«السلام العثماني» و«سلام سايكس بيكو» والوفاق المفقود في الشرق الأوسط
الصراع بين إسرائيل وإيران ليس على أرض محتلة لأي منهما بواسطة الأخرى، وليس على مذهب ديني، يريد أن ينتصر لنفسه على مذهب الآخر، إنه صراع محوره ممارسة النفوذ الإقليمي على أوسع نطاق ممكن، وعلى أساس احتكاري لا يقبل بوجود شريك. هذا الصراع في حقيقة الأمر مجرد وجه واحد من وجوه الصراعات على منطقة الشرق الأوسط، التي وصفها مارتن إنديك في مقال نشرته «وول ستريت جورنال» في بداية العام الماضي بأنها لا تستحق ولا قيمة لها، وقال ترامب إن حروبها بلا فائدة ولا نهاية لها، ويعتبرها الروس منفذهم إلى المياه الدافئة والمحيطات المفتوحة، وتراها أوروبا أحد مصادر تهديدها بالإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتحلم تركيا باستعادة مجدها الإمبراطوري فيها. إنها المنطقة التي تجمع بين الحلم والكابوس للقوى العالمية والإقليمية الساعية إلى النفوذ، وهي المنطقة التي تعيش شعوبها مرارة الاستبداد وذل التخلف.
أوهام نتنياهو
الغريب في أمر الصراع النووي الاسرائيلي – الإيراني، أن قادة الجمهورية الإسلامية يؤكدون صباحا ومساء، أنهم لا يسعون أبدا إلى امتلاك سلاح نووي، لكن ذلك لا يمنعهم من تطوير تكنولوجيا نووية متقدمة. الإمام الخميني قال ذلك، وأعاد المرشد الحالي علي خامنئي تأكيد فتوى الخميني في نسخة جديدة، تستبعد إنتاجه أو حيازته أو تخزينه أو استخدامه، لكن نتنياهو بدلا من أن ينطلق من ذلك إلى طلب تطوير الاتفاق النووي والبناء عليه، فإنه يريد قتل الاتفاق ويهاجم عودة الولايات إليه، ويهدد إنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح هي لا تملكه حتى الآن، بينما بلده هو الوحيد في المنطقة الذي يمتلك ترسانة أسلحة نووية، تمثل مصدر التهديد الرئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي. إنه يعلن حربا دون كيشوتية، ساعيا إلى تحقيق انتصار وهمي، قبل إجراء الانتخابات العامة خلال أسابيع. إنه يعلم أن إيران لا تملك سلاحا نوويا، ولا تريد امتلاكه، لكنه يهددها بالحرب هل هناك دون كيشوتية أكثر من ذلك؟ ألا يكفيه أن يضع العالم نظاما لضمان عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، بينما إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك ترسانة نووية؟ ألم يكن هذا النظام قائما فعلا ويعمل بكفاءة حتى مايو 2018، عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، بدفع من نتنياهو شخصيا؟ إن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي يجب أن تكون نظيفة وصريحة، بإعادة كل التزاماتها إلى ما كانت عليه قبل انسحاب ترامب، وإلغاء كل العقوبات التي ترتبت على انسحابها، وتفعيل عضويتها في الاتفاق. كذلك فإن أي مفاوضات بشأن الاتفاق يجب أن تجري داخل صيغة 5 +1، وليس هناك أي مبرر لاستبعاد روسيا والصين من المفاوضات، وفي مقابل العودة الأمريكية، فإن إيران يجب أن تتراجع عن كل الخطوات التصعيدية التي اتخذتها.
في هذه الحالة تستأنف الوكالة الدولية للطاقة الذرية ممارسة مسؤولياتها في مراقبة التزام إيران بالاتفاق. ألم تنجح الوكالة خلال الفترة، منذ موافقة مجلس الأمن في التفتيش المستمر على المنشآت النووية الإيرانية، وضمان التزامها ببنود الاتفاق؟ ألم ينجح الاتفاق في تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم من 20% قبله إلى 4% وتخفيض مخزون اليورانيوم منخفض التخصيب؟ إن العالم كله يعرف أن سياسة «الضغوط القصوى الأمريكية» دفعت إيران إلى زيادة تخصيب اليورانيوم، وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، وزيادة عدد المنشآت النووية، والشروع في تعدين اليورانيوم. إيران لم تخف كل ذلك وإنما هي أعلنته على الملأ.
حلم الهيمنة الإسرائيلية
لكن جوهر الصراع بين إسرائيل وإيران ليس السلاح النووي، وإنما هو رغبة إسرائيل في تحقيق هيمنة كاملة على المنطقة، ومن ثم فإن الصدام بينهما، إن وقع صدام، سيكون عنيفا ومدمرا، وسيشمل المنطقة بأكملها من الخليج إلى باب المندب والبحر الأحمر إلى شرق المتوسط. الصراع بين إسرائيل وإيران لم يعد يقتصر على الدولتين، ذلك أن ايران لها حلفاء أقوياء من العراق إلى اليمن. وإسرائيل أيضا لها حلفاء في المنطقة بعد أن نجحت في إقامة حلف مع ثلاث دول عربية خليجية هي الإمارات والبحرين والسعودية، رغم أن الأخيرة لم توقع بعد على اتفاق لتبادل العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وهو ما يجعل المنطقة منقسمة سياسيا إلى قسمين كبيرين، واحد تقوده إيران، والثاني تقوده إسرائيل، فهل يمكن أن يتحقق سلام في المنطقة مع وجود انقسام إقليمي، يتحول الآن تدريجيا ليأخذ شكل حلفين عسكريين متضادين؟ يبدو الموقف حاليا أشد تعقيدا مما يتصور كثيرون، فالصراع على النفوذ والهيمنة لا يقتصر على إيران وإسرائيل، بل يضم أطرافا أخرى لها قوات عسكرية على الأرض، هي تركيا وروسيا والولايات المتحدة. وحتى بافتراض تسوية الخلاف بشأن البرنامج النووي الإيراني، أو الفشل فيه، وإقامة علاقات على أساس الردع النووي المتبادل، فإن محركات أخرى للصراع ستستمر في العمل، مثل الصراع على سوريا وعلى ليبيا، وإعادة بناء الدولة في اليمن ولبنان، وإيجاد حل مقبول للمشكلة الفلسطينية، والصراع على المياه، وأمن الخليج والبحر الأحمر وصراعات القرن الافريقي.
