وطن كبير مكوّن من 28 بيتاً
يبدو «حي الشيخ جرَّاح» اليوم أشبه ما يكون بفلسطين صغيرة، بكل ما يحمله هذا القول من معنى. فوسط
دموية الصهيونية وهجماتها المتتالية، يصمد أصحاب ثمانية وعشرين بيتاً متشبثين بكل باب ونافذة وسقف
وحجر في بيوتهم، وكل شجرة في باحاتها.
وأمام حكاية معادة، تذكرنا بما حدث في فلسطين قبل النكبة، لا نرى غير فصل العبث الذي عاشه كل
فلسطيني في ذلك الزمان في صراعه مع الهجمة الصهيونية المدعومة من الإمبراطورية البريطانية التي لا
يغرب عنها الظلام، رغم أنها حيثما حلت سرقت شمس البلاد التي استعمرتها.
بعد أكثر من مائة عام، يتكرر المشهد في «الشيخ جرّاح» يقولون للفلسطيني: أنت تقول إن هذا البيت
بيتك؟ أثبت أنه لك، ويرد الفلسطيني ولكنه بيتي، جدي عاش فيه وجدتي، وأبي وأمي وأنا وزوجتي
وأطفالي. وتحت جنْح الليل أو أسطع شمس، يأتي المستوطنون لطرد سكانه، وإذا سألهم أحد عن الوثيقة التي
تثبت ملكيتهم للبيوت الفلسطينيين، يستحضرون الخرافة دليلاً على أن كل هذه الأرض لهم.
لا أحد يطلب من الصهيوني رخصة تثبت أن ما يسرقه هو له، ولا أحد يطلب منه أن يبرز الرّخصة التي
تخوله قتل أي طفل متى أراد، وحيثما أراد، ولا الرخصة التي تتيح له أن يقتحم البيوت وينسفها أو يجتاح
الشجر متى أراد، ويسوق البشر إلى غرف التعذيب وعتمة الزنازين.
قال مانديلا ذات يوم «فلسطين أكبر قضية أخلاقية في عصرنا» ولكن أحداً اليوم لا يستطيع أن يشير إلى
المكان الذي يمكن أن تكون الأخلاق فيه ليحلم باستيقاظها، ففي عالم تنهار فيه القيم وتتوحش القوة الطليقة
أكثر في موسم احتضان الوحوش، عربياً، ومشهد الترهل الوطني لسلطة تصرّ على أن تبقى رازحة فوق
أحلام شعبها، تحت شعار يموت الشعب وتحيا القيادة، القيادة التي بات 99.9% منها في القبر ولم تزل
تتشبث بالجزء الباقي من المائة متطلعة لحشر فلسطين في قبو الظلام، سنوات وسنوات.
في هذا الواقع المشين، يتجرأ الصهيوني القادم من وراء البحار، الخارج من جوف الدبابة، أن يسأل
الفلسطيني عن الترخيص الذي يثبت أن البيت بيته والحياة حياته والأولاد أولاده والهواء هواؤه، ولذا يمنح
هذا الصهيوني نفسه الرخصة فوراً، ليستولي على البيت أو يهدمه أو يقتل الطفل أو يسرق الهواء، أو يصدر
أحكاماً بالسجن على من يريد مئات السنوات!
كل ما تعيشه فلسطين الصغيرة المكثفة في حكاية حي الشيخ جرّاح، عاشته فلسطين الأم: وكالة الغوث
بصفتها الدولية، ممثلة للأمم المتحدث ومسؤولة عن كل ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، تتملص من القيام
بدورها اليوم، كما تملصت المنظمة الأمّ، بل تآمرت قبل النكبة وبعدها، والأنظمة العربية، التي طالما تحدّث
كلّ ذي ضمير عن تآمرها على الشعب الفلسطيني، وسعى كثيرون من أبواقها لتلميع صورتها وتحميل
الفلسطينيين مسؤولية ما حدث لهم، تقوم هذه الأنظمة بالدور نفسه، التغاضي، أو التآمر، أو ضخ الحياة في
جسد صهيوني مبتلى بكل أمراض الأنظمة العربية من فساد وجشع حين يتعلق الأمر بالسلطة، حيث بات
الطريق الأفضل للظفر في الانتخابات إغراق صناديقها بالعنصرية والوحشية والتطرف أكثر فأكثر،
بالإضافة للمستوطنين الذين تنطلق قطعانهم لسحق كل ما في طريقها دون رادع، وإلى ذلك قيادة فلسطينية
أُفرغَتْ من معنى القيادة، ولم يعد ثمة ضرورة لوجودها على الإطلاق، وتنظيمات ترهّلت، فلم تعد أكثر من
خيام مثقوبة لا تذكر بفكرة العودة والمقاومة، بقدر ما تُذكِّر بمآسي اللجوء.
