مأزق إسرائيل الحقيقي
عماد شقور
لا ارى في صورة الواقع الذي تمر فيه إسرائيل، وتعاني منه أيضا، في هذه الأيام، ما يراه السيد اسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في غزة. وأعتقد جازما أن عيني السيد هنية ترَيان، على ما يبدو، صورة بعيدة عن حقيقة الواقع، صورة مشوّهة عن الواقع الحقيقي.. حتى لا أقول إنه يرى الواقع هناك على حقيقته، ولكنه يرتكب خطأ خداع نفسه، وخطيئة خداع جمهوره ومناصريه وسامعيه.
يقول السيد هنية، (وأنا أقتبس هنا ما اوردته وسائل إعلام إسرائيلية وعربية عديدة، منها جريدة «المصريون» يوم السبت الماضي، الثالث والعشرين من الشهر الحالي، خلال لقاء له بصحافيين في رفح الفلسطينية): «إن اتهام رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالفساد، سيرفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني»(!!). وألحق هنية بذلك قوله إن ذلك سيشجع على إظهار مزيد من الصمود.. ودعا إلى «تعزيز» المقاومة لنتنياهو، «عسكريا وسياسيا».
أقول للسيد هنية إن «معنوياتي»، ومعي ومثلي ملايين عديدة من الفلسطينيين العاقلين بشكل خاص، ومن العرب العاقلين بشكل عام، لم ترتفع، جرّاء اتهام الأجهزة القضائية في إسرائيل لرئيس حكومتهم بالفساد، وإبلاغه بذلك رسميا وعلنيا، والاستعداد لتقديمه للمحاكمة. هذه الحقيقة عن الواقع الإسرائيلي هذه الأيام، هي مدعاة لي، ولملايين غيري، لا للشعور بـ«ارتفاع المعنويات»، بل للشعور بالغيرة، حتى لا أقول بالحَسَد، الى ما هو واقع في إسرائيل، بل وللقول: ليت عندنا مثل ما عندهم. ليت عندنا أجهزة شرطة وتحقيق، وأجهزة قضاء، تحقق وتلاحق وتحاكم من يصاب بداء الفساد عندنا، هذا الداء الذي تمدد وكبر وتوسع وتشعب وانتشر ليصبح أشبه ما يكون بالوباء.
تحضرني في هذا السياق ملاحظتان لا أرى غضاضة في تسجيلهما:
ـ روى أستاذ الصحافة العربية الراحل، محمد حسنين هيكل، أن الملك عبدالله الأول، ابن الشريف الحسين بن علي، استعرض في أريحا، بعد أشهر من نكبتنا الفلسطينية سنة 1948، ثلّة من حرس شرف الجيش العربي، أيام كان بقيادة الضابط البريطاني، كلوب باشا، وطلب من إمام مسجد أريحا، (وكان رجلاً ضريراً)، أن يكون أول المتحدثين الى الجيش العربي في ذلك اللقاء، فصعد الإمام الى المِنَصّة، وبدأ خطابه بالقول: «أيها الجيش، ليتك لنا» (!). فما كان من الملك عبدالله الأول إلا أن أمر بإنزال إمام اريحا من المنصة فورا. اسمح لنفسي باقتباس كلمات ذلك الإمام واقول: «يا أجهزة التحقيق والقضاء الإسرائيلية، ليت عندنا مثلكم»،.. دون أن يعني ذلك مطلقا تجاهل أنها أجهزة في نظام عنصري وفاشي أيضا.
ـ أما الملاحظة الثانية، فلا تعود لعقود وإنما لسنين قليلة فقط، وتحديدا لسنة 2014، أثناء الحرب الإسرائيلية الدموية الإجرامية على قطاع غزة. في بعض أكثر أيام تلك الجريمة قسوة، تمكنت المقاومة الإسلامية في غزة من إطلاق قذائف صاروخية وصل بعضها الى محيط تل ابيب ومطار اللد،( الذي تطلق عليه إسرائيل اسم «مطار بن غوريون»)، واحتفل يومها السيد اسماعيل هنية بأن «صفّارات الإنذار تُولوِل في تل أبيب»، (وهذا بحد ذاته مدعاة لفرح فلسطيني)، ولكن السيد هنية ومن معه، نسوا ان صفارات الإنذار لا تولول في قطاع غزة، لأنه ليس في غزة صفارات إنذار أصلا، ولو كان لدى الفلسطينيين مثل تلك الصفارات لصمّت آذان الفلسطينيين جميعاً، وهي تولول، دون انقطاع، منذ سنة 1948 حتى يومنا هذا.
صورة الواقع الحالي في إسرائيل هي، صورة شديدة التعقيد والتشابك بين خطوطها. رئيس حكومة عنصري «عبقري» في التهويش والتحريض وبذر الفتنة والتفريق وشطب كل وريث ملائم، بأساليب خبيثة متدرجة ومتواصلة دون أي انقطاع
قليل من التواضع، لا يضير مقاومة فلسطينية عاقلة، بل العكس من ذلك تماما هو الصحيح.
