منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Empty
مُساهمةموضوع: الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية    الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Emptyالسبت 09 نوفمبر 2019, 10:20 am

الفتح الإسلامي لجزيرة صِقِلِّيَّة

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (1)



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صل الله عليه وسلم.
 
وبعد:
فهذا مُوجَزٌ لتاريخ الإسلام في البِقاع الواقعة في الدولة الإيطالية[b][1]، والمَعْدودة جُغرافيًا وسياسيًا في أقاليمها، وسوف نبدأ إن شاء الله تعالى بالحديث عن جزيرة صِقِلِّيَّة؛ نظرًا لطول مُكْث المسلمين هناك أكثر من أي مكان آخر في إيطاليا، بل لكونها المُنْطَلَق للفتح والغزو في بقية الأقاليم، والمدن الإيطالية.[/b]

جزيرة صِقِلِّيَّة:
أما جزيرة صِقِلِّيَّة، فهي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وأكبر أقاليم إيطاليا من حيث المساحة، ولا يفصلها عن شبه الجزيرة الإيطالية إلا مَضيق بحري رفيع، وتقع بين شبه جزيرة كالابريا - قلورية في المصادر العربية الإسلامية - في أقصى جنوب إيطاليا، وشبه جزيرة الرأس الطَّيِّب في تونس، وتقسم الجزيرة البحر المتوسط لقسمين: شرقي، وغربي، وهي إحدى حلقات الوصل الكبرى بين القارتين: الإفريقية، والأوروبية، بل بين دول الحَوْضَيْن: الشرقي، والغربي للبحر المتوسط، وقد أعطاها الموقع الجغرافي المذكور أهمية سياسية، واقتصادية، وعلمية كبرى[2]، وهي تتمتع حاليًا بنوع من الحُكْم الذَّاتِي في إطار تبعيتها السياسية لإيطاليا.

وقد غزاها المسلمون عِدَّة غزوات في العصر الأموي[b][3]، ثم العَبَّاسِي، إلى أن فتحها الأَغالِبة في ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأَغْلَب[4]، الوالي على القَيْروان من قِبَل المأمون العباسي، في السنة الثانية عشرة بعد المائتين من الهجرة، بقيادة الفقيه المجاهد أَسَد بن الفُرات رحمه الله تعالى[5].[/b]

وقد ظَلَّت بها عِدَّة مدن تحت سيطرة النَّصارى، لاسيما القِسْم الشَّرْقي الذي كانت تأتيه الإمدادات من أوروبا، وقَنَع بعضُ الولاة منهم بالجِزْيَة، واستمر ذلك إلى أن أحكم إبراهيم بن أحمد تاسع أمراء الأغالِبة[b][6] سيطرته عليها، ثم عادت السيطرة للنصارى في شرق الجزيرة، إلى أن سقطت دولة الأغالِبة في شمال إفريقية على يد العُبَيْديِّين الإسماعيلية الذين يُسَمَّون بالفاطميين[7] سنة ست وتسعين ومائتين.[/b]

لقد دخلت الجزيرة بسقوط الدولة الأَغْلَبِيَّة الأُم في شمال إفريقية في عصر من الفوضى والاضطراب دام ما يزيد على رُبْع القَرْن، وانتهى باستيلاء العُبَيْدِيِّين على الجزيرة بعد أن رفض أهلها لمُدَّة الدخول في طاعتهم، فقام عبيد الله المهدي بتولية والٍ جائر ضَجَّ أهلها منه، فأَحَلَّ مَحَلَّه مَثيلًا له، مما ألجأ بعضَ ضِعاف الإيمان من أهل الجزيرة إلى الاستنجاد بالروم، بل الالتحاق بالنصارى، والدخول في جُمْلَتهم؛ هَربًا من تَعَسُّف ولاة العُبَيْدِيِّين.[b][8][/b]

وعلى إثر تلك الأحداث قام العُبَيْدِيِّون بتولية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكَلْبي، وخَلَفه أبناؤه من بعده، وكانوا من أَخْلَص أعوان العُبَيْدِيِّين، وظَلَّتْ الجزيرة بأيديهم مُدَّة طويلة؛ حيث تعاقب على حكمها منهم عشرة ولاة في مُدَّة خمس وتسعين سنة[9].

وقد وصف الدكتور إحسان عباس رحمه الله فترة حُكْم الكَلْبِيِّين لصِقِلِّيَّة بقوله[10]: شهدت في أثنائها تَقَدُّمًا في الحياة العمرانية، وفي العلوم، والآداب، كما شَهِدت جِهادهم المُسْتَمر في جنوب إيطاليا، وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة، وأَخْلَدَت صِقِلِّيَّة إلى الهدوء، وجَنَتْ من ذلك خَيْرَ الثِّمار، وكان من أسباب هذا الهدوء: انْشِغال الجُنْد في أكثر الأوقات بالحروب في جَنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صِقِلِّيَّة، واعتبار أنفسهم مُسْتَقِلِّين اسْتِقْلالًا داخليًا في شؤون الجزيرة.[b][11][/b]
ـــــــــــــ
[1] انظر عن جغرافية إيطاليا، ونشأة دولتها الحديثة: دراسات في جغرافية أوروبا وحوض البحر المتوسط للدكتور محمد إبراهيم حسن (ص249 - 266).

