عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: هل نحن على مشارف فيزياء جديدة تماما؟! الخميس 22 أبريل 2021, 4:13 pm
نتائج أهم تجربة في العالم.. هل نحن على مشارف فيزياء جديدة تماما؟!
لا بد أن السابع من إبريل/نيسان 2021 كان اليوم الأكثر إثارة للانتباه بالنسبة للفيزيائيين في العالم أجمع منذ سنوات مضت، فقد أعلن (1) فريق بحثي من مختبر أبحاث فيرمي الوطني، الذي يقع قرب شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية، أن نتائج تجاربهم الأخيرة على أحد الجسيمات دون الذرية، ويُدعى "الميون"، تُشير إلى أننا على مسافة خطوة واحدة فقط من أول خرق صريح لأدق نظرية في تاريخ الفيزياء بأسره.
لفهم مدى ثقل هذه النتائج، دعنا نرجع إلى عام 1900، تحديدا إلى مجلس من العلماء قال خلاله الفيزيائي والمهندس الأسكتلندي واسع الشهرة اللورد كلفن (2): "لا يوجد شيء جديد يمكن اكتشافه في الفيزياء، كل ما تبقَّى هو قياسات أكثر دقة مع الزمن"، كان ذلك بعد اكتشاف الإلكترون والنشاط الإشعاعي، قريبا بالطبع سيثبت خطأ ما قاله صديقنا المُتبجِّح، حيث سنكتشف خلال عقود قليلة مكونات النواة وصولا إلى أصغر الكواركات واللبتونات.
لكن المفاجأة الحقيقية كانت في الثلاثينيات من القرن الفائت، حينما عمل الفيزيائي الألماني (3) بول كونز على دراسة الأشعة الكونية، وهي جسيمات (بروتونات على سبيل المثال) قادمة من الفضاء بسرعات هائلة تتفاعل مع مكونات غلافنا الجوي فتنتج جسيمات أخرى أصغر عندما تتفتَّت، ووجد جسيما لا يتفق مع البيانات الموجودة في كل كتاب يعرفه، كانت له شحنة الإلكترون نفسها (سالب)، ولكنه كان ثقيلا جدا بحيث لا يمكن أن يكون إلكترونا.
كانت تلك هي المواجهة الأولى للبشر مع "الميونات"، التي فتحت الباب لما نعرفه الآن باسم "حديقة الجسيمات". فحتى ذلك التوقيت، كان الجميع يظنون أن عالم الجسيمات يقتصر فقط على مكونات الذرة، لكننا نعرف الآن أن ذلك غير صحيح، فهناك عشرات الجسيمات دون الذرية التي اكتشفها العلماء حينما قرَّروا صدم الجسيمات المعروفة بعضها ببعض في تجارب "مصادمات الجسيمات" ثم دراسة نتائج هذه الحوادث دون الذرية، ويُعتقد أن هناك عددا أكبر من الجسيمات لا نعرفه بعد، ومنها تلك التي تُشير إليها تجارب "فيرمي" الأخيرة.
إذا رفعت راحة إحدى يديك بحيث تكون مُتَّجِهة للسماء، فسيمر ميون واحد خلالها في كل ثانية، إنها جسيمات صغيرة جدا لا يمكن أن تراها حتّى مع أقوى الميكروسكوبات في العالم، لكنها حيَّرت العلماء منذ ظهورها. في الستينيات بدأت أولى التجارب لدراسة هذه الجسيمات الغريبة، في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن)، وكانت الفكرة البسيطة أننا سنتعامل مع الميون على أنه أشبه ما يكون بمغناطيس صغير.
ومثل كل مغناطيس، فإن الميون سيتراقص بطريقة مُحدَّدة إذا قرَّرنا وضعه في مجال مغناطيسي، يُشبه الأمر أن تُلقي بنحلة خشبية لتدور على الأرض، مع دورانها ستجد أنها تميل لليمين قليلا واليسار قليلا، في حالة الميونات فإن هذا التمايل يمكن رصده، ذلك لأن الميونات جسيمات غير مُستقِرَّة، تتحلَّل بعد جزأين من المليون جزء من الثانية إلى جسيمات أصغر، وحينما يحدث ذلك فإن تلك الجسيمات الجديدة تخرج بسرعة في اتجاه يُعبِّر عن حركة الميونات.
تَمكَّن الفيزيائي البريطاني بول ديراك، عبر معادلاته التي طوَّرها في عشرينيات القرن الفائت، من بناء نموذج رياضي يمكن من خلاله حساب إحدى خصائص رقصة الميونات في المجال المغناطيسي، بشكل خاص أمكن استنتاج قيمة أطلق عليها (4) "المعامل ج" (G Factor)، استخدم العلماء معادلات ديراك لاستنتاج أن هذه القيمة تساوي 2.
