المنظور العربي لجدلية العلاقات التركية الإسرائيلية 2020-2002
المقدمة
اتسمت الأدبيات السياسية العربية خلال العقد الماضي 2020-2010 بقدر كبير من الارتباك في فهم وتحليل العلاقات التركية الإسرائيلية، وشكلت النزعة الرغبوية Wishful thinking، والانحياز الأيديولوجي أو العقائدي، والتسارع في إيقاع التغير في البيئة الجيو-استراتيجية في المنطقة العربية، معوقات لفهمٍ متزنٍ لهذه العلاقات، وانقسمت الاجتهادات الفكرية العربية في هذا الصدد إلى تيارين:
التيار الأول:
يرى هذا التيار أن السياسة التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية لكرسي السلطة لم تتغير في موقفها من "إسرائيل" على الرغم من بعض التشنجات العابرة في العلاقة بين الطرفين، إلى جانب أن تركيا لم تغادر توجهاتها التقليدية في تشبثها بعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) North Atlantic Treaty Organization (NATO) أو في لهفتها الشديدة لكي تكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي. وتعزز هذا التيار الفكري العربي بنتائج التوتر الذي أصاب العلاقات العربية التركية خصوصاً مع تكثيف التدخل التركي في الأزمة السورية وفي شمال العراق وفي ليبيا، ناهيك عن مشاركتها في الاصطفاف الخليجي لتقف إلى جانب قطر في خلافاتها مع كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، وهو ما جعل البعض يذهب إلى حدّ ربط السياسة التركية بعد سنة 2003 بالإرث العثماني في المنطقة، والعمل على إحيائه.
ويضيف هذا التيار أن العلاقات التركية الإسرائيلية بقيت مستقرة، بل إن العلاقات التجارية جعلت من تركيا الشريك التجاري والسياحي الأول لـ"إسرائيل" في الشرق الأوسط، ناهيك عن وجود مسافة فاصلة تضيق وتتسع بين الحين والآخر بين تركيا وتنظيمات محور المقاومة كحزب الله، بل وأحياناً مع الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى جانب مسافة فاصلة نسبياً مع إيران التي يرى هذا التيار فيها سنداً مركزياً لمحور المقاومة الذي لا يروق له استمرار العلاقات الديبلوماسية الكاملة بين تركيا و"إسرائيل"، لا سيّما أن تركيا هي أول دول إسلامية اعترفت بـ"إسرائيل" منذ نشوئها، وفي ظلّ تيار سياسي تركي حاكم يختلف تماماً في توجهاته عن توجهات حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً في تركيا، لكن هذا الاعتراف القانوني الكامل بقي ثابتاً في السياسة التركية على الرغم مما اعتراه أحياناً من توترات لم تدم طويلاً، ولعل تصريحات رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan في 2020/12/25 عن "أمله في علاقات أفضل مع "إسرائيل"، وأن بلاده لم تقطع العلاقات بشكل تام مع "إسرائيل"، وهناك تعاون استخباراتي بين الطرفين، وأن المشكلة الرئيسية في هذه العلاقات هي السياسات الإسرائيلية غير الرحيمة تجاه الفلسطينيين"،[1] يشكل حججاً لهذا التيار الأول.
التيار الثاني:
بالمقابل هناك تيار سياسي عربي آخر، تغلب عليه سمة التوجه الإسلامي، يرى أن تركيا دولة إسلامية تقف إلى جانب الحق الفلسطيني، وتقدم المساعدات للفلسطينيين، بل وترفض كل السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، كما أنها دعمت النزعة الديموقراطية التي اجتاحت الدول العربية منذ سنة 2010 إلى يومنا هذا، وتصوت غالباً في المنظمات الدولية لصالح الحق الفلسطيني، إلى جانب أن الدور التركي في لجم النزعة الانفصالية للأكراد في دول غرب آسيا (إيران، والعراق، وتركيا، وسورية) يسهم في وحدة أراضي الدول العربية، ويكبح النزوع الغربي والإسرائيلي لإقامة دولة كردية تكون سنداً لـ"إسرائيل" في المنطقة، لا سيّما أن بعض القوى الكردية لها تاريخ طويل من التعاون مع "إسرائيل" بشكل سري وأحياناً شبه علني.
إن السجال الفكري بين التيارين العربيين يستدعي طرح التساؤل التالي: هل تقوم السياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط على أساس براجماتي (أي اعتبار المصالح هي الحادي لقافلة السياسة التركية)؟ أم أن المعيار الأيديولوجي والعقائدي هو المحدد الرئيسي (وتحديداً الإسلام السياسي ممثلاً في جوهره بتوجهات حزب العدالة والتنمية التركي The Justice and Development Party (Adalet ve Kalkınma Partisi (AKP)))؟ أم أن الأمر يجمع بين البعدين بقدر من العقلانية لا سيّما أن المشهد السياسي في الشرق الأوسط معقّد إلى أبعد الحدود؟ ذلك يستدعي رصد الدوافع وراء كل من السياسة التركية تجاه "إسرائيل"، وبالمقابل السياسة الإسرائيلية تجاه تركيا.