[2] أدى الموقع الجغرافي المتميز للجزيرة إلى كثرة الصراعات السياسية عليها، وحِدَّة التَّجاذب بين القوى المتنازعة عليها، مما سَبَّب نُفور أهلها من الأجانب. انظر: جغرافية أوروبا الإقليمية لجودة حسنين ص598،  والمسلمون تحت السيطرة الرأسمالية لمحمود شاكر ص25، وعنهما: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجدي بكر ص110، 111.
[3] بدأ ذلك الغزو على يد معاوية بن حُدَيْج رضي الله عنه ـ وهو مذكور في الصحابة ـ في زمان معاوية رضي الله عنه حينما أغزا جيشًا إلى صِقِلِّيَّة في مائتي مَرْكب، فسَبَوا، وغَنموا، وأقاموا نحو شهر. انظر: البيان المُغْرب في أخبار الأندلس و المَغْرب لابن عذاري (1/16، 17)، والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأبي العباس الناصري (1/133، 134)، وتاريخ ابن خلدون (1/253).
[4] كان إرسال زيادة الله للحملة بناء على طلب من صاحب صقلية. انظر تفصيل ذلك في: تاريخ ابن خلدون (4/198-199). وذكر أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص170) أن قائد أسطول صقلية البيزنطي أيو فيميوس ـ وجاء اسمه في المصارد العربية فيمي ـ قد أَسْلَمه للمسلمين بعد ثورة فاشلة قام بها، وهذا يؤيد ما ذكره ابن خلدون في الموضع الفائت وغيره من مؤرخي المسلمين، كما ذكر (ص229) إلى خروج حملة بحرية من طرطوشة بالأندلس سنة 829 م لمساعدة الأغالبة في فتح الجزيرة، لكنها سرعان ما انسحبت بعد تعرضها لهزيمة على يد أسطول بيزنطي، واعتبر أرشيبالد سقوط صقلية في أيدي الأغالبة بمثابة طَيٍّ لصفحة السيادة البيزنطية على البحر المتوسط، والتي سعى الأمويون طويلًا لنزعها من أيدي البيزنطيين، حتى حَصَّلها الأغالبة في شمال إفريقية.
[5] كان الروم يشنون الغارات من صقلية قبل فتحها على سواحل شمال إفريقية، فأغار عليهم المسلمون في حملات تأديبية، فاضطر قسطنطين بطريق صقلية إلى عقد الصلح مع إبراهيم بن الأغلب والي إفريقية، وكانت مدة هذا الصلح عشر سنوات. انظر: الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان ص17، وعنه الأقليات الإسلامية في أوروبا (ص113،112).
ويذهب أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص165) إلى أن ما طرأ على بيزنطة من ضعف في تلك الفترة هو الذي أغرى الأغالبة بالقيام بالعديد من الأعمال البحرية ضد أهداف تابعة لبيزنطة، وأوضح أن أسطول الأغالبة قد أغار على البلوبونيز، وساعد السلافيين في حصارهم لمدينة بتراس في عام 805 م، والموضعان المذكوران يقعان في اليونان، ولم يستبعد أرشيبالد أن يكون تلك الحَمْلة جزءًا من خطة عباسية عامة، هدفها الضغط على القسطنطينية برًا، وبحرًا؛ لأن ذلك الغزو قد انتهى بعقد اتفاقية بين بطريق صقلية، والأمير الأغلبي مدتها عشر سنوات، ثم جُدِّدت الاتفاقية لعشر سنوات أخرى سنة 813 م، لكنها كانت معدومة الأثر ـ على حد تعبيره ـ لأنها لم تمنع عرب شمال إفريقية من القيام بغارات ولو فاشلة على سردينيا عامي 813،812 م، وخسر العرب في الغارة الأخيرة منهما مائة سفينة، أغرقتها لهم العواصف قرب الجزيرة، واعتبر أرشيبالد ذلك الحدث دافعًا حَفَّز المسلمين في شمال إفريقية إلى مهاجمة صقلية سنة 820 م، فغنموا من هجومهم غنائم عظيمة، ثم كانت سردينية فريستهم ـ على حد تعبيره ـ في العام الذي يليه.
ومن الملاحظ أن كل تلك الوقائع كانت سابقة على فتح صقلية، الذي وافق انطلاقه عام 827 م، وتُوِّج بسقوط بَلِرْم سنة 831 م كما في المرجع المذكور آنفًا (ص213،212)، والذي يحوي تفاصيل كثيرة عن فتح الجزيرة (ص211-222)، وسيأتي ذكر الكثير منها وفقًا للتاريخ الهجري.
[6] حكم من سنة إحدى وستين ومائتين إلى سنة تسع وثمانين ومائتين من الهجرة.
[7] وهم ينْتَسِبون إلى الإسلام زُورًا، ولا خلاف بين أهل العلم في كُفْرهم، وبُطلان نسبتهم لإسماعيل بن جعفر الصادق رحمة الله عليه، ورضي الله عنه، وعن آبائه. انظر: التبصير في الدين للإسفراييني (ص38)، والملل والنحل للشهرستاني (1/190-196)، وتلبيس إبليس (ص92)، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (4/46،45)، (6/227،226)، (8/5،4)، وللشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى كتاب بعنوان [الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد].
[8] عَبَّر عن ذلك عبدُ العزيز الثَّعالبي رحمه الله تعالى بقوله: لما تغلب عبيد الله المهدي على إفريقية، وزال عنها حُكم بني الأغلب، كَرِهت الولايات الإسلامية في أوروبا أن تُقَدِّم طاعتها للمُتَغَلِّبين، فأجمع أصحاب الشأن فيها على إعلان الاستقلال، حتى يمتنع نَقْل الجيش من أوروبا إلى إفريقية، فبايعوا بالأمارة القائد أحمد بن زيادة الله بن قرهب، ثم ذكر الثعالبي ما وقع من أحداث عقب ذلك، ثم قال عن الوالي العُبَيْدِي الجائِر سالم بن أبي راشد وجَيْشه الكِتامِي: فكان دأبُهم الإفْحاش في الظلم وسَلْب الأموال، فانقبضت النفوس، وخارت الهِمَم عن التَّوَسُّع ـ أي في الفتح ـ حتى طمع فيهم رعاياهم الإيطاليون والفرنسيون.
وفي عهد أبي القاسم ابن عبيد الله المهدي عَيَّن لولاية أوروبا خليل بن إسحاق الطاغية، فقضى في الحكم أربعة أعوام ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يُسْمع بمثله، وجعل المسلمين يَفِرُّون أفواجًا أفواجًا إلى البلاد النَّصرانية، ويَتَنَصَّرون. انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص300).
ومن الواضح أن الثعالبي رحمه الله يستخدم تعبيرات حديثة للتعبير عن مَواطِن وطوائف قديمة، فيُدْخِل صِقِلِّيَّة في التعبير عن أوروبا، ويُعَبِّر عن أهلها بالأوروبيين، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الأجزاء من القارة الأوروبية  كانت واقعة بالفعل تحت سلطان الأغالِبة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الحديث عن حُكم المسلمين لجنوب شبه الجزيرة الإيطالية.
وقد فَصَّل ابن خلدون في تاريخه (4/208،207) أخبار ولاة صقلية من قبل العُبَيْدِيِّين قبل الكَلْبِيِّين.
[9] الأسلوب الذي صاغ به الدكتور إحسان رحمه الله كتابه غير منضبط بضوابط الفهم الإسلامي لكثير من القضايا، وقد يُعَوِّل ـ مع نُبوغه في التاريخ ـ على مصادر غير موثوق بها، أو مجهولة، ومثال ذلك: نقله عن مخطوط مجهول الكاتب أن بني أبي الحسين قد دخلوا في المذهب الإسماعيلي.
[10] انظر: العرب في صقلية للدكتور إحسان عباس رحمه الله (ص45). وكان قد ذكر في الصفحة السابقة عليها أن أهل صقلية لم يحبوا أحدا ممن تولى عليهم من قبل الفاطميين مثلما أحبوا الولاة الكلبيين. وقد وصف ابن خلدون في تاريخه (4/210،209) غير واحد من ولاة الكلبيين بالعدل، وحُسْن السيرة، ومحبة أهل العلم، والاشتمال على الفضائل.
[11] انظر للمزيد عن أحوال صقلية من الفتح حتى السقوط: تاريخ ابن خلدون (4/198-211)، والرَّوْض المِعْطار للحِمْيَري (366-368)، والواسطة في معرفة أحوال مالطة لأحمد فارس الشدياق (ص67)، وتاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط لشكيب أرسلان (296-302)، وأطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس (ص180،179)، (ص291-294)، والمسلمون في أوروبا وأمريكا للدكتور على المنتصر الكتاني (ص155)، ومعالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (269-285)، والأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص111-116). وللدكتور إحسان عباس رحمه الله كتاب بعنوان العرب في صقلية، وهناك العديد من المصنفات التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي لصقلية، منها: المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا لمؤلفه أحمد توفيق المدني، وهو من مصادر الزركلي الرئيسة في كتاب الأعلام، وكتاب بعنوان الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان، وكتاب بعنوان المسلمون في فرنسا وإيطاليا للدكتور إبراهيم طرخان.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية    الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Emptyالسبت 09 نوفمبر 2019, 10:21 am

سُقوط صِقِلِّية في قَبْضَة النَّورمان النَّصارى

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (2)

