إدارة المال العام في السودان
الإصلاح المؤسسي هو الشرط الإلزامي لتنفيذ برامج إنقاذ الاقتصاد السوداني، وللتفاعل الإيجابي مع أي عون خارجي، من المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة. وفي قمة أولويات هذا الشرط، تقبع إدارة المال العام، والتي تتضمن تحصيل الإيرادات، وتخطيط وتنظيم النفقات، والمحاسبة وإثبات سلامة عمليات الإنفاق، وذلك وفق قوانين وإجراءات محددة في إطار الحوكمة الرشيدة، ووفق الميزانية العامة السنوية.
أما مصطلح المال العام، فيُطلق على كل ما تملكه وتديره وتشرف على إنشائه الدولة بهدف المنفعة العامة، ويشمل الأموال والأراضي والشوارع والمرافق العامة والشركات الحكومية والمباني والمنقولات المملوكة لإدارات الحكومة المختلفة. والأصل في إدارة المال العام، حتى يحقق المنفعة العامة لكل الناس وليس لفئات معينة، هو سيطرة الحكومة/ وزارة المالية وولايتها الحصرية على المال العام، والتقيد الصارم بمبدأ وحدة الميزانية العامة لأنه الضمان الوحيد لشمولية وشفافية المعاملات المالية، وفي نفس الوقت يتفادى وضع الميزانيات التكميلية، أو القيام بالمعاملات المالية خارج الميزانية، أو أي نوع من أنواع المعاملة التفضيلية التي بالضرورة ستخرق القواعد والمبادئ التي تقررها الميزانية العامة. وولاية الحكومة الحصرية على المال العام تمنع ظاهرة التجنيب، أي احتفاظ الجهات الحكومية بكل أو بعض ايراداتها، والتصرف فيها بمعرفتها بعيداً عن إشراف وزارة المالية المباشر، وبعيداً عن القواعد الاجرائية المعروفة، مما يؤدي إلى خلل وشلل في أداء الحكومة حيال التصرف في المال العام وتوزيعه بصورة صحيحة وعادلة.
لا شك عندي في أن غالبية السودانيين على دراية ومعرفة بمعظم البديهيات المذكورة أعلاه، ومع ذلك رأيت أن أوردها هنا كمدخل للحديث عن أهمية وإلزامية سيطرة الحكومة وولايتها الحصرية على المال العام كمسألة جوهرية ومفصلية في الإصلاح المؤسسي، الشرط الرئيسي لاستقبال وتنفيذ خطط وبرامج إنقاذ الاقتصاد السوداني، وفي ظل النقاش المحتدم حول هذا الأمر والذي وصل حد تبادل الاتهامات غير المؤسسة، وتأكيدا لمبدأ الولاية الحصرية على المال العام هو الأساس، وأن ما ورثناه من العهد البائد هو أكبر وأخطر خرق لهذا المبدأ، مما فتح الباب واسعا لتفشي الفساد المؤسس والمحمي بالسلطة، وللتلاعب
باقتصاد البلاد وقوت المواطن. تقول المعلومات، إن عدد الشركات الحكومية الموروثة من النظام البائد يبلغ 600 شركة، منها 12 شركة فقط تساهم في رفد إيرادات الحكومة، أما البقية فتقع خارج ولاية وزارة المالية! والمسؤولون في هذه الشركات يديرونها وكأنهم حكومة داخل الحكومة، لدرجة تحصلهم على قروض ومنح من الخارج لا تمر عبر القنوات الحكومية!