في انتظار وفاق تاريخي
إن انقسام المنطقة بين تيارين أو أكثر، ومع وجود أطراف يسعى كل منها إلى تحقيق هيمنة (نسبية أو مطلقة) هو ما سيجعل التوتر واستمرار الصراع سيد الموقف لسنوات طويلة مقبلة. وتعلمنا حكمة التاريخ أن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة لا يتحقق، ولم يتحقق إلا بأحد شرطين، الأول هو أن تتمكن قوة واحدة من هزيمة الآخرين وإخضاعهم، وهو ما حدث تاريخيا عندما انتصرت الدولة العثمانية على الدول المملوكية، لتكتب نهاية «عصر الانحطاط المملوكي» وتفرض بقوتها ما يمكن أن نطلق عليه الآن «عصر السلام العثماني» الذي استمر لمدة تزيد على ثلاثة قرون من الزمان. أما الشرط الآخر الذي يمكن أن ينهي الصراع في المنطقة فإنه يتمثل في ترتيب «وفاق» بين قوتين متصارعتين أو أكثر، يوقف الصراع بينهما، وهو ما حدث تاريخيا في الوفاق الأنكلو- فرنسي في بداية القرن العشرين، وانتهى إلى إقامة دول تخضع لأي منهما. وقد تم تقسيم النفوذ بالنصوص والخرائط في اتفاقية سايكس – بيكو، وهي الاتفاقية التي أثمرت فترة من الهدوء والاستقرار والسلام في المنطقة بين الحربين العالميتين. ويمكننا أن نطلق على هذه الفترة «عصر سلام سايكس – بيكو» الذي تميز بقيادة بريطانيا لمنظومة الدفاع الإقليمي، حتى تمت تصفية قواعدها العسكرية في شرق السويس مع بداية سبعينيات القرن الماضي. وخلال الألف سنة الأخيرة، لم تخرج الحركة العامة للتاريخ في المنطقة عن واحد من ثلاث حالات، الصراعات والحروب المتقطعة، أو السلام المفروض بواسطة قوة جبارة يخضع لها الجميع، أو السلام على أساس وفاق يتم بمقتضاه تقسيم النفوذ في المنطقة بين طرفين أو أكثر. فهل تستطيع قوة من القوى المتصارعة على النفوذ في الشرق الأوسط حاليا حسم الصراع بأكمله لصالحها، وإخضاع الآخرين لهيمنتها، وفرض سلام المنتصر على المنطقة، كما فعل العثمانيون في القرن السادس عشر؟ الإجابة هي لا. إن خريطة الصراع في الوقت الحاضر تظهر تشتتا في نمط توزيع القوة، وعدم وجود تفوق مطلق لواحد من الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، فقد تداخلت أدوار الأطراف الإقليمية مع الأطراف الدولية، كما تداخلت أدوار الدول والحكومات مع أدوار الميليشيات والمنظمات غير الحكومية وشبه الحكومية المسلحة، مثلما هو الحال في العراق ولبنان وسوريا واليمن. مع هذا التزاحم على طلب النفوذ، وتشتت توزيع القوة، وتنوع محركات الصراع، وعجز أي من القوى المتصارعة على حسم الصراع لصالحها، فإن الطريق سيظل مفتوحا للدعوة إلى بناء «وفاق إقليمي» تسلِّم فيه الأطراف المتصارعة بأربع حقائق رئيسية هي، أولا أننا نعيش في عالم يقوم على أسس المنافسة والسعي إلى التفوق في كل المجالات، ويجب عدم حرمان أي دولة من المشاركة في نظام للمنافسة العادلة في العالم، وعلى مستوى الإقليم، بما في ذلك إيران وإسرائيل. ثانيا إن التعاون والاحترام المتبادل هو طريق لتعظيم المنافع المشتركة من موارد الإقليم. ثالثا إن أي مبررات للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى هو مفسدة تهدد العلاقات السلمية، مع التأكيد على وجوب حلّ الخلافات بالطرق السلمية، وإقامة ترتيبات إقليمية لتحقيق ذلك. رابعا، إن امتلاك دولة واحدة في المنطقة للسلاح النووي هو تهديد دائم للسلام الإقليمي ولأمن الدول الأخرى، ويجب إخلاء المنطقة تماما من أسلحة الدمار الشامل. في إطار هذه الرؤية يمكن أن تتحرك الدبلوماسية بخطوات صغيرة هنا أو هناك، على صعيد تسوية الصراعات القائمة، بما يؤدي إلى حقائق أفضل تساعد على التهدئة والوفاق، ولا تتناقض معها أو تخلق عقبة في سبيل تحقيقها.