العتيبة ودروس في الاستجداء للاحتلال
لا تتوقف إمارات محمد بن زايد عن ابتكار الوسائل، للإعراب عن علاقتها القوية مع دولة الاحتلال، ولا تدّخر وسيلة للتباهي بها، وللتقرب من تل أبيب، ومحاولة تسليط الأضواء على أوجه التشابه بين البلدين، والتأكيد على العلاقات الطيبة معها، وللتذكير بالدور الأساسي والجوهري الذي تلعبه لتمهيد الطريق أمام إسرائيل لتحقيق الاختراق في المنطقة، لاسيما الدول الخليجية وغيرها والتطبيع معها.
وآخر هذه الابتكارات مقال خص به سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، المعروف بعرّاب العلاقات الإسرائيلية الإماراتية، صحيفة «يديعوت أحرونوت» في الأسبوع الماضي، وهو مقال استجداء بامتياز لدولة الاحتلال، للتراجع عن مخططّ الضمّ الاستعماري في الضفة، مقابل مزيد من التطبيع معها.
يقول العتيبة، إن إسرائيل لن تستفيد من «خطوة الضمّ»، محذرًا من أنها ستضر بجهود التطبيع مع العالم العربي. وهذا يقود إلى السؤال الكبير وهو، من خوّل العتيبة الحديث باسم العرب؟ وفي مقاله يحاول أن يشرح لإسرائيل وكأنها بحاجة إلى أمثاله لتعريفها بما يمكن أن تكسبه أو تخسره، في حال قامت بالضمّ. فيقول، إن الإمارات تريد أن تؤمن بأنها ـ أي إسرائيل ـ «فرصة لا عدوا، فرصة لعلاقات دافئة أكثر».
وهل هناك أكثر دفئا من دعوة الإمارات لإسرائيل للمشاركة في معرض «أكسبو دبي 2020 «، ويكون لها جناحها الخاص فيه؟ وهل هناك أكثر دفئا من السماح للإسرائيليين بدخول الإمارات بجوازات سفرهم، بدون ترتيبات مسبقة؟ وهل هناك أكثر دفئا من استقبال وزيرة الرياضة الإسرائيلية السابقة (وزيرة الأمن الداخلي حاليا) ميري ريغيف، على رأس وفد رياضي ضخم للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة، وهل هناك أكثر من توفير برنامج سياسي واسع لها للتعرف على «المعالم السياحية» في الإمارات ومن بينها زيارة مسجد الشيخ زايد، وجاء هذا الاحتفاء بالوزيرة ريغيف المعروفة بيمينيتها وعنصريتها، رغم الشتيمة التي وجهتها للإمارات قبلها بنحو عام؟ وهل هناك أكثر دفئا من إنشاء مركز ديني في أبو ظبي، يشمل مسجدا وكنيسا وكنيسة بعنوان «بيت عائلة إبراهيم»؟ وهل هناك أكثر دفئا من فتح مطعم إسرائيلي يقدم الأطباق الفلسطينية على أنها أطباق يهودية/ إسرائيلية لليهود؟
يريدون منا أن ننسى تاريخنا، قد ينجحون مع البعض، ولكنهم بالتأكيد سيفشلون مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية
لا يتحدث العتيبة في مقاله عن الطعنة التي وجهها نظام محمد بن زايد لمبادرة السلام العربية، التي أجمع العرب عليها في قمة بيروت عام 2002 ، وأكدت على حل القضية الفلسطينية، وقيام الدولة الفلسطينية، وحل مشكلة اللاجئين، قبل التطبيع مع دولة الاحتلال، ما يعني ألا تتخذ خطوات نحوها قبل تنفيذ المبادرة من الألف إلى الياء، وليس العكس الذي كرسه نظام الإمارات بهرولته من دون جوامح نحو إسرائيل، وخلخلة الإجماع العربي. ولم يرمش للعتيبة جفن وهو يقول، إن الإمارات أيدت طيلة سنوات السلام في الشرق الأوسط، وعملت على تقليص النزاعات، ناسيا أو متناسيا أن بلاده تخوض منذ خمس سنوات، بالتحالف مع صديقه محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، حربا تدميرية، في اليمن، قُتل وأصيب وشرد فيها حتى الآن مئات آلاف اليمنيين العزل، وساعدت على نشر الأوبئة فيه، ودمّرت بناه التحتية، وخلقت الشروخ بين فئات وطوائف الشعب اليمني، وقضت على نسيجه الاجتماعي. إلا إذا كان السلام الذي يتحدث عنه العتيبة، لا يشمل العرب، وهو خاص فقط بإسرائيل. وكأن طعم الهزيمة التي مني بها حليف الإمارات الجنرال خليفة حفتر في الحرب الدائرة في ليبيا، لم يتذوقه العتيبة بعد، هزيمة اعترفت بها دولته.
وسنشير فقط إلى الوضع في السودان الذي دفعت فيه الإمارات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح برهان، للقاء نتنياهو بعد أن أقنعته بأن الطريق إلى واشنطن لا يمرّ إلا عبر إسرائيل، وفي هذه الايام عبر نتنياهو، الذي تربطه علاقة حميمة مع الرئيس دونالد ترامب. ولن ننسى الأموال الإماراتية التخريبية في موريتانيا والصومال إلخ.
