رياح التغيير: عن الدين والتعليم والعولمة في الشرق الأوسط
■ لعل ما يميز كتاب «رياح التغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» تحرير الباحثين سيروس روحاني وبهوز
ثابت، الذي يتناول الأحداث التي طغت منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 حتى نشوب الربيع العربي، أنه لا يأتي
ليشرح لنا مآلات ما حدث ويحدث اليوم من شتاء قاس وكابوس طويل في المنطقة، بل يحاول من خلال عدد من الباحثين
تقديم توصيات لأهل الربيع العربي المكلومين، حول ما الذي علينا فعله اليوم، أو ما الذي غاب عن بال قياداتهم في اليوم
التالي لانتفاضاتهم.
هذا الموضوع الذي يأتي في سياق مراجعة وفهم أسباب فشل أهل الربيع العربي أحيانا في إدارة دفة حراكهم، غدا محل
اهتمام في السنتين الأخيرتين، بالأخص من خلال عدد من الدراسات والكتب أهمها، ربما كتاب السوسيولوجي الإيراني
آصف بيات «ثورة بلا ثورات: مسعى لفهم الربيع العربي»، حيث وجد بيات أن الثوار نجحوا في استعادة الجماهير
بوصفها لاعباً رئيسياً في معادلة الحكم والسلطة، لكن الإشكالية برزت لاحقاً من خلال افتقار الفاعل الثوري لأطروحة
ثورية على حد تعبيره. فكثيرا ما حفلت مصادرهم بالأفكار والرؤى التي تتناقض مع المأمول الثوري، كما عبرت عن
نفسها أحياناً (خاصة بعد الانقلاب العسكري في مصر) بميول كارهة للحراك السياسي الصلب (الحزبي)، ونافرة من
التعامل مع مؤسسات الحكم. كما يمكن أن نذكر في هذا السياق كتاب المفكر السوري برهان غليون «عطب الذات»
الذي بين فيه المفكر السوري ورئيس أول تجمع ممثل للثورة السورية، كيف أن النخب الثورية السورية عجزت عن تقديم
تصورات واضحة على صعيد إدارة اليوم التالي، أو حتى على صعيد تشكيل مؤسسة سياسية قادرة على نقل هموم
السوريين ومعبرة عن توجهاتهم. فالقوى السياسية التي مثلت الثورة بقيت تدور في فلك الأيديولوجيا، في الوقت الذي كان
عليها تقديم تصورات بديلة بعيدة عما عهدته سابقاً من أفكار وتصورات حول السياسة، والعلاقة بالآخر والعالم ، أو حتى
على صعيد إدارة المخابز في حال سقوط النظام.
وبالعودة إلى متن كتاب «رياح التغيير»، ربما ما يسجل على محرري الكتاب أن المقدمة جاءت جافة ولا تعكس مضمونه
الجديد، كما أن قراءة الفصول الأولى من الكتاب، التي تطرقت لثقافة الانفتاح والعيش المشترك (عبد الحميد الأنصاري)
ومبادئ فن القيادة في القرن العشرين (سيروس روحاني/ باحث في عدد من المؤسسات الغربية) والعنف وتحديات الشرق
الأوسط (رامين بيقلو وهو باحث جامعة تورنتو/ كندا)، لم تكن قادرة على توضيح فكرة الكتاب، وهي كما ذكرنا سابقا
تقديم تصور ورؤى أخرى للقوى الثورية السياسية، حول الدولة، والعلاقة بالعالم، والاقتصاد، وكيفية إدارة ملف التعليم
في فترات الانتقال السياسي.
يقدم الكتاب لأهل الربيع العربي اليوم توصيات عديدة لتأسيس رؤية بديلة وجادة حول ملفات تتعلق بالتعليم والدين
والعلاقة بالغرب تتيح إعادة النظر ببعض المسلمات وبمستقبل الحراك الثوري في المنطقة.
فثورات الربيع العربي، ورغم ما عانته من انتكاسات، يبقى أمل في استمرارها كما يؤكد آصف بيات، الذي يلجأ في هذا
السياق إلى اعتماد مفهوم ريموند ويليامز حول «الثورة الممتدة» أو الطويلة؛ إذ يرى بيات أن الثورات قد تبقى
مستمرة، حتى في حال منيت بهزائم عديدة في بداياتها، في حال استطاع أهلها إدراك أن الثورة هي صيرورة صعبة في
تكوين فواعلها وتعددهم، وشاملة من ناحية أنها لا تقتصر فحسب على النزاع بين السلطة والثوار، وإنما تمتد إلى ساحات
الثقافة والاجتماع. ويمكن القول هنا إن هذا الكتاب يأتي ليقدم لأهل الربيع العربي اليوم توصيات عديدة لتأسيس رؤية
بديلة وجادة حول ملفات تتعلق بالتعليم والدين والعلاقة بالغرب تتيح إعادة النظر ببعض المسلمات وبمستقبل الحراك
الثوري في المنطقة.
