مرحلة تدوين القوانين لدى الاغريق
تاخرت شعوب الغرب في تدوين قوانينها عن شعوب الشرف بعدة قرون ، حيث وصلوا الى هذه المرحلة - وهم الاغريق والرومان - منذ منتصف الألف السابقة على الميلاد ، أما بقية شعوب أوربا فلم تصل إلى هذه المرحلة إلا منذ منتصف الألف التالي على ميلاد المسيح عليه السلام. وكانت من أشهر تلك المدونات الإغريقية مدونتا دراكون وصولون وقد تعددت المدونات التي صدرت لدى الشعوب الغربية في بداية العصور الوسطى في البلاد التي استقرت فيها القبائل الجرمانية بجانب الشعوب اللاتينية وغيرها التي كانت تستوطن هذه البلاد. وهذه المدونات كانت تستهدف تدوين القواعد القانونية التي تطبق على الجرمان أو تلك التي تطبق على اللاتينيين لأن مبدأ شخصية القوانين هو الذي ساد لدى هذه الشعوب فى ذلك الوقت. وبعضها صدر ليطبق على الجنسين معاً.
صدرت مدونة دراكون في أثينا ببلاد الإغريق حوالي عام ??? ق.م. في عهد حاكمها دراكون ولم يحفظ لنا التاريخ نصوص هذه المدونة، ولكن أمكن معرفة بعض أحكامها من ثنايا كتابات المؤرخين ، وقد أصدر دراكون هذه المدونة كجزء من حركة الإصلاح الاجتماعي التي سادت أثينا، والتي بدأت معالمها تكتمل منذ القرن السابع قبل الميلاد. وبعد ما تعالت صيحات الإصلاح السياسي والاجتماعي من كل جانب وضرورة إنقاذ الأوضاع ظهر عدد من المصلحين الاجتماعيين في كل المدن الإغريقية، فانفرد بالسلطة في كل مدينة أحد هؤلاء المصلحين. وقد وصل هؤلاء إلى السلطة بفضل مواهبهم وكفاءتهم الشخصية وما يحظون به من تقدير شخصي لدى جماهير الشعب وبتأييد القوة العسكرية. وبالرغم من أنهم كانوا أشبه بالملوك إلا أنهم كانوا لا يتولون السلطة بطريق الوراثة ولا بطريق الانتخاب بل عن طريق المكر والدهاء وقدرتهم على إقناع الجماهير أو عن طريق القوة في أغلب الأحيان ، فقد حكمهم حكماً دكتاتورياً مطلقا لا حدود فيه لسلطاتهم بدعوى أن مهمتهم إنقاذ المدينة وإصلاح نظمها وإعادة النظام إليها وجعل كلمة القانون هي العليا وتحقيق العدالة والمساواة. وقد أطلقت النصوص الإغريقية على هؤلاء الحكام تعبير المستبد أو الطاغية وخلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد شهدت كل المدن الإغريقية أمثال هؤلاء الحكام، ومنهم دراكون وصولون من بعده، في مدينة أثينا. وكان هذا النظام بداية التحول نحو النظام الديمقراطي. فقد تولى دراكون - وكان من طبقة الأشراف - السلطة في الظروف سالفة الذكر وأصدر مدونته الشهيرة باسمه بقصد تحقيق الإصلاح الاجتماعي المنشود.
وقد تميزت هذه المدونة من حيث الشكل بأنها مظهر من مظاهر الديمقراطية لأن دراكون كان يتكلم باسم الشعب في مدينة أثينا، وليس باسم الآلهة ، وبالرغم من صدورها في عصر انفصلت فيه القواعد القانونية عن الديانة وبالرغم من عدم احتوائها على نصوص دينية إلا أنها في الواقع بدت متاثرة - إلى حد ما - بالديانة بدليل أن أولى فقراتها تنص على ضرورة تمجيد آلهة البلاد وأبطالها وتقديم القرابين إليها كل عام من دون الخروج على الشعائر التي اتبعها الأسلاف .
وتميزت هذه المدونة من حيث مضمونها بأنها تبنت كثيراً من العادات والتقاليد العرفية التي كانت سائدة وأعادت صياغتها في وضوح حتى لا تفسر تفسيراً طبقياً أو طائفياً، ولكنها أدخلت عليها بعض التعديلات أهمها تحقيق المساواة بين الناس أمام القانون سواء من حيث وحدة القضاء ام وحدة القواعد القانونية واجبة التطبيق أو تنفيذ الأحكام القضائية ، وتضمنت المدونة أيضاً مبدأ سياسيا مهماً ، هو تقرير المساواة بين الناس في الحقوق السياسية فقضى بذلك على احتكار الأشراف للسلطة السياسية بعد أن قضى على احتكارهم لعلم القانون والقضاء. غير أن تقرير هذا المبدأ لم يُؤد إلى القضاء نهائيا على الفوارق بين الطبقات لأن النظام الذي وضعه لم يفد منه سوى طبقة رجال الأعمال محدثي النعمة. وقد تضمن قانون دراكون أيضاً نصوصاً تستهدف نقل السلطة القضائية إلى الدولة حتى يقضي بذلك على سلطات رؤساء العشائر وعلى الانتقام الفردي ، وتميزت أحكام القانون الجنائي في هذا القانون بطابع القسوة والشدة لدرجة أن دراكون صار مضرب الأمثال في قسوته، ولكنها تميزت بوضع عقوبات محددة للأفعال المعاقب عليها وأدخلت في الاعتبار القصد الجنائي للفاعل في جرائم القتل فاختلفت عقوبة القتل العمد عن غير العمد.
