لماذا يعادي الحاكم العربي النقابات المهنية؟
الدراسات الكثيرة التي تناولت موضوع النقابات المهنية في الدول الغربية، منذ عقود خلت، متفقة على عدة خلاصات، من بينها أن النقابات الغربية، أكملت أدوارها التاريخية تقريبا، بعد إنجازها للكثير من المهام التي ظهرت لتحقيقها، منذ أكثر من قرن من الزمن، مهام كان على رأسها إدماج هذه الفئات العمالية داخل النسيج الاجتماعي والسياسي الوطني، هي التي كان ينظر إليها كفئات خطرة على الأمن العام والاستقرار الاجتماعي، ومصدر كبير للاضطراب الاجتماعي والسياسي.
بل تحولت هذه النقابات في الكثير من الحالات الوطنية مع الوقت إلى قوى أقرب للمحافظة، والدفاع المستميت عن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي القائم، وصل في بعض الأحيان إلى الوقوف في وجه التغيير والإصلاح، تعلق الأمر بالتكنولوجيات الحديثة وما أفرزته من تداعيات اجتماعية، أو إصلاح الدولة ووضع السياسات العامة، كما ظهرت مؤشرات ذلك عدة مرات في بريطانيا وفرنسا، باعتبارهما من التجارب النقابية الرائدة، التي تعبر عن هذه الفكرة التي ندافع عنها، في ما يخص إنجاز مهام النقابات المهنية في الدول الصناعية المتقدمة، التي لجأت إليها هذه المجتمعات لحل الصراع الاجتماعي بشكل سلمي كاتجاه غالب، بدل الاحتراب.
حصل هذا بعد أن حققت النقابات ما ظهرت من أجل تحقيقه، في هذه المجتمعات على أكثر من صعيد اقتصادي اجتماعي وسياسي، بما عرفته من محطات نوعية كتأنيث الطبقة العاملة، التي وصلت إلى مستويات تأهيل عالية، بما افرزته من عدم تجانس سوسيولوجي، أبعدتها عن الصورة النمطية التقليدية، التي ارتبطت بالتصنيع في مراحله الأولى، تحولات وصل بموجبها النقابي إلى رئاسة الحكومة والوزارة، وتحول إلى وجه اجتماعي مقبول ومحبوب، يعبر عن عصره ومجتمعه، في لغته ولباسه، ونمط استهلاكه الفكري الثقافي، توسعت سلطته خارج مكان العمل لتغزو كل المجتمع، بعد ارتباطه بالظاهرة الحزبية وآلياتها المختلفة، على غرار الانتخابات التي أوصلته إلى مراكز القرار داخل المؤسسات التشريعية والسلطة المحلية، تحول بموجبها النقابي إلى رجل – مفتاح لا يمكن فهم هذه المجتمعات العصرية من دونه.
السياسات الاقتصادية الإقصائية، تؤشر إلى إننا في المنطقة العربية نتجه نحو عنف اجتماعي أكبر في المستقبل لحل خلافاتنا
أعود إلى التذكير بهذه البديهيات التاريخية التي عاشتها البشرية، في قسمها المتطور، وأنا استمع إلى ما يحصل في المنطقة العربية لأخذ حالة الأردن كمثال، الذي قضت فيه العدالة الأسبوع الماضي بحل نقابة المعلمين – 140 ألف منخرط – وسجن قياداتها، بعد تسع سنوات فقط من تأسيسها، الذي لم يكن لا سهلا ولا مقبولا تماما من النظام السياسي، قامت خلاله هذه النقابة بمهام تقليدية في الدفاع عن المعلمين، الذين تدهورت وضعيتهم الاقتصادية والرمزية الاجتماعية، كجزء من التدهور العام، الذي مسّ الفئات الوسطى في المنطقة العربية، بعد أن تأنثت كمهنة وخفت بريقها الاجتماعي، توجهت على إثره نحو العمل المطلبي النقابي، الذي كان وراء ظهور النقابات المستقلة، في أكثر من حالة وطنية، بموازاة استمرارها في الاهتمام بالشأن العام، الذي عبرت عنه بالانضمام إلى الجمعيات والأحزاب السياسية، بكل تياراتها الفكرية والمشاركة القوية في الانتخابات، التي استعملتها هذه الفئات – التي تملك الدولة كرب عمل – كمصعد اجتماعي، لم يعد يشتغل بالوتيرة القديمة نفسها، بعد ظهور فئات اجتماعية منافسة، نالت حظوة رسمية أكبر لدى النظام، على غرار رجال الأعمال، ما فرض عليها التوجه نحو المعارضة السياسية والمغالبة النقابية.