فلسطين الصغيرة اليوم، في الشيخ جرّاح، داخل فلسطين الكبيرة من نهرها لبحرها، تجعلنا نستعيد جملة
مانديلا تلك، لا لنُذكِّر العالم بأخلاقية القضية الفلسطينية، بل لنذكر القيادة الفلسطينية أولاً، والتنظيمات
الفلسطينية التي نسيتْ أنها وجدت لتدافع عن فلسطين وتقاتل من أجل فلسطين، وتحرس حلم فلسطين، لا كما
يحدث منذ أوسلو، ونحن نراها مستميتة للبقاء وكأن فلسطين خُلِقت من أجلها لا من أجل شعبها.
فلسطين لم تُخلق لهذا، والشيخ جرّاح الذي شهد واحدة من أكبر المعارك للدفاع عن فلسطين عام النكبة، لم
يُخلق لهذا، والبيوت المهددة بالاستيلاء عليها وطرد أصحابها لم تُبْنَ لهذا، ولم يُدافع أصحابها عنها،
وأرواحهم متاريسهم، لهذا.
أي انتخابات تلك القادمة التي على الفلسطيني أن ينتظر نتائجها، وهناك من يُصرُّ على أن تكون النتائج
نفسها والوجوه نفسها، بعد أن أثبتت التجربة أن من فازوا بها في السابق لم ينجحوا في شيء مثلما نجحوا
في أن تكون أضعف، وأن تكون ممزقة أكثر، ألا تستحق فلسطين قيادات أخرى، دفعت الثمن غالياً، تلك التي
لم تنجح الزنازين الصهيونية في أن تُحني قاماتها؛ ألا تستحق فلسطين أرواحاً تنتمي لجوهر فكرتها
الأخلاقية التي كانت ولم تزل امتحاناً يوميّاً لضمير العالم.
هناك أرواح في كل مكان، في فلسطين، في المؤسسات والجامعات والشوارع، وفي السجون الصهيونية، لديها
مخزون من الحرية لا الأريحية، ومخزون من الكرامة لا المهانة، ومخزون من الصمود لا القعود، هي التي
تحتاجها فلسطين بعد عهد طويل لم يكن فيه غير ظلام النفق الذي لا ضوء في آخره.
فلسطين لا تريد أن تواصل عيشها في النفق بحجة وجود ضوء في آخره، هي التي تدرك أن هناك من
يعملون على إغلاق نهايته بركام أكبر من الفساد والترهل المميت.
حي الشيخ جرّاح يقاتل بأهله، بأطفاله، بـ «منى» التي تصرخ عبر الشاشات بأنها تتعرض وأهلها وسكان
الشيخ جراح كلهم إلى جريمة حرب وتطهير عرقي وتهجير قسري.
مرات ومرات أفشل أهل فلسطين الصغيرة هذه مخططات العدو للسيطرة والهدم؛ تصرخ مُنى: السيطرة على
حي الشيخ جراح ستكون مقدمة لتهجير كل ما جاوره، كما أن أخطر ما في الأمر أنه الخط الفاصل بين
القدس الغربية والقدس الشرقية، وبذلك لن يكون في الاستيلاء عليه أي تواصل بين الطرفين، وستغدو البلدة
القديمة مُعرّضة إلى خطر داهم.
يسعى محمد الكرد (في الصف السابع!) الذي استولى المستوطنون على بيته اللصيق ببيت جدته الذي أصبح
بيته، يسعى محمد لأن يكون (في المستقبل) صحافياً ليفضح الصهيونية، أو محامياً ليدافع عن حقوق الناس.
أي مأساة هذه التي تعيشها فلسطين لتدفع طفلاً بهذا العمر لأن يحلم بالقيام بما كان على قيادته أن تقوم به،
وتنظيماته أن تقوم به، هذه القيادة التي سرقت الحجر من أيدي أمثاله برعونة أوسلو، وتلك التنظيمات التي
تحولت خنادقها إلى مراكز أمن أو مؤسسات خيرية نفعية تمتدح البطالة الوطنية، برضاها، أو رغماً عنها!