ملخص كتاب معاوية بن أبي سفيان
بداية الخلافة الأموية على يد معاوية
عباس محمود العقاد
(معاوية بن أبي سفيان) من الشخصيات التي لها تأثير كبير في التاريخ الإسلامي، والأستاذ (العقاد) يحلل شخصيته من وجهة نظر مختلفة، ويتحدث عن صفتي الحلم والدهاء، وكيف اشتهر بين العرب بالحلم؟ ويتحدث عن نسبه ونشأته، وكيف أثر نسبه الأموي على شخصيته؟ وما موقفه من قضية (عثمان) رضي الله عنه؟ وكيف أسس الدولة الأموية؟ وكيف استفاد من ولايته لـ (الشام) لفترة طويلة؟
1- داهية من دواهي العرب
كان العرب يتصفون بصفات كثيرة كالشجاعة والكرم والفروسية، إلا أن صفة الدهاء كانت صفة خاصة. يتحدثون بها ويحبون حديثها ويكثرون منه كلما استطاعوا، ليسوا فقط معجبين بالدهاء، وإنما يتمنونه ويطلبونه، وعذرهم في هذا واضح من تاريخهم وتواريخ منازعاتهم ومصالحهم، فإنهم كانوا يبحثون عن الدهاء لحل هذه الأزمات والنزاعات؛ فيجدونه حينًا ولا يجدونه حينًا آخر، ولكنهم كانوا يجدون الشجاعة والفروسية في كل حين. وسبب آخر من أسباب الولع بالحديث عن الدهاء، أنه أصبح منافسًا للشجاعة،بل ويغلبها في موازين الصفات الاجتماعية، فإذا عِيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة، وجد العزاء بشهرة الدهاء، أو ادّعى ذلك إن لم يكن قد بلغ بدهائه مبلغ الشهرة الذائعة الصيت. إن رواة التاريخ العربي يحدثوننا عن دُهاتهم في صدر الإسلام فيقولون: "إنهم أربعة: (عمرو بن العاص) و (المغيرة بن شعبة) و (زياد بن أبيه) و (معاوية بن أبي سفيان) ". ويقولون: "إن (ابن العاص) للبديهة، و(المغيرة) للمُعْضلات، و(زياد) لكل كبيرة وصغيرة، و(معاوية) للرَوِيَّة. وأكثر ما برع فيه (معاوية بن أبي سفيان) من ألوان الدهاء: إلقاء الشبهة بين خصومه، في زمن كانت فيه هذه الشبهات من أيسر الأمور؛ لكثرة التقلب والتحول في الدول والممالك."
كان (معاوية) إذا أراد أن يستميل أحد البطارقة من دولة (الروم) فاستعصى عليه، كتب له رسالة مودة وثناء، وبعثها مع رسول يحمل إليه الهدايا والرُّشا، كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة (الروم)، ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس، فإذا اعتقله (الروم) –ولا بد أن يعتقلوه، وهو مراد (معاوية) –وقعت الشبهة على البطريق المقصود، وتعذر الاطمئنان إليه من قومه بعد ذلك، وعزلوه وأبعدوه، إن لم ينكّلوا به أشد تنكيل. وقد احتال بمثل هذه الحيلة على (قيس بن سعد) حتى أوقع الريبة في نفس الإمام (علي) من ناحيته، وساعدته الحوادث على خلق هذه الريبة؛ فإن (قيس بن سعد) لم يدخل (مصر) إلا بعد أن مرَّ بجماعة من حزب (معاوية)، فلم يتعرضوا له ولم يحاربوه، وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم. ولما بايع المصريون (عليًّا)، بقى العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون، وقالوا لـ (قيس بن سعد): "أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر"؛ فأمهلهم وتركهم؛ حيث طاب لهم المقام بجوار (الإسكندرية)، وأراد الإمام (علي) أن يستوثق من الخصومة بين (قيس) و (معاوية)؛ فأمر (قيسًا) أن يحارب المتخلفين عن البيعة فلم يفعل (قيس)، وكتب إليه يقول: "إننا متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك، وهم الآن معتزلون، والرأي تركهم"، وهكذا وقعت الريبة في نفس الإمام (علي) من ناحية (قيس بن سعد).
