جغرافيا بلاد الشام
« بلاد الشام» يتطابق تعريفه مع سوريا الكبرى وهو إقليم يمتد من جبال طوروس شمالاً حتى خليج العقبة وصحراء سيناء جنوباً ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى العراق شرقاً، أي من خط عرض 29. 5 درجة إلى37. 5 درجة شمالاً، ومن خط طول 36 درجة إلى 42 درجة شرقاً، وقد تعرض محمد كرد علي لتفصيل الامتداد الجغرافي لبلاد الشام بقوله:
« حد الشام ينتهي بسفوح جبال طوروس المعروفة بالدروب عند العرب آخذاً إلى ما وراء خليج الإسكندرونة لجهة أرض الروم، وكان جبل السَّيّاح (بفتح السين وتشديد الياء) حداً بين الشام والروم. ولا نعرف هذا الجبل بهذا الاسم اليوم، ويقول الإدريسي: ومن السويدية إلى جبل رأس الخنزير عشرون ميلاً وعلى هذا الجبل دير كبير وهو أول بلاد الأرمن وآخر بلاد الشام، فما كان من جهة الشام على ضفة الفرات فهو شام، وما كان على الضفة الأخرى من الشرق فهو عراق.
المكانة الحضارية
فصفين مثلاً في الشام، وقلعة جعبر في الجزيرة الفراتية وبينهما مقدار فرسخ أو أقل، وتدخل بالس في مسكنة الشام لأنها من غرب الفرات، وتدخل البيرة (بيره جك) في الجزيرة لأنها على الشق الآخر من الفرات. وما كان من دير الزور على الفرات إلى جهة الشام فهو من الشام، وما كان على الشاطئ الآخر إلى الشرق فهو من العراق. وكذلك يقال في الرقة… »
إن مكانة بلاد الشام الحضارية أكبر من أن تختزل بكلمات أو صفحات فهي تحتل مكانة فريدة في تاريخ البشرية. فيها نشأت الديانات التوحيدية اليهودية والمسيحية كما كان دورها أساسياً في نشوء وانتشار الإسلام. إليها تتجه أنظار المسيحيين واليهود والمسلمين من كل أنحاء العالم، وفيها تم اختراع الأبجدية، وهي على الأغلب مكان تدجين القمح ومكان اكتشاف النحاس واختراع الخزف ومكان نشوء الزراعة والتحول من حياة الصيد إلى حياة الزراعة والاستقرار « وربما كانت قبل ذلك المكان الذي ترعرع فيه سلف من أسلافنا المباشرين الإنسان الحديث» (فيليب حتي).
لم تنقطع نار الحضارة عن هذا الجزء من العالم، وإن كانت تخبو أحياناً، فقد ظلت مساهمتها أساسية في التاريخ العام للبشرية. كما كانت حاضرة في كل أحداث التاريخ الكبرى بسبب موقعها الجغرافي فهي تقع في قلب العالم القديم: آسيا وافريقيا وأوروبا، لذلك أُطلق عليها اسم جسر القارات لأنها تشكل صلة وصل بين البشر، وبين الحضارات. وهي مركز للتبادل السلعي والحضاري. هي قلب العالم فقد التقى على أرضها البشر من كل دين وجنس ولون، وعبر دروبها عبرت القوافل بين شمال العالم وجنوبه ومن شرقه إلى غربه، وفي أسواقها كان يتم تبادل السلع وتتلاقح الأفكار فيكتسب البشر خبرات حضارية جديدة، وقد انعكس كل ذلك على تركيبتها السكانية المتنوعة فهي خليط من كل الأعراق والديانات والألوان، شجرة باسقة ذات جذع عربي إسلامي راسخ في الأرض تمتد أغصانها في كل الاتجاهات.
بلاد الشام عبر التاريخ أشبه بوعاء تفاعل حضاري كبير إذ تلاقحت على أرضها الحضارات والأديان، والتقى فيها البشر من كل أصقاع الأرض فاختزنت أرضها كل المؤثرات والحضارات. وبعد أن تكتمل عناصر هذا التفاعل وتختمر كانت تنهض واقفة لتعطي البشرية ديناً أو حضارة جديدة. أما من الناحية السياسية والعسكرية فقد شكلت بيضة القبان في العلاقات الدولية، فهي مؤشر لصعود القوى أو انحسارها. من يضع يده عليها يضمن لنفسه اليد العليا سياسياً وعسكرياً ومن يخسرها يخرج من التاريخ بغير رجعة كما حدث مع البيزنطيين وغيرهم، أو يحتاج إلى وقت طويل ليعود إلى ركابه.
إضافة إلى أهميتها الجغرافية والحضارية والسياسية والعسكرية يجب أن لا ننسى أهميتها الدينية لأنها تضم القدس المكان المقدس لدى أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث بين جنباتها، وكذلك انطاكية ذات الأهمية الدينية المسيحية. كما أنها بوابة مكة « شام شريف».
للشام أهمية عسكرية وسياسية واقتصادية وحضارية ودينية وندر أن نجد مكاناً في العالم اجتمعت فيه كل هذه الميزات.