 
وقعت في نهاية حُكْم الكَلْبِيِّين صِراعات أدخلت الجزيرة في انقسامات داخلية، فغزاها النورمان[1] النصارى سنة أربع وأربعين وأربعمائة بقيادة روجر (روجار) الأول، والذي أرسله أخوه روبرت جسكارد، زعيم النورمان المُتَمَلِّك لجنوب إيطاليا، وذلك بطَلَب من محمد بن إبراهيم بن الثمنة أحد المُتَصارِعِيْن على سِيادة الجزيرة، فاسْتَنْجَد أهلُ صِقِلِّيَّة بالمُعِزِّ ابن باديس صاحب إفريقية؛ لمُجابَهَة قوات روجر، فأَمَدَّهم بأُسطول كبير، أَبْحَر قاصِدًا صِقِلِّيَّة، ولكن عَرَضَتْ له عاصِفةٌ عاتِية، أغرقت أكثر السُّفُن وكان ذلك من أسباب تَضَعْضُع قُوَّة المُعِزِّ ابن باديس، وتَسُرُّب الوَهَن إليه، حتى استطاع العَرَب الهِلالِيّون الذين أرسلهم المُسْتَنْصِر العُبَيْدِي أن يَتَمَلَّكوا البلاد في شمال إفريقية من يديه، وكان ذلك عُقوبة له على خَلْع طاعة بني عُبَيْد، وإقامة الدَّعْوَة لبني العَبَّاس.[2]
 
فلما تولى ابنه تَمِيْم[3] الحُكْم، أرسل أُسْطولًا إلى الجزيرة، وجعل على رأسه ابناه: علي، وأيوب، فحاربا النورمان عند مكان يُدْعى مسلمري، وهُزِما، وأصبحت عودتهما إلى أفريقية أمرًا مؤكدًا، وكانت معارك النورمان حينها لا تَتَعَدَّى المُناوشات البسيطة.

واضْطَرَب أمرُ المسلمين في الجزيرة بعد هزيمة ابْنَي تَمِيْم، ولم يَبْقَ فيهم من يُوَحِّد قُوَّتهم، ويقف بها في وجه العدو، في الوقت الذي كان النورمان فيه قد تَقَوَّوا بمَعُونة بَحْرِيّة من بيشة (بيزا)؛ اسْتعدادًا للهجوم الكبير، فعادوا إلى غَزْو الجزيرة مرة أخرى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وتَمَلَّكوا مُدُنها واحدة بعد أخرى، إلى أن أَحْكَموا قَبْضَتهم عليها بالكُلِّيَّة بعد ثلاثين سنة من القتال.

وقد ذكر المؤرخون عدة أقوال في تحديد عام سقوط الجزيرة، ومردها جميعًا إلى صحة توصيف السقوط، فمن ذكر منهم أن الجزيرة سقطت 483هـ [b][4] أو سنة 484هـ [5] عَنَى السقوط الكُلِّي لكامل الجزيرة، ومن ذكر أن انتزاع النصارى للجزيرة من المسلمين كان في سنة 464هـ[6] قَصَد سقوط المدن، والحصون الكبرى فيها؛ لأن السنة المذكورة هي التي سقطت فيها مدينة بلرم العاصمة، وتلتها مدينة مازر.[/b]

ومن ثم، فلا يمكن تخطئة أي من الأقوال المذكورة؛ لما بَيَّنَّاه من سقوط مُدنها على مَدار سنوات عديدة، وصلت إلى ثلاثين سنة، كما تَنْفَرِط حَبَّات العُقْد، وقد علمنا أن سقوط الأندلس النهائي كان بسقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري، مع كون أغلب الأندلس كان قد سقط بالتدرج في أيدي النصارى قبل ذلك على مدار قرون عديدة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

بُطُولة في زمن السقوط:
قام رجل يُسَمَّى ابن عباد في مدينة سرقوسة بتنظيم الجهاد ضد النورمان، وامتدت أعماله إلى ولاية نوطس برًا وبحرًا، حتى استحق من أحد المؤرخين النورمان الثناء عليه بالدهاء، والجُرْأة، والمهارة في القيادة، وإتقان الخدعة في الحرب.

وفي إحدى المعارك استطاع أن يكسر جيشًا لابن رجار (روجر)، مما اضطر رجار أن يوجه إليه اهتمامه، غير أنه عاد، فانصرف عنه، واحتل بأسطول كان قد بناه مدينة طرابنش سنة 1077م، وهدم سورها، وتملك أرضها، ووزعها على أتباعه.

وقد استطاع ابن عباد في سنة 1081م أن يشتري بالمِنَح والوعود حاكم قطانية من قبل رجار، فسَلَّمه المدينة، فاتسع سلطانه، حتى أصبح لا يكتفي بالمقاومة والدفاع، بل توجه سنة 1084م إلى قلورية، ونهب ريو، ونقطرة، وعاد ظافرًا.

فرأى رجار أنه لابد من جَولة حاسمه مع ابن عباد، فقابله عند سرقوسة أسطول قوي سنة  1085م، وأخذت سُفُن ابن عباد تغرق واحدة بعد أخرى، وكلما غَرَقَتْ به واحدة، وَثَب منها إلى واحدة لم تغرق، ولكنه زَلَّتْ به القدم، فتلقاه البحر، ويقال: إن رجار أرسل جثته إلى الأمير تميم بإفريقية.[b][7][/b]

محاولات متأخرة لاسترداد الجزيرة:
وقد وقعت محاولات متأخرة لاسترداد الجزيرة من أيدي النصارى، ففي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة بَعَث صاحب تونس، وإفريقية، وتِلْمِسان، أبو فارس عبد العزيز[8] - أُسْطولًا فيه مائتا فارس، وخمسة عشر ألف مقاتل من العسكرية، والمُطوعة؛ لأخذ جزيرة صقلية، فنازلوا مدينة مازِر، حتى أخذوها عَنْوَة، ومَضَوا إلى مدينة مالطة، وحَصَروها، حتى لم يَبْق إلا أخذها، فانهزم من جُمْلَتهم أحد الأمراء من العُلُوج، فانهزم المسلمون لهزيمته، فركب الفرنج أَقْفِيَتهم، فاستشهد منهم في الهزيمة خمسون رجلًا من الأعيان، ثم إنهم ثَبَتوا، وقبضوا على العِلْج الذي كادَهم بهزيمته، وبعثوا به إلى أبي فارس، فأمَدَّهم بجيوش كثيرة.[9]
 
لكن تلك المحاولة لم تُسْفِر عن تَغَيُّر الوضع السياسي للجزيرة، فبقيت في أيدي النصارى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فجائعُ الدَّهر أنواعٌ مُنَوَّعَةٌ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
وللزَّمان مَسَرَّاتٌ وأحزانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

وللحوادث سُلْوانٌ يُسَهِّلُها  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
وما لما حَلَّ بالإسلام سُلْوانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

دَهَى الجزيرة أمرٌ لا عَزاءَ له  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
هَوَى له أُحُدٌ وانْهَدَّ ثَهْلانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

أصابها العَيْنُ في الإسلام فارْتَزَأتُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
حتى خَلَتْ منه أَقْطارٌ وبُلْدانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

تَبْكِي الحَنِيفِيَّة البَيْضاءُ من أَسَفٍ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
كما بَكى لفِراق الإلْف هَيْمانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

