النَّشاط البَحْري الإسلامي في مياه البَحْر التيراني
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في المِياه البَحْرِيَّة الإيطالية (3)
[صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (34)]
سبق أن ذكرنا عند الحديث عن مدينة نابولي
[1] أن الأغالبة هاجموها سنة 837م، وعاودوا مُهاجمتها مرة أخرى فيما بين سنتي 856، 860م
[2]، وأن الأغالبة قد دخلوا في حِلْف مع عدد من مدن ساحل إقليم كامبانياـ والتي لم تكن مُخْلَصة في الولاء للبيزنطيينـ ولاسيما نابولي؛ لاعتبارت سياسية، وتجارية سَبَق ذِكْرُها، مما أَدَّى إلى إضْعاف القوة البحرية البيزنطية في مياه البحر التيراني في تلك الفترة، بل وصل الأمر أن تُساعد سفنُ نابولي الأغالبةَ في السيطرة على مدينة ميسينا بصِقِلِّيَّة
[3]، والتي كانت واقعة تحت السيطرة البيزنطية في عام 843م، وقد كان تحالف المسلمين مع نابولي سببًا في تَمْكِينهم من القيام بغارات على وسط إيطاليا، وجنوبها.
[4] ولكن نابولي تَخَلَّت عن تَحالُفها مع المسلمين، بعد اتِّخاذ المسلمين قواعد لأساطيلهم في سواحلها، هَدَّدَت أَمْنها، وتَعَرَّضَتْ لتجارتها
[5]، فعَقَد دوق نابولي حِلْفًا مع المدن البحرية المجاورة، وهي: أمالفي، وجايتا، وسورينتو، واشتركت هذه المدن الأربعة في تكوين أسطول، هزم المسلمين في البحر التيراني، وأَجْبَرَهم على التَّخَلِّي عن مراكزهم في جزيرة بونزا، قرب نابولي، وفي ليكوزيا، إحدى رؤوس خليج ساليرنو.
ولكن بعدما وضعت نابولي، والمدن المجاورة لها حَدًّا لتَوَغُّل المسلمين في السواحل الإيطالية، عادت فاستأنفت تَوْثِيق علاقاتها بالمسلمين كما كانت، واستمرت كذلك لنحو عشرين سنة تالية، أو تزيد.
[6] وقد كان من أسباب نجاح المسلمين في مياه البحر التيراني: انشغال القسطنطينية بالمشاكل في أماكن أخرى؛ فقد حدثت إذ ذاك هجمات إسلامية على المراكز البيزنطية في كل من البَحْرَين: الأيوني، والأدرياتي
[7]، فضلًا عما كان البيزنطيون يُعانون منه في الشَّرْق من مشاكل، وعلى الأَخَصِّ في مياه بحر إيجة المجاور لجزيرة كريت
[8].
وقد تَحَرَّكَت في البحر التيراني قوة صغيرة، قوامها عشر سفن بحرية، بقيادة جورج حاكم قِلَّوْرِيَة، ولم تفعل شيئًا يستحق الذكر، بل ازداد ضغط المسلمين على هذا الشاطئ الإيطالي، وحدثت خلال عامي 868، 872م غارات إسلامية على مدينتي: جايتا، وسالرنو، والأملاك البابوية.
[9] وفي عام 880م: خَفَّ ضَغْط المسلمين مؤقتًا على البحر التيراني، وشواطئ إيطاليا الغربية، حينما ظهر أُسطول بيزنطي كبير في مياه صِقِلِّيَّة، قُدِّرَ له أن يَظْفَر ببعض النجاح، وهَدَّد هذا الأسطول طريق التجارة بين المسلمين وبين مدن جنوب إيطاليا، وفي حين استأنف الأسطول البيزنطي نشاطه الحربي في البحر التيراني في تلك الفترة، أَخْلَد مُسْلِمو صِقِلِّيَّة إلى السَّكِيْنة، والرُّكون.
[10] ولكن تلك الفترة القصيرة من اسْترخاء المسلمين لم تَدُم طويلًا؛ إذ أنزلوا بالأسطول البيزنطي هزيمة ساحقة، اضطرَّته أن يَعْقِد صُلْحًا مَهينًا في عام 895 م، أَفْقَدَه السَّيادة القصيرة الأَجَل، التي تَمَتَّع بها على مياه جزيرة صِقِلِّيَّة، وغرب إيطاليا.
[11] ولما سقطت دولة الأَغالِبة في شمال إفريقية، وقامت دولة العُبَيْدِيِّين، استطاع الإيطاليون الحصول على بعض الراحة والهدوء، بالرغم من ضعف بيزنطة الحربي برًا وبحرًا في ذلك الوقت، مستفيدين من نتائج فترة الاضطرابات المذكورة.
[12] لكن سرعان ما عادت الأمور إلى حالتها الأولى بعد استقرار الأمر للعُبَيْدِيِّين بشمال إفريقية؛ حيث هوجمت نابولي، وجَنَوَة، وغيرهما من المدن الإيطالية على البحر التيراني
[13]، كما اتخذ العُبَيْدِيُّون لهم قواعد مُحَصَّنة في جَزِيْرَتي سَرْدانِيَة، وكورسيكا، فضلًا عن سيطرتهم على جزيرة صِقِلِّيَّة، مما أَكْسَبَهم يدًا طولى في البحر التيراني.