وحيلة أخرى غير أكيدة، ولكننا نشير إليها في مكانها مما رواه الرواة عن الوسائل الخفية التي استعملها (معاوية) للتغلب على خصومه ومنافسيه. مات (الحسن) ومات (مالك بن الأشتر) الذي ولاه (مصر) بغير علة ظاهرة؛ فظن الناس أنه اغتيال مدبّر، وأن صاحب النفع من هذا التدبير هو (معاوية). ونقل عن (ابن العاص) بعد موت (الأشتر) أنه قال: "إن لله جنودًا من عسل" وكان موت (الأشتر) بعد شربة من العسل.
2- حِلم (معاوية)
اشتهر (معاوية) بعد الدهاء بالحلم، وقال (قبيصة بن جابر): "صحبت معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا، ولا أبطأ جهدًا، ولا أبعد أناة منه ". ولم يفخر (معاوية) بصفة كما كان يفخر بحلمه. كان يفاخر خاصته بالدهاء بينه وبينهم، ولكنه لم يفخر بالدهاء علانية، كما كان يفخر بالحلم -ولا غرابة في ذلك -فما من رجل على نصيب من الدهاء يعلن دهائه ويفخر به، وهو يستطيع أن يخفيه. ووجهٌ آخر من وجوه الجهر بالجهل وتذكير الناس به عند (معاوية) أنه كان حريصًا على التحبب إلى الناس؛ لأنه ينتزع سلطانه ويعلم أن الناس لا يحبون من ينتزع السلطان. وحين سُئل: "أي الناس أحب إليك؟" قال: "أشدهم تحبيبًا لي إلى الناس "، وكان يقول أيضًا: "إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكثر من إحساني"، وكان يقول في مجالسه: "لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت "، وسأله بعضهم: كيف ذلك؟ فقال: "كنت إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها ". وحدَُ الحلم عنده ألا يكون في العدوان والتطاول مساس بملكه وسلطانه، وكان يقول: "إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا".
ولما اختلف (علي) مع (معاوية)، لم يكن أحد ينكر على (علي) شجاعته وتقواه وسابقته إلى الإسلام وقرابته من رسول الله؛ فإذا أراد (معاوية) أن يوازيه بصفة من صفات الرئاسة، فتلك هي الحلم دون غيره. والمفاخرة بالحلم كانت لـ(معاوية) فقط، ولم تكن للمروانيين من بعده في الدولة الأموية. واستغنى ملوكها عنها بمقابلة فضائل (علي بن أبي طالب) بفضائل سياسية يرجحون بها أنفسهم في ميزان الخصومة. وكان (معاوية) يقول: "إذا لم يكن الأموي حليمًا فقد خالف أصله وأصل آبائه ". وكان يقول أيضًا: "يا بني أمية، فارقوا قريشًا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتمًا وأوسعه حلمًا، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه ولا زاده إلا إكرامًا ". ولا شك أن (معاوية) قد أقام فخره بالحلم على سمعة قديمة في بيته بين بيوت بني أمية؛ لأن هذا الفخر لا يُخْلَق بين يوم وليلة في البلاد العربية.
ومن مواقف حلمه أيضًا: عندما دخل عبيد لـ (معاوية) أرض (ابن الزبير)، فكتب إليه (ابن الزبير): "أما بعد يا (معاوية)، إن لم تمنع عبيدك من دخول أرضي وإلا كان لي ولك شأن"، وقيل أن (معاوية) أطلع ابنه (يزيد) على كتاب (ابن الزبير)، وسأله: ما ترى؟ فقال له (يزيد): "لتنفذن إليه جيشًا أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه." فقال: "بل عندي يا بني خير من ذلك"، وكتب إلى (ابن الزبير): "وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله – صل الله عليه وسلم –، وساءني والله ما ساءك، والدنيا هيّنة عندي في جذب رضاك، وقد كتبت على نفسي كتابًا بالأرض والعبيد، وأشهدت على ما فيه، ولتُضف الأرض إلى أرضك والعبيد إلى عبيدك والسلام". فجاءه الجواب من (ابن الزبير) يقول فيه: "وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام". وأطلع (معاوية) ابنه على الكتاب الثاني؛ فأشرق وجهه، وأبوه يقول: "إذا رُميت بهذا الداء فداوِه بهذا الدواء
https://books-library.net/files/elebda3.net-wq-5212.pdf