مشكلة فلسطين ليست مشكلة أبارتايد
منير شفيق
ثمة تعريف جديد موسع للأبارتايد الصهيوني يشمل كل فلسطين وكل قطاعات شعبها، ويشمل الاحتلال وما حدث من طردٍ وتهجيرٍ داخلي عام 1948 (قضية اللاجئين)، ومن حصار، واستيطان، وقانون الدولة اليهودية.
بكلمة، كل ما أحدثه المشروع الصهيوني، ومارسه في فلسطين منذ البداية حتى الآن يجب اعتباره أبارتايد. مثلاً اتخذ عام 1948 شكل الاقتلاع والتهجير، وبهذا حصر الهدف الفلسطيني المركزي بتفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني، ويحصر تحقيقه من الآن فصاعداً بالنضال الديمقراطي مع إعلان انتهاء شكل المقاومة المسلحة، بعد أن أدت مهمتها في بعث الهوية الفلسطينية من خلال منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
يجب أن يُسأل أصحاب هذا التوجه، منذ البداية: لماذا استعملت كلمة “أبارتايد” للداخل والخارج بدل التمييز العنصري؟ ولماذا وسّعت لتشمل كل ما يتعلق بالصراع في فلسطين؟ والأهم، لماذا ستحل، عملياً وبالاستخدام، مكان “الاقتلاع والإحلال”، ومكان ما ارتكب من جرائم نصت عليها قرارات دولية، أو خالفت القانون الدولي، أو اعتبرت جرائم حرب وإبادة، وكذلك ما سمي بحقوق فلسطينية مثلاً حق العودة؟
فعندما يشمل تعريف الأبارتايد الصهيوني كل ذلك، يكون قد أضعف وصف طبيعة الصراع الاقتلاعية والتهجيرية للشعب الفلسطيني، والإحلالية للكيان الصهيوني، كما خفف من جريمة السطو على فلسطين، وكل ما ملكه الشعب الفلسطيني، خاصاً وعاماً، فقد صار اسمه “أبارتايد”.
وعندما يحل هدف تفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني مكان هدف إزالة كل ما حدث من اقتلاع وإحلال، وهو ما عبّر عنه التحرير الوطني لفلسطين كل فلسطين، نكون قد أضعفنا القضية. وبهذا يتحول الصراع إلى صراع ضد الأبارتايد مكان صراع وجود: من له الحق في فلسطين، أو فلسطين لمن؟ ووضعنا تفكيك نظام الأبارتايد مكان الحق الحصري لشعب فلسطين في تقرير المصير (كما ينص القانون الدولي مثلاً)، ووضعناه مكان تحرير فلسطين.
طبعاً سيقال إن تعريف الأبارتايد يشمل كل ذلك، ولكن يكون قد استبعد كل ذلك من التداول ليحل محله.
والسؤال: لماذا كل هذا “التشويش” على ما استقر من أوصاف وتعريفات ولما اقترفه المشروع الصهيوني، وأهمها اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني حتى الآن، وإحلال المستوطنين غير الشرعيين، وإقامة هذا الكيان؟ ولماذا التشويش حتى على المصطلح الأصلي للأبارتايد وفقاً لنسخته ومنبعه الجنوب أفريقي؟
الجواب السريع: التمثل في التجربة الجنوب أفريقية ونجاحها. وذلك بالرغم من الإقرار باختلاف جوهري بينها وبين قضية فلسطين: الاقتلاع، الإحلال، التهجير، صراع الوجود في فلسطين، الصراع حول الحق في فلسطين، الصراع حول السردية التاريخية. فالمشكلة ليست أقلية بيضاء تمارس قوانين تمييز عنصري (أبارتايد) ضد أغلبية غير بيضاء، هذا من دون الإشارة إلى النفوذ والهيمنة العالمية للصهيونية في أمريكا وأوروبا وبلدان أخرى، مقابل مجموعة عنصرية في جنوب أفريقيا انتهت صلاحيتها، وكان يجب عليها أن تفكك نظام الأبارتايد، ولم يعد لها من نصير. هذا، بلا حاجة أيضاً إلى الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تعتبران المشروع الصهيوني في فلسطين قضية مركزية للاستراتيجية الاستعمارية- الإمبريالية الغربية.
على أن من الصحيح، من جهة أخرى، أن حكومات الغرب ويمكن إضافة الكثير من حكومات الدول، ترفض أن تسمع السردية الفلسطينية حول الحق التاريخي، أو حول الحق المستند إلى القانون الدولي في تقرير المصير. وصحيح ثمة صعوبة في إسماعهم حقيقة طبيعة الصراع باعتباره قام على الاقتلاع والإحلال، وتهجير الفلسطينيين، ومن ثم فإن تحويل المواجهة أو إعادة توصيف الصراع باعتباره صراعاً مع أبارتايد والحل بتفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني يسمحان بتجنب تلك الصعوبة، ولكن ذلك تجريب للمجرّب.
حتى هذا التنازل غير قابل لتكرار تجربة الصراع ضد الأبارتايد في جنوب أفريقيا، بدليل ما حدث مع كل الحلول التي وصلت إلى حد اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني، وحل الدولتين بالشروط الأمنية الصهيونية، والاستعداد للقبول بتبادل الأراضي، والتنازل عن حق العودة؛ لأنه ليس هنالك من حل واقعي، في نظر الغرب، والدول الكبرى الأخرى، غير الذي يوافق عليه قادة الكيان الصهيوني (وإذا شئت قادة الأبارتايد الصهيوني). وهذا الحل، بنظر أولئك القادة، هو الاقتلاع الكامل للشعب الفلسطيني من فلسطين، والإحلال الكامل للمستوطنين الصهاينة وكيانهم في فلسطين.