التعليم والثورات
لكن هذه الحيرة حيال أجندة الكتاب وخلفيته ربما ستبدو أكثر وضوحا مع الفصول اللاحقة، وبالأخص مع دراسات
كريستوفر باك حول الإسلام والحكم والحياة اليومية، ومع فصل «التعليم في الشرق الأوسط» الذي أعده الباحث
بهروز ثابت. إذ لطالما كانت المدارس والجامعات أحد أهم العوامل الأساسية للهيمنة على الثقافة والفكر لدى أنظمة
الشرق الأوسط الشمولية؛ في هذا السياق يرى الباحث أن الطرق والأساليب التعليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال
افريقيا قد غلب عليها الطابع التقليدي، أو بقيت تتمحور حول شخص المعلم. فالمعلم على سبيل المثال، هو محور قاعة
الدرس، وهو المصدر الوحيد للمعرف والمنفرد باتخاذ القرار ، كما أن قاعات الدرس في دول المنطقة ما تزال محكومة
بأسلوب تعليمي، يوجه نظام الامتحانات المدرسية ويتمحور حول التلقين والحفظ، بينما يجلس الطلبة في هدوء وسكينة
يستمعون لما يتلقونه من معلميهم، ويدونون الملاحظات ويحفظون المعلومات عن ظهر قلب. ففي تونس على سبيل المثال،
نجد أن 70٪ من طلبة الصف الرابع يحفظون المعادلات الرياضية والعمليات الحسابية، بينما لا يتعدى ذلك في بلد مثل
كندا نسبة 18٪. كما أن المنهج بقي بمثابة أداة في يد حكومات سلطوية تملي به السلوكيات والقيم والتقاليد، مع التشديد
على طاعة ولاة الأمور والدين بجانب الوفاء بمقتضيات التربية الوطنية الأخرى. فالمنهج يستخدم لغرس روح الطاعة
والولاء من أجل تعزيز السلطة السياسية.
ترى الباحثة شهرزاد ثابت في دراستها الشيقة «العولمة والشرق الأوسط: تأملات في ترشيد المفاهيم» أن نصيب العالم
العربي من التجارة العالمية انخفض من 38٪ في ثمانينيات القرن العشرين إلى ما لا يزيد على 4٪ في السنوات القليلة
الماضية.
وعلى صعيد الجامعات نجد أن العلوم الاجتماعية تعاني من حالة يرثى لها تماما في المنطقة. فالأصوليون في المنطقة
ينظرون إلى هذه العلوم بوصفها تمثل تهديداً مقبلا من الغرب، يقصد به إدخال الأفكار العلمانية في عقول الشباب.
أما الحكومات فلديها شكوك هي الأخرى من دعاة العلوم الاجتماعية بوصفهم يروجون لما هو شائع في الغرب، في سياق
مواز من ديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. ويرى بهروز ثابت أنه لكي يكون للتعليم دور في إحداث التغيير في المنطقة،
فان على قادة الانتفاضات العربية والشرق الاوسط أن يدخلوا إصلاحات على ثلاثة مجالات تعليمية على الأقل هي: مجال
مهارات حل القضايا والمشكلات، ومجال مهارات الاتصال والتخاطب، ومجال المهارات اللغوية، وخاصة اللغة الإنكليزية
التي تبقى غير كافية وعاجزة عن إحراز النتيجــــة المرجوة.
وحل هذه المشكلة اللغوية هو أمر حيوي لا من أجل ضرورة وضع المراجع الأصلية في مجالات العلوم والصناعة تحت
يد الدارسين والباحثين فيها وحسب، وإنما من أجل تطوير التواصل والاتصال والمشاركة في مجالات مثل التجارة العالمية
وتبادل المعلومات والتكنولوجيا.
ثوار وعولمة
في سياق آخر، ترى الباحثة شهرزاد ثابت في دراستها الشيقة «العولمة والشرق الأوسط: تأملات في ترشيد المفاهيم»
أن نصيب العالم العربي من التجارة العالمية انخفض من 38٪ في ثمانينيات القرن العشرين إلى ما لا يزيد على 4٪ في
السنوات القليلة الماضية. كما أن نصيب الصادرات الصناعية، التي هي مصدر مذهل من مصادر النمو الاقتصادي، وخلق
الوظائف في الدول التي تقاربها في المستوى من خارج الشرق الأوسط، منخفضة بدرجة غير عادية في المنطقة، حتى بعد
أن نأخذ في الاعتبار تميز المنطقة في ما يتعلق بمنتجاتها البترولية. وبالتالي من الصعب على العديد من المراقبين
والمحللين تخيل أي وصفة ناجعة من أجل الرفاهية المستدامة في المنطقة، تخلو من انفتاح أكبر، سواء من الناحية
الاقتصادية أو غيرها من النواحي، لكن الإشكالية في رأي الباحثة أن هذه الرؤية ما تزال تصطدم برؤية مقابلة، تنظر إلى
العولمة والاقتصاد العالمي بنظرة شك؛ فالأصوات المعارضة للانخراط في النظام الاقتصادي العالمي لها حضور كبير،
فهناك من يحتج بأن العولمة بماديتها المتغلغة وتغاضيها الواضح عن العدل والإنصاف، تناصب العداء لما درجت عليه
منطقة الشرق الأوسط من قيم أخلاقية ودينية. كما أن هناك من يبدي تخوفه من باب إثار الاندماج العالمي على تنوع
الثقافات والهوية، فغالبا ما يتم الربط بين العولمة والتسبب في خلق التماثل والتجانس.
وترى الباحثة أن الاكتفاء بهذه الإجابات بدون قول أو فعل أي شيء آخر، يعد تهاوناً كبيراً، فالقول بضرورة عدم الدخول
في شراكة عالمية بحجة كون التقدم المادي على خلاف جذري مع المبادئ الأخلاقي، أمر ينم عن موقف لا يوصف فقط
بالسلبية، وإنما بفقدان عجيب للذاكرة ، إذ لا نجد- وفقا للباحثة – ما يفوق أثر الإسلام على ترقي المدنية الإنسانية؛ فقد
كان الإسلام في قرونه الأولى محركاً قوياً للمشروعات النشيطة والنمو التجاري، كما أن أن القرون الأولى تظهر بكل
بوضوح أن بوسع القوى الروحية والمادية أن تكون مكملة لبعضها بعضا في مساعيها لترقية المجتمع البشري.