سُقوط صِقِلِّية في قَبْضَة النَّورمان النَّصارى
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (2)
وقعت في نهاية حُكْم الكَلْبِيِّين صِراعات أدخلت الجزيرة في انقسامات داخلية، فغزاها النورمان[1] النصارى سنة أربع وأربعين وأربعمائة بقيادة روجر (روجار) الأول، والذي أرسله أخوه روبرت جسكارد، زعيم النورمان المُتَمَلِّك لجنوب إيطاليا، وذلك بطَلَب من محمد بن إبراهيم بن الثمنة أحد المُتَصارِعِيْن على سِيادة الجزيرة، فاسْتَنْجَد أهلُ صِقِلِّيَّة بالمُعِزِّ ابن باديس صاحب إفريقية؛ لمُجابَهَة قوات روجر، فأَمَدَّهم بأُسطول كبير، أَبْحَر قاصِدًا صِقِلِّيَّة، ولكن عَرَضَتْ له عاصِفةٌ عاتِية، أغرقت أكثر السُّفُن وكان ذلك من أسباب تَضَعْضُع قُوَّة المُعِزِّ ابن باديس، وتَسُرُّب الوَهَن إليه، حتى استطاع العَرَب الهِلالِيّون الذين أرسلهم المُسْتَنْصِر العُبَيْدِي أن يَتَمَلَّكوا البلاد في شمال إفريقية من يديه، وكان ذلك عُقوبة له على خَلْع طاعة بني عُبَيْد، وإقامة الدَّعْوَة لبني العَبَّاس.[2] فلما تولى ابنه تَمِيْم[3] الحُكْم، أرسل أُسْطولًا إلى الجزيرة، وجعل على رأسه ابناه: علي، وأيوب، فحاربا النورمان عند مكان يُدْعى مسلمري، وهُزِما، وأصبحت عودتهما إلى أفريقية أمرًا مؤكدًا، وكانت معارك النورمان حينها لا تَتَعَدَّى المُناوشات البسيطة. واضْطَرَب أمرُ المسلمين في الجزيرة بعد هزيمة ابْنَي تَمِيْم، ولم يَبْقَ فيهم من يُوَحِّد قُوَّتهم، ويقف بها في وجه العدو، في الوقت الذي كان النورمان فيه قد تَقَوَّوا بمَعُونة بَحْرِيّة من بيشة (بيزا)؛ اسْتعدادًا للهجوم الكبير، فعادوا إلى غَزْو الجزيرة مرة أخرى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وتَمَلَّكوا مُدُنها واحدة بعد أخرى، إلى أن أَحْكَموا قَبْضَتهم عليها بالكُلِّيَّة بعد ثلاثين سنة من القتال.
وقد ذكر المؤرخون عدة أقوال في تحديد عام سقوط الجزيرة، ومردها جميعًا إلى صحة توصيف السقوط، فمن ذكر منهم أن الجزيرة سقطت 483هـ [b][4] أو سنة 484هـ [5] عَنَى السقوط الكُلِّي لكامل الجزيرة، ومن ذكر أن انتزاع النصارى للجزيرة من المسلمين كان في سنة 464هـ[6] قَصَد سقوط المدن، والحصون الكبرى فيها؛ لأن السنة المذكورة هي التي سقطت فيها مدينة بلرم العاصمة، وتلتها مدينة مازر.[/b] ومن ثم، فلا يمكن تخطئة أي من الأقوال المذكورة؛ لما بَيَّنَّاه من سقوط مُدنها على مَدار سنوات عديدة، وصلت إلى ثلاثين سنة، كما تَنْفَرِط حَبَّات العُقْد، وقد علمنا أن سقوط الأندلس النهائي كان بسقوط غرناطة في أواخر القرن التاسع الهجري، مع كون أغلب الأندلس كان قد سقط بالتدرج في أيدي النصارى قبل ذلك على مدار قرون عديدة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
بُطُولة في زمن السقوط:
قام رجل يُسَمَّى ابن عباد في مدينة سرقوسة بتنظيم الجهاد ضد النورمان، وامتدت أعماله إلى ولاية نوطس برًا وبحرًا، حتى استحق من أحد المؤرخين النورمان الثناء عليه بالدهاء، والجُرْأة، والمهارة في القيادة، وإتقان الخدعة في الحرب.