من الضروري الإشارة إلى أن العلاقات التركية الإسرائيلية منذ الاعتراف التركي بـ"إسرائيل" سنة 1949، عرفت تذبذباً بين فترة وأخرى، بغض النظر عن الحزب الحاكم في تركيا، فإلى جانب عدد من الاتفاقيات السياسية والأمنية والعسكرية والتجارية بين الطرفين خلال الفترة 2002-1949 (أي قبل وصول حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة)، عرفت هذه الفترة توترات بين الطرفين، فقد خفضت تركيا من مستوى تمثيلها الديبلوماسي في "إسرائيل" سنة 1956 بعد مشاركة "إسرائيل" في العدوان الثلاثي على مصر، كما شجبت تركيا العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في حرب 1967 وطالبتها بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها، لكن تركيا رفضت سنة 1969 أن تشارك الدول الإسلامية الدعوة لقطع العلاقات مع "إسرائيل" بعد نشوب حريق في المسجد الأقصى، ورفعت لاحقاً من مستوى التمثيل الديبلوماسي مع "إسرائيل" إلى مستوى السفارة، إلا أن العلاقات التركية الإسرائيلية عادت للتوتر سنة 1980 بعد إعلان "إسرائيل" ضمها للقدس.
لكن هذه العلاقات عادت لمسيرتها سنة 1992 بعد أن قدم السفير التركي لدى "إسرائيل" أوراق اعتماده للرئيس الإسرائيلي،[2] مما يعني أن ظاهرة التذبذب صعوداً وهبوطاً في العلاقات التركية الإسرائيلية هي ظاهرة سابقة على وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا.
المواقف التركية بين السجال السياسي الإعلامي والأيديولوجي، وبين شبكة المصالح الاستراتيجية
أولاً: تركيا والبيئة الاستراتيجية الشرق أوسطية
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا سنة 2002، تواصلت العلاقات التركية الإسرائيلية في ظلّ تغيرات جذرية في البيئة الشرق أوسطية خلال الفترة 2002-1973، وكان على حزب العدالة أن يتكيف معها بعد وصوله للسلطة، وهي:
1. إنهاء حالة الحرب مع "إسرائيل" والاعتراف الديبلوماسي بها من دول عربية (مصر، ثم اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاق وادي عربة مع الأردن)، ناهيك عن تزايد اللقاءات العربية الإسرائيلية على مستويات مختلفة، وفتح مكاتب تمثيل تجاري، وانفتاح بعض القنوات العربية على الإعلام الإسرائيلي…إلخ وصولاً إلى موجة التطبيع سنة 2020 من بعض الدول الخليجية والمغرب والسودان.
2. تداعيات الثورة الإيرانية وحروب الخليج خلال الفترة 2003-1980، وهواجس الانقسام السني الشيعي، وهي متغيرات جعلت المشهد الشرق أوسطي متبايناً عما كان طيلة نصف القرن الماضي على وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا.
3. تداعيات تفكك الاتحاد السوفييتي، وتأثيرات ذلك على الوظيفة التركية في إطار حلف الأطلسي من ناحية، كما أن تراجع جاذبية النظرية الشيوعية عزز من ثقة الإسلاميين في تركيا (وغيرها) بمنظورهم الديني من ناحية أخرى.
4. تنامي تيار الإسلام السياسي في الدول العربية، الذي رأى فيه حزب العدالة والتنمية التركي حليفاً موضوعياً له.
5. الاضطراب العام الذي أصاب المنطقة العربية منذ 2010، وأدى لتغير عدد من الأنظمة السياسية، ولانتشار عسكري متعدد الأطراف في مختلف أرجاء المنطقة، وترافق ذلك مع انهيار اقتصادي في أغلب الدول العربية بسبب هذا الاضطراب، ناهيك عن تداعيات انهيار الريع النفطي في المنطقة بعد سنة 2014، ثم أخيراً تفشي وباء الكورونا (كوفيد-19 COVID-19).
ذلك يعني أن البيئة الجيو-استراتيجية التي وجدها حزب العدالة والتنمية التركي تختلف اختلافاً عميقاً عن البيئة التي سادت المنطقة في النصف قرن السابقة على وصوله للسلطة، وهو ما دفع لطرح التساؤل المركزي حول السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، فهل يغلب عليها الطابع البراجماتي؛ أولوية المصالح القومية وبقدر من العقلانية؟ أم أولوية البُعد العقائدي الديني؟ أم هو مزج بين البعدين؟
ثانياً: السجال السياسي الإعلامي والأيديولوجي
في ظلّ هذه البيئة الجيو-استراتيجية التي أشرنا لها، تبنى حزب العدالة والتنمية سياسة التكيف والتوفيق بين بُعدين هما التحولات الجذرية في المنطقة وانعكاساتها على مصالح تركيا من ناحية، وخطابه السياسي الإسلامي من ناحية أخرى.