صورة الواقع الحالي في إسرائيل هي، كما أراها، صورة شديدة التعقيد والتشابك بين خطوطها. رئيس حكومة عنصري «عبقري» في التهويش والتحريض وبذر الفتنة والتفريق وشطب كل وريث ملائم، بأساليب خبيثة متدرجة ومتواصلة دون أي انقطاع. دخل نتنياهو الحلبة السياسة الإسرائيلية، الموبوءة اصلا بالعنصرية، بكم هائل من الشعور بأنه «ضحية أزلية». ضحية حقيقية للعنصرية الأوروبية المسيحية في النصف الاول من القرن الماضي. وضحية حقيقية جدا للنازية الالمانية قُبيل انتهاء ذلك النصف الاول من القرن الماضي. وضحية لشيء ما من الليبرالية الصهيونية، (هذا، إذا صح التعبير)، وفيها شيء من اليسارية، (رمزها الكيبوتسات اليهودية على أرض شعب فلسطين)، وكان رمزها الأكبر والأوضح هو حزب ماباي وزعيمه، دافيد بن غوريون، المناوئ لفلاديمير زئيف جابوتنسكي، حيث كان جابوتنسكي عضوا في اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية من سنة 1921، ثم ما لبث أن استقال منها، وانشق عنها سنة 1923، وانشأ «الحركة التصحيحية» سنة 1925، وعيّن بنتسيون نتنياهو، (والد بنيامين)، سكرتيرا له.
على أن والد بنيامين نتنياهو هذا، ما لبث أن تفرغ للدراسة بعد وفاة جابوتنسكي، الى أن احرز شهادة الأستاذية، (بروفيسور)، متخصصاً في «معاناة اليهود» في الأندلس في اسبانيا، ايام الحكم العربي هناك، رغم أن هناك إجماعا بين المؤرخين أن عصر الحكم العربي في الأندلس هو «العصر الذهبي لليهود» وأنه اعطى للتاريخ اليهودي أبرز الشخصيات اليهودية، من الراباي موشي بن ميمون، الـ»رمبام»، وهو موسى بن ميمون، الذي كانت لغته وكتاباته الدينية والعلمية هي اللغة العربية، والشاعر العربي اليهودي الديانة، ابن جبريل، (ايفن غفيرول)، وعشرات غيرهم. هذه الحقائق التاريخية الدامغة والواضحة والأكيدة، لم تشكل عائقا امام والد بنيامين نتنياهو، لنشر افتراءاته، وتربية ابنه بنيامين على هذه الاوهام.
من التاريخ القريب، نعود الى واقع هذه الأيام: لم يكن بنيامين نتنياهو فاسدا بالمعنى المادي المالي يوم بدأ حياته السياسية. كان ملوّثا بالفساد الأخلاقي والعنصري السياسي فقط. دخل الحلبة السياسية.. طال بقاؤه فيها، (بقاء بالمقاييس الحقيقية العصرية، التي تحسب بالسنين، وليس بمقاييس الحكام العرب التي تحسب بالعقود للحكام، وتحسب بالقرون للسلالات)، فلحقته وعشّشت فيه لوثة الفساد المالي، وكانت اجهزة الشرطة والتحقيق والقضاء في إسرائيل، له بالمرصاد، وكل ما عدا ذلك، يمكن للسيد اسماعيل هنية وغيره، متابعة تفاصيله ومجرياته.
هل للفلسطيني الوطني ان يحزن لما آل اليه وضع نتنياهو، وإسرائيل معه؟؟.
جوابي: لا. وهي «لا» كبيرة ومدوية.
انها فاتحة لدور كبير ومؤثر لفعل فلسطيني وطني عاقل، يضطلع به الفلسطينيون في إسرائيل، من خلال «القائمة العربية المشتركة»، التي تَمَكَّن رئيسها، أيمن عودة، بموقفه السياسي الوطني العاقل، من رفع عدد أعضائها في الكنيست، (البرلمان الإسرائيلي) الى ثلاثة عشر، بعد ان كانت الاستطلاعات تقدر لها السقوط من عشرة (كمجتمِعين)، إلى ثمانية اعضاء، وهي مؤهّلة لأن تحرز سقف الخمسة عشر عضوا في أي انتخابات مقبلة هناك، سواء بعد ثلاثة اشهر، كما يتوقع البعض، جراء الفشل في تشكيل ائتلاف حكومي، او بعد سنوات قليلة، بحدها الأقصى اربع سنوات، اذا حصلت المعجزة، وتمكنوا هناك من التوافق وتشكيل حكومة جديدة.
مأساة إسرائيل الحقيقية، والتي يعرفها الإسرائيليون بدقة، وكما عبر عنها زلمان شوفال، (سفير إسرائيل السابق في واشنطن، والضابط السابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان من بين ما تولاه من مناصب، التنسيق بين الجيش الإسرائيلي وجيشي بريطانيا وفرنسا اثناء العدوان الثلاثي الفاشل على مصر سنة 1956)، في مقال له في «معاريف» امس الاول، 26.11.2019، بعنوان: «انعدام وجود انجاز سياسي، يحول دون تحقيق أكبر انتصار عسكري لأي حسم، ولم تمكننا كل انتصاراتنا العسكرية، في الحقيقة، من تغيير الواقع الذي نعيشه».
كاتب فلسطيني