أسباب تراجع التعليم في الأردن
د. عمر مقدادي
تعدّ عملية الإصلاح وتطوير التعليم ضرورة طبيعية ملحة لمواكبة التطورات الإقليمية والدولية في مجال التربية والتعليم، وهي أيضًا ضرورة وحاجة وطنية، وإن عصر العولمة وآثاره في المجالات المختلفة، ولا سيما الثقافية والتعليمية، تؤكد الحاجة إلى تجديد خطابنا التعليمي، وأسس بناء المعرفة العلمية والتربوية، مما يحتم على المؤسسة التربوية إجراء مراجعة مستمرة لما تقدمه للمتعلمين؛ لمواكبة المستجدات بسبب تسارع المعرفة، فضلاً عن ضرورة الإفادة من الخبرات وتوظيفها في التفكير لتطوير الأبعاد المختلفة في الشخصية الإنسانية: الوطنية، والنفسية، والسلوكية، والأخلاقية، وفق ثوابت الأمة وقيمها وحاجتها، فعملية إصلاح التعليم تمثل اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع، وهذا يوجب تطوير عناصر العملية التعليمية التعلّمية جميعها، بما في ذلك "المناهج" التي تمثل أحد أهم عناصرها، فكان لزامًا تطويرها باستمرار لمواكبة مستجدات العصر من دون المساس بثوابت الأمة وتاريخها ومرجعياتها، وهو ما يمثل عملية معقدة طويلة المدى تتطلب كوادر فنية مؤهلة وخبرات وطنية متعددة لتنفيذ هذه المهمة الوطنية الجليلة، إذ يمثل المنهاج أحد عناصر العملية التعليمية التعلمية وليس جميعها، ويجب الاهتمام بدور المعلم من حيث تقديم المعلومات، وتزويد الطلبة بالحقائق والمعرفة العلمية، وإكسابهم المهارات والقيم الأصيلة، فمهما كانت المناهج متطورة يظلّ دور المعلم محوريًا في تقديم المعلومة ومحتوى التعلم للمتعلمين، وبالمثل يجب تحسين البيئة التعليمية بوصفها عنصرًا مهمًا في التعليم، فضلاً عن الاهتمام بمؤسسات المجتمع الأخرى التي تسهم في ترسيخ دعائم العملية التربوية، مثل المؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية.
يبحث المهتمون عن السبب في تراجع التعليم في العقد الأخير في الأردن, وفق مؤشرات التعليم الدولية على سلم التصنيف العربي والدولي، وفي ضوء ذلك تعقد المؤتمرات والحلقات النقاشية وورش العمل، وتكتب المقالات وتقدم الاقتراحات والتوصيات لتطوير التعليم، وتقدم اللجنة الملكية توصياتها لتطوير الموارد البشرية، وتعمل وزارة التربية والتعليم ضمن طاقاتها وخبراتها العميقة لتطوير منظومة التعليم والتعلم، ويؤسس المركز الوطني للمناهج، وتعد الخطط والاستراتيجيات لمواجهة هذا التراجع، ولكن يبقى الواقع كما هو بل ينحدر إلى الأسوأ ، وما تراجع مراتب الأردن في الاختبارات والتصنيفات الدولية في الرياضيات والعلوم وضعف الطلبة في اللغة العربية الذي ظهر مؤخرًا، إلا دليل واضح لا يقبل الشك أن المعضلة ليست في تحديد المشكلة بل هي في تحديد الأسباب التي أدت وتؤدي إلى تراجع المراتب وفق التصنيف العالمي، و تعاظم سوء المخرجات التعليمية والأكاديمية على كل المستويات سواء التعليم الأساسي أو الثانوي أو الجامعي، ونلاحظ أن أصحاب السياسة يجزمون بأن المناهج والكتب المدرسية هي السبب في هذا التراجع في التحصيل للمتعلمين وفي ترتيب الأردن في التصنيف الدولي وهم في معظمهم إن لم يكن كلهم لا يفرقون بين مصطلحي الكتاب المدرسي والمناهج التعليمية، فتجد فريقًا يريد تغيير الكتب المدرسية الموجودة القديمة والمتخلفة وقسم يريد تطبيق سلاسل عالمية في العلوم والرياضيات والمباحث الأخرى وتكييفها مع متطلبات التعليم في