أخلاقيات التعامل مع المدينين
د. عبد الباري مشعل
1- قد أكون متأخرًا في إثارة هذه المسألة، لكن أجدها من الأخلاقيات الغائبة في ظروف الأزمات وما أكثرها. طيلة الفترة الفائتة كنا في جانب الدائنين، وأفتى لهم المفتون بالصلح الواجب على قيمة الدين، أو برد الدين بالقيمة مراعاة لانخفاض قيمة العملة السورية وقبلها العراقية وبعدها التركية، ولم ننظر إلى حال المدينين وأحوالهم وخاصة المدينين بديون تجارية.
2- ولتحقيق التوازن في الأحكام، نقرر ابتداءً بأنه لا تجوز الاستدانة إلا لمن عزم على الوفاء، والاستدانة مع نية عدم الوفاء من الأعمال الآثمة ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله))؛ رواه البخاري. ومماطلة الغني الواجد في أداء الدين من الجرائم التي تُحل عرضه وعقوبته طبقًا لنص الحديث.
3- وما نحن بصدده في هذا المقال هو المدين العازم على الوفاء، غير أن هذا المدين قد يطرأ عليه العسر والتعثر بسبب الواقع الاقتصادي، والأزمات التجارية المتعاقبة، فما واجب الدائن تجاهه؟
4- سأستعير الحلول من الواقع التجاري للشركات، الفصل المشهور رقم 13 من القانون الأمريكي بشأن الإفلاس، وسار على الطريق نفسه قانون الاستقرار في الكويت في أزمة 2008، ومؤدَّى هذين القانونين، حماية المدينين (الشركات المدينة) من الدائنين، والرقابة عليها حتى تتم تسوية أوضاعها التجارية، وتخرج من أزمتها، وبعد ذلك تبدأ بسداد ديونها وفق جدولة ميسرة على المدى الطويل وبما يتناسب مع التدفقات النقدية لتلك الشركات.
5- وعلى الجانب الآخر كثير من علاقات المديونية بين الشركات في الأزمات تخضع للتفاوض بين الدائنين والمدينين، ويقوم الدائنون بتخفيض جزء كبير من المديونية مع جدولة مناسبة للسداد لتشجيع المدينين على السداد، فالحصول على تدفق نقدي مستمر من جزء من الدين خيرٌ من لا شيء، وهو ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال تعنت الدائنين.
6- وقد ساعد على هذه الحلول العملية في الشركات المعاصرة مبدأ المسؤولية المحدودة الذي وضع حدًا للمطالبة بالمديونية لا يتجاوز أصول تلك الشركات، وبالتالي يكون الاقتصاد الوطني أمام خيارين؛ إما تصفية تلك الشركات وتوزيع أصولها على الدائنين بالتساوي قسمة الغرماء، وتحمل ما يترتب على ذلك من أضرار تتمثل في البطالة ونقص الإنتاج والخدمات التي يحتاجها المجتمع، وإما حماية تلك الشركات من الإفلاس ومن الدائنين في الوقت نفسه، بإعطائها فرصة لتسوية أوضاعها والنهوض من أزمتها وسداد ديونها مع إمكانية التفاوض مع الدائنين على الحسم والتخفيض لتلك الديون، وحماية الاقتصاد من البطالة. وتبعاتها.
7- إن تلك الممارسات التجارية من الجدولة والحسم والتخفيض للديون طبقت على مليارات الديون التي نشأت في الأزمة، وهي من وحي الشريعة الإسلامية وعلى وجه التحديد من قوله تعالى: "وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) البقرة.
8- فالآية تفرض على الدائن شرعًا فرضًا لا ندبًا أن يُنظِر المدينَ المعسرَ إلى أن يتغير حاله من الإعسار والتعثر إلى اليسر أو الميسرة، وتحث على التصدق بالدين، بعضِه أو كلِّه، فهذا من العموم الوارد في الآية الكريمة، بصرف النظر عن السِّياق الخاص بسبب النزول.
9- وتطبيق هذه الأخلاقيات على الأفراد المدينين هو الأصل وهو أولى من تطبيقها على الشركات المدينة، وبينما وجدت الشركات المدينة قوانين تحميها من الدائنين؛ فإن الأفراد المدينين كانوا محاصرين بملاحقة الدائنين والفتاوى التي تركز على جانب اليسر والمماطلة، ولم تراعِ جانب العسر والتعثر في الظروف الحالية التي طالت أوضاع العديد من الأفراد بسبب الأحداث الاقتصادية العامة.
10- وإن الناظر في الأحاديث وكلام المفسرين في "الإنظار إلى الميسرة"، كان أمرًا جللًا، فعدا عن وجوب الإنظار شرعًا؛ هناك فضلٌ وثواب ومنزلة عظيمة للدائن الذي ييسر في الدين على المدين.
11- وإن أخلاقيات المسلم متكاملة، فكما هو ملتزم بالصدق في الحديث، والوفاء بالعقود والمواثيق، وحفظ الأمانات وغير ذلك من الأخلاقيات؛ فإنه يجب أن يكون ملتزمًا بإنظار المعسر، أو التصدق عليه ببعض الدين أو كله ندبًا.