التعليم الابتدائي بين أهميته ومكانته الدونية
إذا كان من البديهيات حسب علماء التربية وعلم النفس أن حياة الإنسان بصفة عامة تتحدد في سنواته الخمس الأولى أو العشر على أبعد تقدير، وإذا كان من أبجديات المنطق أنه إذا كانت الانطلاقة خاطئة لا يمكن تصور الوصول إلى نتيجة صحيحة؛ بناء عليه هل يمكن لأي مشروع إصلاحي تعليمي أن يحقق شيئا يذكر في غياب إعادة النظر في جل ما يتعلق بالتعليم الابتدائي، بما أنه اللبنة الأساس على سلم المنظومة التعليمية؟.
من المفارقات أنه بقدر المسؤولية العظمى الملقاة على عاتقه باعتباره محطة انطلاق العملية التعليمية بالنسبة لأي متعلم، بقدر التهميش الذي يطاله والاحتقار الذي يقابل به للأسف على المستوى الرسمي، من خلال ما يؤطره من قوانين وما يخضع له من إجراءات، مقارنة ببقية الأسلاك التعليمية. وإن كان الحيف في واقع أمره يشمل المنظومة التعليمية العمومية برمتها، إذا استثنينا المبادرات الملكية النوعية كالمتعلقة بمليون محفظة، بما أن قطاع التعليم لازال في نظر البعض قطاعا استهلاكيا وليس قطاعا منتجا، في تحد صارخ لأي منطق؛ لكن التعليم الابتدائي نصيبه أوفر من هذا الحيف والتهميش، سواء على مستوى بنيته التحتية لجل مدارسه، أو على مستوى تلاميذه وتلميذاته، أو على مستوى أطره التربوية، أساتذة ومديرين ومفتشين؛ وذلك من خلال عدة وجوه نذكر منها على الخصوص: ما يتعلق بالمدة الزمنية المقررة للتعليم الابتدائي، والمحددة في ثلاثين ساعة في الأسبوع بالدقيقة والثانية، مقابل نظيره بالتعليم الإعدادي بأربع وعشرين ساعة، والثانوي التأهيلي باثنتين وعشرين ساعة، دون الحديث عن الجامعي ربما بثماني ساعات أو أقل.
فهل يتولى أحد ممن تفتقت عبقريتهم على هذا التقسيم الزمني بين الأسلاك التعليمية ليوضح لنا الأساس البيداغوجي الذي تم على أساسه هذا التمييز؟ هل لأن الطفل في هذه السن أقدر من غيره الأكبر سنا بالتعليمين الإعدادي والثانوي التأهيلي على الاستيعاب كل هذه المدة خلال الأسبوع؟ أم لأن المدارس الابتدائية مجهزة بما يكفي من وسائل الراحة يؤهلها لاحتضان الأطفال كل هذا الوقت بدون كلل أو ملل؟ فحبذا لو كشفوا لنا عن السند الذي بنوا عليه هذا الحصيص الزمني بين الأسلاك التعليمية، لنعرف ما إن كان خاضعا لمعطيات البيداغوجيا وعلم النفس التربوي أم المزاجية والنظرة
الدونية هي الخصم والحكم، بما أن الأمر يتعلق بأطفال صغار السن.
أين التعليم الابتدائي على أهميته مما هو متوفر للتعليم الإعدادي والثانوي التأهيلي على علاته، من حيث المكتبات والوسائل التعليمية والملاعب الرياضية والمراسم والمختبرات المخصصة للتجارب العلمية، والأهم اعتماد التخصص لتدريس كل المواد؟ فأنى
للسلك الابتدائي من هذه الامتيازات التي بدونها لا يمكن تصور تحقيق أي نوع من الإصلاحات مهما رصدنا لها من ميزانيات؟.
ثم ما هي وضعية الأساتذة الذين قدرهم الاشتغال بسلك التعليم الابتدائي، ابتداء من المدة الزمنية (30 ساعة) مقارنة بنظرائهم بالتعليمين الثانوي التأهيلي؟.. و"العذر أعظم من الزلة" لما يقولون إن السبب هو توفير الوقت الكافي للبحث العلمي لمواكبة المستجدات العلمية والبيداغوجية الضرورية لأداء المهمة التعليمية على وجهها الأكمل، وكأن أستاذ التعليم الابتدائي بما أنه يشتغل فقط مع الأطفال الصغار يكفيه ما تحصله خلال مدة دراسته الجامعية، جاهلين أو متجاهلين أنه في الدول التي تحرص على جودة تعليم أبنائها فالهرم مقلوب تماما ماديا ومعنويا بالنسبة لمن يتولى التدريس بهذه الأسلاك الأولية؛ فـ"المطرب من يطرب الصغار"، فمَنْ يا ترى أكثر حاجة للوقت لتعميق معارفه التربوية والعلمية، معلمو الكبار أم معلمو الصغار؟. كيف ونحن في الألفية الثالثة، زمن التخصصات، لازال أستاذ التعليم الابتدائي لا فرق بينه وبين "كفيفة العطار" كما يقال، يقوم بكل الأدوار، ويدرس حزمة من المواد لا رابط بينها..ومع ذلك يأتي من يحاسبه على الجودة والمردودية ويحمله مسؤولية ما يعرفه المستوى من تدن وتقهقر (الحويط القصير)، تماما كمن يُحْكمون وثاقه ويرمونه في البحر ويحذرونه من الغرق؟.
والطامة الكبرى الظلم الذي لا معنى له والمتعلق باستفادة أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي من خارج السلم واستثناء نظرائهم بالإعدادي والابتدائي من هذا الحق، لا لشيء إلا لأنهم يدرسون بهذين السلكين، ما يجعل كل الأساتذة يسعون بكل الوسائل للقفز من سفينته والالتحاق بالثانوي، فقط للاستفادة من هذا الحق. وبسخرية بالغة ظاهرة للعميان التفوا على هذا المطلب المشروع، وللأسف بمباركة النقابات، ليسخروا منه برتب 11-12-13 لا تعادل مجتمعة ربع ما يحصل عليه الأستاذ خارج السلم..هذا دون الحديث عن مسخرة تعويضات التصحيح والحراسة بدون مقابل، وهلم ظلما يخص حركته الانتقالية البطيئة والنسبة المتدنية جدا بخصوص ترقيته، سواء بالامتحان المهني أو بالاختيار أو التسقيف.