الملك عبدالله الثاني والجهود المبذولة لمكافحة الفساد
د. محمد تركي بني سلامة
تسلم الملك عبد الله الثاني ابن الحسين الحكم في شباط عام 1999، وبدأ عهده بزيارات تنكرية للعديد من المؤسسات الحكومية للوقوف على واقعها والعمل على تحديثها وتخليصها من ممارسات البيروقراطية والفساد، ووجه الحكومات المتعاقبة إلى ضرورة إطلاق إرادة التحديث والتغيير الإيجابي ومكافحة الفساد، ولكن ظروف البيئة الإقليمية والدولية ،مثل أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وأخيراً مآلات الربيع العربي، كل هذه العوامل أسهمت في إعاقة الجهود المبذولة سواء على صعيد التحديث أو مكافحة الفساد، فهذه المرحلة كانت مليئة بالاضطرابات السياسيّة والاقتصادية وأثرت بشكل مباشر وسلبي على الجهود المبذولة نحو التحديث وتعزيز الديمقراطية وتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة، وقد فاقم ذلك الأوضاع التي تعيشها الدول العربية التي اجتاحتها موجه من الحروب الأهلية الطاحنة وخصوصا في سوريا وما ترتب على تدهور الاوضاع فيها من تحديات للدولة الاردنية ، ويمكن القول انه في هذه المرحلة من التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته البلاد تحققت نبؤة صموئيل هنتنجتون ، فالدولة التي تمر بمرحلة التحديث تشهد ظروفا تعبر عن وجود هوة سياسية من مظاهرها الفساد وعدم عدالة التوزيع وعدم الاستقرار ،وقد وصل الوضع في البلاد فيما يتعلق بمسألة الفساد إلى ما يكن تسميته بمأسسة الفساد، فالسياسات الاقتصادية السلبية التي تراكمت على مدى عقود أدت إلى الخلل في الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة، فأصبح الفساد جزءاً من الثقافة العامة في المجتمع، وجزءاً من النظام السياسيّ لا يمكن إنكاره. وهكذا أصبحت الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة أقل بكثير من المستوى المطلوب، يُعد سوء الإدارة العامة أو فسادها واحداً من أهم التحديات التي تواجه الدولة الأردنية.
ومن أبرز قضايا الفساد التي شغلت الرأي العام الأردني، والتي لا تزال تعد من أكثر قضايا الفساد الحكومي في البلاد غموضاً وتعقيداً، برنامج التحول الاقتصادي والاجتماعي, اتفاقية الكازينو , المنحة النفطية الكويتية للأردن, شركة امنية , المبادرة الملكية سكن كريم , خصخصة مؤسسات القطاع العام مثل الفوسفات والاسمنت والبوتاس والكهرباء وميناء العقبة والملكية الاردنية وشركة موارد واموال الضمان الاجتماعي واموال المساعدات وغيرها الكثير وهي جميعا تتعلق برموز وأسماء وطنية وتمس الأداء الحكومي، وتعد من أكبر عمليات الفساد في تاريخ الأردن.
اما على صعيد الجهود المبذولة لمكافحة الفساد بدأت مرحلة حكم الملك عبد الله الثاني في عام 1999 بالعمل على إعادة ترتيب البيت الأردني، ومكافحة الفساد، وفي خطاب التكليف السامي لأول رئيس وزراء في عهد الملك عبد الله الثاني السيد عبدالرؤوف الروابدة، وجه الملك عبد الله الثاني إلى ضرورة تطوير الإدارة العامة في البلاد، بحيث تتصف بالمبادرة والعدالة والإبداع، وتنأى عن الانحراف والعبث والاستغلال والمحسوبية وأن تتصدى للترهل والفساد بكل قوة وعنفوان، وأن تقدم للقضاء على كل من يتجاوز على الوظيفة العامة أو يستغلها أو يحاول الإثراء على حسابها أو يسهل ذلك لغيره.