[14] ثم شهد ذلك البحر عصرًا ذهبيًا للسيطرة البحرية، بعد سيطرة الأمير المجاهد الصالح مُجاهِد العامِرِيِّ على جُزُر البليار، ومحاولته السيطرة على جزيرة سَرْدانِيَة، وتَتابُع غَزواته على سواحل جنوب فرنسا، وغَرْب إيطاليا، وشمالها الغربي، مما مَنَحه هَيْبَة كبيرة في عموم الحَوْض الغربي للبحر المتوسط.
[15] وكان عصر هذا الأمير المجاهد رحمه الله تعالى آخر عصور القوة في تلك المياه؛ حيث تراجع المسلمون بعد ذلك أمام ما قام من أَحْلاف نصرانية لمدن سواحل غرب إيطاليا، وفقدوا سيطرتهم على البحر التيراني، الذي كاد أن يكون في وقت من الأوقات بحيرة إسلامية.
وكان للدوافع الصليبية دورًا كبيرًا في تَأجيج تلك الأَحْلاف الصليبية لمدن غرب إيطاليا على المسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي، علي العكس من البَنادِقة الذين تَغَلَّبَت عليهم رُوح الكَسْب، ولم يقوموا بما قام به أهل بيزة، وجَنَوَة من مُعاداة، ومواجهة حربية بينهم وبين الإسلام في البحر التيراني.
ولقد اندلعت في هذا البحر حَرْب مُتأججة بين الدِّيانتين وجهًا لوَجْه، وكانت كِفَّة الصِّراع في البداية لصالح المسلمين؛ حيث هاجموا بيزا سنة 935 م، وكذا سنة 1004 م، بقَصْد مَنْع مجهوداتها المحدودة الأولى في التَّوَسُّع الحربي هناك، لكن البيزيين أَصَرُّوا على التَّوَسُّع في الحرب، وهزموا في العام التالي الأُسطول الإسلامي في مَضِيق مسينا، فقام المسلمون بالانتقام منهم، عن طريق غَزْو وتدمير مِينائهم الحَصِين، لكن البيزنطيين عَزَموا على مُواصلة تلك الحرب الدينية، وكان ذلك بتحريض من الباباوات، وغرورًا وطمعًا في ثروة المسلمين، فقاموا مع الجَنَوِيِّين بمهاجمة سَرْدانية، ونجحوا في تَثْبيت أقدامهم هناك سنة 1015 م، وفي سنة 1034 م.
وقد شَجَّعهم نجاحهم هناك على التَّجَرُّؤ على مُهاجمة الساحل الإفريقي، وتَسَيَّدوا لبعض الوقت على مدينة بونة (عنابة)، وبدأ تُجَّارهم بعد ذلك بقليل يَرْتادُون صِقِلِّيَّة، فقام الأسطول البيزي في سنة 1052 م باقتحام مَدخل ميناء باليرمو، وتَحْطيم تَرْسانته؛ حِمايةً لهؤلاء التُّجَّار.
وتَحَوَّلَت منذ ذلك الوقت الدَّفَّة لصالح النصارى، ووُجِّهَت حَمْلة سنة 1087 م إلى المَهْدِيَّة بتونس، بقيادة أُسْقُف مودينا، وبمساعدة وعَون كبير من الكنيسة، فأَكْثَرَت من أعمال القتل، والتَّخْريب، والسَّلْب، وعادت مُفْتَخِرة بما نَهَبَتْه من ديار المسلمين، وزَيَّنَت بما سَلَبَتْه من رُخام، وحَرير، وغيره شوارعها، بل بَنَت كاتدرائية كبيرة في بيزا، زَيَّنَتْها بأشياء كثيرة من تلك الأَسْلاب.
[16]
[1] الحلقة رقم (15).
[2] أَرَّخ ابن الأثير في الكامل (6/75) استئمان أهل نابلي الفَضْلَ بن جعفر الهمداني حينما بث سراياه سنة 228 هـ، وذكر ابن عذاري في البيان المغرب (1/194) أن صابر الفتى أمير القيروان للمهدي العُبَيْدِي قد غزا نابلي سنة 316 هـ، مُنطلقًا من صقلية. وتاريخ هجوم الفضل بن جعفر مقارب للتاريخ الميلادي المذكور أعلاه.
[size]
[3] تطل هذه المدينة على المضيق المسمى باسمها بين صقلية وإيطاليا.
[4] انظر: القوى البحرية والتجارية (ص218،217).
[/size]
[5] هذه الصياغة والتحليل لمؤلف نصراني ـ وهو أرشيبالد لويس ـ فلا غرو أن يلقي باللوم على المسلمين، ويعتبرهم من بدأ بنقض الحلف.
[size]
[6] انظر: المرجع السابق (ص216).
[7] انظر: المرجع السابق (ص214).
[8] انظر: المرجع السابق (ص223،222).
[9] انظر: المرجع السابق (ص219).
[10] انظر: المرجع السابق (ص220،219).
[11] انظر: المرجع السابق (ص221،220).
[12] انظر: المرجع السابق (221).
[13] سبق الحديث عن ذلك تفصيليا في الحلقات التي تناولت مدن أقاليم كمبانيا، وشمال غرب إيطاليا.
[14] انظر: أطلس تاريخ الإسلام (ص291).
[15] انظر فصلًا بعنوان المسلمون في البحر المتوسط من كتاب أطلس تاريخ الإسلام (ص285) وما بعدها.
[/size]
[16] انظر: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهنري بيرين (ص34،33).