الأردن، والحل برأيهم هو توفير كتب جديدة ضمن مواصفات تقطع العلاقة مع الماضي بكل ما فيه، وعلى النقيض من ذلك في الطرف الآخر، هناك آخرون محافظون أصبح همهم الوحيد المحافظة على المناهج والكتب المدرسية المتداولة والمعتمدة من وزارة التربية والتعليم وكأنها كنز أو أصل مخطوط مقدس لا يفرط به ولا يمكن التخلي عنه، و للأسف فإن بعض التربويين يجدون أنفسهم وسط صراع بين فئتين، مضطرين إلى الانحياز إلى أحد الأطراف لسبب من الأسباب أو ظرف من الظروف او مصلحة شخصية أو فئوية، أو توجهات فكرية وأيديولوجية، فالفريق الأول متأثر ومنبهر بالتقدم العلمي في دول الغرب والدول الإسكندنافية وبعض دول شرق آسيا: مثل سنغافورة وفنلندا وسويسرا وماليزيا وبعض دول أوروبا مع اعتقادنا أن الفجوة الهائلة بيننا و بين الدول المتقدمة هذه تعليميًا وتربويًا، تعود في جزء منها إلى: العناية بالمعلمين من حيث الإعداد والتدريب والحوافز وأساليب التعليم المستخدمة في المدارس من قبل المعلمين، فمعظم معلمينا ما زالوا يستخدمون التلقين أو الأسلوب النمطي، الذي نشأ في بدايات الثورة الصناعية الأولى، حيث كانت الحاجة ملحة إلى نقل الخبرات والمعارف والمعلومات إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد، وكان التركيز على الكمّ من المعارف والكمّ من المتعلمين، وكانت الحقبة الزمنية تتسم بشح في نشر الكتب، وكانت تحصر طرق الحصول على المعلومة بالمعلم فقط، أما الآن وبعد هذه القفزات كلها العلمية والتكنولوجية وتطوير وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، لم يطور أو يغير المعلم لدينا من أساليب التعليم؛ فبقي الأسلوب الرئيس هو التلقين وتقديم المعلومات هي الحاجة الملحة، علمًا أن فلسفة التعليم في القرن الحادي و العشرين هي تعليم المهارات و ليس تقديم المعلومات العلمية للطلبة فقط، ويمكن أن تكمن الأسباب وراء بقاء التلقين أسلوبًا مفضلًا لدى كثير من المعلمين، أنه كثيرًا منهم وجدوا أنفسهم في الميدان وداخل الصف قبل أن يتلقوا أي نوع من التدريب الحقيقي على استراتيجيات التعليم والتقويم وطرق التدريس ومتطلبات المعلم للنجاح في دوره ومهامه التعليمية، وإنما كان ما تعرض له مجرد تدريبًا شكليًا مجردًا من مضمونه، فتلاحظ بأن من يقوم بتدريب المعلمين يحاضر في المعلمين الجدد، أو يلقنهم طرق التعليم الحديثة. وقد يكون السبب هو التقليد؛ فالمعلمون يقلدون المعلمين أو الأساتذة في الجامعة الذين درسوهم متناسين أن طلبة اليوم هم جيل من عصر مختلف, فالتقليد هو العدو الأول للإبداع فترى المعلم جالسًا يمسك بالكتاب المدرسي قارئًا ودور الطلاب سلبي محصور في الاستماع، وفي أحسن الحالات إجابة عن بعض الأسئلة التي تخطر على بال المعلم، ومن الأسباب أن إعداد وتحضير حصص باستخدام أساليب التعلم الحديثة يتطلب تخطيطًا و تحضيرًا مسبقًا وإعداد أوراق عمل وتنفيذ نشاطات المحتوى التعليمي ونشاطات إثرائية وعلاجية متنوعة أخرى، ويحتاج من المعلم معرفة ومهارة في تطبيق استراتيجيات التعليم الحديثة المضمنة في أدلة المعلم للمباحث الدراسية المختلفة، وملاءمة وكيفية اختيار أي منها بما ينسجم مع الحاجات التعليمية للمتعلمين، وكذلك طرق التقويم الحديثة والتي تنسجم مع المواقف التعليمية ومستوى المهارات التعليمية التي تراعي الفروق الفردية بين الطلبة وتتكيف مع البيئة التعليمية.