أولى خطوات الإصلاح المؤسسي، هي استعادة سيطرة الحكومة/ وزارة المالية وولايتها الحصرية على المال العام، ويشمل ذلك المعاملات المالية بكل تفاصيلها، وأن تضع الحكومة يدها بالكامل على كل الشركات والمؤسسات الحكومية
وحقيقة، لا يستقيم منطقيا ولا ماليا ولا اقتصاديا ولا دستورياً، قبول عدم ولاية وزارة المالية الحصرية على المال العام، وأن تكون جل إيرادات الدولة وحصيلة انتاجها خارج خزينة الحكومة وخارج الميزانية. وكما أشار من قبل، الاقتصادي الدكتور محمد سيد أحمد عبد الهادي، في صحيفة «الجريدة» السودانية بتاريخ 28 أغسطس/آب 2020، فما دام المال العام خارج سيطرة الحكومة، فهذا يعني عدم توفر المعلومات حول حجم الإيرادات الحقيقية للدولة مما يعني صعوبة حساب «الدخل القومي»! وإذا كانت صادرات البلاد من المنتجات الزراعية، والثروة الحيوانية، والتعدين، خارج الولاية الحصرية للمال العام، فلن يكون معروفا حجمها ولا عائد الصادر منها، وبالتالي من المستحيل حساب الناتج القومي الإجمالي، كما من المستحيل حساب ميزان المدفوعات مادامت عائدات الصادر لا تورد للبنك المركزي. فهي في هذه الحالة ستكون خارج إشراف البنك وخارج الميزانية، وفي الغالب تكون خارج البلاد. وبالطبع، لا يمكننا إعداد» ميزانية النقد الاجنبي» وهي احد ركائز الميزانية العامة لأي دولة في العالم، اذا كان عائد صادرات الدولة بالنقد الاجنبي جله غير مضمن في حساب الحكومة بالبنك المركزي!. وفي هذه الحالة، سيكون من الصعب على الحكومة، وربما من المستحيل، توفير العملات الأجنبية لاستيراد السلع الأساسية، كالدواء والدقيق والبترول، واستيراد مدخلات الإنتاج. ومن زاوية أخرى، فإن المؤشرات اَنفة الذكر هذه، كما كتب د. عبد الهادي، تُعتبر في حد ذاتها معايير اقتصادية ومالية هامة لابد ان تكون متوفرة، وبدقة، لدي وزارة المالية في أي دولة، لأنها مقياس أساسي للمستوي الاقتصادي والأداء المالي للدولة، ويتعامل بها كل العـالم بمؤسساته المالية وصناديق التمويل الدولية. وإذا كانت إيرادات جل مؤسسات الدولة وشركاتها وهيئاتها، مثل الطيران المدني وهيئة تنظيم الاتصالات والخدمات الحكومية الأخرى، وجل عائدات صادرات الحكومة من النقد الأجنبي، لا تورد إلى البنك المركزي وخزينة الدولة، فستظل خارج الميزانية العامة، والأخيرة ستكون كسيحة وحجر عثرة أمام نمو اقتصاد البلاد. وأي ميزانية بدون هذه المكونات الاساسية، من الصعب ان نسميها ميزانية عامة، وهي لن تعكس الوضع المالي الحقيقي في البلاد، ولن ترفع مستوى معيشة المواطن، وقطعا لن تخفف من ضائقته المعيشية.
وهكذا، فإن أولى خطوات الإصلاح المؤسسي، هي استعادة سيطرة الحكومة/ وزارة المالية وولايتها
الحصرية على المال العام، ويشمل ذلك المعاملات المالية بكل تفاصيلها، وأن تضع الحكومة يدها بالكامل على كل الشركات والمؤسسات الحكومية، والعودة بها إلى ما كان عليه الحال قبل انقلاب البشير عام 1989، وذلك حتى يستقيم هيكل اقتصاد الدولة المعوج، ومن ثم يبدأ الوضع الاقتصادي في التحسن تدريجيا، وتنفرج، ولو قليلا، ضائقة المواطن المعيشية، ويبدأ بتذوق طعم ايرادات خيرات بلاده مهما كانت شحيحة.
لكن، الولاية الحصرية لوزارة المالية على المال العام، وسيطرتها على كل الشركات الحكومية، لا يعني بالضرورة، الدخول في معارك ومناكفات وتبادل غمزات التخوين والاتهامات بالفساد، كما لا يمكن أن تتم من خلال الخطب الحماسية والمؤتمرات الصحافية والهتافات عبر الإعلام ومنصات التواصل، بل تتطلب التفاهم والتفاوض وفق أسس علمية، والتوصل لحلول ممكنة ومتوافق عليها، مع التدرج في التنفيذ، ومراعاة ما ترتب على ما ظل قائما لعشرات السنين، كما سنناقش لاحقا.