الامم المتحدة.. عباءة مترهلة تتستر على المظالم
في ظل ما يعيشه العالم اليوم من صراعات وحروب، تفاقمها أزمة صحية عالمية جعلت المشهد أكثر حلكة، ومع مرور 75 عامًا على تأسيس الأمم المتحدة، هل ستتمسك المنظمة بنفس عباءتها أم تحيك مشروعا إصلاحيا ينقذها ويجدد الثقة بها؟
بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية في القرن الماضي، ظهرت الحاجة الى تأسيس هيكل مشترك يجمع الدول قاطبة لحل أي نزاع بشكل سلمي، فكانت عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة.
لكن منذ تشكيل الدول المنتصرة لهذين الكيانين، بعد الحربين العالميتين، لم تتمكن من تحقيق السلام والهدوء المنشودين للعالم، بل على العكس، أصبحت مصدرا للتوترات.
عصبة الأمم
تأسست عصبة الأمم في 10 يناير/ كانون ثاني 1920 بسويسرا، عقب مؤتمر باريس للسلام، الذي أنهى رسميا الحرب العالمية الأولى (1914: 1918)، وكانت تهدف لحل النزاعات سلميا بين الدول، وحفظ الأمن الدولي.
لكن بعد فشلها بأداء مهامها، وعجزها عن منع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939: 1945) وانتصار الحلفاء، انتهى الأمر بحل عصبة الأمم، في 1946.
من هنا ظهرت الحاجة لجسم بديل، أكثر صلابة وأنفذ يدا، فكانت الأمم المتحدة، التي تأسست في 24 أكتوبر/ تشرين أول 1945، واتخذت من مدينة نيويورك الأمريكية مقرا رئيسيا لها.
لم تكن وقتها هيكلا يمثل جميع دول العالم كما هي الآن، بل كانت تضم دول الحلفاء فقط.
الأمم المتحدة
تتشكل منظومة الأمم المتحدة من ستة أجهزة رئيسة، وهي: الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، الأمانة العامة، ومحكمة العدل الدولية.
في بداية تأسيسها، ضمت المنظمة 51 عضوًا، والآن يبلغ العدد 193 دولة مستقلة.
أما عن آليتها المتبعة في اتخاذ القرارات، خاصة المصيرية منها، فتقتصر على الـ51 دولة المؤسسة للمنظمة فقط، بينما يضطر بقية الأعضاء للامتثال لرأيهم.
ولعدم وجود سلطة مركزية لمراقبة ومعاقبة من لا يلتزم باتفاقيات وقواعد وقرارات المنظمة، فإن الدول الأعضاء بمجلس الأمن تستخدم سلطة الأمم المتحدة في انتهاك الاتفاقيات والقواعد والقرارات، من دون رقيب ولا حسيب.
فالنظام الدولي الراهن هو نظام رأسمالي يسهل شؤون القوى المسيطرة والمهيمنة.
والمنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، هي المنظم والمراقب للبنية التحتية لهذا النظام الرأسمالي العالمي، وهو ما يعتبر شكلا من أشكال الاستعمار الحديث.
إبادات جماعية بأيادٍ أممية
الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا هي الدول الخمسة دائمة العضوية بمجلس الأمن، وتتمتع بحق النقض (الفيتو) على أي مشروع قرار، ما يمنع صدوره.
ومن غير المجدي أن نتوقع من مجلس الأمن، المؤلف من هذه الدول الخمسة الفاعلة والرئيسية في تجارة الأسلحة العالمية، أن يسهم بصورة دائمة في السلام العالمي، فهو نفسه مصدر لهذه الصراعات، يطيل أمدها ليقتات عليها.
واليوم، لا يوجد لدول منظمة التعاون الإسلامي الـ56 (بينها 27 من أعضاء الاتحاد الإفريقي) ولا لدول الاتحاد الإفريقي الـ54 ولا لدول أمريكا اللاتينية والاتحاد الكاريبي الـ32 مكان دائم بمجلس الأمن، فضلا عن حق النقض.
فالهدف الأساسي للنظام الرأسمالي هو بيع الأسلحة، غير آبهٍ بمن يُقتل، إلا إذا وُجهّت صوبه.
لذا، فإن قوات "حفظ السلام"، التي ترسلها الأمم المتحدة لمنع النزاعات، تعمل في الحقيقة كقوة قتالية.
فمثلا، بعض جنود الدول الغربية، وخاصة فرنسا وهولندا، الذين خدموا تحت مظلة الأمم المتحدة في رواندا، ضالعون بالإبادة الجماعية، عام 1994.
ولم يسمح مجلس الأمن لقوات حفظ السلام آنذاك بوقف المجزرة، التي راح ضحيتها مئات الآلاف.
وشن القادة المتطرفون من عرقية "الهوتو"، وهي تمثل الأغلبية برواندا، حملة إبادة ضد أقلية "التوتسي".
وخلال فترة لا تتجاوز 100 يوم، قُتل نحو 800 ألف شخص، أي 75% من عدد أفراد "توتسي" برواندا.
وفي 22 يونيو/ حزيران 1994، وافق مجلس الأمن لفرنسا على إرسال قوات إلى "غوما" بالكونغو، للمساعدة الإنسانية، تحت اسم "المهمة الفيروزية".
لكن فرنسا ساعدت مسلحي "الهوتو"، بدلا عن حماية "التوتسي".