وفي إحدى المعارك استطاع أن يكسر جيشًا لابن رجار (روجر)، مما اضطر رجار أن يوجه إليه اهتمامه، غير أنه عاد، فانصرف عنه، واحتل بأسطول كان قد بناه مدينة طرابنش سنة 1077م، وهدم سورها، وتملك أرضها، ووزعها على أتباعه.
وقد استطاع ابن عباد في سنة 1081م أن يشتري بالمِنَح والوعود حاكم قطانية من قبل رجار، فسَلَّمه المدينة، فاتسع سلطانه، حتى أصبح لا يكتفي بالمقاومة والدفاع، بل توجه سنة 1084م إلى قلورية، ونهب ريو، ونقطرة، وعاد ظافرًا.
فرأى رجار أنه لابد من جَولة حاسمه مع ابن عباد، فقابله عند سرقوسة أسطول قوي سنة 1085م، وأخذت سُفُن ابن عباد تغرق واحدة بعد أخرى، وكلما غَرَقَتْ به واحدة، وَثَب منها إلى واحدة لم تغرق، ولكنه زَلَّتْ به القدم، فتلقاه البحر، ويقال: إن رجار أرسل جثته إلى الأمير تميم بإفريقية.[b][7][/b] محاولات متأخرة لاسترداد الجزيرة:
وقد وقعت محاولات متأخرة لاسترداد الجزيرة من أيدي النصارى، ففي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة بَعَث صاحب تونس، وإفريقية، وتِلْمِسان، أبو فارس عبد العزيز[8] - أُسْطولًا فيه مائتا فارس، وخمسة عشر ألف مقاتل من العسكرية، والمُطوعة؛ لأخذ جزيرة صقلية، فنازلوا مدينة مازِر، حتى أخذوها عَنْوَة، ومَضَوا إلى مدينة مالطة، وحَصَروها، حتى لم يَبْق إلا أخذها، فانهزم من جُمْلَتهم أحد الأمراء من العُلُوج، فانهزم المسلمون لهزيمته، فركب الفرنج أَقْفِيَتهم، فاستشهد منهم في الهزيمة خمسون رجلًا من الأعيان، ثم إنهم ثَبَتوا، وقبضوا على العِلْج الذي كادَهم بهزيمته، وبعثوا به إلى أبي فارس، فأمَدَّهم بجيوش كثيرة.[9] لكن تلك المحاولة لم تُسْفِر عن تَغَيُّر الوضع السياسي للجزيرة، فبقيت في أيدي النصارى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فجائعُ الدَّهر أنواعٌ مُنَوَّعَةٌ وللزَّمان مَسَرَّاتٌ وأحزانُ
وللحوادث سُلْوانٌ يُسَهِّلُها وما لما حَلَّ بالإسلام سُلْوانُ
دَهَى الجزيرة أمرٌ لا عَزاءَ له هَوَى له أُحُدٌ وانْهَدَّ ثَهْلانُ
أصابها العَيْنُ في الإسلام فارْتَزَأتُ حتى خَلَتْ منه أَقْطارٌ وبُلْدانُ
تَبْكِي الحَنِيفِيَّة البَيْضاءُ من أَسَفٍ كما بَكى لفِراق الإلْف هَيْمانُ
على ديارٍ من الإسلام خاليةٍ قد أَقْفَرَتْ ولها بالكفر عُمْرانُ
كَمْ يستغيث بنا المُسْتَضْعَفون وهُمْ قَتْلى وأَسْرى فما يَهْتَزُّ إنسان
ماذا التَّقاطُعُ في الإسلام بينكم وأنتم يا عبادَ الله إخوانُ
ألا نُفُوسٌ أَبِيَّات لها هِمَمٌ أَما على الخَيْر أنصارٌ وأعوانُ
يا مَنْ لذِلَّة قومٍ بعد عِزِّهم أَحالَ حالَهُم كُفرٌ وطُغْيانُ
بالأمس كانوا مُلوكًا في منازلهم واليومَ هُم في بلاد الكُفْر عُبْدانُ
لمثل هذا يذوبُ القَلْبُ مِنْ كَمَدٍ إنْ كان في القَلْب إسْلامٌ وإيمانُ |
ـــــــــــــــــ