فاخر العتيبة في رسالته بكونه أحد السفراء العرب الثلاثة الذين حضروا المؤتمر الصحافي، الذي أعلن فيه ترامب في 28 يناير 2020، وإلى يمينه نتنياهو عن «صفقة القرن» التصفوية للقضية الفلسطينية. وما يثير الشكوك في نوايا العتيبة ومن يقف وراءه في هذا المقال، عمله مع الإدارة الأمريكية السابقة، لإقامة حكم ذاتي فلسطيني، وليس دولة كما يطالب الفلسطينيون. وقال «عملنا بشكل وثيق مع إدارة أوباما، ومن ضمن ذلك دفعنا خطة لخطوات، تهدف لبناء ثقة تمنح إسرائيل الامتيازات على شكل علاقات متطورة مع دول عربية، مقابل «حكم ذاتي كبير» للفلسطينيين والاستثمار بهم». وكان يتصرف بإرادته، وبدون تنسيق مع الفلسطينيين، إلا إذا كان لديه تمثيل فلسطيني، بعيدا عن منظمة التحرير؟! وربما كانت هذه أحد أسباب الطلاق في 2011 بين الإمارات وأبو مازن. وأثناء وجوده في نيويورك ـ وكنت من بين الصحافيين المرافقين ـ لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة يطالب فيه بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أبلغني أحد المسؤولين المرافقين لأبو مازن، بأن عبد الله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي، طلب من الرئيس عدم طرح مشروع الاعتراف على التصويت في مجلس الأمن الدولي، حتى لا يحرج واشنطن باستخدام حق النقض.
ومنذئذ لم تعد العلاقات بين أبوظبي ورام الله إلى ما كانت عليه، واحتضن محمد بن زايد خصوم أبو مازن ما زاد الأمور تعقيدا، وكان من بينهم في حينه ياسر عبد ربه الذي أحضره عبد الله بن زايد على متن طائرته إلى نيويورك، وعندما طلب العودة على متن طائرة أبو مازن جاءه الرد حاسما «اللي جابك يرجعك» ما يعكس مدى غضب أبو مازن من الإمارات ومن يقترب منها، والشرخ قائم.
وقال العتيبة في مقاله «نحن في الإمارات وقسم كبير من العالم العربي (ولا أعرف من خوله أن يتحدث باسم قسم كبير من العرب) كنا نريد أن نصدق بأن إسرائيل «فرصة وليس عدوا». نحن نقف أمام مخاطر مشتركة ونرى الفرصة الكبيرة لعلاقات حميمية أكثر، وقرارها بالضمّ إشارة لا يمكن فهمها خطأ ـ الضم سينقلب فورا على طموحاتها ببناء علاقات تعاون في الأمن والاقتصاد والثقافة مع العالم العربي والإمارات».
وضمن محاولاته المستميتة للمقارنة بين إسرائيل والإمارات، وكأنهما توأمان يقول العتيبة، إنهما تملكان جيشين هما الأكثر تطورا في المنطقة، ويجمعهما «قلق مشترك من الإرهاب والعدوانية»، مثلما أن لهما علاقات وطيدة وعميقة مع الولايات المتحدة ولذا بمقدورهما إنتاج علاقات تعاون أمني وثيق وناجع أكثر. ويضيف «لكون إسرائيل والإمارات تملكان اقتصادا متطورا ومتنوعا، فإن توسيع الأعمال والعلاقات الاقتصادية بينهما من شأنه أن يدفع إلى نمو واستقرار المنطقة كلها في الشرق الأوسط».
ورغم هذا التزلف غير المسبوق لدولة الاحتلال، فإنه لم يكن كافيا لبعض الإسرائيليين من بينهم كارولين كلغ، مستشارة سابقة لنتنياهو، التي وبخت العتيبة، حسبما قاله محلل الشؤون الإسرائيلية صالح النعامي في تغريدة له على حسابه الرسمي في «تويتر» «كارولن كلغ تقول: لا تسدون لنا معروفا عندما تتعاونون معنا، لأننا أقوياء وبسبب المصالح المشتركة.. لسنا بحاجة للتطبيع مع حكام يعاملون النساء كمقتنيات». وفي تغريدة ثانية قالت «لسنا بحاجة للتطبيع معكم، العلاقات السرية أفضل من التطبيع، تماما كما كانت العلاقات السرية مع النظام الملكي في الأردن، أفضل عندما لم يكن سلام، إذ كان هذا النظام يتعاون معنا في أوج الحروب مع العالم العربي».
وأختتم بمقال لغرينبلات، الصهيوني المتطرف الذي فرضه علينا ترامب كمبعوث للسلام في الشرق الأوسط لصحيفة «إسرائيل اليوم»، قبل أيام، كرر فيه القول، إن الضفة الغربية ليست أراض فلسطينية وليست «محتلة»، بل هي أراض متنازع عليها. وعبّر عن غضبه لإشارة العتيبة في مقاله إلى الضفة كأراض فلسطينية.
يريدون منا أن ننسى تاريخنا، قد ينجحون مع من هم على شاكلة العتيبة وقرقاش والسعوديين المتأسرلين والبعض من عرب أمريكا، ولكنهم بالتأكيد سيفشلون مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المغيبة، فهم لا يزالون داعمين للشعب الفلسطيني المتمسك بأرضه بعد مئة عام، ولن يتنازل عنها شاء من شاء وأبى من أبى، فالكبار منهم لم يموتوا بعد والصغار تلقوا الرسالة ولن ينسوا.