وشكلت محاولة لعب دور الوسيط بين دول عربية و"إسرائيل" أولى محاولات التكيف التركي مع البيئة المعقدة التي أشرنا لها في الشرق الأوسط، ويشير تاريخ العلاقات الدولية إلى أن الدولة التي تسعى للعب دور الوسيط في النزاعات الدولية لا بدّ لها أن تحظى بقبول الطرفين لهذا الدور، وهو أمر لا يتم دون أن تكون العلاقة بين الوسيط من ناحية وطرفي النزاع من ناحية ثانية علاقة إيجابية.
لقد كان الرفض التركي للتعاون مع الولايات المتحدة في غزو العراق سنة 2003 نقطة تحول في النظرة السورية التركية المتبادلة، وعاملاً مُحفِّزاً للتقارب السوري التركي، وانعكس ذلك مباشرة في كانون الثاني/ يناير 2004 عندما زار الرئيس السوري بشار الأسد تركيا ليبدأ جو من التقارب الملحوظ بين الدولتين، وبعد ذلك بشهرين وجهت تركيا انتقاداً حاداً لعملية اغتيال "إسرائيل" لزعيم حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، ووصفها رئيس الوزراء التركي في حينها رجب طيب أردوغان بأنها عمل "إرهابي"،[3] ثم تطورت العلاقات السورية مع تركيا بزيارة أردوغان لدمشق في أواخر السنة نفسها لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع سورية، ثم عاد أردوغان لمشاركة الرئيس السوري سنة 2007 في تدشين استاد حلب الدولي، وتواصل التقارب بلقاء سوري تركي سنة 2008، وتطور الأمر إلى حدّ إجراءات تدريبات عسكرية مشتركة.[4] غير أن موجة الاضطرابات الداخلية في العالم العربي أو ما اصطلح على تسميته الربيع العربي بعد سنة 2011، أدى لانتقال العلاقة باتجاه معاكس تماماً، وهو موضوع يحتاج لدراسة منفصلة.
بالمقابل، فقد قام أردوغان (كان رئيساً للوزراء حينها) في أيار/ مايو 2005 بزيارة "إسرائيل" عارضاً دور الوسيط خصوصاً مع سورية، وهي السنة نفسها التي اشترت فيها تركيا أسلحة من "إسرائيل" بقيمة 183 مليون دولار.[5] وفي سنة 2007، قام الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز Shimon Peres بزيارة لتركيا اجتمع خلالها بالرئيس التركي عبد الله غول Abdullah Gul، والقى خطاباً في البرلمان التركي أكد فيه على تعزيز العلاقات بين الطرفين.[6]
وأدركت تركيا أن علاقاتها مع المقاومة الفلسطينية التي أخذ جناحها الإسلامي يتنامى يستوجب التطوير، لكي تكون تركيا قادرة على توسيع فضاء ديبلوماسيتها في الشرق الأوسط من خلال تقديم المساعدات الإنسانية لأطراف فلسطينية لا سيّما في قطاع غزة المحاصر. لكن تعقيدات الواقع في الشرق الأوسط أربكت التصور التركي، فقد توترت العلاقات التركية الإسرائيلية بعد العدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2008، والانتقاد التركي الحاد للسلوك الإسرائيلي والذي عبَّر عنه أردوغان في منتدى دافوس Davos Forum سنة 2009.
وتزايد التوتر بعد أن منعت تركيا "إسرائيل" من المشاركة في تدريبات نسر الأناضول العسكرية Anatolian Eagle في تشرين الأول/ أكتوبر 2009، والتي جرت في إطار تدريبات حلف الناتو، واحتجت كل من الولايات المتحدة وإيطاليا على القرار التركي مما أدى لإلغاء التدريبات،[7] وهو ما دفع برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu للقول حينها إن تركيا لا تصلح لأن تكون "وسيطاً نزيهاً" بين "إسرائيل" وسورية.
وازداد التوتر بين الجانبين الإسرائيلي والتركي سنة 2010، مع حادثة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة الإغاثة التركية المتجهة إلى غزة، والتي قتل فيها تسعة أتراك (أحدهم يحمل الجنسية الأمريكية) والتي وصفها أردوغان بأنها "إرهاب دولة"، وازداد احتقان العلاقة بين الطرفين بعد ملابسات عديدة وخطيرة:[8]
1. إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump اعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل" في كانون الأول/ ديسمبر 2017، وهو الموضوع الذي شكَّل نقطة تجاذب حادة بين "إسرائيل" وتركيا، وغلب على هذه التجاذبات السجال الإعلامي والانتقادات المتقابلة لكل طرف تجاه الطرف الآخر.
2. العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2018، والذي أدى لزيادة حدة النقد التركي للسياسات الإسرائيلية.
3. القلق التركي من المساندة الإسرائيلية لفكرة إقامة كيان كردي خصوصاً في الشمال السوري، وهو ما عبّر عنه نتنياهو بشكل صريح قبل أيام من الاستفتاء الذي أعلنته كردستان العراق سنة 2017.
