الفيلم الوثائقي «مصنع أمريكي»… الرأسمالية بلغة جديدة
لم يكن غريباً أن تتضمن كلمة أحد مخرجي الفيلم الوثائقي «مصنع أمريكي» (جوليا ريتشيرت وستيفن بوغنار) سطراً من «البيان الشيوعي» الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلز وصدر عام 1848، وهو السطر الملخص لعموم البيان، حين قالت جوليا: الظروف تصعب أكثر وأكثر على العمال هذه الأيام، ونعتقد أن الأمور ستتحسن حين يتحد العمال». وهذه العبارة الأخيرة أتت بالإنكليزية كاقتباس تام من البيان: «يا عمال العامل اتحدوا» (وإن لم تبد كذلك بالعربية).
الفيلم الذي نال في حفل الأوسكار قبل أيام جائزة أفضل وثائقي، والمعروض على شبكة نتفليكس، والذي أنتجه كل من باراك وميشيل أوباما (الرئيس الأمريكي السابق)، صُور في مصنع في مدينة دايتون ولاية أوهايو الأمريكية، وكان المصنع تابعاً لشركة «جينيرال موتورز» التي أُغلقت بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا والعالم عام 2008، ما تسبب في فقدان الكثير من الأهالي المحليين أعمالهم. ثم جاء الصينيون، اشترت شركة «فوياو» الصينية لصناعة الزجاج، المصنع، وعاد الكثيرون إلى أعمالهم، إنما بظروف جديدة. الوثائقي يصور هذا المجيء، من تعيين الموظفين وإنشاء الديكورات للمصنع الجديد، إلى المعارك مع النقابة التي تشكلت للدفاع عن حقوق العمال هناك.
نعرف من الوثائقي الظروف الصعبة التي يضطر العمال، أمريكيين وصينيين، لعيشها كي لا يتم صرفهم، يصور الوثائقي الابتزاز، يصور كذلك محاولات البعض (الأمريكيين خاصة) لإنشاء نقابة تدافع عن حقوقهم، ومحاولات الإداريين (من الصينيين تحديداً) تعقب الناشطين الداعين إلى إنشاء النقابة، لطردهم من العمل. نسمع مثلاً رئيس الشركة يحذر من إنشاء النقابة ويهدد أحد الإداريين بالإقالة. ظروف العمل هي ذاتها لدى الأمريكي والصيني في المصنع، إنما الرفض كان دائما أمريكياً، فهؤلاء لم يتعودوا على ظروف كهذه في «جينيرال موتورز» كما قال أحدهم. لا يعني ذلك أن الظروف تلك كانت مثالية، إنما يعني أن الصينيين أتوا بظروف عمل صينية، كما هي في بلادهم، بسمعتها السيئة، وأرادوا تطبيقها على السكان المحليين في دايتون، بدون السماح لهم بالاعتراض أو تشكيل نقابة.
هذا تماماً ما يحيلنا إلى فكرة الرأسمالية المتخطية للقارات، التي تصير بذلك إمبريالية، وهذه الكلمة الأخيرة لم تُخترَع لأمريكا، ويجب أن لا تلتصق حصراً بها. جشع الرأسمالية في تصدير صناعاتها وتجاراتها إلى الخارج، هو نوع من الاحتلال الاقتصادي (قد يكون لذلك أثر في نيل هذا الوثائقي الأوسكار)، والوثائقي صور المنشأة كموقع صيني داخل أمريكا، كجزء من الأراضي الصينية، وهذا هو تماماً التمدد الإمبريالي المبني على رأسمالية اقتصادية (طبعاً هنالك مصانع أخرى وحالات أخرى عديدة مقلوبة وحاصلة في الصين تمثلها شركات أمريكية).
الفيلم الذي نال جائزة أفضل وثائقي في مهرجان سندانس الأمريكي السينمائي، مثال ممتاز على تصوير ما هي الإمبريالية، أو ما هي الرأسمالية في أعلى حالاتها، وهو كذلك مثال ممتاز على شرح أن الرأسمالية هي مسألة عالمية، لا تنحصر بدولة دون أخرى، تتباين فقط تبعاً للظروف والحالات. فما تقوم به شركة «فوياو» الصينية في أمريكا بدا كأنه «ضربة مقابل ضربة» لما تقوم به مصانع أمريكية عدة في الصين. والمشترك (وهنا مأساة العمال) هو أن المصانع في البلدين يطبقان القوانين الصينية حيث تكون النقابات (إن وجدت) بيد الدولة، أو تكون رديفاً لإدارة المصنع، أي تكون وهمية.
هذا كله يحيلنا إلى «البيان الشيوعي»، وإلى العبارة التي أخذتها مخرجة الفيلم منه «يا عمال العالم اتحدوا»، فالرأسمالية هي هي، في الصين وأمريكا، العمال هم هم، في البلدين، والنضال من أجل حقوقهم وإنشاء نقابات لهم، هو نضال واحد في ظروف واحدة. الأسماء فقط تختلف.
طبعاً، لا أوباما ولا نتفليكس يسعيان بهذا الوثائقي إلى «فضح» الرأسمالية. هما أحد أبرز ممثليها في العالم، لكن، كما ذكرت، شعور قومي أمريكي هو المحفز الأكبر -غالباً- ليهتم أمريكيون بموضوع كهذا، فلا اتهام تجاه الرأسمالية يوجهه الوثائقي، بل اتهام تجاه رأسمالية الصينيين، بمعنى: نحن الرأسماليون أو لا أحد، مصانعنا تغزو العالم ونحتل باقتصادنا سياسيات الدول، أو لا أحد يفعلها.
الوثائقي (American Factory)، بغض النظر عن الغاية منه، وعن مرجعيات مخرجيه، وعن إدراكهما للبيان الشيوعي أو تقصدهما نطق تلك العبارة التي كانت أمريكا تحاكم المتلفظين بها – وأشك في كل ذلك – الوثائقي وإن تقصد إدانة الرأسمالية الصينية في أمريكا، هو (بإدراك أبعد لسطحه) إدانة للرأسمالية في العالم أجمع، فالرأسماليون متماثلون مهما كانت لغتهم، والعمال متماثلون مهما كانت لغتهم كذلك، لذلك لا بد لهم أن يتحدوا.