لماذا تنتقل الحرب في ليبيا من حربٍ بالوكالة إلى حربٍ بالأصالة بعد قرار البرلمان التركيّ بالمُوافقة على إرسال قوّات؟ وهل سيُفشِل
بوتين خُطط أردوغان في طرابلس مِثلَما أفشَلها في سورية؟ وما سِرُّ هذا الاندِفاع التركيّ؟
مُوافقة البرلمان التركيّ في جلسته الطّارئة التي عقَدها أمس بأغلبيّةٍ ساحقةٍ على طلب الرئيس رجب طيّب أردوغان بإرسال قوّات تركيّة
وأسلحةٍ إلى ليبيا، لن يُؤدّي إلى تكريس عمليّة تدويل الأزَمة في هذا البلد، بل قد ينقل الحرب الدّائرة فيها حاليًّا، من حربٍ “بالإنابة” إلى
حربٍ “بالاصالة” تتورّط فيها دول إقليميّة إسلاميّة وعربيّة وأوروبيّة، وربّما قِوى عُظمى لاحِقًا، وقبْر كُل الآمال بإمكانيّة التوصّل إلى
حُلولٍ سياسيّة.
نشرح أكثر ونقول إنّ الحرب بالإنابة كانت، وما زالت، تقتصر على مُشاركة قوّات “مُرتزقة” روس وسودانيين وتشاديين مدعومين من
السعوديّة والإمارات ومِصر تُقاتل إلى قوّات الجِنرال حفتر، ومُرتزقة جرى شحنهم من سورية مدعومين من قطر وتركيا تُقاتل إلى جانب
حُكومة الوِفاق المدعومة من الأُمم المتحدة، في النّاحية الأخرى، ووصول قوّات تركيّة رسميّة مدعومة بغطاء جويّ وسُفن بحريّة ودبّابات، قد
يَكسِر هذه المُعادلة، ويدفع بدول مِثل مِصر والإمارات وربّما اليونان وفرنسا وإيطاليا إلى الرّد على هذه الخطوة التركيّة بإرسال قوّات
رسميّة أيضًا، وهُناك مُؤشّرات تُؤكِّد هذا التوجّه نلمسها حاليًّا.
تطوّر المعارك على جبَهات القتال، وخاصّةً في مِنطَقة طرابلس العاصمة هو الذي سيلعَب الدّور الحاسِم في هذا المِضمار، فإذا استمرّ تقدّم
قوّات حفتر في العاصِمة مثلما يتردّد حاليًّا، ويُشدِّد الخِناق بالتّالي على حُكومة الوفاق، فإنّ الرئيس أردوغان لن يتردّد بإرسال القوّات، وإلقاء
كُل ثقله في هذه الأزمة لإنقاذ آخِر حُكومة حليفة له في البحر المتوسّط، بعد أن تحوّلت مُعظم الحُكومات الأُخرى ضدّه، أوروبيّة كانت أو
عربيّة اتحاديّة مغاربيّة.
الرئيس أردوغان وضع ورقة التّفويض البرلماني في جيبه، وبات الآن يُراقِب الوضع عن كثبٍ، وربّما يتريّث في خطوة التّنفيذ العَملي لهذا
التّفويض الذي تقتصر صلاحيّته على 12 شهرًا حتى انتهاء زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لأنقرة الأربعاء المُقبل، وعلى ضُوء المُباحثات
التي ستَشملها في الملفّين السوريّ والليبيّ سيتم اتّخاذ القرار بإرسال القوّات إلى ليبيا أم الاكتِفاء بشحن المُقاتلين من المُعارضة السوريّة
المُسلّحة، سلفيّة كانت أم تابعة للجيش السوري الحُر وفصائِله المُتعدّدة.
مُمثّلو المُعارضة في البرلمان التركيّ اعترضوا على إرسال أيّ جُنود إلى طرابلس لأنّ هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر، بسبب البُعد
الجغرافيّ أوّلًا، ووجود قِوىً أُخرى قويّة وأكثر مالًا وعتادًا وجُنودًا مرتزقة يُقاتلون في صُفوف حِلفهم، الأمر الذي قد يُؤدّي إلى سُقوط أعداد
كبيرة من القتلى في صُفوف القوّات التركيّة خاصّةً إذا علمنا أن وزير الخارجيّة المِصري السيّد سامح شكري اتّصل أمس الخميس بنُظرائه
في السعوديُة والإمارات وقبرص واليونان لإرسال قوّات رسميّة فور وصول القوّات التركيّة إلى طرابلس.
لا نشُك مُطلقًا في أنّ دولة قطر ستُغطّي التّكاليف الماديّة للمجهود الحربيّ التركيّ في ليبيا، تمامًا مِثلَما فعلت على مَدى السّنوات التُسع
الماضية في سورية، ولكن إذا تدخّلت واشنطن التي يتردّد أنّها تُعارِض التدخّل التركيّ واعترضت على هذا الدّعم الماليّ لتركيا فإنّ الرئيس
أردوغان سيجد نفسه في وضعٍ حَرِجٍ للغاية في ظِل الأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها بلاده حاليًّا.
التدخّل العسكريّ الروسيّ المدعوم من إيران و”حزب الله” هو الذي أفشل المشروع التركيّ الأمريكيّ في سورية، وعزّز صُمود الجيش
العربي السوري، وحافظ على بقاء الدولة السوريّة، وحُكومة الرئيس بشار الأسد، رغم كثافة الدّعمين الماليّ والعسكريّ للمُعارضة السوريّة
المُسلّحة التي جرى استخدامها كواجهةٍ، ولا نَستبعِد أن يُعيد التّاريخ نفسه، وربّما بالطّريقة والنّتائج نفسها وللمرّة الثّانية في مُواجهةٍ مع
الرّوس حُلفائه الجُدد في سورية.
لن يكون غَريبًا أو مُفاجئًا أن تتحوّل ليبيا إلى سورية أُخرى، ولو لفترةٍ أقصر، وتكون النّتائج مُتطابقةً في الحالين، وربّما لهذا السّبب يتريّث
الرئيس أردوغان ويُعيد حِساباته جيّدًا، قبل الإقدام على القرار الأخطر في حياته السياسيّة وهو إرسال قوّات إلى دولة تَبعُد عن حُدوده
الجُغرافيّة حواليّ ألفيّ كيلومتر، ولدعم حُكومة تُسيطِر على أقل من 20 بالمِئة.
نعم هناك استثمارات تركيّة في ليبيا تُقارب مِن 40 مليار دولار يجِب حمايتها، ونعم هُناك سوق ليبيّة واعِدة بالصّفقات المُغرية للشّركات
التركيّة خاصّةً في مجال إعادة الإعمار للبُنَى التحتيّة تُقدّر بعشرات، وربّما مِئات المِليارات من الدّولارات، ولكنّ ليبيا ليسَت قبرص، فالزّمن
تغيّر، واللّاعِبون تغيّروا وتركيا تغيّرت أيضًا، نقول هذا للتّذكير.. والرئيس أردوغان أعلم.