4. تناغم مواقف بعض الدول العربية مع "إسرائيل" في الموقف من حركة حماس بشكل خاص، وتنظيمات الإخوان المسلمين بشكل عام، ووصفها بأنها تنظيمات "إرهابية"، علماً بأن هذا التنظيم هو التيار السياسي الأقرب في توجهاته لحزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا.
5. تباين الأولويات في سياسات كل من "إسرائيل" وتركيا في سورية، ففي حين تعلو أولوية لجم أو إنهاء الوجود الإيراني وحزب الله من سورية أولويات السياسة الإسرائيلية، فإن الأولوية التركية هي منع قيام منطقة استقلال كردي بأي شكل من الأشكال، لأن ذلك قد يمثل نقطة مساندة أخرى لحزب العمال الكردي التركي الذي تصفه تركيا بمنظمة إرهابية.
6. إن تنامي التيارات الدينية واليمينية القومية في كل من تركيا (بعد سنة 2002) و"إسرائيل" (منذ 1977) وحتى الآن وسَّع الهوة الفاصلة بين "إسرائيل" وتركيا استناداً للمتغيرات الأيديولوجية لكل منهما.[9]
وتصاعد الخلاف بين الطرفين بقيام "إسرائيل" في آذار/ مارس 2017 باعتقال مدير فرع غزة لوكالة التنسيق والتعاون التركية (تيكا) Turkish Cooperation and Development Agency (Türk İşbirliği ve Koordinasyon Ajansı Başkanlığı—TİKA)، بتهمة نقل أموال للجناح العسكري لحركة حماس، لكن التحقيقات الإسرائيلية أشارت إلى أن النقل تمّ دون التنسيق مع الهيئة التركية.[10]
وقد اتهم أردوغان في كلمة له في 2017/12/10 "إسرائيل" بأنها دولة إرهابية، وبأنها "قاتلة الأطفال"، وردت "إسرائيل" على لسان نتنياهو بأن تركيا تساند الإرهاب وتقتل المدنيين الأكراد.
تبع ذلك قيام تركيا بطرد السفير الإسرائيلي، فردَّت "إسرائيل" بطرد القنصل التركي الذي يمثل تركيا لدى السلطة الفلسطينية من القدس في سنة 2018.[11]
وسط هذا المشهد المتوتر بين الطرفين، وعلى الرغم من أن الاتجاه العام في "إسرائيل" هو ضعف الثقة في مواقف أردوغان بل واتهامه باللا سامية، إلا أن "إسرائيل" وقفت ضدّ المحاولة الانقلابية على أردوغان سنة 2016، وأكد بيان لوزارة الخارجية الإسرائيلية ولرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ذلك، وعزمت "إسرائيل" مواصلة السعي لتحسين العلاقة بين الطرفين.[12]
ماذا نستنتج من هذا المشهد السياسي الإعلامي؟
1. أن السمة الدينية الإسلامية للقاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تجعل من العسير عليه التغاضي عن السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة خصوصاً عندما يتعلق الأمر برموز دينية مثل القدس، أو انتهاكات حقوق الإنسان والحصار الاقتصادي على شعب مسلم، كما هو الحال في قطاع غزة، ولعل ما تشير له بعض التقارير عن رغبة تركية في "المشاركة مع الأردن وغيرها لرعاية الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس" ما يعزز هذا الرأي.[13]
وتزداد مؤشرات تأثير النزعة الدينية في فهم السلوك السياسي التركي في اتهام أردوغان لـ"إسرائيل" بالمساعدة في وقوع الانقلاب العسكري في مصر والإطاحة بالرئيس محمد مرسي سنة 2013، واستند أردوغان في اتهامه على شريط فيديو يعرض حواراً بين المفكر الفرنسي برنارد هنري ليفي Bernard-Henri Lévy، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني Tzipi Livni حيث ورد القول بأن ""إسرائيل" لن تسمح للإخوان المسلمين وبكل الطرق أن يحكموا مصر".[14]
2. أن تنامي حضور التيار الديني في السياسة الإسرائيلية عبر الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة يجعل السجال الإعلامي بين الطرفين أكثر حدة.
3. أن حزب العدالة والتنمية يرغب في تقديم نموذج سياسي إسلامي معاصر يوسع من الفضاء الإقليمي للديبلوماسية التركية من ناحية، ويقدم نموذجاً موازياً للنظام الديني في إيران من ناحية ثانية.
4. أن المنظور الديني في السياسة التركية أدى لتوتر متواصل مع "إسرائيل" من ناحية، ولتوتر لا يقل حدة مع سورية من ناحية ثانية.
5. ان الإرث العثماني يستقر في الذاكرة التاريخية لبعض النخب السياسية التركية بشكل يوجد تداخلاً في صياغة الرؤية الاستراتيجية بين الذاكرة الإمبراطورية والحاضر القومي.[15]
ثالثاً: شبكة المصالح التركية مع "إسرائيل"
تتمثل شبكة المصالح المشتركة بين "إسرائيل" وتركيا في التالي:
1. التجارة
تشير البيانات المتوفرة إلى أن حجم التجارة بين تركيا و"إسرائيل" بلغ سنة 2019 ما يساوي 5.8 مليار دولار بزيادة تصل إلى نحو 233 مليون دولار عن سنة 2018، فقد بلغت صادرات تركيا لـ"إسرائيل" 4.1 مليار، واستوردت منها 1.7 مليار دولار. وفي سنة 2020 تقدر قيمة التجارة خلال الشهور الثمانية الأولى مضافاً إليها التوقعاتprojection للشهور الأربعة المتبقية من السنة بنحو 5.95 مليار دولار، أي بزيادة تصل إلى نحو 150 مليون دولار.
