التي أدّت للاحتجاج، وإعادة إنتاج المجموعة الحاكمة لنفسها ولـ«شرعيّتها» بشكل أعمق وأوسع، وفي هذا قال أبو عودة: «قبلنا بالنّتائج [نتائج انتخابات 1989 التي أفرزت عددًا كبيرًا من نواب المعارضة]، كنّا مرتاحين، فالمُعارضة أصبحت شريكًا، وأمامنا قرارات قادمة أصعب».[22]
وبالفعل، جاءت أغلب المبادرات السياسيّة عن طريق المجموعة الحاكمة، لا عن طريق المحتجّين، فبينما اقتصر الدور السياسيّ للمحتجّين على دور سلبيّ (غير فاعل، غير مُبادر) يتمثّل بإصدار البيانات، ومُطالبة الملك بإحداث تغييرات، والمطالبة بعلنيّة عمل الأحزاب (أي الاندماج في إطار الوضع القائم بدلًا من تغيير البُنى التي منعت عملها)، دون إنتاج أدوات تغيير سياسيّة فعليّة تُحدث التّغييرات على أرض الواقع وتفرضها (مثل عقد مؤتمر وطنيّ لصياغة دستور جديد، أو إنشاء مجلس وطنيّ واسع التّمثيل يفاوض السّلطة على تغييرات جذريّة، أو إنشاء مجالس حكم محليّة تستبدل فعليًّا أطر الحكم المحليّ التابعة للسّلطة)، قامت السّلطة بالمبادرات السياسيّة الفاعلة التاليّة: إقالة حكومة زيد الرّفاعي، تعطيل الفقرة «هـ» من المادة 18 من قانون الانتخاب لعام 1985 والتي تحظر على الحزبيين الترشّح، إجراء انتخابات نيابيّة عالية المصداقيّة شاركت بها غالبيّة القوى السياسيّة والمجتمعيّة، تشكيل لجنة واسعة التّمثيل لصياغة «ميثاق وطني» وإنجازه وإقراره، في إطار «تجديد العقد الاجتماعي»، وهي عبارة استخدمها الملك حسين في كلمته أمام اللّجنة المكلّفة بصياغة الميثاق،[23] رفع الأحكام العرفيّة، السّماح بنشاط الأحزاب ضمن محدّدات اعترافها بمشروعيّة السّلطة وحدود كيانها الوظيفيّ السياسيّة.
لكن لنتأمّل النتائج الفعليّة على المديين القصير والمتوسّط: قام مجلس نواب 1989، الذي يُعتبر -بحسب كثيرين- أفضل مجالس النواب، وأعلاها تسييسًا، منذ رفع الأحكام العرفيّة في الأردن وحتى الآن، بإقرار السياسات الاقتصاديّة الـ(نيو)ليبراليّة التي اندلعت، نتيجةً لها، وفي مواجهتها، هبّة نيسان، وذلك بإقراره الموازنات الماليّة الحكوميّة،[24] فيما لم يعمل هذا المجلس جديًّا على إعاقة أو منع الهرولة نحو «إسرائيل» ضمن مؤتمر مدريد الذي انعقد عام 1991، ودشّن بداية مرحلة التعامل العلنيّ مع الصهاينة والتّطبيع. عام 1993 فصّلت السّلطة قانون انتخاب يضمن لها مجلسًا نيابيًّا ضعيفًا، هو قانون الصّوت الواحد المجزوء، وهو ما تمّ لها بدرجات متصاعدة من السوء حتى اليوم، وأقرّ مجلس الـ93 معاهدة وادي عربة، واستمرّ، هو والمجالس التي جاءت بعده، مع درجات مختلفة من الممانعة، بتمرير السياسات الاقتصاديّة التي أملتها خطط صندوق النقد الدولي، فيما رُكن «الميثاق الوطنيّ» (وهو وثيقة سياسيّة متقدّمة نسبيًّا في إصلاحيّتها[25]) على الرفّ حتّى اليوم، ولم يعرض على الشعب في استفتاء عام حينها (كما تحدّث بذلك الملك[26]) ليصبح عقدًا اجتماعيًّا حقيقيًّا ومُلزمًا (يعلو على الدّستور نفسه الذي لم يُستفتَ عليه الناس في أيّ مرحلة من المراحل، كما لاحظ -بدقّة- بعض مُعارضي الاستفتاء[27])، ولم يُعرض على مجلس النواب ليأخذ وضعيّة التشريع القانونيّ، ولم يقترن بأدوات تنفيذيّة ليتحوّل من كلام إلى أفعال، فيما لم تحدث محاسبة حقيقيّة وجديّة للمسؤولين عمّا آلت إليه الأمور الاقتصاديّة للبلاد، وعن فترات القمع والاستبداد، بل أعيد إنتاج رموز ومسؤولي تلك الفترة في مواقع مختلفة من مواقع السّلطة.