على ديارٍ من الإسلام خاليةٍ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
قد أَقْفَرَتْ ولها بالكفر عُمْرانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

كَمْ يستغيث بنا المُسْتَضْعَفون وهُمْ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
قَتْلى وأَسْرى فما يَهْتَزُّ إنسان  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

ماذا التَّقاطُعُ في الإسلام بينكم  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
وأنتم يا عبادَ الله إخوانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

ألا نُفُوسٌ أَبِيَّات لها هِمَمٌ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
أَما على الخَيْر أنصارٌ وأعوانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

يا مَنْ لذِلَّة قومٍ بعد عِزِّهم  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
أَحالَ حالَهُم كُفرٌ وطُغْيانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

بالأمس كانوا مُلوكًا في منازلهم  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
واليومَ هُم في بلاد الكُفْر عُبْدانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space

لمثل هذا يذوبُ القَلْبُ مِنْ كَمَدٍ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space
إنْ كان في القَلْب إسْلامٌ وإيمانُ  الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Space



ـــــــــــــــــ
[1] النورمان: هم المُسَمَّون في المراجع العربية الإسلامية بالأردمانيين، وهم من سُكَّان الدول الإسكندنافية المتمثلة في السويد، والنرويج، وفنلندا، بالإضافة إلى سكان الدانيمرك، وهم المعروفون في التاريخ الأوروبي بالفايكنجز -  وتعني القراصنة - ويوسَمون بالوحشية والدَّمَوِيَّة، وقد قاموا برحلات بحرية عديدة من بلادهم إلى شمال أوروبا عبر بحر الشمال تحت وطأة ظروف عديدة، ونزلوا إنجلترا، وأنشأوا فيها أسرة حاكمة امتدت زمنًا، ونزلوا آيرلند، واكتشفوا آيسلند، وجرينلاند، وأغاروا على الأندلس عِدَّة غارات، ولم يسلم منهم المغرب، وعبروا مضيق جبل طارق، وأغاروا على سواحل الأندلس الشرقية، وجنوب فرنسا، إلى أن استقروا في جنوب إيطاليا بعد أن دخلوا في حِلْف مع البابوية في روما ضد الإمبراطوريتين: الألمانية، والبيزنطية، فأجازت لهم البابوية انتزاع جنوب إيطاليا من البيزنطيين، ومنحتهم الحق في صقلية إن انتزعوها من المسلمين، فانطلقوا من مَعْقلهم في جنوب إيطاليا، مُسْتَولِين على الجزيرة التي لم يكتفوا بها، وإنما نزلوا العديد من مدن الساحل في شمال إفريقية، واستقروا ببعضها  -  كالمهدية بتونس  -  على فترات زمنية متقطعة.
وأصل أمراء النورمان في جنوب إيطاليا، وصقلية يعود إلى أسرة تُسَمَّى أسرة هوتوفيل، وكان النورمان قد استقروا في الساحل الشمالي لفرنسا فترة من الزمن، ولا يزال هذا الساحل معروفًا باسمهم إلى اليوم، ومنه أغاروا على إنجلترا غارة مشهورة تركت أثرا واضحا في التاريخ الإنجليزي، ومنه بدأ الحُلَفاء هجومهم على الألمان في الحرب العالمية الثانية لطردهم من فرنسا. انظر: أطلس تاريخ الإسلام (ص294)، ومعالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (ص229 - 285)، وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور (ص284 - 289).
[2] انظر: أخبار ملوك بني عُبيد وسيرتهم لمحمد بن علي بن حماد (ص104).
[3] كان حَسَن السّيرة، محبًا للعلماء، مَقْصِدًا للشعراء، كامل الشجاعة، وافر الهيبة. انظر: العبر (2/381)، وتاريخ الإسلام للذهبي (35/44،43).
[4] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/322). وقد نَصَّ في ذلك الموضع على أن النصارى استولوا على سائر جزيرة صقلية في العام المذكور.
[5] انظر: الأعلام للزركلي (2/88).
[6] انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (3/215).
[7] انظر: العرب في صقلية (ص132،131).
[8] هو أبو فارس، عبد العزيز بن أحمد، الهنتاتي، الحَفْصِي، ملك المغرب، وصاحب تونس، وكان يُلَقَّب بعزوز، قال المقريزي: كان خير ملوك زمانه صيانة، وديانة، وجودًا، وإفضالًا، وعَزمًا، وحَزْمًا، وحُسْن سياسة، وجميل طريقة، وأطال ترجمته جدًا في عُقوده، وختمها بقوله: ومناقبه كثيرة، وفضائله شهيرة، ولقد فُجِع الإسلام وأهله بموته، والله يرحمه، ويتجاوز عنه. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة عن ست وسبعين سنة، بعد أن خُطِب له بفاس، وتِلْمِسان، وما والاهما من المدن والقرى ما يزيد على إحدى وأربعين سنة. انظر: الضوء اللامع للسخاوي (4/214)، والأعلام للزركلي (4/14).
[9] انظر: حوادث سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة من السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية    الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Emptyالسبت 09 نوفمبر 2019, 10:22 am

الوجود الإسلامي في صِقِلِّيَّة بعد سُقوطها في أيدي النُّورْمان

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (3)


استمر الوجود الإسلامي في جزيرة صِقِلِّيَّة ما يزيد عن قرنين ونصف القَرْن من الزَّمان[b][1]، وصَرَّح بعض حُذَّاق المؤرخين من المعاصرين أن مُدَّة ذلك زادت على المائتين وسبعين سنة[2].[/b]

وحقيقة اللُّبْث الإسلامي في الجزيرة تَرْبو على ذلك إذا نظرنا إليه من الجهة التي نريد إثباتها في المقال، لا من جهة الوصف الشرعي لتلك الديار بعد زوال حُكم المسلمين لها؛ فقد استمر وجود كثير من المسلمين في الجزيرة بعد وقوعها في أيدي النصارى من النورمان[b][3]، وكان من هؤلاء: أهل المدن المتمتعون بشيء من الحرية دون التوسع في الممتلكات، والفلاحون المُسْتَرَقُّون[4] من قِبَل الغزاة، والجنود في الجيش والأسطول[5].[/b]

وقد كان من شأن روجر الأول عقب استيلائه على الجزيرة أن أبقى العُمَّال المسلمين على ولاياتهم أول الأمر، ثم أخذ يعْزِلُهم واحدًا بعد الآخر، ويُوَلِّي مكانهم حُكَّامًا من النورمان، أو الصِّقِلِّيِّين النَّصارى، ولم يُبْقِ إلا عددًا قليلًا من العرب، ممن تَوَسَّم فيهم الإخلاص له.