لكن بعد ظهور الإلكتروديناميكا الكمية، النظرية التي طوَّرها ريتشارد فاينمان وحصل بسببها على جائزة نوبل سنة 1965، مع جوليان شوينجر والياباني شينيتشيرو توموناغا، أصبح هذا الرقم أكبر قليلا من 2، لسبب واحد وهو أن الميون لا يتأثر فقط بالمجال المغناطيسي ولكن أيضا بجسيمات أخرى تنشأ في الفراغ، حيث تفترض الإلكتروديناميكا الكمّية أنه لا يوجد في هذا الكون ما يمكن أن نعتبره "فراغا فيزيائيا"، بل تنشأ الجسيمات والجسيمات المضادة دائما، ثم تُفني بعضها بعضا وتعود للعدم مرة أخرى.
تمكَّن الباحثون على مدى عقود من حساب قيمة "المعامل ج" بدقة شديدة وصلت إلى الرقمين السابع والثامن بعد العلامة العشرية، لكن على الرغم من كل تلك الدقة، جاءت قياسات "المعامل ج" للميون، التي أُجريت في مختبر (5) "بروكهافن" الأميركي عام 2001، أكبر، بفارق واضح، من المُتوقَّع، في تلك النقطة تحديدا انتبه علماء الفيزياء في العالم كله، هل يمكن حقا أن نكون أمام فيزياء جديدة؟
يعشق الفيزيائيون هذا النوع من الاختراقات، بل ويُفتِّشون عنه لعقود، ذلك أنها تُمثِّل علامات مضيئة في طريق طويل يسوده ليل حالك، نعرف أن النظرية التي تشرح فيزياء الجسيمات، وبالتبعية التركيبة الدقيقة جدا لكل شيء نعرفه في الكون، هي النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات (The Standard Model of particle physics). إنها النظرية الأدق في تنبؤاتها إلى الآن، منذ نشأ العلم كله، لكنها -كأية نظرية أخرى- تُواجه مشكلات
من تلك المشكلات مثلا أنها لا تُفسِّر الجاذبية بدقة، نحن نعرف أن هناك أربع قوى تحكم هذا الكون، منها الجاذبية، سبب جلوسك الآن على الكرسي أو الأريكة، والكهرومغناطيسية، القوى التي تتحكَّم في ارتباط الإلكترونات بالذرة، وبالتالي تتحكَّم في كل التفاعلات الكيميائية والبيوكيميائية في الكون، والقوتان النوويتان (القوية والضعيفة) وهما غير معروفتين لعامة الناس، لأنهما تعملان ضمن مدى قصير للغاية لا يتخطَّى الذرة، وهما مسؤولتان عن ارتباط مكونات نواة الذرة بعضها ببعض وعن النشاط الإشعاعي.
أضف إلى ذلك أن النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات يفشل في التنبؤ بأي شيء له علاقة بالمادة والطاقة المظلمتين، اللتين تُشكِّلان 95% من تركيب الكون. إنها كيانات لا نمتلك أية معرفة عنها إلى الآن، ولم يتمكَّن الفيزيائيون إلا من حساب كميتها في الكون، بسبب أثرها على مادته وعلى تمدُّده، بالتالي كان العلماء يتوقَّعون أنه يوما ما سيظهر خرق للنموذج المعياري، هذا الخرق ربما يقود إلى جسيمات جديدة ليست موجودة في هذا النموذج
في عام 2013 سافر المغناطيس الضخم المُستخدَم لقياس رقصات الميونات من مختبر بروكهافن إلى مختبر فيرمي (6)، وفي عام 2020 جلس أكثر من 170 عالم فيزياء نظرية في مؤتمر كبير لحساب أدق تنبؤ ممكن لقياس "المعامل ج"، ثم أُجريت التجارب في مختبر فيرمي بدقة أكبر أربعة أضعاف من التجارب السابقة، هذه المرة بلغت دقة التجربة أن تَتمكَّن من قياس طول ملعب كرة قدم كامل مع إمكانية أن تُخطئ فيما هو أقل من قُطْر شعرة، وهنا تظهر المفاجأة، ما زالت الفروق واضحة بين تنبؤات العلماء والقياسات التجريبية، ما يعني احتمالا من ثلاثة، الأول أن خطأً ما حدث بالمصادفة البحتة، والثاني هو أن النماذج النظرية غير دقيقة، والثالث هو أننا أمام فيزياء جديدة حقا.