[1] النورمان: هم المُسَمَّون في المراجع العربية الإسلامية بالأردمانيين، وهم من سُكَّان الدول الإسكندنافية المتمثلة في السويد، والنرويج، وفنلندا، بالإضافة إلى سكان الدانيمرك، وهم المعروفون في التاريخ الأوروبي بالفايكنجز - وتعني القراصنة - ويوسَمون بالوحشية والدَّمَوِيَّة، وقد قاموا برحلات بحرية عديدة من بلادهم إلى شمال أوروبا عبر بحر الشمال تحت وطأة ظروف عديدة، ونزلوا إنجلترا، وأنشأوا فيها أسرة حاكمة امتدت زمنًا، ونزلوا آيرلند، واكتشفوا آيسلند، وجرينلاند، وأغاروا على الأندلس عِدَّة غارات، ولم يسلم منهم المغرب، وعبروا مضيق جبل طارق، وأغاروا على سواحل الأندلس الشرقية، وجنوب فرنسا، إلى أن استقروا في جنوب إيطاليا بعد أن دخلوا في حِلْف مع البابوية في روما ضد الإمبراطوريتين: الألمانية، والبيزنطية، فأجازت لهم البابوية انتزاع جنوب إيطاليا من البيزنطيين، ومنحتهم الحق في صقلية إن انتزعوها من المسلمين، فانطلقوا من مَعْقلهم في جنوب إيطاليا، مُسْتَولِين على الجزيرة التي لم يكتفوا بها، وإنما نزلوا العديد من مدن الساحل في شمال إفريقية، واستقروا ببعضها - كالمهدية بتونس - على فترات زمنية متقطعة. وأصل أمراء النورمان في جنوب إيطاليا، وصقلية يعود إلى أسرة تُسَمَّى أسرة هوتوفيل، وكان النورمان قد استقروا في الساحل الشمالي لفرنسا فترة من الزمن، ولا يزال هذا الساحل معروفًا باسمهم إلى اليوم، ومنه أغاروا على إنجلترا غارة مشهورة تركت أثرا واضحا في التاريخ الإنجليزي، ومنه بدأ الحُلَفاء هجومهم على الألمان في الحرب العالمية الثانية لطردهم من فرنسا. انظر: أطلس تاريخ الإسلام (ص294)، ومعالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (ص229 - 285)، وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور (ص284 - 289).
[2] انظر: أخبار ملوك بني عُبيد وسيرتهم لمحمد بن علي بن حماد (ص104).
[3] كان حَسَن السّيرة، محبًا للعلماء، مَقْصِدًا للشعراء، كامل الشجاعة، وافر الهيبة. انظر: العبر (2/381)، وتاريخ الإسلام للذهبي (35/44،43).
[4] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/322). وقد نَصَّ في ذلك الموضع على أن النصارى استولوا على سائر جزيرة صقلية في العام المذكور.
[5] انظر: الأعلام للزركلي (2/88).
[6] انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (3/215).
[7] انظر: العرب في صقلية (ص132،131).
[8] هو أبو فارس، عبد العزيز بن أحمد، الهنتاتي، الحَفْصِي، ملك المغرب، وصاحب تونس، وكان يُلَقَّب بعزوز، قال المقريزي: كان خير ملوك زمانه صيانة، وديانة، وجودًا، وإفضالًا، وعَزمًا، وحَزْمًا، وحُسْن سياسة، وجميل طريقة، وأطال ترجمته جدًا في عُقوده، وختمها بقوله: ومناقبه كثيرة، وفضائله شهيرة، ولقد فُجِع الإسلام وأهله بموته، والله يرحمه، ويتجاوز عنه. توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة عن ست وسبعين سنة، بعد أن خُطِب له بفاس، وتِلْمِسان، وما والاهما من المدن والقرى ما يزيد على إحدى وأربعين سنة. انظر: الضوء اللامع للسخاوي (4/214)، والأعلام للزركلي (4/14).
[9] انظر: حوادث سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة من السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي