أفلام الثورة الفلسطينية: استعادات معرفيّة راهنة
سليم البيك
يبقى التلقي للأفلام الفلسطينية، أو فهم السينما الفلسطينية، اليوم، ناقصاً ما لم ندرك بواكير هذه السينما، لا بمشاهدتها، فما كانت مشاهدة الأفلام يوماً كافية لإدراكها، بل بمعرفتها، المعرفة التي تكون المشاهدةُ المكوّن الأساسي لها، وباستيعاب سياقها السياسي والاجتماعي والفني، كمرحلة أولى من سيرورة تصل بنا، تباعاً، إلى الأفلام الفلسطينية اليوم.
في السنوات الأخيرة أتيحت بمناسبات مختلفة، معظمها إنترنتيّة، فرصُ مشاهدة أفلام الثورة الفلسطينية، أفلام منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، مع تقدم عمليات الترميم، وإن ببطء لأسباب عدة. في السنة الأخيرة أتيحت بعض هذه الأفلام عبر الإنترنت، ما جعلها تصل إلى جمهور أكبر، وهو الأساس في ضرورة ترميم وإتاحة هذه الأفلام، أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وغيرهم، مشاهدين وباحثين، لضرورة أن يدرك هؤلاء أكثر، السياق التاريخي والفني لصناعة الفيلم الفلسطيني.
مرحلة قطعٍ حالت دون الاستمرارية الطبيعية لهذه السينما، منذ السبعينيات حتى اليوم. هي مرحلة الثمانينيات، وتحديداً بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 إذ توقف الإنتاج السينمائي لهذه الفصائل، وضاع أو نُهب أرشيفها (يُرجَّح نهب الجيش الإسرائيلي له عند اجتياحه بيروت)، وحالَ التشتت الوجودي والسياسي لمنظمة التحرير، بدون استئناف الإنتاج السينمائي. وتسبب هذا القطع بانتقال فنّي ومضموني في صناعة الفيلم الفلسطيني، كان حاداً كأنّ بداية جديدة أتت بعدها، وهذا ما يسهّل تمييز مرحلة سينما السبعينيات، وتسميتها بسينما الثورة، إذ كانت شكلاً ومضموناً سينما ثورية، وكان مصيرها من مصير الثورة. لحقها ذلك الانقطاع قبل أن تستأنف السينما الفلسطينية حالةَ وجودها، بانتقال في الزمان والمكان، استئنافا تدريجيا وعلى مهل شكّلته أفلام ميشيل خليفي. كأنّ السينما الفلسطينية أرادت أن تتخذ لنفسها شكلاً جديداً، موضوعات جديدة، تتباين قدر الإمكان عمّا كانته. فتوالت أفلام خليفي، الوثائقية والروائية، التي سبق أوُّلها خروجَ الفلسطينيين من بيروت. فطبعت أفلامُه الانتقال القطعي للسينما الفلسطينية، بل تطبّعت هذه السينما بتلك الأفلام الشخصية، حيث احتلت القرية مكان المخيم، وهي الفنية، الملوّنة، الهادئة، المقبلة من الداخل الفلسطيني، تكون أقرب إلى السينما الأوروبية منها إلى السوفييتية كما كانت أفلام الثورة (لمخرجين فلسطينيين وعرب وأجانب) في السبعينيات. وبعد خليفي بأفلامه الأولى («الذاكرة الخصبة» 1980، «معلولا تحتفل بدمارها» 1984، «عرس الجليل» 1987). تتالت الأفلام في التسعينيات، وتسارع تتاليها في السنوات الأخيرة. مع إدراك عام بأنّها، في شكلها الحالي، لحقت أفلام خليفي، وهذا مُبرَّر لسببين هما تهميش وقلّة أفلام الثورة الفلسطينية المتاحة، ولسنوات طويلة. والقطع الزماني والمكاني والفني وحتى المفهومي مع سينما الثورة، وبالتالي الاستمرارية منذ أفلام خليفي الأولى، خلعت بها، كسينما فلسطينية، رداء الأفلام الثورية النضالية، مرتدية أثواباً متفاوتة فناً وموضوعاً، وثائقية وروائية، تمايز بعضها كسينما المؤلف، التي استهلّها خليفي وامتدت في السنوات اللاحقة، ووصلت قمّتَها مع أفلام إيليا سليمان.
نتج عن هذا كلّه رَكنُ أفلام الثورة جانباً، وقد بدت كماضٍ بعيد، زمانياً وسياقياً وفنياً. وهو ما تسبب بقصور في النظرة الشاملة إلى عموم الإنتاج السينمائي الفلسطيني، وكانت سينما الثورة مرحلتَه الأولى. أقول الأولى لأني أحكي عن مشروع سينمائي وليس أفلاما قليلة ومتفرقة وإخبارية. استجابات متنوّعة ردّت على ذلك «الرّكن»، وبرزت أخيراً. تقوم خديجة حباشنة في السنوات الأخيرة بالبحث والأرشفة والسعي لترميم ما يمكن من أفلام الثورة الفلسطينية (لمصطفى أبو علي وهاني جوهرية وعدنان مدانات وحباشنة ذاتها). سلّط مهند يعقوبي الضوء أكثر على هذه السينما في فيلمه «خارج الإطار: ثورة حتى النصر» 2016، أُتيح قبل أيام على منصة «أفلامنا». هذه المنصة اللبنانية في برنامجها لهذا الشهر، وقد سمّته «هل كلّنا فدائيون؟» تعرض 6 أفلام لمخرجين عرباً وفلسطينيين، تناولت الثورة الفلسطينية في زمنها. و»منصّة الفيلم الفلسطيني» التي نشطت خلال العام الماضي، عادت الأسبوع الماضي لتبث فيلماً أسبوعياً نتأمل أن يكون لسينما الثورة حصة فيها.
وهذه كانت عروض أفلام وحسب، وهو ضروري. أما فكرة الإدراك المعرفي للسياق الذي أتت منه تلك الأفلام، فكان لـ»مركز خليل السكاكيني الثقافي» مساهمة ممتازة في ذلك، إذ بثّ، بتنظيم من لبنى طه، مقابلات على «زوم» شبه أسبوعية تحت عنوان «عن السينما والثورة»، مع مخرجين وباحثين منهم، إضافة إلى حباشنة ويعقوبي، قاسم حول ومونيكا ماورور وناديا يعقوب، تناولت مسائل أفلام الثورة الفلسطينية، في ما يمكن اعتباره، بتجميع المقابلات، مرجعاً في موضوع كهذا، مع إتاحة أفلام متعلقة بالمقابلات ومرفقة بها.
هذه أمثلة سريعة، وراهنة، للاهتمام الذي تناله سينما الثورة الفلسطينية اليوم، وهو اهتمام لا بد أن يستمر مهما اختلفت أشكاله. ستتوقف هذه المقابلات وتلك العروض. لكن من الضروري الإبقاء على التعريف بهذه الأفلام، كمرحلة أخرى (بعيدة) وأولى من السينما الفلسطينية، تكاد تكون منفصلة، فنياً، عمّا نشاهده من الأفلام الفلسطينية اليوم، ضروري لأسباب منها الإدراك الأشمل لتلك المرحلة من تاريخ وحياة الفلسطينيين، ومنها الإدراك الأشمل لما تعنيه السينما النضالية أو الثورية، وبالتالي إدراك النتاج الفني السينمائي الذي أنتجته الثورة الفلسطينية إلى جانب فنون أخرى كالآداب والتصميم والغناء وغيرها.
لكن يبقى السبب الأهم لضرورة الإبقاء على التعريف بسينما الثورة، هو ردم ذلك الانقطاع الذي طالَ سيرورة السينما الفلسطينية، بإعادة إدراك أنّ الإنتاجات الفلسطينية اليوم هي استمرارية لسينما الثورة، أنّها، هذه وتلك، تنقل الحكايات ذاتها للشعب ذاته، كان خارج فلسطين في السبعينيات، وصار داخلها منذ الثمانينيات، وبتأثير الاحتلال ذاته، وبتتالٍ زماني وحسب. بذلك ندرك، بشموليّة نسبية، ونتلقى ونقيّم، الأفلام الفلسطينية اليوم، كسينما كانت يوماً ثورية، شكلاً ومضموناً.
كاتب فلسطيني