وقد أعطى بعضُ ملوك النورمان للمسلمين قَدْرًا كبيرًا من الحُرِّية في الشعائر[b][6]، بل مَنَحُوهم شيئًا من الحُرِّية في تطبيق الشرائع[7]، وأَحْسَن غيرُ واحد من مُلوكهم مُعامَلَة المسلمين، حتى قال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى في الكامل عن روجر الثاني الذي حكم من سنة ست وخمسمائة إلى سنة تسع وأربعين وخمسمائة من الهجرة: وأَكْرَم المسلمين، وقَرَّبَهم، ومنع عنهم الفرنج، فأحَبّوه[8]،انتهى.[/b]

وقد اعتبر بعضُ المؤرخين وفاة روجر الثاني نهاية لعصر التَّسامُح الدِّيْنِي المَزْعوم في الجزيرة[b][9]، وبداية لاضطهاد المسلمين فيها، وأن غليالم (وليام) الأول قد بدأ ينتهج سياسة القضاء على المسلمين في صِقِلِّيَّة، وأن غليالم (وليام) الثاني قد أكمل من بعده على البَقِيَّة الباقية منهم.[10][/b]

في حين يرى بعضُهم أن حال المَلِكين غليالم الأول، والثاني كان كحال روجر الأول، والثاني، بل وصفوا عصرَ غليالم الثاني بأنه كان مَضْرِب المثل في الهدوء والطمأنينة والسَّكِيْنة.[b][11][/b]

لكن المعروف عن كل من غليالم الأول (1154م-1166م) والثاني (1166م - 1189م) انغماسهما في اللَّهْو، والمُجون، والفِسْق أَغْلَب عُمْرهما، حتى أن وارِثَ عَرْش غليالم الثاني كان أحد أبنائه غير الشَّرْعيين، وكان يُدْعَى تانكرد، فقام الإمبراطور الألماني هِنْرِي السادس - والذي كان قد تزوج من ابنة عَمِّ غليالم الثاني وَريثة عَرْش صِقِلِّيَّة - بالتّّحالُف مع بيزة، وجنوة؛ ليستولي على مملكة الصِّقِلِّيَتَيْن - جنوب إيطاليا وصِقِلِّيَّة - وليُحَقِّق أُمْنِيَّتَه بتوحيد الممالك الثلاثة، وخَلَفَه من بعده ابنُه فريدريك الثاني[b][12] الذي يُعَدُّ عَصْرُه بمثابة نَقْلَة كبرى نحو خروج أوروبا من بَراثِن القَهْر الكَنَسِي الجاثِم على صَدْرها. [13][/b]