النقابة الأردنية، التي اكتشفت بعد تجربة قصيرة أن النشاط النقابي الذي تصورته عاديا ومقبولا، كما حصل ويحصل في العديد من الدول المتقدمة، لم يكن كذلك في نظام سياسي تتداخل فيه العشيرة بالحزب، والانتخابات بالمال السياسي، نظام لم يقبل إلا شكليا بهذه النقابات، واستمر في التخوف منها، بحجة الانتماءات الحزبية والسياسية لبعض قياديها، نقابات حاربها النظام السياسي في السر والعلانية، وهي في بداية تجربتها، اعتمادا على تحالفات نسجها النظام السياسي محليا ووطنيا، مع رب العمل، والبيروقراطي وشيخ القبيلة، وزعران الحارة المسلحين، ليصل الأمر إلى استصدار قرار حلها أخيرا، وسجن قياداتها، من قضاء غير مستغل ومسيس.
قُتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في مصر- 2016- يمكن عدّه مثالا آخر على ما يمكن تسميته بالمسألة النقابية، التي ما زالت تعيشها المنطقة العربية، طالب الدكتوراه، الذي كان هدفه إنجاز بحث حول النقابات المستقلة في هذا البلد، الذي زادت فيه الفوارق الاجتماعية، وعم فيه الإفقار، وقلّت فيه الحريات إلى ادنى مستوياتها، بما فيها الحريات الأكاديمية، التي كانت ممنوحة للطلبة والباحثين الأجانب، إلى وقت قريب. الشاب الإيطالي الذي اكتشف على حساب حياته، أن موضوع النقابات ليس موضوعا كلاسيكيا ومبتذلا، كما هو الحال في بلده إيطاليا، التي أُشبع فيها دراسة وتمحيصا، فقد اكتشف الطالب الإيطالي أن الكلام عن النقابات المستقلة في بلداننا هو الكلام عن أشكال فساد مالي وسياسي جديد ومستحدث، لا يشمل المجالات الاقتصادية فقط، بل يمس المجالات السياسة، بما فيها الانتخابات المحلية والتشريعية، التي تحولت إلى مصانع لإنتاج المفسدين من كل نوع، لا يكتفون بنشر الفساد وتبريره، بل يحاربون من أجله، عن طريق البلطجية، الذين يحتلون الرصيف والشارع، بعد أن فرضوا سيطرتهم على المصنع والورشة، في حضور إعلام فاسد، يبرر كل ما يخطر على بال صاحب القرار.
إحدى الخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذين المثالين أن النظام السياسي العربي يرفض أن يتجه نحو بناء مؤسسات كالنقابات المهنية، تساعده على حل سلمي للصراعات الاجتماعية، التي استفحلت نتيجة السياسات الاقتصادية الإقصائية، ما يؤشر إلى إننا في هذه المنطقة نتجه نحو عنف اجتماعي أكبر في المستقبل لحل خلافاتنا، في وقت زاد فيه التفاوت الاجتماعي، وقلت فيه فرص الترقية بالنسبة للكثير من المواطنين – الشباب تحديدا – الذين تعلموا وانفتحوا على العالم، لم يعودوا يقبلون بما قبل به أباؤهم، مقابل نظام سياسي تكلس وغابت فيه مقاييس التنافس الشفاف بين الأفراد والجماعات، ما أدى إلى تقليص خطير في القاعدة الاجتماعية للدولة الوطنية ذاتها، التي ستعتمد أكثر فاكثر في الدفاع عن نفسها، على البلطجي الذي يعتدي، والصحافي الذي يبرر، والقاضي الذي يمنع ويسجن، والشرطي الذي يقمع، داخل بلد يمكن أن يضيع في رمشة عين، في هذا الظرف الدولي والإقليمي المضطرب، لم تبق أمام أنظمته السياسية، التي دخلت في عداء واضح ضد مجتمعاتها، الكثير من الخيارات إلا إدارة ظهرها لشعوبها والاحتماء بالأجنبي، كما عبر عنه التطبيع في المدة الأخيرة، كحل تهرول نحوه الكثير من أنظمة المنطقة.