في ظل فعاليّة السّلطة وحدها، وعدم وجود فعّالية اجتماعيّة-سياسيّة مستقلّة، بقيت السّلطة هي الفاعل الوحيد، وسحبت، عبر مسار طويل، أغلب «المكتسبات الديمقراطيّة» لهبّة نيسان 1989 بعد أن نجحت مناورة المجموعة الحاكمة الاستيعابيّة-الاحتوائيّة بامتياز، فيما ظلّ النّهج الاقتصادي يسير بعناد وإصرار، وفي نفس الاتّجاه، دون تغيير. من المفيد هنا أن نتأمّل أن الاتفاقيّة الأولى بين الأردن وصندوق النّقد الدولي قد وُقّعت فعليًّا شهر تموّز من عام 1989، بعد ثلاثة أشهر من الهبّة، بينما تمّ التّوقيع على القرض الأوّل من البنك الدولي في كانون الأوّل من نفس العام، وكأنّ الاحتجاجات لم تحصل أبدًا، ومن المفيد أن نُعاين كيف تدور الدّائرة العبثيّة ليصعد سمير زيد الرفاعي، ابن رئيس وزراء تلك الفترة، ليصبح هو بدوره رئيسًا للوزراء بين عامي 2009 و2011، ويستقيل بدوره نتيجة لمظاهرات خرجت لنفس الأسباب التي أدّت إلى نفس النتائج التي أقالت والده: ارتفاع الأسعار الناتج عن «إصلاحات تحرير الأسواق»[28] التي دفعت بها برامج صندوق النّقد الدولي، كأنّ شيئًا لم يكن قبله ولا بعده.
من أحداث الخبز 1996 إلى هبّة تشرين 2012: عجلة السّلطة تسير ببطء، لكن بثبات
كانت المهمّة الاقتصاديّة لحكومة «الثّورة البيضاء» التي ترأسها عبد الكريم الكباريتي هي السير قدمًا بخطط صندوق النقد الدولي، واستكمال برنامج رفع الدّعم عن السّلع الأساسيّة الذي طال القمح عام 1996، ليرتفع سعر الخبز. انطلقت الاحتجاجات من الكرك حينها، وامتدّت إلى معان والطفيلة والسلط وعمّان، رافعةً عدّة شعارات أبرزها إلغاء رفع الخبز، وإقالة حكومة الكباريتي، ورفع الحصار (الذي كانت تفرضه الولايات المتّحدة من خلال مجلس الأمن) عن العراق -الشّريك الاقتصاديّ الأبرز للأردن في تلك الفترة- واستئناف التّجارة معه، وهو الأمر الذي دفع السّلطة لاتّهام العراق -بشكل مبطّن- بتحريك المتظاهرين.