ــــــــــــــــ
[1] قد يستغرب البعضُ من إدْراج فترة الحُكم العُبَيْدِي المُسَمَّى بالفاطمي في فترة الوجود الإسلامي في الجزيرة، مع كون تلك الطائفة معروفة الحُكْم، غير مُتنازَع بين العلماء في حالها، ولكن ذلك الإدراج غير غريب في الحقيقة لمن تأمَّل غاية هذا البحث؛ فإن المقصود من الوجود الإسلامي في صقلية هنا لا يلزم منه قيام حُكم إسلامي شرعي، وإنما يكفي لإطلاق وَصْفه وجود المسلمين في أرجاء الجزيرة، مؤدِّين للشعائر الإسلامية، قائمين ببعض الشرائع فيها، وهذا هو المتوافق مع المقصود من البحث.
ولا شك أنه كان بصقلية ـ كما كان بغيرها ـ تحت الحُكْم العُبَيْدِي من أهل السنة الكثير، بل خرج منها جماعة كثيرة من العلماء المسلمين كما قال السمعاني في الأنساب (3/549)، وكذا كان بها من أهل البدع غير الخارجين عن المِلَّة طوائف.
وهذه العِلَّة تدعونا ولا بُدَّ للحديث عن معالم الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها في أيدي النصارى؛ لوجود هامش من الحرية في بعض الفترات ـ كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى ـ يُتيح للمسلمين إظهار بعض الشعائر، وتطبيق بعض الشرائع، وإن كان هذا لا يُعَدُّ مُسَوِّغًا لبقائهم تحت حُكم الكفر كما سنوضح إن شاء الله تعالى.
وقد كان العُبَيْدِيِّون الباطنية يلجؤون إلى التَّقِيَّة مع شعوبهم حين تكثر الثورات، أو تضعف شَوْكَتُهم، وفِعْل المنصور إسماعيل بن القائم الذي اقتصر على إظهار التشيع دون الجهر بما في المذهب من كفر وشرك مثال على ذلك، لاسيما إن وضعنا في الاعتبار أن بعض الولاة من قِبَلهم لم يكونوا من طائفتهم، وإن التزموا طاعتهم والدخول تحت سُلْطانهم سياسيًا، ولا نبعد عن الدقة إن وصفنا ذلك بالتبعية الاسمية في بعض الأحيان، المتمثلة في الدعاء لمن يُسَمُّونه بالخليفة الفاطمي، وضَرْب اسْمِه على السِّكة، ونحو ذلك من أمارات التبعية لمن يوصف بالخلافة، بحق أو بباطل، وأولاد ابن أبي الحسين الذين حكموا الجزيرة طويلًا نموذج على ذلك؛ فقد كانوا عمليًا حكام الجزيرة، القائمين بشؤونها، لا مجرد عُمَّال للخليفة الفاطمي المُدَّعَى يُحَرِّكهم كيفما أراد. وقد كان هذا نوع من إضفاء الشرعية السياسية على الحُكم، حرص عليه كثير من الملوك والأمراء في ذلك الزمان، وقبله، وبعده، وإن كانوا من القدرة على الاستقلال بشؤون ممالكهم بمكان، والله أعلم.
[2] قال الزركلي في الأعلام (2/88) في ترجمة المُعِزِّ ابن باديس: واستولى العدو في أيامه على جزيرة صقلية سنة 484 هـ بعد أن لبثت في أيدي المسلمين أكثر من 270 عاما،انتهى.
[3] هاجر من الجزيرة عقب سقوطها عددٌ من علمائها وأعيانها، فمنهم من نزل بمصر ـ وكانت إذ ذاك تحت الحُكم العُبَيْدِي ـ كإمام اللغة والأدب ابن القَطَّاع، مُصَنِّف كتاب "الأفعال" المتوفى سنة 515هـ، و، ومنهم من رحل إلى الأندلس، كالأديب أبي العرب العبدري الصقلي المتوفى سنة 506هـ، وهو غير الحافظ المحدث أبي العرب التميمي الصقلي المتوفى سنة 333هـ، والذي امتحن من العبيديين بعد ظهور دولتهم بالمغرب، وشاركهم في جهادهم. ومنهم من وُلِد بعد سقوطها، فرحل عنها إلى ديار الإسلام، كالمُفَسِّر الأديب ابن ظفر الصقلي، المولود بها سنة 497، والمتوفى سنة 565، وكان قد نشأ بمكة، ثم جال في إفريقية والأندلس، ثم استوطن حماة بالشام. وقد عقد الدكتور إحسان عباس فصلًا في كتابه [العرب في صقلية] عن هجرة أهل العلم والأدب منها عقب سقوطها في أيدي النصارى (ص227 - ص232).
[4] قال ابن جبير في رحلته ص322عن صقلية بعد أن زارها: لكنها مَعْمورة بعَبَدَة الصُّلْبان، يمشون في مَناكبها، ويَرْتَعون في أكْنافها، والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم، قد حَسَّنوا السيرة في استعمالهم، واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض كانوا يجدونها،انتهى. وظاهر كلامه أن المسلمين عامة كانوا يدفعون الجزية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[5] كان في جيوش النورمان كثير من المسلمين، وكانوا يُساقون لمحاربة إخوانهم في الدين من مسلمي شمال إفريقية، وفي هذا من الخطر على دين المرء ما لا يوصف، ولا مُسَوِّغ لدَعْوى الإكراه فيه؛ إذ فيه إعانة للكافرين على المسلمين، ودخول في طائفتهم المحارِبة للمسلمين، ولا يُبَرِّر الإكراه للمسلم أن يُطيع مُسْلِمًا في سَفْك دَمِ مسلم ثالث، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ فإن دَمَه ودَمَ أخيه المسلم سواء، فما بالك بمعاونة الكافر على قتله؟
[6] قد ينخدع بما ذكرناه بعض المُعْتَقِدين فيما يُسَمَّى بالتَّعايُش السِّلْمي بين الأديان وَفْق المفهوم المُعاصر، لا وَفْق المفاهيم الشرعية الصحيحة، الضَّابِطة لعلاقة المسلمين بغيرهم، ولا يَخْفَى ما في مُراعاة المصطلحات الشرعية من صيانة لتلك المفاهيم الشرعية، وحِفْظ لها من كل دَخيل، وإزالة لما قد يَعْتَرِيها من غَبَش والتباس؛ فمصطلح التعايش بمفهومه المُعاصِر مُبايِنٌ للمصطلحات الشرعية المستعملة في شأن المُعاهَدِين من الذِّمِّيِّين، وغيرهم، ومُخالفٌ في مَدْلولاته ومُقْتَضياته لمَدْلولات ومُقْتَضيات العُهود المُبْرَمة مع غير المسلمين في ديار المسلمين، والمارِّين بها، والمُجاورين لها من الأمم، ولذلك تفصيل طويل مَبْسوط في مُصَنَّفات الفقهاء، وتآليف السياسة الشرعية، وأفردها كثير من أهل العلم بالتصنيف، ومن أَجَلِّها كتاب "أحكام أهل الذِّمَّة" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
أما عن صُدور ذلك التَّعايُش السَّلْمِي من قِبَل الكفار إزاء المسلمين؛ فإنه لا يَخْرُج عن حالة من اثنتين ـ وكثيرًا ما تجتمعا ـ الأولى: أن يضطر الكفار لذلك سياسةً؛ لشدة حاجتهم إليه، وعَجْزهم عن غيره، والشواهد عليه في التاريخ القديم والمعاصر كثيرة، والثانية: أن يَتَخَلَّى الكفار عن مُعْتَقَدِهم، ولا يبقى لهم من الصِّلَة به إلا الانتساب المُتَوارَث، غير أن هذا الأخير لا يعني زوال حَمِيَّتهم الجاهلية لدين الآباء والأجداد بالكُلِّيَّة؛ فشواهِدُ اصْطباغ الانتماء الديني بصِبْغة القومية المُتوارثة عن الأسلاف أكثر من أن تُحْصَى، وتظهر تلك الحَمِيَّة في فَلَتات أَلْسِنتهم، ويَسْتعلنون بها من حين لآخر إذا طَفَح الكيل بهم من فُشُوِّ الإسلام بين أظهرهم، أو اشْتَمُّوا من المسلمين قوة وعزة، جعل الله كيدهم في نحورهم.
وفيما نقلناه عن الدكتور إحسان عباس بيان لعلة تسامح ـ إن سَلَّمْنا بتسميته بذلك ـ بعض ملوك النورمان النصارى الذين حكموا صقلية مع المسلمين، والله أعلم.
[7] ذكر ابن جبير في رحلته (ص332) أنه رأى مُسْلِمي مدينة "طرابنش" يخرجون إلى مُصلَّاهم مع صاحب أحكامهم، وأن خُطْبة الجمعة كانت مَحْظورة عليهم، لكنهم يُصَلُّون العيد بخُطْبة، ويدعون للخليفة العباسي، ووصف كثرة مساجدهم التي كانت معمورة بتعليم القرآن، وذكر (ص336) أن لمُسْلِمي بَلِرم قاضٍ يرتفعون إليه في أحكامهم، ونقل الدكتور إحسان عباس في كتابه العرب في صقلية ص144عن المستشرق الصِّقِلِّي "أماري"  صاحب تاريخ مُسْلِمي صِقِلِّيَّة أنه كان للمسلمين: الشيخ، والحاكم، والقاضي، والعامل، والقائد، وكان لقب القائد يدل على درجة مدنية تقع في المَرْتبة دون الأمير.
[8] كان روجر يُقَرِّب زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم، مما جعل البعض يعتقد أنه كان يتخَفَّى بإسلامه، والناظر في حاله يعرف أن الرجل كان يحب الهدوء والطمأنينة في مملكته، ولا يَسْتَنْكِف عن وسيلة تُوصِلُه إليه، فأراد كسب قلوب جميع من يعيش تحت حُكمه، وعَدَمَ إثارة الفتن والقلاقل بدافع ديني يَزُجُّ بالجزيرة إلى عواقب وَخيمة على مُلْك النورمان لها، ولم يكن يُهَدِّد ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة كالضَّرْب على الوَتَر الديني، ولذلك لم يكن يسمح للمسلمين في جيشه أن يَتَنَصَّروا، ولا يحب أن يرى النصارى يعتنقون الإسلام. انظر: العرب في صقلية (ص148).
[9] كان اتّهام أعداء روجر له بالإسلام سرًا قد جعله يدفع ذلك عن نفسه ببناء الكنائس، بل بإغراء المسلمين على التَّنَصُّر إن صَحَّ ما يقوله روموالد المؤرخ، فهو يَصِف رجار بأنه عني في آخر أيامه بتنصير اليهود والمسلمين، مُسْبِغًا على من تَنَصَّر منهم أسباب النعمة الدنيوية.
أما قصة حَرْقه لفيليب أمير الأسطول، فهي مشهورة جدًا؛ فقد غزا فيليب بونة (عنابة)، واستولى عليها، غير أنه أَغْضَى على جماعة من العلماء، والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم، وأموالهم إلى القُرى، ولما عاد إلى صقلية قبض عليه رجار؛ لما اعتمده من الرِّفْق بالمسلمين، وكان يُقال: إنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمون إسلامهم، وشهد عليه بعضهم أنه ليصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة، والقُسوس، والفرسان، فحكموا بأن يُحْرَق في رمضان، وهذا أول وَهَن دخل على المسلمين بصقلية. انظر: العرب في صقلية (ص148).
ولا ينبغي أن ننسى كثرة إغارة المذكور، وسَلَفه، وخَلَفه على بلاد المسلمين، ونزولهم العديد من مدن شمال إفريقية، والسيطرة عليها لمدة، وما صاحب ذلك من صنائع جيوشهم، وخَزايا جُنْدهم، حتى طَرَد عبد المؤمن بن علي أول ملوك المُوَحِّدين النورمان من جميع شواطئ إفريقية، وطَهَّرها من رِجْسهم، على ما كان فيه من بِدْعة ليس هذا مِحِلُّ التَّعَرُّض لبيانها.
وإن الشواهد لتؤكد على تَصَنُّع التَّسامُح من قبل هؤلاء، بغَضِّ النَّظَر عن دوافعهم من وراء تلك الأفعال، وهل كان إقْدامُهم عليها؛ رَغْبةً في إثبات ولائهم للنصرانية أمام أتباعهم، ورجال دينهم، أم كان إظهارًا لمَكْنون صُدروهم المَحْشُوَّة بالحِقْد الصَّلِيبي، المُغَلَّفة بغُلاف زائف من نَبْذ التَّعَصُّب الديني كما يُسَمُّونه.
[10] أطلس تاريخ الإسلام (ص294).
[11] العرب في صقلية (ص149-154).
[12] كان فريدريك الثاني في الثالثة من عمره عندما توفي أبوه، فوضعت أمه نفسها تحت حماية البابا أنوسنت الثالث، حتى كبر، وتسلم السلطة. انظر: معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (ص300).
[13] انظر: المرجع السابق (ص285،284).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75523
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية    الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية Emptyالسبت 09 نوفمبر 2019, 10:23 am