لتجنُّب الاحتمال الأول، فإن الفيزيائيين وضعوا قيمة إحصائية لاحتمال أن يكون ما حدث مجرد مصادفة، سُمِّيت "سيجما" (7)، ويجب أن تساوي قيمة سيجما 5، ويعني ذلك أن يكون احتمال المصادفة البحتة في هذه التجربة هو 1 إلى ثلاثة ونصف مليون احتمال، عندها يمكن أن نترك المصادفة جانبا وننظر إلى الاحتمالين الآخريْن، نتائج فيرمي تُشير إلى قيمة سيجما مقدارها 4.2، إنها قريبة جدا إلى الرقم 5، ويعتقد الباحثون في هذا النطاق أن الوصول إلى "سيجما" بقيمة 5 أصبح مسألة وقت.
بالنسبة للاحتمال الثاني، فإن هناك إجماعا بين علماء الفيزياء على صحة النماذج النظرية التي تتنبَّأ بقيمة "المعامل ج"، لكن ذلك لا يمنع أن نموذجا آخر ظهر من قِبَل فريق يقوده زولتان فودر أستاذ الفيزياء من جامعة بنسلفانيا الأميركية، نُشر ( بالفعل مطلع إبريل/نيسان الحالي في دورية "نيتشر" المرموقة، يختلف نظريا في طريقته لحساب "المعامل ج"، وتتفق تنبؤاته مع نتائج مختبر "بروكهافن" وما تلاها من نتائج "فيرمي"، وهو ما يفتح جدلا بحثيا حول الآليات النظرية نفسها، ربما تظهر نتائجه قريبا.
لكن على الجانب الثالث يقع أكثر الاحتمالات إثارة للانتباه، وأقربها للتحقُّق، وهو أننا أمام جسيم جديد تماما غير موجود في النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات، يعتقد بعض الباحثين أنه جسيم من فئة القوى الكونية، ما يعني أننا قد نكون أمام قوة خامسة في الطبيعة لا نعرف عنها بعد أي شيء، فيما يعتقد البعض الآخر أنه من فئة جديدة تماما تُسمى "الليبتوكواركات" وتجمع في خصائصها بين نوعين من الجسيمات المعروفة لم يكن مُتصوَّرا من الأساس أن تجتمع خصائصهما
تجارب فيرمي ليست الوحيدة التي جاءت بنتائج مُثيرة للانتباه، على سبيل المثال كشف إعلان أخير من المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية "سيرن" (9)، صدر يوم 1 إبريل/نيسان، أن تحليل نتائج 10 سنوات من بيانات "تصادم الجسيمات" قد يُشير بالفعل إلى وجود قوة كونية جديدة غير معروفة، حيث كان من المفترض بحسب النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات أن يتحوَّل أحد الجسيمات، ويُسمَّى "الميزون ب"، بعد تفتُّته إلى نِسَب متساوية من جسيمات أخرى وهي الإلكترونات والميونات.
لكن على الرغم من ذلك، فإن هذا النوع من التفتُّت يبدو أنه قد مال ناحية الإلكترونات أكثر، وهو ما يعني أن هناك خطأ في النموذج الذي يشرح هذه الظاهرة، قيمة "سيجما" الخاصة بهذه التجارب كانت نحو 3.7، ما يعني أنها -مثل رفيقتها في معامل فيرمي- قريبة من الصحة، لكن لا بد لنا أن ننتظر حتّى تصل قيمة "سيجما" إلى 5
لمغناطيس الضخم بقطر 15 متر الموجود في مختبرات فيرمي، إنه واحد من أدق القطع التقنية في العالم كله في كل الأحوال، سواء صدَّقت التنبؤات أم لا، فإنه سيأتي يوم وتُخترق فيه النظرية الحالية وتظهر نظرية جديدة تشرح الكون بشمول ودقة أكثر، لكن متى سيحدث ذلك؟ هذا هو السؤال الأهم إلى الآن، ربما هو السؤال الأهم في تاريخ الفيزياء حاليا.
تمر الفيزياء، بتعبير الفيزيائي الأميركي لي سمولن في كتابه "مشكلة الفيزياء"، بأطول فترات ركودها منذ ظهرت قبل بضع مئات من السنوات، لا جديد تحت الشمس، وما يحاول الفيزيائيون فعله هو التحقُّق من دقة النظريات الموجودة حاليا، ولأن القدرات التجريبية ليست في مستوى التقدُّم النظري، فإن سمولن توقَّع أن هذه المشكلة قد تصبح أكثر عمقا، خاصة مع نظريات مُعقَّدة للغاية مثل الأوتار أو الجاذبية الكمومية الحلقية أو التناظر الفائق، ما علينا إلا أن ننتظر ونرى إذا كانت هناك مفاجآت تنتظرنا في السنوات القادمة