إن الأسباب التي تقف وراء تراجع واقع التعليم في بلادنا متنوعة ولا تنحصر في الأساليب التعليمية المستخدمة فحسب، لكنها سبب مهم؛ فالمعلم المؤهل علميًا وتربويًا والذي ينوع في أساليب التعليم والتقويم لن يمنعه كتاب مدرسي مهما كان محتواه ولو كان قديمًا من تنمية مهارات التفكير أو مهارات القرن الحادي والعشرين والمهارات الحياتية المختلفة، لصقل شخصية الطالب وتنمية الأفكار والإبداع لديهم وتعزيز قدرتهم على التكيف مع متطلبات العصر وواقع المجتمع، فقد أضحت مواضيع التربية والتعليم والمناهج التعليمية حديث الشارع الأردني، مما يتطلب أن يعاد النقاش فيها بأسلوب مدني وعلمي والبحث ضمن إطار مهنة التعليم والمتخصصين في مجال المناهج والتعليم، وليس من أصحاب الأجندات الخاصة والمنافع الشخصية والمصالح، وليس ضمن دوائر ومجالات إعلامية وهمية لا طائل منها على صفحات الصحف أو التواصل الاجتماعي، أما ما يشاع لدى البعض عن الاستخدام الخاطئ لمصطلح "تغيير المناهج"، فيفسر الخلط بين مفاهيم تغيير المناهج وتطويرها وتعديلها، ذلك أن التغيير يكون استجابة لحدوث تحولات عميقة في بنية المجتمع والدولة ومؤسساتها ومرتكزاتها وتشريعاتها، وهذا غير موجود في وطننا الأردن، حيث الاستقرار في النظام السياسي والاجتماعي والثقافي، ولهذا فلا وجود لما يسمى بتغيير المناهج، وإنما يوجد تطوير للمناهج في عنصر أو أكثر من عناصره، سواء أكان ذلك بشكل كبير أم مجرد تعديل بسيط في محتوى الكتب المدرسية التي تمثل إحدى مصادر التعلم؛ بغية تلبية حاجات الفرد والمجتمع ومواكبة المستجدات، بحيث يشمل التطوير الجوانب والخصائص والمراحل المتعلقة بعلم نفس النمو والأسس النفسية والاجتماعية للتعليم، وطرائق التدريس وأدوات التقويم الحديثة، وتضمين المفاهيم والمهارات والقيم الإيجابية من مثل: الانتماء والولاء والمواطنة وتقدير الوقت والإبداع والابتكار والتفكير الناقد، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب وتأكيد قيم التسامح والعيش المشترك وقبول الآخر والاحترام والحوار والتعاون، وفي تدعيم أسس الديمقراطية منهجًا وممارسةً، أو أي معيار من معايير التعليم والتعلم، وتضمين المناهج المعارف والمهارات والقيم التي تغرس في المتعلمين أسس التربية المتوازنة، والتكامل في بناء الشخصية وفق متطلبات الأصالة والمعاصرة.
لا بد من الاعتراف بأن وزارة التربية والتعليم؛ المظلة التعليمية في الأردن، وكوادرها المؤهلة ذات التميز والسمعة العربية والدولية، وإنجازاتها التراكمية عبر العقود الماضية، وخبراتها الأصيلة المستدامة، ولا سيما في مجال تخطيط المناهج وتطويرها ، تنطلق من فكر التربية والتعليم وفلسفتها، وثوابت الدولة ومرتكزاتها، وحاجات الوطن والمواطن، من غير إغفال أي عنصر أو معيار أو مؤشر؛ وتأسيسًا على ذلك فإن إعادة النظر في المناهج وتطويرها يتم وفق منهجية محكمة، ومعايير وطنية، وخطط مدروسة، وآلية محددة لضبط مخرجاتها من المصادر التعليمية في إطار ومنهجية وإجراءات وزارة التربية والتعليم، مع تأكيد حرص الدولة على أن يكون التعليم متوازنًا بعيدًا عن المصالح والضغوط والتوجهات السياسية، بحيث يحقق غايات التعليم، ويحيي آمال المتعلمين والشباب في نهضة الوطن، ووحدته، وازدهاره، وتعزيز رفعة أبنائه وكرامتهم بوصفهم المورد البشري الأهم في التنمية الشاملة.