ويتّضِّح من خطاب التكليف السامي السابق أن الملك عبد الله الثاني كان مدركاً منذ البداية أن الجهاز الإداري للدولة بحاجة ماسة للتطوير والتحديث، وبنفس الوقت يعاني من الترهل والفساد واستغلال المنصب العام والمحسوبية، ومن هنا فقد وجه الحكومة لأن تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بالصالح العام.
وهو الأمر الذي تكرر في خطاب التكليف السامي لحكومة المهندس علي أبو الراغب، حيث قرر رئيس الوزراء تطبيقاً لما ورد في خطاب التكليف السامي تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد بكافة أشكاله المالية والإدارية، وقد حدد قرار تشكيل اللجنة مهمتها الأساسية بوضع استراتيجية وطنية هدفها معالجة الفساد المالي والإداري بكافة مظاهره وأشكاله في القطاعين العام والخاص، ووضع حد لإساءة استخدام السلطة ومحاربة الواسطة والشللية والمحسوبية والتجاوز على القانون والترهل واستغلال الوظيفة، والعمل على تعزيز سيادة القانون وروح العدالة، إلا أن آلية عمل تلك اللجنة لم تكن واضحة حيث كانت تعتمد على ما يرد إليها من معلومات من خلال الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد أو شكاوى المواطنين وتظلماتهم، ولم يسجل أن هذه اللجنة قد كشفت أية قضية فساد خلال فترة عملها، وانتهت اللجنة قبل استقالة حكومة علي أبو الراغب وكانت لجنة إعلامية أكثر منها عملية سعت إلى إيهام الرأي العام بأن الحكومة تعمل على مكافحة الفساد
وهذا الموقف تكرر في كتب التكليف السامية للحكومات اللاحقة. فمكافحة الفساد على راس أولويات الدولة، وذلك لتحقيق التنمية والعدالة، ومكافحة آفات الفقر والبطالة، بما ينعكس على الوطن والمواطن من ازدهار واستقرار ورفاء. وفي عام 2005 دق الملك عبدالله الثاني ناقوس الخطر، وبتوجيهات مباشرة من الملك تم إقرار قانون إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد وتعزيز الوقاية منه والتوعية بمخاطره بما ينسجم مع متطلبات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقع عليها الأردن عام 2003، بعد أن بقي مشروع القانون حبيساً في أدراج مجلس الأمة لمدة طويلة.
ومع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية، وانتقال الاحتجاجات إلى الأردن، فقد كان موضوع الفساد من بين القضايا التي شغلت الرأي العام الأردني، ومن أكثر الموضوعات التي تم التطرق إليها في معظم المسيرات والاحتجاجات التي شهدتها البلاد منذ عام 2011 حتى اليوم، وقد كانت ردود فعل الحكومات المتعاقبة بأن محاربة الفساد على رأس أولوياتها، وفي المقابل يرى المجتمع الأردني أن الجهود المبذولة لمكافحة الفساد غير كافية وغير مقنعة فقد ظهر تراجع الأردن في مؤشر مكافحة الفساد خلال فترة (2007-2012) نتيجة مجموعة من الاختلالات ما بين الإطار التشريعي والمؤسسيّ في التعامل مع قضايا الفساد، وفي درجة المصارحة والشفافية في كشف عدد من قضايا الفساد، وضعف تضمين إجراءات مكافحة الفساد في صنع القرارات العامة واستمرار استغلال المناصب العامة في تحقيق المصالح الشخصية من قبل بعض افراد النخبة الحاكمة ، الذين اصبحوا مولعين بالحياة المترفة ، وفي سعي دائم للحفاض على المزايا التي خولها لها الحكم ، ومستعدة للتضحية بالمصلحة العامة مقابل الحفاض على مصالحها وبقائها مدة اطول في الحكم .
ومع استمرار الحراك الشعبي السلمي المطالب بمكافحة الفساد فقد تم إجراء تعديلات دستورية كان من المتأمل أن تحتوي نصوص الدستور الجديد على ما يجرم أفعال الفساد أو إنشاء محكمة خاصة بالفساد تحت مظلة السلطة القضائية، وذلك على النحو الذي تم في الدستور التونسي على سبيل المثال، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وبالرغم من تأكيدات المسؤولين في الأردن بأن خيار مكافحة الفساد لا رجعة عنه نظراً للآثار السلبية المترتبة عليه، إلا أن المواطن الأردني لم يرَ إنجازات ملموسة في مكافحة الفساد في ظل تقييد حرية الإعلام، وغياب الشفافية والمصارحة فإن كافة الجهود المبذولة لمكافحة الفساد لم تؤدّ ِإلى النتائج المطلوبة. حيث يعتقد الكثير من ابناء الشعب الاردني ان هيئة النزاهة ومكافحة الفساد غير قادرة على مكافحة الفساد، ولا سيما أن الهيئة من وجهة نظر الراي العام تعاملت مع قضايا الفساد بانتقائية ولم تسعَ يوماً إلى محاسبة كبار الفاسدين، فالمزاجية هي المعيار في من يُحاسَب ومن يُغَضُّ الطرف عنه، كل ذلك بالرغم من أقوال الملك عبد الله الثاني لا حصانة لفاسد مهما علا شأنه ولا أحد فوق القانون، ولا أحد فوق المساءلة، ولكن الرؤوس الكثر التي نهبت وأثرت بطرق غير مشروعة لا تزال حرة طريقة، فلم يتح فتح الكثير الكثير من الملفات، ولم يتم التحقيق في ملفات أكثر، وهو الأمر الذي يفسَّر بغياب الإرادة السياسيّة لمكافحة الفساد ونوع من الحماية للفاسدين وفي ظل مثل هذه الأحوال فإن الفساد سيستمر في الأيام القادمة وهو الأمر الذي تؤكده الكثير من التقارير والدراسات للخبراء ومراكز الأبحاث التي تؤكد ان ظاهرة الفساد باقية وتتمدد نتيجة مجموعة من العامل منها : ضعف أداء الأجهزة الرقابية الرسمية لعدم إستقلاليتها إدارياً ومالياً، ووجود تنازع نوعي في الإختصاص بين هذه المؤسسات، مما يُشتت الجهود، ويُعيق التنسيق والتشاركية فيما بينها في قضايا الفساد و قصور التشريعات الوطنية الناظمة لمكافحة الفساد، وعدم مواءمة بعضها للإتفاقية الدولية لمكافحة الفساد مثل الرشوة في القطاع الخاص واستغلال النفوذ ضعف الدور الرقابي للمجلس النيابي وضعف الإعلام في تحقيقات الصحافة الاستقصائية المتعلقة بقضايا الفساد.
وبذلك تبقى مكافحة الفساد وعلاج التشوهات الاقتصادية والاجتماعيّة في غياب المساءلة السياسيّة، وفي ضعف دور الإعلام في تفعيل الرأي العام ، معتمدة على حساسية ومزاج الحكم نحو الضرورات الملحة، بدلاً من أن تعكس المطالب والإرادة الاجتماعيّة، وتبقى التنمية العامة والقطاعية، ونجاح الخصخصة، وفاعلية الأجهزة الرقابية المختصة، لا تعكس رغبات وخيارات المجتمع العريض، بقدر ما تعكس المصالح الخاصة والمؤثرة، وهذا مؤشر واضح على حالة الازمة والفوضى والاختلال التي تعيشها البلاد ، والحال هذه ربما تبقى مكافحة الفساد متعثرة وانتقائية ويعتبرها الراي العام اقرب الى ذر الرماد في العيون .
لا شك أن مكافحة الفساد تستلزم أخذ المسالة على محمل الجد باعتبار مكافحة الفساد ضرورة ومصلحة وطنية وركيزة أساسية من ركائز الإصلاح وخطوة مهمة على طريق استعادة ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها من أجل إنقاذ سفينة الوطن والوصول بها إلى بر الأمان. فمكافحة الفساد ضمانة لاستقرار الأردن، ومن أهم متطلبات الحكم الرشيد، فالفساد اليوم هو التحدي الاكبر للبلاد ، والعدو الاكثر سمية للعباد ، ومن اخطر التحديات التي تهدد امن وسلامة المجتمع والدولة على حد سواء في الحاضر والمستقبل .