حقّقت هذه الاحتجاجات (التي توعّدها الملك بـ«الضّرب بيدٍ من حديد» في كلمة متلفزة)[29] نتيجة جزئيّة مباشرة، إذ تراجع سعر الخبز الجديد من 25 قرشًا للكيلو قبل الاحتجاجات (زيادة تتجاوز الـ100%) إلى 16 قرشًا للكيلو بعدها (بزيادة حوالي 34%). لكن، لم يتمّ التراجع عن النّهج الاقتصادي الذي أدّى بأسعار الخبز إلى الارتفاع، فيما وقف الملك حسين بصلابة خلف رئيس وزرائه داعمًا بلا مواربة السياسات الاقتصاديّة التي ينفّذها، على العكس ممّا حصل خلال هبّة نيسان.[30]
عام 1996، كانت المجموعة الحاكمة قد أعادت التّموضع بشكل كامل باتّجاه «الغرب» حائزة على رضاه، نافضةً يدها من موقفها السّابق الرّافض للمشاركة في حرب الخليج الأولى عام 1990، صارت تنتقد صدام حسين، وتستضيف المعارضة العراقية وتسمح لها بالعمل، ووقّعت معاهدة سلام مع «إسرائيل»، وصارت جزءًا من البرنامج الـ(نيو)ليبرالي العالمي،[31] لذا لم يكن ثمّة شكوك في وضعها الخارجيّ، أما بالنّسبة للوضع الداخليّ، فيلخّصه الوزير الأسبق إبراهيم عزّ الدين في تعليقه حول الأحداث لصحيفة النيويورك تايمز حينها: «الفرق الرئيسيّ بين هذه الأزمة وأزمة 1989 هو عدم وجود الدّيمقراطيّة [حينها]، اليوم، يتوقّع المرء أن يتمّ إيجاد الحلّ من داخل هذه العمليّة [الديمقراطيّة]»،[32] وهو ما تمّ، ففشل اقتراح تعديليّ قدّمته لجنة برلمانيّة خاصّة (صوّت له 23 من أصل 52 نائبًا حاضرًا)، فيما منعت مقاطعة نواب حزب جبهة العمل الإسلامي للجلسة (23 نائبًا) من حصول هذا الاقتراح على الأغلبية.[33] بعدها بفترة، نقلت أجواء الدّعوة لانتخابات عام 1997 الناس إلى مرحلة أخرى، شاغلتهم، وفتّتتهم: «الانتخابات كانت الضّربة القاضية» لهبّة الخبز وتداعياتها، بحسب شادي مدانات.[34]
في الجولة الاحتجاجيّة التالية، خلال الأعوام من نهاية 2010 إلى نهاية 2012، والموازية للانتفاضات العربيّة، تم تغيير أربعة رؤساء للوزارات، في محاولة شكليّة لاحتوائها ومنع تفاقمها، مع الاستمرار بتطبيق التوجّهات الاقتصاديّة ذاتها على قدم وساق. جيء أخيرًا بعبد الله النّسور في تشرين الأوّل 2012، كشخصيّة «معتدلة» لها تاريخ في المعارضة، ومن «داخل الربيع الأردني» كما علّق أحد الكتّاب بالغي التّفاؤل،[35] لكن حكومة النّسور، ومنذ بداية عهدها، أثبتت أنّها أداة المجموعة الحاكمة وصندوق النقد الدّولي المُخلصة، فرفعت المزيد من الدّعم عن المشتقات النفطية «التي قفزت أسعارها بنسب تتراوح بين 14- 54 في المئة (…) [قرارٌ] علّلته بإنقاذ الاقتصاد الأردني من انهيار وشيك، وليسهل عليها الحصول على قرض بقيمة ملياري دولار من صندوق النقد الدولي»،[36] لتندلع بعدها «هبّة تشرين» التي استمرّت على مدار ستّة أيام.[37]
كانت الاحتجاجات غير مسبوقة من حيث رفع سقوف النّقد لتطال الملك بشكل واسع النّطاق لأوّل مرّة، مناديةً بإسقاط النّظام، لكنّ شيئًا لم يحدث هذه المرّة أيضًا، فلم يتمّ التراجع عن رفع الأسعار، ولم يستقِل رئيس الوزراء الذي استمرّ في منصبه بكفاءة (نيو)ليبراليّة غير مسبوقة لأربع سنوات لاحقة، بينما ووجهت الهبّة بالعنف والقمع والاعتقال، وقتل أحد المحتجّين، وتبرّأت كثير من قوى المعارضة من الهبّة وشعاراتها،[38] ثمّ شارك بعضها في الانتخابات التّالية التي قدّمها الملك على أنّها «اللحظة الحاسمة في الرّبيع الأردني»،[39] فتقوم انتخابات عام 2013، والتّحضيرات لها، بالدّور نفسه الذي لعبته انتخابات 1989 و1997 في احتواء وتفريغ آثار الاحتجاجات الكبرى التي سبقتها. هجوم صندوق النّقد الدولي يتوسّع ليشمل الطبقة الوسطى التي هبّت وانطفأت أيضًا
طوال الأعوام من 1989 وحتى 2018، أثّرت خطط صندوق النقد الدولي بشكل أكبر على الشرائح الأفقر والأكثر تهميشًا -بالمعنى الاقتصاديّ والتنمويّ- والأكثر اعتمادًا على القطاع العامّ، حيث ركّزت برامجها على رفع الدّعم عن السّلع الأساسيّة، وخصخصة القطاع العام الذي كان يوفّر الوظائف والخدمات، واستهداف المنظومة التقاعديّة والضّمان الاجتماعي، وتخفيض أو إلغاء الرّسوم الجمركيّة عن المستوردات الأمر الذي يؤديّ إلى ضرب الصّناعة المحليّة وبالتّالي ضرب فرص العمل وإمكانيّات تنمية المجتمعات المحليّة التي توفّرها هذه الصّناعة، لهذا انطلقت الاحتجاجات بشكل أساسيّ من المحافظات.
في العام 2018 جاء الدّور على الطّبقة الوسطى التي ظلّت حتى ذلك الحين، وبفعل السّياسات الاقتصاديّة ذاتها، تتآكل وتنحدر رويدًا رويدًا، وببطء، نحو الفقر. جاء استهدافها من خلال مشروع قانون ضريبة للدّخل اشترطه صندوق النّقد الدّولي، يخفّض سقوف الإعفاءات، ويزيد الأعباء الضريبيّة على كل شرائح الطبقة الوسطى، لتشمل أيضًا أصحاب الدُّخول المنخفضة منهم.
بعد أن تزامنت دعوة للإضراب احتجاجًا على مشروع قانون الضّريبة، أطلقتها النّقابات المهنيّة،[40] أبرز المؤسّسات الممثّلة للطبقة الوسطى، مع رفع لأسعار المشتقّات النفطيّة والكهرباء،[41] انطلقت احتجاجات اقتصاديّة المنشأ، واسعة النّطاق، وعابرة للطّبقات، اجتاحت كلّ مناطق ومحافظات الأردن، انطلاقًا من العاصمة عمّان، وتجمّعت حشود ضخمة على مدار أيام في منطقة الدوّار الرّابع حيث مقرّ رئاسة الوزراء، وسمّيت بـ«هبّة حزيران» أو «هبّة رمضان» أو «احتجاجات إضراب الأردن». طالبت الهبّة الجديدة بجملة من المطالب أبرزها إقالة حكومة هاني الملقي رئيس الوزراء في حينه، وسحب مشروع قانون ضريبة الدّخل الجديد، وإلغاء رفع أسعار الوقود والكهرباء، وتغيير النّهج الاقتصاديّ والسياسيّ من خلال أسس تضمن العدالة الاجتماعيّة والشراكة السياسيّة.
[rtl]
المحصّلة لم تكن تراجعًا فقط في السياسة والاقتصاد، بل ازديادًا في كفاءة السُّلطة فيما يتعلّق بالسيطرة، وتوسيع مروحة خياراتها وأدواتها المتاحة في التنفيس والاحتواء[/rtl]
أنتجت الاحتجاجات اختلالًا وظيفيًّا داخليًّا للمجموعة الحاكمة، نتج عن اتّساع القاعدة الطبقيّة للمحتجّين التي شملت -إضافة إلى الطبقات الفقيرة والوسطى- جزءًا من النّخبة الماليّة والكمبرادوريّة والخدماتيّة، بعد أن رفع مشروع القانون الضريبة أيضًا على البنوك وشركات التامين وشركات الاتصالات، وعن تمركز الحركة الاحتجاجيّة في العاصمة، مع مشاركة واسعة للمحافظات (تجاوزت بشكل فعّال ثنائيّة محافظات-عمّان / شرق أردني-فلسطيني المصطنعة). ترافق الاختلال الوظيفيّ الداخليّ هذا مع اختلال وظيفيّ خارجيّ متمثّل بعدم وضوح الوضع الاقليميّ بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وتبنّيه خطًّا داعمًا بالكامل لـ«إسرائيل»، وتصفويًّا للقضيّة الفلسطينيّة، وطرحه «صفقة القرن» في هذا السياق، وبتجاهل كامل لمصالح «حلفائه» في الأردن، وانفتاح السعوديّة المباشر على «إسرائيل»، وتشكيل حلف مشترك مُعادٍ لإيران، أيضًا دون اعتبار لدور أردنيّ.[42]