ولو حسبنا نسبة الزيادة في حجم التجارة التركية مع "إسرائيل" بين 2008 و2018، سنجد أنها ارتفعت بمعدل 238% مقابل زيادة في التبادل التجاري العربي مع تركيا بنحو 17% فقط. وارتفعت مع الفلسطينيين خلال المدة نفسها بمعدل 489%، وهو ما يعني أن الخلافات السياسية بين الطرفين التركي والإسرائيلي لم تتعدَ السجال الخطابي الذي لم يترك أي أثر على تطور العلاقات الاقتصادية، بينما تباطأ بشكل واضح مع الطرف العربي (وخصوصاً مع دول الخليج العربي، حيث بلغت نسبة التراجع مثلاً مع دولة الإمارات نحو 58%).[16]
وإذا كانت العراق تحتل المرتبة الأولى في الشركاء التجاريين لتركيا في الشرق الأوسط، فان "إسرائيل" تحتل المرتبة الثانية. بينما تحتل تركيا المرتبة الأولى لشركاء "إسرائيل" التجاريين في الشرق الأوسط، والمرتبة الخامسة للشركاء التجاريين لـ"إسرائيل" عالمياً.[17]
وتسعى تركيا لتوظيف علاقاتها مع "إسرائيل" لاستثمار الشراكات التقنية للشركات الإسرائيلية مع الشركات الأوروبية والأمريكية، مقابل جعل تركيا سوقاً وسيطة بين "إسرائيل" والأسواق العربية التي ما تزال مغلقة أو شبه مغلقة أمام البضائع الإسرائيلية.
ولكن ثمة وجه آخر للعلاقة التجارية بين الطرفين، فخلال الفترة نفسها تقريباً 2018-2010، تراجع عدد الشركات الإسرائيلية العاملة في تركيا بنسبة 33%.[18] وقد يعود ذلك لأسباب أمنية خصوصاً بعد المظاهرات التي قامت في إسطنبول وأنقرة ضدّ "إسرائيل" من ناحية، وبعض الأحداث الأمنية الأخرى التي طالت أفراداً إسرائيليين من ناحية أخرى.[19]
إن قياس ما يسميه الاقتصاديون الكثافة التجارية Trade intensity، يساعد على فهم مستوى وأهمية هذه العلاقة التجارية بين تركيا و"إسرائيل"، وتقيس الكثافة نسبة التجارة بين بلدين إلى نسبة تجارتهما الكلية مع العالم. فعند النظر في هذه المعادلة يتبين تماماً أن الكثافة التجارية الإسرائيلية التركية تصنف كثافة عالية بل وتتزايد في اتجاهها الأعظم، إذ إن تجارة تركيا الخارجية مع "إسرائيل" قد ازدادت مقارنة بالزيادة في إجمالي التجارة مع العالم، وهو ما يعد المؤشر الأكثر أهمية في قياس الكثافة، فخلال الفترة 2015-1995 ثم 2018، زادت صادرات تركيا إلى "إسرائيل" بمقدار 10.41 ضعفاً، وزادت وارداتها من "إسرائيل" 9.31 ضعفاً، وزاد حجم التجارة الخارجية للبلدين بنسبة 9.93 ضعفاً.