على الدوام تنازعت ثلاث قوى السيطرة على بلاد الشام، من الشرق العراق وقد تحل فارس محله أو ما خلفهما حسب صعود الحضارات وهبوطها في آسيا وحسب ميزان القوة بين العراق وبلاد فارس، ومن الشمال الأناضول بغض النظر عن الحضارات والأديان السائدة فيه، ومن الغرب مصر. لكن في فترتين تاريخيتين تمركزت القوة في بلاد الشام وتحولت من كونها ميداناً للصراع إلى قائدة للأمة. الفترة الأولى في العهد الأموي الذي استمر لتسعين عاماً حيث تُوجت بلاد الشام بأعز أمجادها فصارت دمشق عاصمة الدنيا المعروفة في ذلك الوقت، من حدود الصين إلى قلب أوروبا.
صار العالم ملحقاً بـ «بستان هشام». أما الفترة الثانية فكانت أيام حروب الفرنجة إذ استجمعت بلاد الشام قواها واستطاعت ابتداء من الموصل، فحلب، فدمشق أن تُنشئ دولة قوية تحت قيادة آل زنكي فتوحد الجهد العسكري ضد الغزاة الفرنجة، ثم أكمل خليفتهم صلاح الدين الأيوبي المهمة فاستولى على مصر ليضع الممالك الصليبية على الساحل السوري بين قطبي رحى مسترداً القدس وفاتحاً الطريق لتصفية كل الممالك الصليبية على الساحل السوري على يد المماليك فيما بعد.
حكم العثمانيين
و القاعدة الأساسية التي لا زال سارية حتى اليوم هي أن بلاد الشام لا تستقر إلا إذا توحدت قوتان على الأقل حولها، أو إذا نشأت دولة قوية في أحد المراكز المحيطة بها فتستولي على مركز من المراكز الأخرى او على المركزين. فلم يُطرد الصليبيون إلا بعد توحد العراق ومصر تحت راية المماليك، كما استقرت بلاد الشام لأربعة قرون تحت حكم العثمانيين (السلام العثماني) لأنهم سيطروا على الفضاء المحيط بها.
عند بداية الألفية الثانية للميلاد دخلت ساحة الصراع على بلاد الشام قوة جديدة هي أوروبا، فشنت حرباً أسمتها صليبية هدفها السيطرة على بلاد الشام لتحتكر الطريق البري إلى آسيا فاحتلت القدس لتمسك بخناق القوى الإسلامية عبر ضربها في قلبها: بلاد الشام. ونشير هنا إلى أن سكان بلاد الشام لم يغلقوا طرق آسيا في وجه أحد بل إن جوهر حياتهم يعتمد على استمرار هذه الطرق مفتوحة للجميع لكن الغربيين يريدون احتكار طرق آسيا ومنع الآخرين من ارتيادها وهذا عين ما فعلوه فيما بعد في حوض المحيط الهندي وفي أسواق آسيا التي كانت هي أيضاً مفتوحة للجميع فاحتكروها لأنفسهم مانعين الابحار والتسوق إلا بإذن منهم !
بعد فشل حروب الفرنجة استمرت محاولات السيطرة الغربية على بلاد الشام حتى نجحت في ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، ثم ورثت أمريكا هذا الدور عن أوروبا ومازالت مسيطرة حتى اليوم وإن كانت هذه السيطرة آخذة في الانحسار كما حدث مع كل موجات الغزو الـسابقة.
لا بد من التوقف مع ملاحظة جوهرية وهي أن ظهور الإسلام في الجزيرة العربية التي تعتبر مع بلاد الشام منطقة واحدة – من الجغرافيين العرب القدماء من يعتبر مصطلح الجزيرة العربية متضمناً بلاد الشام بسبب تواصل الجغرافيا والسكان – إن ظهور الإسلام وانتشاره شرق وغرب وشمال بلاد الشام جعل الصراع بين الأناضول ومصر والعراق (أو فارس في حال تراجع دور العراق) على بلاد الشام يدور داخل البيت العربي الإسلامي وداخل الحضارة العربية – الإسلامية فالمنطقة الممتدة من وسط آسيا إلى الأطلسي صارت منطقة واحدة حضارياً وسياسياً واقتصادياً، وبذلك اكتسبت بلاد الشام وظيفة جديدة إذ صارت قلب الحضارة العربية – الإسلامية، فهي صلة الوصل بين الكتل الإسلامية الكبرى الآسيوية، والإفريقية، والشمالية في الأناضول وملحقاتها في البلقان والقوقاز. وفي الوقت نفسه أدى دخول أوروبا إلى الصراع على بلاد الشام إلى تحوله إلى صراع عربي إسلامي – أوروبي على بلاد الشام. فصار للصراع على بلاد الشام بعدان داخلي وخارجي. داخلي بين أطراف الحضارة الإسلامية لتحديد حجم القوة والنفوذ. وخارجي بين القوى الإسلامية ككل وبين أوروبا الصاعدة بعد الألف الثانية للميلاد.