كما زودت المليشيات المتمردة بالذهب والعاج، الذي ارتكبوا به الإبادة الجماعية.
كما ارتكبت بريطانيا إبادة جماعية بحق الكينيين، عام 1952، قتل فيها عشرات آلاف الثائرين من أجل الاستقلال.
تستر على جرائم حرب
خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك (1949: 1991)، قتلت واشنطن ما بين مليون إلى مليوني شخص في فيتنام.
كما قُتل حوالي مليون شخص في انقلاب عسكري بإندونيسيا دعمته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
وقُتل الكثيرون في كمبوديا بين عامي 1969 و1975، بسبب القصف والتجويع والاضطراب السياسي.
وأُطيحت بحكومات دول عديدة، بدعم من واشنطن.
إلا أن الأمم المتحدة لم تحرك ساكنا، وتسترت على ما حدث.
الأمم المتحدة والعالم الإسلامي
منذ تأسيسها، توافد على قيادة الأمم المتحدة رؤساء من مختلف الديانات، لكن لم ينتخب مسلم أبدا لمنصب أمينها العام.
ومن بين 60 وكالة فرعية ومنظمة تابعة للأمم المتحدة، لا يوجد مقر لأي منها في دولة مسلمة.
صحيح أن مقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي لغرب آسيا (إسكوا) يوجد بالعاصمة اللبنانية بيروت، لكن إنجازاته غير واضحة ولا يمثل قيمة.
حتى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تتخذ من قطاع غزة مقرا لها، تتعرض للتضييق والترهيب من الجانب الإسرائيلي.
جرائم بحق مسلمين
ظلت الأمم المتحدة صامتة على الظلم والتدمير، الذي مارسته الولايات المتحدة، في ظل غياب القانون، في العالم الإسلامي.
فقد ذُبح الآلاف بلبنان، عام 1983، ناهيك عن وفاة قرابة مليون شخص منذ الغزو الأمريكي للعراق، في 2003.
ومع بداية عهد ثورات "الربيع العربي"، أواخر 2010، عملت واشنطن على تدمير وزعزعة استقرار الدول العربية التي شهدتها.
وتمثل الإبادة الوحشية في البوسنة فصلا مظلما آخر من تاريخ الأمم المتحدة.
ففي 1993، أعلنت المنظمة مدينة سريبرينيتسا منطقة آمنة للبوسنيين، حيث لجأ إليها الآلاف ليحتموا داخل مقر قيادة قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتي جردتهم بعدها من السلاح بحجة الحماية.
عام 1995، وبعد حصار المقر من القوات الصربية، سلمت الأمم المتحدة آلاف البوسنيين للصرب، ما تسبب بمذبحة هي الأكثر فظاعة بتاريخ أوروبا.
وفي الشرق الأوسط، قصفت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، بحجة "جلب الديمقراطية" للمظلومين، بينما شهد الواقع عمليات قتل وسرقة ونهب وتدمير.
جائحة "كورونا"
أظهرت الموجة الجديدة من فيروس "كورونا" أن أي حدث يطرأ على منطقة بالعالم، يؤثر بالتبعية على باقي البلدان الأخرى.
ففي الماضي، كانت المجاعات والحروب الأهلية والتدمير، التي تسببت بها الدول القوية كالولايات المتحدة وروسيا بجميع أنحاء العالم وصراخ الملايين الذين قتلوهم، غير مسموعة في واشنطن أو لندن أو باريس أو موسكو.
لكن، وللمرة الأولى، يتجرع مواطنو تلك الدول من كأس "الموت البارد"، مدركين أنهم ليسوا بمأمن، وأن الجائحة لا تفرق بين دول العالم الأول والثالث.
فشلت منظمة الصحة العالمية، العاملة تحت إشراف الأمم المتحدة، في الكشف عن طبيعة الفيروس وحجم تفشيه.
حتى معدل الوفاة بالفيروس الذي أعلنته المنظمة، وهو 3,4، اتضح لاحقا عدم صحته واستناده لدراسات أكاديمية كاذبة وإحصاءات غير دقيقة.
وتحولت منظمة الصحة إلى آلية تعاقد من الباطن لصالح "لوبي اللقاحات العالمي".
وبسبب "كورونا"، لم يتحدد بعد شكل اجتماعات الدورة الخامسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، المقرر انطلاقها في سبتمبر/ أيلول المقبل، والتي انتُخب لرئاستها الدبلوماسي التركي، فولكان بوزكير، الذي تعهد بتمثيل جميع أعضاء المنظمة، ودعم عملية إصلاحها، لجعلها "أكثر فعالية".
إن النظام العالمي الراهن مبني على الدماء، والكيانات المحكوم عليها بطموحات رأسمالية قاسية عديمة الضمير وبلا روح، لا تولي اهتماما ولا رحمه للإنسان.
الأمر ليس بالهين والأزمة قاسية للغاية، لكننا نأمل أن تُذكرنا محنة "كورونا" بإنسانيتنا، وتشعل فينا فتيل التراحم الإنساني تجاه بعضنا البعض وتجاه الطبيعة.
لذا على الدول الراغبة بتجنب صراعات ومآسٍ أكبر مستقبلا، التعاون لإصلاح الأمم المتحدة، بل وتغيير هيكلها، وإقامة نظام عادل، تجنبا لتفاقم صور الهيمنة بشكل أكبر.