وعندما يتم فحص قيم مؤشر كثافة التجارة بين تركيا و"إسرائيل" خلال الفترة 2015-1995، يتبين أن كلا البلدين قد حققا زيادة في حصة التجارة الثنائية بنسبة أكبر من حصتهما في التجارة العالمية، وفي هذه الفترة نفسها بلغ متوسط صادرات تركيا إلى "إسرائيل" 4.26 ضعف نسبة حصتها في الصادرات العالمية.[20]
2. المرافئ البديلة
نتيجة لعدم الاستقرار في سورية بعد سنة 2011، تحولت التجارة التركية إلى ميناء حيفا كنقطة عبور إلى الاردن بدلاً من العبور عبر سورية، ويقدر عدد الشاحنات التركية التي تصل إلى ميناء حيفا عبر البحر إلى ما بين 30 إلى 40 شاحنة أسبوعياً، لتواصل بعد ذلك رحلتها البرية إلى الأردن.[21] كما تشير الدراسات إلى أن نحو 25% من الصادرات التركية إلى دول الخليج تمر عبر ميناء حيفا للسبب نفسه (الحرب السورية).[22]
ومن جانب آخر، فإن بترول إقليم كردستان العراق كان يصل إلى ميناء جيهان Ceyhan التركي ليتم شحنه على سفن تجارية لينقل بعد ذلك إلى ميناء أسدود في فلسطين المحتلة عبر عمليات تمويه تمارسها السفن التابعة لجهات مختلفة.[23]
3. السوق البديلة
نتيجة لاكتشاف "إسرائيل" حقول غاز كبيرة في البحر المتوسط يفيض عن حاجتها، بدأت البحث عن زبائن لها في الجوار القريب، فوقَّعت اتفاقاً مع الأردن، لكنها أدركت أن السوق الأردني صغير في حجم حاجته، ثم جرت محاولات مع مصر، ثم تعثرت هذه المحاولات لأسباب متعددة، مما دفع "إسرائيل" للبحث عن مستورد خارج الجوار المباشر خصوصاً مع تركيا التي يتوقع صانع القرار السياسي الإسرائيلي أنها تريد التحلل من الاعتماد الكبير على روسيا في احتياجاتها الغازية (نحو 60%)، وعلى إيران (20%)، لكن عودة التحسن للعلاقات الروسية التركية، والتكلفة العالية لمد أنابيب نقل للغاز تحت البحر لتصل إلى تركيا، واحتمال تعرض المنشآت الإسرائيلية الخاصة بالغاز للقصف من قبل المقاومة في غزة أو لبنان، إلى جانب الاعتراض القبرصي على عبور الأنابيب عبر مياهها الإقليمية ما لم تتم تسوية النزاع التركي القبرصي، يجعل مستوى الإغراء لـ"إسرائيل" باتجاه تركيا في هذا الجانب تحديداً ضعيفاً بعض الشيء، لكنه غير معدوم.[24]
4. السياحة
عادت رحلات طيران الشحن الإسرائيلي لنشاطها في المطارات التركية في أيار/ مايو 2020 بعد توقف لأكثر من عقد كامل.[25] أما في قطاع السياحة، فيبدو طبقاً للأرقام المتوفرة أنه أقل القطاعات تضرراً من تذبذب العلاقات بين الطرفين، وهو ما يتضح من أن معدل دخل تركيا من السياحة الإسرائيلية في سنة 2016 بلغ نحو 240 مليون دولار، مقابل دخل "إسرائيل" من السياحة التركية الذي يصل إلى نحو 26 مليون دولار.[26] غير أن التوترات السياسية بين الطرفين تركت أثراً واضحاً على السياحة بين الطرفين، ففي سنة 2008، وقبل المواجهات العسكرية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وصل عدد السيّاح الإسرائيليين إلى قرابة نصف مليون بينما تراجع العدد بعد ذلك ليصل سنة 2010 إلى نحو مئة ألف سائح.[27]
وتدل الدراسات الإسرائيلية، إلى أن الممارسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة أثّرت بشكل واضح على صورة تركيا في الذهن الإسرائيلي، فتحولت الصورة، طبقاً للدراسات المتخصصة، من صورة إيجابية إلى صورة سلبية، وهو ما ترك أثره على أعداد السيّاح الإسرائيليين إلى تركيا.[28] لكن ذلك لم يمنع من عودة الزيادة في عدد السيّاح الإسرائيليين لتركيا مع إعادة تطبيع العلاقات (وصل إلى نحو 294 ألف سائح مع نهاية سنة 2016)، لكن الرقم يبقى أقل كثيراً من فترة ما قبل 2008.[29]
5. التعاون العلمي والتقني
على الرغم من التوتر السياسي في فترة 2010-2006، فإن التعاون بين الأكاديميين من ناحية وبين بعض الهيئات العلمية من الطرفين التركي والإسرائيلي لم ينقطع خصوصاً في مجالات محددة مثل الهندسة الطبية.
كما تزايد التعاون بين مؤسسات علمية من الطرفين معنية بالتعاون العلمي مثل المجلس التركي للبحث العلمي والتقنيThe Scientific and Technological Research Council of Turkey (TÜBİTAK)، والمركز الصناعي الإسرائيلي للبحث والتنميةIsraeli Industrial Center for Research and Development (MATIMOP).أ[30]
6. التعاون العسكري
على الرغم من العلاقات التاريخية بين تركيا و"إسرائيل"، وسلسلة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية بينهما قبل وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، إلا أن اتفاقات التعاون بين هيئات التصنيع العسكري في الطرفين لم تتمكن من تطوير هذا الجانب بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، فمن ناحية لم تفِ الهيئات الإسرائيلية بالتزاماتها المترتبة عليها في عقود سابقة مع تركيا، كما أن تركيا اتجهت نحو تعزيز الصناعة العسكرية المحلية لتخفيض اعتمادها على الخارج، وتمكنت سنة 2011 من توفير نحو نصف الاحتياجات التركية، مما جعلها أقل حاجة لـ"إسرائيل".[31]
وقد أكد أردوغان هذا التوجه عندما أشار في سنة 2020 إلى أن بلاده كانت تمتلك 62 مشروع صناعة دفاعية سنة 2002، ارتفع عددها إلى 700 مشروع سنة 2020، مضيفاً أنه من بين أهم مئة شركة دفاعية في العالم هناك سبع شركات تركية، دخل منها إلى القائمة خلال الفترة من 2020-2015 خمس شركات.[32]
ويمكن اعتبار سنة 2016 هي نقطة عودة العلاقات الإسرائيلية التركية إلى بعض الدفء خصوصاً في أعقاب التعاون الأمني بين الطرفين إثر عملية قُتل فيها ثلاثة إسرائيليين في إسطنبول في 2016/3/19، ثم تبع ذلك اتصالات سرية بين الطرفين انتهت إلى دفع "إسرائيل" تعويضات لأسر ضحايا سفينة مرمرة، والموافقة على إفساح المجال أمام المساعدات الإنسانية التركية للوصول إلى غزة.[33]
رابعاً: ماذا نستنتج من ذلك؟
1. محدودية تأثير السجال السياسي الإعلامي والأيديولوجي بين تركيا و"إسرائيل" على شبكة المصالح المادية بين الطرفين، مما يؤكد المنظور غير الصفري في العلاقة بين الطرفين.