ومن ثم فإن كل ما تضمنه التوسع في تعريف الأبارتايد أو تفكيك نظام الأبارتايد من تنازلات (تضمن حق المساواة للمستوطنين غير الشرعيين من خلال تفكيك الأبارتايد)، ليس له من مصير غير مصير كل ما طرح من حلول تشمل تسوية ما بين المستوطنين العنصريين الاقتلاعيين الإحلاليين؛ والشعب الفلسطيني.
الحل الوحيد الممكن: إما كل فلسطين لنا ولا حق “لهم” فيها، وإما كل فلسطين “لهم” وليس للشعب الفلسطيني غير المقاومة بكل أشكالها. أما إذا لم يتحقق الحل الأول فستبقى فلسطين ومن فيها، ومن في خارجها في حالة صراع دائم، كما كان الحال طوال مئة سنة الماضية، ولكن مع تغيير لموازين القوى راهناً ومستقبلاً في مصلحتنا. فالزمن، أيضاً، سيكون في مصلحة من سيصبحون عشرات الملايين، ومن ورائهم مئات الملايين العربية، وآلاف الملايين من المسلمين، وما لا يحصى من أحرار العالم.
إن فشل كل الحلول ولا سيما حل الدولتين، يؤكد أن الحل الوحيد الذي يفرضه المشروع الصهيوني هو رحيل كل الفلسطينيين، ومن ثم إن الحل الوحيد، والممكن، الآخر، هو رحيل المستوطنين الذين جاؤوا إلى فلسطين بلا حق، وبالقوة، وبلا شرعية. ومن ثم عبثاً يحاول أصحاب الدولة الواحدة، أو حاملو نظرية تفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني لإقامة المساواة، أن يُقنعوا المستوطنين العنصريين الصهاينة الذين حلوا مكان الفلسطينيين وأقاموا كيانهم فيها، أن يقبلوا بالمساواة، فسوف يفضلون الرحيل على أن يحكمهم مانديلا فلسطيني، أو يمثلون أمام قاضٍ، أو يخضعون لمدير فلسطيني. فالموت أهون على السيد المتغطرس من أن يتساوى مع من تعوّد على اضطهادهم. ولهذا فإن حل رحيلهم الجماعي هو الحل الأفضل والأنسب لهم، خصوصاً أن أفضل عواصم الدنيا الغربية تحبهم ويحبونها، ولهم فيها امتيازات خيالية. فلماذا يُذلون بالمساواة مع الفلسطينيين؟ وهذا سبب آخر لخطأ ووهمية وصف الصراع بالأبارتايد وحله بتفكيك نظام الأبارتايد.
ولهذا فكل من يتحدث عن حل في فلسطين عليه أن يختار بين رحيل الفلسطينيين أو رحيل المستوطنين. أما اختيار رحيل الفلسطينيين كما هو حادث حتى الآن، فعيش الجميع على صفيح ساخن جيلاً بعد جيل إلى أن يشاء الله رحيل المستوطنين الذين لا يلدون إلاّ مستوطناً عنصرياً متغطرساً.
ومن هنا، فإن أول ما يجب القيام به هو تسمية الأشياء بأسمائها فما هو اقتلاع يُسمى اقتلاعاً، وما هو إحلال يسمى إحلالاً، وما هو جريمة إبادة يسمى جريمة إبادة، وما هو أبارتايد (تمييز عنصري) يسمى أبارتايد إذا كان الخطاب في الغرب وفقاً لتعريفه الأصلي، ويسمى ميزاً عنصرياً إذا كان الخطاب للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وما هو حرب وجود يجب أن يسمى حرب وجود، وما هو حق عودة يسمى حق عودة، وما هو سردية تاريخية فهو السردية الفلسطينية والحقيقة التاريخية، وما هو تحرير يسمى تحريراً لفلسطين وليس تفكيكاً لنظام.
وباختصار، المشروع الصهيوني يريد ترحيل كل الشعب الفلسطيني. وهو الذي يجب أن يرحل، وهذا لا يكون إلاّ بتحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر.
وبعد، فهذه الموضوعات التي ترد على مقولة الأبارتايد (الموسع) وعلى اعتبار الهدف المركزي تفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني لا تمنع، بل تحبذ، تشكيل منظمة عالمية ضد الأبارتايد الصهيوني الذي تعبر عنه القوانين العنصرية والممارسات العنصرية، باعتباره أحد أبعاد المشروع الصهيوني الاقتلاعي الإحلالي. وذلك تماماً كما لم تمنع المحافظة على استراتيجية التحرير والمقاومة والانتفاضة في مواجهة الاحتلال من تشكيل الحركة العالمية للمقاطعة “بي. دي. إس” (BDS).
فالشعب الفلسطيني يمكن أن يدخل الصراع من كل الأبواب المشروعة، والممكنة، شريطة أن يحافظ على المربع الأول للصراع، وهو تأكيد الحق الفلسطيني في كل فلسطين، وتأكيد لا حقية المشروع الصهيوني ولا شرعيته.