أدّى هذان الاختلالان إلى إعادة تموضع للمجموعة الحاكمة نحو الدّاخل، فتعاملت مع الاحتجاجات باللّين، وأعلنت «تفهّمها» لحقّ المتظاهرين بالتّعبير عن أنفسهم. ألغي (مؤقّتًا) رفع الأسعار بتوجيه ملكيّ، وأقيلت حكومة هاني المُلقي، وعُيّن رئيس وزراء تستلطفه الطبقة الوسطى هو عمر الرزّاز الذي قام بعدها بسحب مشروع قانون ضريبة الدّخل، وتحدّث (في عودة أخرى إلى الدّوائر المُفرغة) عن «عقد اجتماعي جديد» بتوجيه من الملك[43] يؤسّس لعلاقة جديدة بين السّلطة والناس. نجحت هذه التحرّكات الشكليّة بامتصاص جديد للاحتجاجات، قامت الحكومة بعدها بالاستمرار في ذات النّسق الاقتصاديّ، فقدّمت، ومرّرت، قانون ضريبة دخل جديد يشبه سابقه، أو هو أسوأ منه،[44] وانتهى الحديث عن العقود الاجتماعيّة الجديدة، تلك التي بدأ طرح مشاريعها بعد هبّة نيسان 1989، قبل ثلاثين عامًا، إلى مناسبة أخرى قادمة.
خاتمة: الوجه إلى الأمام، المسير إلى الخلف
إن كانت الاحتجاجات لم تؤدّ إلى شيء لصالح المحتجّين والقطاعات الشعبيّة الواسعة المتضرّرة، «عَالْفَاضِي» كما ورد في الجملة الاولى من هذه المقالة، فالثّابت أن الأمور على الجهة الأخرى، جهة السُّلطة، تحرّكت كثيرًا إلى الأمام: فمرّت كلّ السّياسات الاقتصاديّة الـ(نيو)ليبراليّة التي اشترطها صندوق النقد الدوليّ، فيما استخدَمت المجموعة الحاكمة الاحتجاجات لإعادة إنتاج ضرورتها ووظيفيّتها محليًّا، وطوّرت آليّاتها في الاحتواء والتّفريغ، وجدّدت أدواتها التنفيذيّة السياسيّة-الاقتصاديّة عبر رفدها بقيادات جديدة ومن داخل الاحتجاجات نفسها أحيانًا، وأنشأت أطرًا ذات «تمثيل أوسع» (مثل مجلس النوّاب) تتحكّم بها وتشرعن ممارساتها من خلالها، ورسّخت المركزة الشديدة للسّلطة داخل نصوص الدّستور. أمّا بالمعنى الوظيفيّ الخارجيّ: استُخدمت الاحتجاجات لاستدامة المجموعة الحاكمة باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على ضبطها والتّعامل معها بما يضمن تنفيذ الشروط الوظيفيّة المطلوبة (كالاشتراطات الاقتصاديّة المرافقة لقروض صندوق النقد، أو الاشتراطات السياسيّة المرتبطة بالمساعدات الأميركيّة، الخ). أيضًا، استخدمت السّلطة الاحتجاجات لاستقدام منح وتمويل من مصادر أخرى (مثل الدّول الخليجية)،[45] ومدّ جداول التنفيذ الزمنيّ لاشتراطات المموّلين،[46] الأمر الذي يتيح لها ديمومةً أطول وأعمق.
في ظلّ غياب بدائل حقيقيّة، وتنظيمات سياسيّة قادرة وجادّة، وانعدام لأطر شعبيّة مؤثّرة يمكن لها أن تفرض تغييرًا في الحُكم ومنهجيّته بأداة ضاغطة هي الاحتجاج الواسع مثل الهبّات الأربع مدار بحثنا هنا، ستُنتج الاحتجاجات مزيدًا من التّمكين للمجموعة الحاكمة، وسترفد وظيفيّتها بأدوات أكثر تنوّعًا وأعمق تأثيرًا، وتقدّم لها (من حيث لا تدري) فرصة لتشكيل نوعٍ من «الشّراكة»، وإسباغ شيءٍ من الشّرعية، على قراراتها وتوجّهاتها الاقتصاديّة والسياسيّة الإفقاريّة والتسلّطيّة.