2. إن المساعدات التركية للفلسطينيين هي مساعدات ذات طبيعة "غير عسكرية"، بل غالباً ما تتم بالتنسيق مع الطرف الإسرائيلي، وهو ما يعني الإدراك التركي لحساسية الاستراتيجيين الإسرائيليين تجاه هذا الموضوع، لذا تتجنب تركيا تقديم أي شكل من المساعدات ذات الطبيعة العسكرية أو الأمنية، خلافاً على سبيل المثال للعلاقات الإيرانية الفلسطينية، أو خلافاً للدور التركي في النزاعات المسلحة العربية الداخلية بعد سنة 2010.
3. إن الطرف التركي يدرك أن العلاقة الإيجابية مع "إسرائيل" لها صداها في واشنطن من ناحية، ولدى اللوبي اليهودي في واشنطن وفي أوروبا كذلك من ناحية ثانية، ونظراً لعضوية تركيا في حلف الأطلسي ونزوعها الدائم إلى الارتباط بالاتحاد الأوروبي، وهو ما عبَّر عنه أردوغان بوضوح تام في خطاب له في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 بقوله "إن تركيا لا ترى نفسها في أي مكان غير أوروبا، وأنها تتطلع لبناء مستقبلها مع أوروبا"،[34] هو ما يؤكد رغبة تركيا في توظيف علاقاتها مع "إسرائيل" لتيسير تحقيق مصالحها في الفضاء الأمريكي، ومع الاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية خصوصاً أن هذا الأخير لا تسير علاقاته مع تركيا بشكل متسق، فهي تتوتر بين الحين والآخر، وربما تتصاعد في المستقبل القريب، خصوصاً حول سياسات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
4. التوظيف المتبادل بين الطرفين: من بين الظواهر المألوفة في العلاقات الدولية هو التلاقي الموضوعي للمصالح دون التخطيط المسبق لذلك، وفي العلاقات التركية الإسرائيلية نجد بعض مظاهر ذلك:
أ. أذربيجان: تحتل أذربيجان المرتبة الثانية بين المشترين للسلاح الإسرائيلي، كما أن جوارها لإيران من الشمال يزيد من اهتمام "إسرائيل" بها، وبالمقابل ترتبط تركيا مع أذربيجان بحدود مشتركة (على الرغم من قصرها)، إلى جانب روابط ثقافية تاريخية وعداء مشترك لأرمينيا لأسباب متعددة. ولعل هذا الترابط الموضوعي هو ما جعل الدولتان تتقاربا في موضوع التعاطي مع المشكلة بين أرمينيا وأذربيجان بخصوص أزمة إقليم ناغورني كاراباخ هذا العام.[35] وتتضح تداعيات هذه المسألة في مضمون التقارير الصحفية العديدة التي تحدثت عن دور أذري للوساطة بين "إسرائيل" وتركيا لتحسين العلاقات بينهما، كتعبير عن الامتنان الأذري للطرفين في موقفهما المشترك الداعم لأذربيجان خلال الأزمة مع أرمينيا.[36]
ب. إيران: إذا كانت صفة اللعبة الصفرية zero sum-game تنطبق على العلاقات الإسرائيلية الإيرانية (ما يكسبه طرف يمثل خسارة للطرف الآخر)، فإن العلاقات التركية الإسرائيلية والتركية الإيرانية أقرب لنموذج اللعبة غير الصفرية non zero sum-game (مزيج من العلاقات المشتركة والعلاقات المتعارضة)، فكلاهما (تركيا و"إسرائيل") ترغبان في سياسات محددة في سورية من ضمنها تغيير أو تعديل الموقف الإيراني من النظام السياسي في سورية (والحال نفسه مع روسيا)، كما أن التدخل في الشأن السوري تمّ من الطرفين (التركي والإسرائيلي ولو بكيفيات مختلفة)، لكن العلاقات التركية الإيرانية تشهد تنامياً واضحاً في القطاعات التجارية بشكل خاص، كما أن تبادل الزيارات بين المسؤولين في البلدين لم ينقطع خلافاً لعلاقة تركيا مع "إسرائيل" في هذا الجانب تحديداً. وفي مواقف أخرى، اتهمت "إسرائيل" تركيا بأنها قدمت في سنة 2013 معلومات عن شبكة من الجواسيس الإيرانيين الذين التقوا بمسؤولين من الموساد Mossad الإسرائيلي في تركيا، وهو ما يعزز فكرة وجود تعاون أمني بين إيران وتركيا.[37]
5. إن مراقبة قرارات السياسة الخارجية التركية تدل على قدر واضح من "السيادة والاستقلالية" في عملية صنع واتخاذ القرار، بغض النظر عن طبيعة النتائج الاستراتيجية المترتبة على القرار من المنظور العربي.
