من وحي المرحلة (1)
القاضي/ سامر مازن القبج
عضو المحكمة العليا الشرعية
الأصلُ المتبَّع في هذا الكون الخروج من البيت للعبادة والعمل والتواصل؛ حتى في يوم الجمعة نزلت سورة الجمعة وجاء فيها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة: ١٠
فقد حجر الله عليهم في التصرّف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الجمعة: ٩
فأذن لهم بعد الفراغ الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ،وكما خفّف الله عن المسلمين في قيام الليل لوجود فئة ستخرج من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } المزمل:20
كل ما تقدم سنةٌ كونيةٌ وعرفٌ متَّبعٌ في زمن السلم المجتمعي،أما الاستثناء فهو زمن الفتن، والفتن بمعناها العام هي الاضطراب والتهوُّرُ والضلال والاختباروالتحوُّلُ من حالٍ إلى حال، فالفتنة تغييرٌ يصيب البشر فينقلهم من الوعي إلى اللاوعي؛ ومن العقل إلى الجنون؛ ومن الصِّحة إلى المرض؛ ومن الإسلام إلى الكفر؛ ومن الغِنى إلى الفقر ؛أي من حال مستقرَّة إلى حال مضَّطربة.ولذلك تغير حكم الخروج من البيت فور وقوع الفتنة.
أولا: ورد في سِير أعلام النبلاء 2/510 والحديث صحيحٌ ورجاله ثقات “قال لي عمران بن حُصين: الزم مَسجِدَك؛ قلت:فإن دُخِلَ عَلَيَّ؟قال:الزم بيتك” وهذا في زمن الفتنة ويدل الحديث أن المسجد إذا كان محل فتنة من خلاف أو قتال أو وباء جاز تركُهُ ويكونُ القرارُ فقط في البيت.
ثانيا:ورد في سنن أبي داود والنسائي وأحمد عن عبد الله بن عمرو بينما نحن حول رسول الله صل الله عليه وسلم إذ ذَكَر الفتنة فقال:إذا رأيتم الناس قد مَرَجَت عُهودُهم (أي انتشر فساد العهد)وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا وشبَّك بني أصابعه(أي خُلطوا فلا يُميَّزُ فيهم الطيبُ من الخبيث والمؤمنُ من المنافق)قال:فقمت إليه فقلت:كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك قال:الزم بيتك واملك عليك لسانَك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمرَ العامَّة.
ثالثا:روى الإمام أحمد في مسنده أن عليا بعث إلى محمد بن مَسلَمة فجيء به ؛فقال ما خَلَّفَكَ عن هذا الأمر؟قال:دفع إلي ابنُ عَمِّك-يعني النبي صل الله عليه وسلم-سيفاً،فقال:قاتل به ما قُوتِلَ العدو؛ فإذا رأيتَ الناسَ يقتلُ بعضُهم بعضاً فاعمد إلى صخرةٍ فاضربه بها ثم الزم بيتك حتى تأتيك مَنيةٌ قاضيةٌ أو يدٌ خاطئةٌ قال:خلّوا عنه.
وحيث إن الوباء من مُدرجات الفتنة؛ فما ذكر من أحاديث تكون للوباء ايضا إلا أنه ورد في شأنها أحاديث مخصوصة للتأكيد.
أولا:أخرج البخاري في المسند بسندٍ صحيح عن عائشة أم المؤمنين ؛ قالت:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني رسول الله صل الله عليه وسلم أنه كان عذابا يبعثُه الله على من يشاء؛ فجعله رحمةً للمؤمنين؛ فليس من رجل يقع الطاعونُ فيمكثُ في بيته صابراً مُحتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثلُ أجر الشهيد.
ألا يكفي أن الوباء يكون عذابا لغير المؤمنين ويكون رحمةً للمؤمنين فإن أصابهُ فهو شهيد؛ وإن نجَّاهُ كان له أجرُ شهيد؛ فعجبا لأمر المؤمن كله خير.
ونعاودُ القول؛ إن لله سبحانه أمر النساء بالمكوث في البيوت وعدم الخروج إلا للضرورة والحاجة، والضروراتُ تُقَدَّرُ بقَدَرِها { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } الأحزاب: ٣٣
وذلك صونا للمرأة من أن تخدش أنوثتها؛ فكيف نسبتعد أن يحرم الله خروجنا من البيت صونا لأنفسنا من الهلاك .
فالوباء للمؤمنين ليس بعذاب بل شهادة إذا مات وأجر شهادة إذا بقي على قيد الحياة .
والحمد لله رب العالمين