اما المدونة الثانية الشهيرة التي صدرت في اثينا ايضا هي مدونة صولون والتي صدرت حوالى ??? ق.م. ولم تصلنا نصوص المدونة ولكن أحكامها عرفناها من ثنايا الوثائق الأخرى .
وقد صدرت هذه المجموعة لاستكمال الإصلاح الاجتماعي الذي بدأه دراكون لأن الأشراف عارضوا قانون دراكون ووضعوا العراقيل في سبيل تنفيذه، فضلاً عن أن نصوص قانون دراكون لم تحقق المساواة التامة بين الناس ولم تقض على تحكم الأقوياء في الضعفاء ولم تنقذ طبقة العامة من الاسترقاق بسبب الدين . ولذلك أصدر صولون قانونه بقصد تحقيق المساواة والقضاء على امتيازات الطبقات وإعادة السلام والاستقرار لمدينة أثينا فضلاً عن القضاء على تحكم الأقوياء في الضعفاء ، وقد تولى صولون السلطة بنفس الطريقة التي تولاها دراكون وغيره من الحكام المستبدين أو الطغاة أي بتأييد الجماهير، وظل في السلطة منفردا طوال خمسة وعشرين عاما اعتزل بعدها الحياة العامة وهو في سن السادسة والستين ، وكان صولون ايضا ينتمي إلى طبقة الأشراف ولكنه أثرى من التجارة وجاب الآفاق فأكسبته خبرة كبيرة. وكان فوق ذلك شاعرا أدبيا ورجل دولة من الطراز الأول . وقد تميزت مدونة صولون من حيث الشكل بصدورها في الثوب الديمقراطي فهو لم يصدر قانونه باسم الآلهة كما فعل دراكون بل صدرت باسم شعب أثينا ، وجاء قانونه مستقلا ومنفصلا عن الدين، فهو ليس وحيا صادرا إليه من الآلهة بل من صنع العقل البشري يستهدف إقرار النظام وتحقيق المساواة، اما من حيث المضمون فهي لم تشتمل على كل القواعد القانونية فالكثير منها وخاصة المعاملات التجارية ترك أمرها للعرف حيث وجدت مجموعة من القواعد المستقرة الواضحة ، ومن ناحية أخرى أخذت المدونة بكثير من القواعد العرفية السابقة عليها بعد إدخال التعديلات التي تلائم الإصلاح الاجتماعي كما تأثرت بالقانون الفرعوني ، وهذه التعديلات كانت ذات طابع اقتصادي وسياسي واجتماعي . ومن أهم ما أدخله صولون من تعديلات سياسية هي تقرير المساواة بين كل الطبقات وإشراك الشعب في شؤون الحكم سواء في ذلك عضوية مجلس الشيوخ أم مناصب الدولة فضلا عن مجلس الشعب غير أن عضوية مجلس الشيوخ كانت مشروطة بنصاب مالي معين، وكذلك الحال بالنسبة لمناصب الحكام فهو قد أحل الثروة محل المولد كشرط لتولي هذه المناصب.
في نفس الوقت أفسح المجال للطبقات محدودة الغنى في عضوية المجلس الشعبي وفي المحاكم ولم تتحقق الديمقراطية الكاملة إلا بإصلاح جديد في عهد آليشنيس عام ??? ق.م. الذي قسم شعب أثينا إلى قبائل أو دوائر وكل منها تنقسم إلى عدة أحياء، ودخل كل الأحرار، فقراء وأغنياء، في هذا التقسيم . ومن الإصلاحات الاجتماعية الشهيرة هي تعديل نظامي الإرث والأسرة حتى يقضي بذلك على امتيازات الأسر الأرستقراطية، وتشجيع الملكيات الصغيرة والقضاء على الملكيات الكبيرة. وكذلك خفف السلطة الأبوية وحرم على رب الأسرة بيع الأولاد، وسمح بانقضاء السلطة الأبوية عند بلوغ الابن سناً معينة واعترف للابن بذمة مستقلة عن الأب. ومن أهم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية تخفيف الديون، فقد قرر إلغاء التنفيذ على جسم المدين واستبدل به التنفيذ على أمواله، ويذكر المؤرخان ديودور الصقلي وهيرودوت أن صولون نقل هذه القاعدة عن القانون المصري. وقرر أيضاً إلغاء الرهون التي تقررت على عقارات صغار الفلاحين ، وقد أفاد الفلاحون المدينون من تخفيض وزن العملة "خفض وزن الدرخمة من ? جرامات إلى 4.?? جراماً " مع بقاء قيمتها القديمة في الوفاء، وأدخل تعديلات على المقاييس والموازين بقصد حماية التجار والصناع.
وقد ترتب على هذه الإصلاحات حماية الملكية الصغيرة وتحسن حال الفلاحين في الريف ما أدى إلى نمو طبقة صغار الملاك في القرى، وتطورت المدينة وتقدمت الطبقة المتوسطة من التجار والصناع، وكان لهؤلاء وأولئك أثر مهم في تدعيم النظام الديمقراطي الذي ظهر في أثينا فيما بعد .