الاسْتِعْراب النُّورْمانِي تَسامُح أم نَفْعِيَّة؟



صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (4)



اصْطَبَغَتْ كثيرٌ من مَظاهر الحياة في صِقِلِّيَّة بعد سُقوطها في أيدي النورمان النُّصارى بالصِّبْغة العربية الإسلامية، حتى تَشَبَّه مُلوكهم بمُلوك المسلمين في كثير من مَظاهر المُلْك، بما في ذلك الألقاب، والعلامات، والشعارات، ولُغة الكتابة والمُحادَثَة، واتخذوا من المسلمين حُرَّاسًا، ووزراء، وحُجَّاب، وغير ذلك من المَهامِّ التي تُوَسَّد للمؤتَمَنِيْن، وسَرْد مَظاهر ذلك يَطُول جدًا، وإنما ذكرنا من ذلك نماذِج تُنْبِئ عن الحالة العامة للبلاد آنذاك.[1]




وقد عَلَّل الدكتور إحسان عباس رحمه الله تعالى رُوْحَ التَّسامُح البادِيَة من قِبَل النورمان إزاء المسلمين عقب سيطرتهم على الجزيرة، فقال[2]: الجماعة الإسلامية كانت عندما استولى النورمان على الجزيرة حقيقة لا يَسْهُل مَحْوها أو طَمْسُها، وكان الفاتحون - أي النورمان - أقَلِّيَّة ضَئيلة، لا يستطيعون أن يَفْرِضوا أنفسهم على نواحي الحياة في الجزيرة بالقوة، ولم تكن لهم حضارة يَبْسُطونها على هذا العالم الذي كان يَمُدُّ ما حوله بالحضارة.




ومن ثم نَفْهَم تلك السياسة المُتَسامِحة التي قابَلوا بها كلَ دِيْن ومَذْهَب في صِقِلِّيَّة، لكي لا يبدو هذا التسامح غريبًا في نظرنا، حين نذكر أنه مُعاصِرٌ للحروب الصليبية، ومن ثم أيضًا نفهم الروحَ الانتقائية التي واجهوا بها النُّظَم، والقوانين، والشرائع المتنوعة، واختاروا أحسن ما يُلائم حكومتهم منها.




ولم يكن بُدٌّ من تلك الخُطوات الواعِية عند قوم كانوا نُقْطة المَرْكَز في دائرة من الأعداء، فأحيانًا هم على عداء مع البابا، وكثيرًا ما كانوا في خُصومة مع الإمبراطورية الشرقية - أي البيزنطية - وهم في خَطَر من تهديد الإمبراطور الجِرْمانِي، وعلى مَقْرُبة منهم في الساحل الأفريقي أمراء مسلمون يُضْمِرون لهم العداء.




وهذه حالٌ تَسْتَدعي الأمن والرِّضا في الداخل، وتجعل التوازن بين المصالح والفئات المُتَضارِبة أمرًا لا غِنى عنه؛ ولذلك آمن النورمان بالواقع، فلم يَنْصُروا دِيْنًا على دِيْن، وخَضعوا لاعتبارات المَوقع الجُغْرافي، والحقائق السياسية الخارجية، والحالة الحضارية الداخلية، انتهى.




ويقول الدكتور عبد الجليل شلبي: كان النورمانديين على حَظٍّ من الذَّكاء، وقد عُرِفوا به من قبل[3]؛ لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسْبان، فهناك - وهذا بعد تَنْصِير صِقِلِّيَّة بزَمَن طويل- أَفْتَى القُسُس بأن المسلمين رِجْس، وآثارهم نَجَس لا يُطَهِّرُه إلا إحراقُه بالنار، حتى الجُدْران أَفْتَوا بهَدْمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقًا.




أما هؤلاء؛ فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم، واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام - وعلى الأصح - كانت الصورة التي قَرَّت في أذهانهم عنه مما يَصْعُب مَحْوه، ولكن حضارة صِقِلِّيَّة ظَلَّت في تَقَدُّم لمُدَّة طويلة بعد، وظَلَّت مَظاهر الحياة العربية بادِيَة عليها، ولو تَقَبَّل النورمانديون الإسلام، واتخذوه دينًا، لكان عَهْد هذا الازدهار الحضاري أطول زمنًا، وأبقى.[4]




لكن كل ما يُذْكَر عن التَّسامُح والحُرِّيَّة في عهد أولئك الملوك كان مَقْصورًا على المدن التي يُشَكِّل فيها المسلمون أكثرية، أو تلك المُدن التي يُحْكِم المَلِكُ قَبْضَتَه على تَسْيير مَقاليدها من خلال رجاله وأعوانه، كمدينة بَلِرْم[5] (باليرمو)، أما ما ضَعُفَتْ السَّيْطرة المَرْكَزِيَّة عليه من المدن والقرى، وشَكَّل المسلمون فيه أَقَلِّيَّة، فلم يكن للأمان مكان، ولا للطمأنينة سَبيل، حتى أن ابن جبير رحمه الله تعالى قد وصف حال المسلمين في صِقِلِّيَّة بقوله[6]: تحت ذِمَّة غيرهم يؤدون الجِزْيَة، ولا أَمْن لهم في أموالهم، ولا في حَريمهم، وأبنائهم.




وأما أهل القُرى والأرياف، فلم يكونوا يرتفعون عن الرَّقِيْق بكثير، وكلهم رَهائِن في يد الملك بصِقِلِّيَّة يُهَدِّد بهم أمراء المسلمين ومُلوكَهم.[7]

 

بل كان بعض المسلمين يلجأ إلى إظهار التَّنَصُّر خَوفًا على أنفسهم، ولم تكن الهجرة من صِقِلِّيَّة من السُّهولة بمكان، ولا كانت السُّلُطات تسمح بها؛ إذ كان عِمْران صِقِلِّيَّة يَسْتَدعي ذلك.




وعندما قامت ثورة على مايون وزير غليالم الأول، انتهز النصارى - وخاصة اللُّمْبارْدِيِّون[8] - هذه الفرصة، وهاجموا المسلمين، وأَثْخَنوا فيهم قَتْلًا وذَبْحًا في شوارع بَلِرْم، ويقال: إنهم وجدوا في القَصْر جماعة من الخِصْيان المسلمين، فذبحوهم، ثم قتلوا المسلمين الذين كانوا في الدَّواوِيْن، أو في الفنادق والحوانيت، ونزعوا الأكفان عن جُثَث الموتى، ولم يكن عدد من هَلَك من المسلمين قليلًا، وممن قُتِل في هذه الواقعة: الشاعر يحيى ابن التيفاشى القَفَصى، ولعل الإدريسي الجغرافي مُصَنِّف [نُزْهَة المُشْتاق في اخْتِراق الآفاق] كان من ضحاياها أيضًا.