الخلاصة
نظراً لتعقيدات الوضع في الشرق الأوسط، تحاول السياسة الخارجية التركية لحزب العدالة والتنمية أن تحافظ على قاعدتها الشعبية داخلياً، وعلى توطيد العلاقة مع القوى السياسية العربية ذات التوجه الإسلامي من ناحية، والعمل على استمرار جني المكاسب التجارية والتقنية والسياسية في علاقاتها مع "إسرائيل" من ناحية أخرى.
لكن تحقيق التوازن بين هاتين المسألتين يبدو أكثر تعقيداً مما تعتقده الديبلوماسية التركية، كما أن حرصها على توظيف التنافس الدولي في المنطقة (خصوصاً الروسي الأمريكي) ينعكس أحياناً بالسلب وأحياناً بالإيجاب على مصالحها الإقليمية في غرب آسيا كله.
وعند الموازنة بين أبعاد السياسة التركية في المنطقة وخصوصاً مع "إسرائيل"، يتبين أن المصالح البراجماتية تعلو الانتماء العقائدي لكنها لا تلغي بعض تأثيراته، وهو ما شكَّل نوعاً من "الجدلية" بالمعنى الهيغلي Hegelian dialectic، مع ملاحظة الشعور العميق بالاستقلالية الذي يعطي الأولوية لمصالح الأمن القومي التركي، الأمر الذي نعتقد أنه سيقود لمركب جديد خلال السنوات الخمس القادمة في ظلّ معطيات عديدة في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركية من ناحية، وفي ظلّ تطورات الوضع الإقليمي والدولي وانعكاساتها على البعد الجيو-استراتيجي التركي من ناحية ثانية.
وبناء عليه نرى:
1. إن الدور التركي في مجالَي الإغاثة والمساندة الإعلامية للطرف الفلسطيني والعمل على تطويره هو الأفق المتاح حالياً في العلاقة الفلسطينية التركية، ويبدو أن أي طموح إلى مستويات تتجاوز هذا الدور في المدى الزمني المنظور هو طموح ليس له ما يدعمه.
2. إن عضوية تركيا في حلف الناتو، وعدم كللها من السعي للانخراط في الاتحاد الأوروبي، واستمرار تطور علاقاتها التجارية والاقتصادية بل والاستخباراتية مع "إسرائيل" (وقد أشرنا لتصريح أردوغان بذلك في بداية المقال) تمثل متغيرات رئيسية في تعيين محددات الموقف التركي من القضية الفلسطينية، خصوصاً أنها متغيرات مستقرة في السياسة التركية قبل وبعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة.
3. إن توظيف الخطاب الديني الخاص بالموضوع الفلسطيني تجاه المجتمع التركي أمر له أهميته التي لا يجوز إغفال تداعيات النجاح فيه.
4. إن الضغوط الدولية والعربية على حركات الإسلام السياسي، بل ونزوع بعض هذه الحركات للتعاطي مع "إسرائيل" (مثل حزبَي العدالة والتنمية في كل من تركيا والمغرب) يمثل تعزيزاً لاتهامات خصوم الإسلام السياسي بشكل قد ينبئ بتداعيات أعمق مما يبدو على السطح.
التوصيات:
1. على القوى الرئيسية في محور المقاومة أن تعمل كل ما بوسعها لإعادة العلاقات السورية التركية إلى وضعها السابق قبل سنة 2011 (مع إدراكنا التام للتعقيدات الهائلة التي تحيط بالموضوع)، ونرى أن يتم هذا الجهد استناداً لبعدين:
أ. التركيز على المصالح المشتركة التي تتلاقى فيها الاستراتيجية السورية والتركية، والتي كانت قائمة قبل سنة 2011 بين البلدين، ووصلت لمستويات متقدمة.
ب. أن تتركز جهود وساطة محور المقاومة على التنسيق مع القوى الدولية لتيسير الحوار الداخلي في سورية، وتوفير قنوات التواصل المساندة لهذا الحوار.
2. إن هناك نقاط توافق عديدة بين سورية وتركيا يمكن الاتكاء عليها وتطويرها نحو آفاق أرحب سياسياً واقتصادياً بشكل خاص، وتقدم لنا الخبرات التاريخية في العلاقات الدولية، على أن ذلك ممكن إذا تمّ الربط بين المصالح الاستراتيجية من ناحية، والرشد في اتخاذ القرار من ناحية ثانية، والقبول بمبدأ التدرجية في تغيير المواقف من ناحية ثالثة