وقد كاد اللُّمْبارْدِيِّون النصارى أن يُبِيْدوا المسلمين في بَلِرْم، إلا قليلًا منهم نَجَوا بأنفسهم، ولَجَؤوا إلى الغابات، والجبال؛ لتُخْفِيَهم عن أنظار النصارى، في حين لجأ آخرون إلى قلعة في جنوبي صِقِلِّيَّة، يسكُنها بعض إخوانهم في الدين.[9]




ولم يكد غليالم الثاني يموت، حتى ثارت المعارك بين المسلمين والنصارى في الشوارع، وفاضَت الدِّماء في المدينة، واعْتَصَم من نَجا بين الجبال[10].




وقد قام النورمانديون بنقل نحو عشرين ألفًا من مُسْلِمي صِقِلِّيَّة إلى جنوبي إيطاليا[11]؛ ليُكْمِلوا حركة التشتيت[12]، ووصل عدد المسلمين في الجزيرة إلى حَدٍّ يُقارِب التَّلاشي؛ نتيجةً للتَّحَدِّيَّات الكثيرة التي واجهتهم.




ولما آل مُلْك الجزيرة إلى الإمبراطور فِريدريك الثاني[13] ابن هنري السادس، سار - ومن بعده ابنه منفريد - على نَهْج روجرالأول، والثاني، وغليالم (وليام) الأول، والثاني، الذين حرصوا على عدم إثارة الحَمِيَّة لدين من الأديان في جزيرة صقلية.



ـــــــــــــــــــ

[1] لا يزال سُكَّان صِقِلِّيَّة الأصليين يختلفون في ملامحهم عن سائر الإيطاليين، ويحتفظون ببعض التقاليد التي ترجع لفترة الوجود العربي الإسلامي، كالثَّأر، والحَمِيَّة للعِرْض، والإنتماء إلى العائلة، ولا تزال حوالي ثلاثمائة كلمة من اللغة العربية موجودة في اللُّغْة الصِّقِلِّيَّة.


[2] العرب في صقلية (ص138،137).
[3] يقول الدكتور محمود سعيد عمران في كتابه معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى (ص269): إذا أراد الإنسان أن يُرْجِع نجاح النورمان في إنجلترا إلى مَحْض الصُّدْفة، أو إلى شخصية وليم الفاتح الفريدة في نوعها؛ فإن الأعمال العظيمة للنورمان في جنوب إيطاليا دون أية مُساعدة من الحُكَّام يُعَدُّ أكبر دليل على القوة الإبْداعية للعبقرية النورمانية؛ ألا وهي عبقرية الفتح والإدارة،انتهى بتصرف يسير. ووليم الفاتح هو الحاكم النورماندي الذي غزا إنجلترا، وأقام فيها سلالة حاكمة أنجلو سكسونية.
[4] حضارة العرب في صقلية، وأثرها في النهضة الأوروبية.(مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403ه-).
[5] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (1/483)، وقال: معناه بكلام الروم المدينة. وانظر: الروض المعطار للحميري (1/101).
[6] (ص332).
[7] لما استولى عبد المؤمن بن علي أول حكام دولة الموحدين على المهدية قال صاحب صقلية: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية، قتلنا المسلمين الذين بجزيرة صقلية، وأخذنا حَرَمهم، وأموالهم. انظر: العرب في صقلية (ص151) نقلا عن رحلة التيجاني.
[8] هم أهل إقليم  لومبارديا الواقع في شمال إيطاليا مُتاخِمًا لسويسرا، وهو أكبر أقاليم إيطاليا من حيث عدد السُّكان، وعاصمته هي مدينة ميلانو المشهورة.
[9] المرجع السابق (ص149). وفيه أن اثنان من اللُّمْبارديين قد خرجا إلى بثيرة، وغيرها، وجمعا الفلاحين اللَّاتين، وأغارا بهم غارات متتالية على المسلمين، دون أن يُراعوا في ذَبْحِهم عُمْرًا، أو جِنْسًا.
[10] المرجع السابق (ص154).
[11] قال ابن سعيد المغربي في كتاب الجغرافيا(ص69): وفي جنوبي هذا البحر - يقصد خليج البُنْدُقِيَّة - مدينة روما، قاعدة البابا؛ على مذهب الخوارزمي، وقد تقدم ذكرها في الإقليم الخامس. وتقع في هذا الجزء مدينة (لوشيرة)، التي أسكن الإنبرور - أي الإمبراطور وهو النُّطْق العربي للكلمة - فيها المسلمين الذين أخرجهم من صقلية، وهي حيث الطول خمس وثلاثون درجة وست وعشرون دقيقة، والعرض اثنتان وأربعون درجة.
[12] انظر: الحضارة الإسلامية في صقلية لعبد المنعم رسلان (ص20،19)، والمسلمون في جزيرة صقلية لأحمد توفيق المدني (ص163)، والمسلمون تحت السيطرة الرأسمالية لمحمود شاكر (ص29)، وعنهم: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص114،113).
[13] كان وريث عرش صقلية من قِبَل أُمِّه، ووارث المُلْك في ألمانيا من قِبَل أبيه، و صار أيضًا ملكًا لبيت المقدس عن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا، وَلِيَّة عَهْد أبيها في مملكة بيت المقدس التي نشأت أثناء الحروب الصليبية، فصار إمبراطورًا لإيطاليا، وألمانيا، وصقلية، وتَوَّجَه البابا إمبراطورًا لما يُسَمَّى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بُغْيَة الحُكْم والسيادة، والوصول إلى مُلْك مملكة بيت المقدس، وكان لاختلاطه بالمسلمين في الشرق دورٌ في جَعْله يوليهم تقديرًا، واحترامًا أكثر من غيره، حتى كان مَغْضوبًا عليه من كثير من نصارى عصره، وصَوَّروه عدوًا للنصرانية؛ لعدم خُضوعه للكنيسة، بل إعلانه الحرب على بابا روما في بعض الفترات، وإنزاله الهزيمة به، ولما عُرِف عنه من حُسْن معاملة للمسلمين في أغلب أحواله، وطِيْب علاقات مع مُلوكهم، على عكس ما كان يريده الآباء في روما من توالي الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وكان قد رَبَّاه في صغره قاضي صِقِلِّيَّة، وجَعَلَت العادات، والمظاهر الشرقية تتأصَّل فيه، وفي دولته، ولكنه لم يستطع التَّخَلُّص من التيارات التي كانت تُعاصِره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.
وقد استطاع فريدريك بدهائه حَمْل الملك الكامل الأيوبي على التنازل عن بيت المقدس، فصار ملكا له نحو عشر سنوات، وحَصَّل بالكلام المَعْسول ما لم يُحَصِّله غيره بحروب طاحنة.
وشخصية فريدريك الثاني من الشخصيات التي تستحق الدراسة الوافية؛ لما كان يَتَّسِم به من: موسوعية علمية، وتنوع ثقافي، وحِنْكة سياسية، فضلًا عن كونها تُمَثِّل حَلَقَة كُبرى من حلقات الصراع مع السُّلْطة الكَنَسِيَّة في العصور الوسطى. انظر: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور (ص350-365)، وحضارة العرب في صقلية، وأثرها في النهضة الأوروبية. (مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403ه-).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الفتح الإسلامي لجزيرة صقلية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفتح الإسلامي لبلاد البرتغال
» قتيبة بن مسلم أسطورة الفتح الإسلامي
» الفتح الإسلامي لآسيا الوسطى والقوقاز
» جزيرة صقلية في ظل الإسلام
» أسـد بن الفـرات .. فاتح صقلية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: التاريخ :: التاريخ الاسلامي-
انتقل الى: